فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
10

تعامل المستشرقين مع الموروث القولي – الأمثال نموذجا

العدد 10 - أدب شعبي
تعامل المستشرقين مع الموروث القولي – الأمثال نموذجا
كاتب من تونس

لقد ركّزت معظم البحوث حول الاستشراق على الإسلاميات لما تثيره من قضايا حساسة تتّصل بالهويّة والعقيدة والتاريخ والفكر. وفي سبيل تدارك بعض الثغرات سنعمل من خلال هذا المبحث على تبيّن منزلة الأدب واللغة في اهتمامات المستشرقين بالاعتماد على الرحالـة السويدي «كارلـو لندبـرج»

(Carlo Landberg) صاحب كتاب : Proverbes et Dictons du peuple arabe، الأمثال السائرة والأقوال الدائرة عند أولاد العرب1.

اهتمّ «لندبرج» في كتابه المذكور بتجميع بعض الأمثال الشعبية العربية أثناء إقامته ببلاد مصر والشام لمدّة طويلة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، شأنه في ذلك شأن بعض المستشرقين الرحالين الهواة، فدشّن بمجموعه ذاك بابا مستأنفا في تجميع الأمثال ونعني الشعبية منها، وهو مسار في التأليف انخرط فيه مجموع كبير من الأدباء العرب فيما بعد فكان هذا الضيف على الشرق رائدا في إضفاء الشرعية على الأدب الشعبي وإعادة الاعتبار إليه من خلال حصر الاهتمام في المثل الشعبي.

وبالفعل، فإنّ القرن التاسع عشر اتّسم بإقبال الأوروبيين على زيارة الشرق والكتابة عنه فجاؤوا أفواجا وأمواجا كان يحلو لإدوارد سعيد أن يسمّي تلك الحركة الدؤوبة بـ  «تيّار الحج إلى الشرق» فكان يقول «وجدنا أنّ عدد الذين كانوا يسافرون من الشرق الإسلامي إلى أوروبا ما بين 1800 و1900 عددٌ بالغُ الضآلة بالمقارنة بالعدد الذي كان يُسافر في الاتّجاه المضادّ»2.

فالجامع بين أولئك الرحالين إلى الشرق في القرن 19م على اختلاف مشاربهم كان يتمثّل في تلك الرغبة الجامحة في الاكتشاف، ولئن تعددت الزوايا التي نُظر منها إلى الشرق فإنّ هؤلاء كانت تجمع بينهم تلك الفكرة التي تنصّ على أنّ الشرق عالم عتيق، مترهّل في أشدّ الحاجة إلى دماء التشبيب. ومن ذلك أنّ «لندبرج» في المقدّمة العربية لكتابه يقول «وأقصى آمالنا أن تنتهي بهم الحال إلى أن يفهموا أنّ أوربا لم توجّه أنظارها جهة الشرق لأجل خرابه بل لعمارته وترفيهه».

وكان إدوارد سعيد، مع ذلك، قد دعا إلى ضرورة التمييز بين الاستشراق الشخصي والاستشراق الرسمي، فاقترح أن يكون الأوّل داخلا في باب «الأدب» والثاني داخلا في باب «العلم». والواضح أنّ «لندبرج» كان واحدا من أولئك الهواة الذين تعاملوا مع الشرق بمشاعر فيّاضة تكشف عنها مقدمتا الكتاب باللغة الفرنسية واللغة العربية. وقد لفتت هذه الظاهرة انتباه ادوارد سعيد فقال «وكان الكثيرون من أوائل هواة الشرق قد بدأوا بالترحيب به باعتباره إقلاقا صحيّا للعادات الفكرية والروحية الأوروبية، فبالغوا في تقدير قيمة الشرق... بسبب روحانيته، واستقراره، وعمره الطويل وخصائصه البدائية وهلمّ جرّا»3.

