فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
20

بلاغة التوصيل في التعبير الشعبي

العدد 20 - أدب شعبي
بلاغة التوصيل في التعبير الشعبي

توطئة

ربما تجدر الإشارة أولاً، وقبل البدء في الحديث عن جماليات التوصيل في التعبير الشعبي، إلى المهاد الفكري الذي نشط فيه البحث في التراث الشعبي، ووضعه على قدم المساواة في الأهمية، إن لم يكن أهم، مع النصوص الإبداعية التي تنسب إلى الأفراد المبدعين.

وربما بدا لنا أننا نبتعد بذلك عن موضوعنا المحدد، عندما نطلق من المهاد الفلسفي الحديث الذي أرسى بحق دعائم الفكر النقدي بكل ما لهذا الفكر من تشعبات، وبكل ما تفرع عنه مدارس بحثية في النقد الأدبي.

ويرجع ذلك إلى القرن الثامن عشر الذي ظهرت فيه مدارس فكرية متعددة الاتجاهات منها اللغوي على يد «دي سوسير»، والفلسفي على يد «كانت» و»هيجل»، ثم النفسي على يد «فرويد» الخ.... وكل هذه المدارس تداخلت مع بعضها بعضا محدثة انطلاقة بحثية في كل الاتجاهات الإبداعية، ومنها الإبداع الشعبي.

ولنبدأ من البداية التي أرست الأسس الأولى للاتجاهات النقدية الحديثة لقد ترك «كانت» و»هيجل» بصمتهما القوية في المجال النقدي الحديث، عندما نادى أولهما بثوابت مفاهيم الحق والجمال والخير ثابتة، وقال مقولته الشهيرة في كتابه «نقد العقل الخالص» : إن النقد البحثي دعوة إلى أن يتحمل العقل مسؤولية في التعرف على ذاته، ولكن يجعل من نفسه على نفسه هيئة قضائية تؤكد له مطالبه الشرعية. ثم أتى هيجل من بعده، فأنكر على نده قوله في أن الخير والجمال والحق لا تقاس إلا بمعايير مثالية مسبقة وثابتة، فالإنسان يفكر في كل عصر على نحو مختلف، مما يجعلنا بمحاولة الفهم المتبادل بين الذات والواقع المحيط بها، وليس من خلال المثال الثابت. ومعنى هذا أن الإنسان يغير من فكره وفقا لمتغيرات التاريخ والمجتمع.

ومعنى هذا أنه اذا كان «كانت» يقوم منهجه على المجرد مضحيا بالمتغيرات، فإن المنهج الآخر، منهج «هيجل» يفسح المجال للتنويعات القابلة للتحليل لصالح الثقافة بوصفها جماع معارف متعددة تلازم كل إنتاج إبداعي فرديا كان أم جماعيا، قديما كان أم حديثا.

ثم تصاعد بختين فيما بعد بقيمة النصوص ومتغيراتها بأن جعل من الوعي الفردي ظاهرة ايديولوجية وليس مجرد ظاهرة سيكولوجية. وهو ظاهرة إيديولوجية بالضرورة لأنه، أي الوعي، ليس سوى نتاج حوار اجتماعي تاريخي.

ومن هنا فان الباحث في الموروث الشعبي، عليه أن يغير بعض الشيء من صيغة ياكبسون، إن أراد استخدامها في تحليل النص الشعبي، وإن كانت صيغة ياكبسون لا تزال كما هي صالحة لتحليل النص الفردي تحليلا ثقافيا فالراسل عند ياكبسون هوالذات المرسلة برسالة إلى متلق يعيش في المجال نفسه وقادر على فك شفرتها وإلا فإن الرسالة لا تصل أو إنها تصل ناقصة، وإذا كان الأمر كذلك مع المبدع الفرد، فإن الأمر يختلف مع النص الجماعي الذي يسبق ناقله، ويعد مخزونا حضاريا جمعيا. ولذلك فإن الصيغة لا تبدأ بالراسل بل بالمخزون الثقافي للجماعة، ويأتي الناقل المستوعب له فيأخذ منه ما يطيب له أن يوصله للجماعة صاحبة هذا الميراث الحضاري، ولذلك، فهي قادرة على فك شفرتها واستيعابها ثم تفعيلها.

وربما كانت هذه التوطئة كافية للولوج إلى موضوع أساسي في دراسة الموروث الشعبي الأدبي والقصصي بصفة خاصة وهو جماليات التوصيل في النص الأدبي المتوارث. ولنبدأ أولا بتقديم الخصائص المميزة للتعبير الشعبي وندلف منها إلى جمالياته.

وأول خاصية للتعبير الشعبي هي أنه حتمي لأنه يعد المكون الأساسي في حضارات الشعوب. والحضارة ظاهرة اجتماعية ثقافية، ولا يستمر لها وجود ما لم تكن مفصحة عن نفسها من خلال اللغة التي تعد المحرك الأول لكل حضارة ارتبطت بزمان ومكان محددين، ومن ثم فإنها تحتوي على مجموعة النظم الإرشادية التي يصطلح عليها الناس فيما يختص بكل وجه من وجوه حياتهم.

ولا تتجلى حتمية الموروث الشعبي في شيوعه بين الناس، ودورانه على الألسن فحسب، بل إنها تتجلى كذلك في استمراريته، وهي خاصية أساسية للتعبير الشعبي، إذ أن الاستمرارية تعني استمرارية فاعلية الشفرة الحضارية في الوعي الجماعي.