فبالتوازي مع زخم الكشوفات العلمية والبحرية التجارية مال الرحالون إلى اكتشاف الشرق من زاوية الإنسانيات، فركزوا عليها بُغية معرفته فكريا ولغويا واجتماعيا لتبديد ما يحيط به من غموض وغرائبية مدهشة. فالشرق بقي بالنسبة إلى الكثيرين عالما مثيرا كعالم الأحلام، بل كما يقول أحد الباحثين «لقد صنع الاستشراق... صورة للشرق يغلب عليها الطابع الخيالي... صورة هي أقرب ما تكون إلى الخيال منها إلى الواقع، تحتوي عناصر الإثارة المتناقضة من متعة الجنس والحريم والغلمان إلى حياة مفعمة بالروحية : مآذن ومساجد، ذلك ما استطاع الاستشراقُ أن يصوّر الشرق به، ويطبعه في ذهن الغرب العقلاني... وظلّت هذه الثنائية المتناقضة التي يتميّز بها الشرق قائمة في ذهن الغرب لقرون طويلة»4.

وبغضّ النظر عن تباين المواقف من المستشرقين5 فإنّ «لندبرج» يبدو من خلال هذا الكتاب طيرا فردا في غير سرب، فهو يرى في نفسه المستشرق الذي ينصرف انصرافا خالصا للعلم، وليس ذلك المستشرق المستخدم في مكاتب القنصليات بالمشرق في سبيل الحصول على منصب رسمي، وههنا فهو يدعو إلى ضرورة التمييز بين المنصب العلمي والمنصب الرسمي البيروقراطي كما يقول، فيدعي أنّه بصدد تثمين سياسة العلم وليس العلم من أجل السياسة. فينبري في أكثر من موضع إلى انتقاد بعض المستشرقين الذين يحملون آراء خاطئة عن العرب، والسبب في تقديره هو الجهل بلغة العرب لأنّهم لم يعرفوا منها سوى لغة «القاموس» (يعني بذلك اللغـة الفصيحة) فأهملوا بذلـك لغة العصر والراهن وهي اللغـة العامية التي اقترح أن تُوضـع لها قواميس جديدة.

فأولئك حسب تقديره أخطؤوا الطريق إلى العرب لأنّهم دخلوا عليهم من باب الماضي وتركوا باب الحاضر. ولهذا نجده على امتداد كتابه يدافع باستماتة عن نجاعة اللغة العامية وجمالها معتبرا إيّاها أنسب مدخل له كأوروبي لفهم المجتمعات العربية من الزاوية الاجتماعية الإنسانية وهو مجال بحث قد يتعارض مع ذلك الحكم الذي أصدره أحد الباحثين حين قال «انصرف الاستشراق إلى الاهتمام بالنواحي التراثية والتاريخية الإسلامية فقط، في حين أنّ مجال الدراسات الاجتماعية لم يكن لها أيّ نصيب في الشرق، ولم يكن هناك أيّ اهتمام بالموضوعات المعاصرة فيما يخصّ قضايا التحديث والتنمية والتكنولوجيا»6.

لكنّ الأمر بالنسبة إلى «لندبرج» لا يخلو من الجمع بين النواحي اللغوية والاجتماعية وَوَصْلِ حاضرِ المجتمع الإسلامي بماضيه عندما صرف جهده إلى تجميع الأمثال العامية وشرحها، وهذا التوجّه في البحث سيحشره أيضا في دائرة الشبهات فأحد الباحثين يقول «من ينكب على دراسة تاريخ الفكر الفرنسي والانجليزي والألماني في غضون القرن التاسع عشر يلاحظ اقترانا واضحا بين دخول الغرب طور التوسّع الاقتصادي والجغرافي وظهور النظريات السيوسولوجية الجديدة. ولا يمكن بحال من الأحوال أن يُعتبر هذا التزامن مجرّد وليد الصدف»7. ويؤكّد هذه الرؤية باحث آخر فيقول «ولمّا كان الواقع الذي خطط المستعمرون للسيطرة عليه، والتحكم فيـه واقعا عاميا، ولا يمكن التعاملُ معه إلاّ بالعامية، فقد سخّروا لهذه المهمّة العلمية الاستعمارية جيشا من الباحثين السيوسولوجيين»8.

إنّ «لندبرج» يرى أنّ أمثلَ سبيل لفهم مجتمعات الشرق العربي يكمن في أمثالها، وللوصول إلى هذه الغاية اختار أن يكون عمله ميدانيا باعتباره شاهدَ عيان، فلم يعتمد على الذاكرة التي قد تخون وإنّما على تقييدات حينية شبه يومية طيلة سنوات، فصاحب رجالا من جميع الطبقات والمهن كالباشوات والشيوخ والخبّازين والحدّادين والنجّارين والبحّارة والرعاة وغيرهم، وكان إذا ما أشكل عليه أمر يستعين برجال من أهل البلد يشرحون له معنى المثل العامي «proverbe vulgaire» فتمكّن من الوصول إلى دقائق معانيها بالوساطة المحليّة بعد أن قضّى بمصر مثلا تسع سنوات.

إنّه يرى أنّ الأمثال العامية وحدها هي التي تمكن من النقل الأمين للواقع في الشرق كما هو بسحره وأنواره وظلامه وأوساخه في آن. ولهذا نجده يمدح اللغة العربية مدحا عجيبا مُريبا ويتبنّاها لغة أمّا ثانية كما يقول نظرا إلى ثرائها الفريد بالأمثال، وكلف الناطقين بها من أبناء الشعب باستعمالها يوميا، ما عدا أولئك المتعلمين، وهم قلّة حسب قوله، ممّن عُرفوا بالتعفّف عن استعمالها. فالأمثال الشعبية في نظر «لندبرج» ليست مجرّد محفوظات فحسب وإنّما هي إلى ذلك مكوّن رئيس من مكوّنات الحياة اليومية للعربي، ولا سبيل إلى التواصل الحيّ معه، وبكامل النجاعة إلاّ بمعرفة قسط منها (انظر ص XVI من كتابه).

ولقد كرّر «لندبرج» في كتابه إلى حدّ الإطنـاب كيف أنّه آلى على نفسه أن ينصهر في طبقات المجتمـع العربي حتّى يصبـح واحدا منهم ولكن مع الحفـاظ على العقل الأوروبي «Sain et critique» كما يقـول ضمانا لنجاعـة بحثه. وفي هذا السيـاق يقترح النمـوذج الأوفى للمستشـرق الفاعـل علميا وهو الذي يقرأ ويطلـع على كلّ شيء من غير إقصـاء حتّى يتمكن من معرفـة الشرق معرفـة دقيقـة « si nous voulons connaître l’orient ». وتأكيدا لهذا المنحى يدعو إلى الانصراف التامّ إلى عامة الناس لأنّهم في تقديره هم الذين يمثلون الأمّة في الشرق، وذلك على نقيض أوروبا التي يمثّل فيها المثقفون والنخبة الأغلبية، فتلك هي الوجهة الصحيحة للبحث في تقديره يجب أن تنتهي عند العامة الذين لم يتغيّروا رغم جميع عوامل التغيير.

ولكنّ «لندبرج» سرعان ما يتدارك هذا الرأي فينبّه إلى أنّ المجتمع الشرقي كما عرفه لم يعد متجانسا ولا واضحا وأنّ أمواجا قد غمرته وطوفانا قد ألمّ به فاستقبل الجيّد والرديء معا. يقول في المقدمة الفرنسية:

«Ils sont envahis, et prennent tout, le bon comme le mauvais »(p VX).

ويقول في المقدمة العربية «هذا وإنّي بما أنّي محبّ مخلص للعرب أودّ منهم لو أن يبقوا على ما كانوا عليه من أخلاقهم الساذجية وأطباعهم العربية، فأبناء هذا الجيل الجديد يرغبون في تقليد الإفرنج ولا يسمعون عن أوروبا إلاّ من بعض أناس مُخرّفين يحدّثونهم عنها بأحاديث كاذبة، نحن نكرههم، وقد اتّخذ أحداثُ المدن عوائدَ غير جيّدة متصوّرين أنّ حالة أوروبا هي حالة بعض المهاجرين إلى أراضيهم المخصبة. وأراهم لابسين الجِزم التي تلمع والأزرار الذهب التي تسطع، بمعنى أنّهم يتأنقون في الملبوس، وهم يكابرون الناس مع جهلهم المركّب، قائلين عندنا فلوس» (ص ص 5-6 من كتابه). وإلى ذلك سجّل العديد من التغييرات التي شملت العادات والمنزل وحتّى لغة التخاطب عندما استمع إلى بعض الناس يحيّون بـ «يا منشير» (Mon cher) فانتهى إلى أنّ المجتمع الشرقي صار خليطا عجيبا في مقابل مجتمع أوروبي يتّسم بالصرامة والوضوح!!

وهكذا لم يكن لهذا المستشرق من مهرب من الوقوع في المقارنة بين الشرق وأوروبا . فالشرق كما بدا له ما زال على الفطرة، في تواصل حيّ مع الماضي، لا تعقيد فيه كالذي عرفته أوروبا. إنّه مجتمع عريق وعفوي إلى حدّ السذاجة. ولتأكيد الظاهرة استشهد بشيخ من صور استعمل مثلا شعبيا في غاية القبح في الردّ على صبيّ طلب منه نُقودا فقال له ينهره ضمنيا «أنت أطمع من الزبر إذا دخل راسو».

ومن عجب أن يظهر «لندبرج» بصورة المحافظ أو حتّى الدَيّن التقيّ، فهو يشير إلى أنّ الأمثال الشعبية العربية ليست دائما «نظيفة» أو «إيجابية» وينبّه حتى يأخذَ القارئُ حَذَرَه إلى أنّ كتابه سيتضمّن نماذجَ كثيرةً منها «قذرةً» «proverbes vraiment orduriers» ولكنّه يتدارك الأمر فيقول إنّ ما نراه قولاً وسخًا في مجتمع ما قد لا يكون بتلك الصفة في مجتمع آخر، وحينئذ ينبغي ألاّ نظنّ السوء بحياة العربي التي ليست كلُّها مفاسدَ أو ملاهٍ كما توحي بذلك بعض الأمثال.

وحتى يكون في حِلّ من كلّ حرج عند إيراد تلك الأمثال نراه يستظلّ بالنيّة الحسنة كما يقول بذلك أهل السنّة حسب تعبيره (ص XVI)، ويضيف إلى ذلك أنّ الأمثال تشتمل على نماذج إيجابيةٍ تتحدّث عن الرحمة والصبر. فالعربي في تقديره رحيم القلب ولو كان مالكا لأمره وإرادته واستجاب إلى مشاعر الرحمة فيه لصارت السجون فارغة (ص XVII). وبالتدريج يتحوّل «لندبرج» إلى مدافعٍ عن القيم الروحية والأخلاقية الحميدة عند العرب ككرم الضيافة وخاصّة عند العرب البدو. ومن عجب آخر أنّه يقول إنّ هذه الخصلة لم تندثر إلاّ في الأماكن التي استقرّ بها الأوروبيون! (ص XVII).

وبيّن من خلال مجمل مواقف «لندبرج» أنّه جدّ متحمس للأدب الشعبي من خلال المثل الشعبي الذي اتّسعت الهوّة بينه وبين المثل الفصيح (Classique) حتى صار البون شاسعا بين الثقافة العالِمة والثقافة الشعبية. وذلك مع اعترافه باشتمال الموروث الأدبي القديم على كنوز أدبية ذات قيمة جمالية عالية إلى الحدّ الذي جعله يقول: «Les Arabes sont le peuple le plus poétique de la terre » (p XXV).

فهذا هو مجال البحث الذي استهوى «لندبرج» فمكّنه من الاستعراب الاجتماعي الشعبي وليس ذاك الاستعراب الذي يمكنه من امتلاك أسرار العربية وأدب الخاصّة. إنّه بدون منازع ينصّب نفسه مستشرقا شعبيا أو عاميّا فسلك سبيل الكلام الجاري من أمثال شعبية لفهم اللغة العامية وما تجري عليه من قوانين. ولم يكن هذا الهدف ليتحقق لو لا حرصُه على مخالطة الحرفيين والفلاحين والتجار والدراويش والسماع عنهم.

لقد أراد «لندبرج» أن يظهر بوجه الرجل الواقعي. فبدءا أدّى به التخصّص في تجميع الأمثال العاميّة إلى الحديث في مسائل لغوية شتّى، منها أنّ تيّار المحافظة على اللغة العربية الفُصحى يستندُ إلى القرآن ومحاولةِ ترسّم لغة النبي و»أشرف اللغات لغة النبيّ» وهي جملة بالعربية استشهد بها في مقدّمة الكتاب باللغة الفرنسية (ص XXIV). وأنّ علماء العرب مدعوون إلى مراعاة تجدّد اللغة العربية بفعل تجدّد نُظم العيش، وأنّ اللغة العامية أصبحت تمثل الوجه الحيّ النابض للمجتمعات العربية في مقابل لغة فصحى شديدةِ العُسر في تقديره أصبحت جزءا من الماضي ولم يعد يستعملها إلاّ النخبة. ولنا في هذه المقتطفات من مقدّمته باللغة العربية ما يؤكّد حماسه المحموم للعامية فهو يقول بأسلوب مشايخ العلم في ذلك العهد على ما في كلامه من تناقضات وتعريجات معقّدة «جرتني الأقدار للتوجّه إلى بلاد العرب... واشتغلت مدّة طويلة بلغتها الشريفة التي هي لسان الأدب... تحقّق لي أنّها أحسن اللغات، كيف لا وبها نزلت الآيات البيّنات وقد جاء في السنّة أنّها لسان أهل الجنّة... علماء العرب اشتغلوا باللغة العربية الفصحى... وأهملوا تدوين اللغة الدارجة التي كانوا يتكلّمون بها في المؤالفة اليومية... فأمست اللغة الدارجة في غاية الاستحقار والازدراء... وسَهُلَ علينا أن نبرهن بأنّ اللغة الدارجة كانت مستعملة في القرن الأوّل من الهجرة بل ويمكن إيرادُ أدلّةٍ كافية... بأنّها كانت سائرة، سارية في زمان النبي عليه السلام... ونحن معاشر العلماء الأوروبيين نجعل لها الأهميّة الكبرى فقد ابتدأنا في الكشف عنها بكيفية علمية وطريقة تمحيصية كما هو العادة عند علماء هذا العصر... لِمَ لاَ وهي اللغة المتداولة بين الخاص والعام في كلام خديوى مصر و... و... ولغاية الجمّال والزبّال»9.

وهو إلى ذلك يعتبر أنّ المجتمعات العربية فسيفساء معقّدة من اللهجات، ومن أقرب الأدلّة على ذلك اختلافُ اللهجة بين مصر والشام وهي المناطق التي جال فيها وعاش (انظر صXLI وXLIII). وواضح أنّ «لندبرج» يريد بذلك أن يُثَبِّتَ تلك الفكرَة التي تقول إنّ الفصحى لم تكن أبدا في أيّ وقت من الأوقات واقعا لغويا عمليا إلاّ في مستوى القرآن والنّتاج الأدبي. فالعامية عنده أصبحت بعد الإسلام بقليل «قائمة بذاتها» ويدّعي أنّ لديه أدلّةً راسخة تُثبت أنّ اللغة الأدبية (Langue poétique) لم تكن قطّ حتّى في تلك الفترة المبكّرة لُغةَ عامة الناس (انظر ص XXIX) وأنّ الأعداد القليلة من العرب التي استقرت إثر الفتوحات ببلاد الشام ومصر لم يكن بإمكانها أن تقدر على تعليم الملايين من القبط والإغريق (هكذا) لغة أهل الحجاز. ومعنى ذلك أنّ العكس هو الذي حصل عندما تأثّرت اللغة العربية باللغات السائدة في تلك الأمصار فتغيّرت في اتّجاهات جعلت لها أصباغا محلية حسب خصائص كلّ منزل نزلت به.

وهكذا يبدو «لندبرج» شديد التحمّس لكلام العامّة من الناس، ومن ذلك أنّه يميل مثلا إلى تسمية العامة للسفينة البخارية بـ «مركب نار» بديلا عن الإسم الذي اقترحه أحمد فارس الشدياق في جريدة «الجوائب» وتبعته في ذلك معظم صحف الوقت وهي تسمية «باخرة». وههنا سيكون هذا المستشرق مثل غيره موضع اتّهام من منطلقات قومية وحتّى دينية. فظهوره بمظهر الدّين المحبّ للعرب ولغتهم والقرآن لا يمكن أن يشفع له تحمّسه المعلن للعاميّة حتّى أنّ أحد الباحثين يقول «وقد أسهم الاستشراق كذلك في إحياء اللهجات المحلية لكي يُقصي اللغة العربية عن حياة المسلم باعتبارها عاملا من عوامل الوحدة»10.

فتلك مسألة حسّاسة جعلت العديد من الباحثين في الاستشراق ينشغلون بالخلفيات فكانت لهم ردود عنيفة في حجم الخطر الذي تهيّأ لهم أنّ معظم المستشرقين يمثلونه. فبعضهم نفى أن تكون تلك الأعمال منهجية ومحايدة علميا ولا موضوعية إنّما هي مجرّد قشور ظاهرة تُخفي سموما بطيئةَ المفعول، فأحدهم يقول بعد استعراض نماذج من تحريفاتهم «وكثير من هؤلاء المستشرقين يَدُسون في كتاباتهم مقدارا خاصا من «السمّ» ويحترسون في ذلك، فلا يزيد عن النسبة المعيّنة لديهم حتّى لا يستوحشَ القارئ، ولا يثير ذلك فيه الحذر، ولا تضعف ثقته بنزاهة المؤلّف»11. والذي كان يثير أكثر هذه الحساسيات هو أنّ معظم المستشرقين كانت لهم عنايةٌ خاصّة بجوانب تُثير الرّيبة مثل التصوّف وعلم الكلام والفلسفة وكتب أدبية مثل الأغاني وألف ليلة وليلة حتّى صار هذان الكتابان في نظر البعض نموذجا ذهنيا لعالم الشرق العجيب وما هو كذلك تماما في الواقع.

لقد اشتغل «لندبرج» في مجال معرفي تخصصي يتّصل بعلم الموروثات القولية وفي مجال إقليمي لم يتجاوز بلاد مصر والشام. وهو إقليم هام نظرا إلى انصراف أنظار الغرب إليه بتركيز شديد في ذلك الوقت «ورغم أنّ الاستشراق ينبغي أن يُعنى بالشرق إلاّ أنّه في واقعه معنيّ بالإسلام، وتحديدا بالمنطقة العربية»كما يقول أحد الباحثين. فإلى زمن ليس ببعيد استقرّ ذلك الاعتقاد في أنّ البحر الأبيض المتوسّط يمثّل قلب العالم ويفصل بين الشرق والغرب، ذلك الشرق المتعلّق تحديدا بالرقعة الجغرافية التي انتشر فيها الإسلام.

فالشرق لم يعد مفهوما جغرافيا فحسب وإنّما صار أساسا مفهوما دينيا ومفهوما ثقافيا قوامه اللغة العربية والدين الإسلامي. صار الشرق مفهوما دينيا لأنّنا لا نجد كتابة استشراقية مهما كان موضوعها لا يكون فيها الإسلام حاضرا بقوّة حتّى على سبيل التطفّل على قضاياه كما فعل «لندبرج» الذي جرّه تجميع الأمثال الشعبية إلى الحديث عن الفصحى والعامية ومنه إلى الحديث عن القرآن والرسول صلى الله عليه وسلّم والمسلمين الأوائل وأهل السنّة (انظر ص XXVI) وما إلى ذلك من القضايا المتشابكة التي تتّصل بثقافة الشرق وبنيته الفكرية والروحية والاجتماعية.

إنّ الاهتمام بالأمثال له صبغة أنتروبولوجية ثقافية غايته الفهم أوّلا بمشاطرة الذهنية العربية عن طريق الاستعانة بأولاد البلد لتفسير معاني الأمثال، ولكنّ هذا الاهتمام التخصصي في الظاهر انتهى به إلى التصنيف والمقارنة بين الثقافات، وهذا هو المزلق الذي وقع فيه «لندبرج» كغيره حين قاس المجتمع العربي بالمجتمع الأوروبي رغم سقوطه في الخطاب التمجيدي مرّة لهذا وأخرى لذاك. ولقد أصرّ بعض الباحثين في الاستشراق على أنّ عناية المستشرقين بالتراث تدخل في باب : اعرف عدوّك لأنّ التراث ومنه الأمثال ما هو إلاّ خرائط وصور لعقولنا وعواطفنا ومشاعرنا ومن ثمّ فإنّ هذا النوع من التعامل يتعلّق بما يوجد في أسفل القِدْرِ. وههنا يجدر أن نتساءل عمّا إذا لم يكن من حقّ المستشرقين أن يعرفوا، وعمّا إذا كانت تلك المعرفة تُبيّت دائما نيّة السيطرة والتخريب ؟

إنّ «لندبرج» الذي قدمناه في هذه الأوراق يبقى شخصية غامضة محيّرة فقد لمسنا فيه في آنٍ تعاملا حميميا مع الشرق وتعاليا، إنصافا ونقدا، ومع سعيه إلى الانصهار التامّ في المجتمع العربي الشعبي بواسطة «القوت اللغوي اليومي» وهي الأمثال الشعبية فإنّه لم يستطع في تقديرنا أن يتخلّص من هاجس المركزيّة الأوروبيّة، بل لقد بدا لنا كالنبي الغريب الآتي من الغرب مذكرا في آن بضرورة الحفاظ على قيم الأصالة وتبنّي قيم الحداثة. وسنعرض في قسم ثان من هذا البحث إلى كيفية تعامله مع الأمثال الشعبية من خلال شرحها الذي لم يخل من قراءة الأوروبي الآتي من أقاصي الشمال لعقليـة العربي المسلم من خلال موروثاته القوليـة.

 

إشارات

(*) قدمت هذه المداخلة ضمن ندوة : الاستشراق وأثره في الثقافة العربية التي نظمتها وحدة البحث : اتصال العلوم وانفصالها في الثقافة العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة (الجمهورية التونسية) يومي 4 و5 مارس 2009.

 

1- نسخة مصوّرة لدار صادر ببيروت عن طبعة Maison neuve بباريس سنة 1883.

2- إدوارد سعيد : الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة : محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، ط 1، القاهرة 2006، ص 321.

3- ادوارد سعيد : الاستشراق، ص 248.

4- محمد إبراهيم الفيومي : الاستشراق، رسالة استعمار، دار الفكر العربي، القاهرة 1993، ص ص 174-175.

5- عرض الصحبي العلاني لأربعة مواقف مختلفة من المستشرقين هي :

1) الموقف التبسيطي الرافض

2) موقف القبول

3) الموقف الانتقائي

4) الموقف التحليلي التأصيلي

وفي الفصل المتعلّق بهذا التصنيف دعا صراحة إلى التعامل الموضوعي مع الظاهرة لأنّه حسب تعبيره «يؤخَذُ بعضُ المستشرقين بجريرة بعض» (انظر كتاب : الاستشراق الفرنسي والأدب العربي القديم، ألفا للنشر، تونس 1998 من ص 19 إلى ص 30) وتحديدا ص 24.

6- محمد إبراهيم الفيومي : الاستشراق، رسالة استعمار، ص 219.

7- عبد الوهاب بوحديبة : الحياة الاجتماعية الإسلامية كما صورها بعض المستشرقين، ضمن كتاب مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس 1985، ج 2، ص 141.

8- أحمد زيادي : الأحاجي الشعبية المغربية، منشورات وزارة الثقافة، المغرب، 2007، ص 9.

9- لقد عرضنا لهذا المستشرق وغيره في كتابنا : المثل الشعبي، عراقة الحديث وحداثة العريق، مطبعة التسفير الفني بصفاقس (تونس) ديسمبر 2008. ففي هذا الكتاب أثرنا قضايا تتّصل بالصراع بين الفصحى والعاميّة بمناسبة تحليل قيمة الأمثال الشعبية العربية وبيان وظائفها في الأدب والحياة.

9- محمد إبراهيم الفيومي : الاستشراق رسالة استعمار، ص 218.

10- عبد العظيم الدّيب : المستشرقون والتراث، دار الوفاء، ط 2، القاهرة 1988، ص 41.

11- محسن جاسم الموسوي : الاستشراق في الفكر العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، بيروت 1993، ص 28.

أعداد المجلة