ويرتبط بهاتين الخاصتين للموروث الشعبي خاصية ثالثة طالما تحدث عنها الباحثون وهي شفاهيته. وترتبط الشفاهية كل الارتباط بالأداء الوظيفي للتراث الشعبي في حياة الجماعة. فالشفاهية تعني الجماعية، فالصوت الواحد قد يصل إلى آلاف الآذان في وقت واحد، ويصل إليهم محملا بشفرات هم فيها شركاء. وهذا يؤكد أن الشفاهية ليست نقصا في التعبير الشعبي بل هي ضرورة لاستمرارية النص الشعبي، لغة كان أم ممارسة، وما يمكن أن يلحق به من تغيير لمواءمة ظروف كل عصر. وقد يظل الموروث الشعبي يتداول شفاها ويكون النص المدون عندئذ شاهدا على ما روي من قبل وما سوف يروى من بعد. ويمكننا أن نستشهد في هذا المقام بأسطورة عربية تعبر، على الرغم من قصرها، عن المراحل التاريخية التي مرت بها حتى وصلت إلى العصر الإسلامي لتؤكد ما يصاحب استمرارية النص من تغيير، بحيث يظل النص شاهدا على قدرته على أن يحتوي على القديم والحديث معا. فهذه أسطورة عربية رواها السيوطي في المزهر تؤكد أية استمرارية النص الشعبي نثرية بإضافة شفرات حضارية متتالية تدمج في النص القديم ليكون شاهدا على قدرته على التغيير عندما كون مصاحبا للمتغيرات الفكرية والحضارية المستجدة.

 ويحكي السيوطي أن قبيلة مراد كانت تعبد نسرا، وكان النسر يأتيها في كل عام، فيقرعون بين فتياتهم، فأيتهن وقعت عليها القرعة تقدم للنسر في خبائه، فيحجل نحوها ثم ينهشها فيأكلها، ثم يؤتي له بخمر فيشرب وينتشي فيخبرهم بما سيحدث في عامهم المقبل، ويطير.

ثم حدث أن جاءهم النسر، فأقرعوا بين فتياتهم، فوقعت القرعة على ابنة شيخ القبيلة، وكانت لها معزة شديدة عنده. فجلس الرجل حزينا يفكر في الأمر. عندئذ اجتمع لديه بعض الشيوخ وقالوا له: ماذا لو فدينا ابنتك بابنة الهمدانية؟ والهمدانية كانت امرأة من قبيلة همدان. وتوفي زوجها فبقيت مع ابنتها في قبيلة أبيها. وعندما سمع الشيخ هذا الاقتراح، رحب به. وعندئذ هب بعض شيوخ مراد الى المرأة الهمدانية ليخبروها ان ابنتها سوف تكون الضحية التي تقدم للنسر. ولأن المرأة الهمدانية كانت ضعيفة لغربتها عن قومها، ولأنها لم تستطع أن تقاوم شيوخ القبيلة في غياب زوجها، لم تستطع المرأة أن تعارض.

وتصادف أن جاء خال الابنة من همدان ليزور أخته، فوجدها باكية. فلما أراد أن يعرف سر بكائها، أبت أن تحكي له ما حدث. ولكن الابنة دخلت خباء مجاورا وحكت قصتها في شعر سمعه خالها وعرف من خلاله ما حدث للأخت وابنتها. عندئذ قال لأخته: إذا جاءوك فادفعي اليهم ابنتك واتركي لي الأمر.

فلما جاءوها في اليوم التالي، دفعت إليهم الإبنة، فأخذوها ودفعوا بها إلى خباء النسر، وفي الحال حجل النسر نحوها لينهشها. وكان الخال متأهبا لقتله، فوجه إليه السهم فخر النسر صريعا. ثم أخذ ابنة أخته وأمها ليعود بهما مسرعا إلى همدان.

ولما مضى الزمن الذي يكون فيه النسر قد فرغ من وجبته فقدم شيوخ القبيلة متلهفين لأن يستمعوا منه ما سوف يحدث في العام القادم، وأصابهم الفزع الأكبر عندما وجدوا النسر مضرجا في دمائه، ولم يجدوا أثرا للإبنة. فجدوا في البحث عن الأم ولكنهم لم يجدوا لها أثرا.

فكان هذا الحادث سببا في اشتعال نار الحرب بين قبيلتي مراد وهمدان، إلى أن جاء الإسلام فحجر بينها.

إن هذه الحكاية البالغة في الاقتصاد في رواية أحداث دامت قرونا عدة، تعد مثالا جيدا لقدرة النص الشعبي على استيفاء خصوصيات التأليف الأدبي الشعبي، وهي في الوقت نفسه تنطوي على الكثير من جمالياته. فهذا النص يرفض الإفاضة التي تفقد النص الميزة الإشارية العالية التي تسكن مفرداته وأحداثه ويلتقطها المستمع الذي يعد شريكا له فيها. فكل فقرة من فقرات هذه الحكاية تمثل حقبة ممتدة من الزمن تبدأ بالزمن الجاهلي البعيد وتستمر حتى ظهور الاسلام. فالفقرة الأولى تشير إلى حقبة من الزمن الجاهلي كانت تنتشر فيها عبادة النسر. والفقرة الثانية تشرح الطقوس التي ينبغي إجراؤها بدقة من أجل استرضاء النسر فيبوح لهم بسر ليس في وسعهم أن يصلوا إليه بدون نبوءة النسر، وهو معرفة ما سوف تأتي به الأيام في العام المقبل. وكان الثمن الذي تدفعه القبيلة في مقابل ذلك غاليا، حيث أنهم يقدمون له فتاة من فتياتهم عن طريق القرعة لتقدم للنسر فيلتهمها فيتجدد بذلك شبابه ثم يقدم له الخمر فينتشي عند ذلك يكون راضيا عن القبيلة فيبوح لها بسر ما تخبئه لهم الأيام في المستقبل.

وعندما وقعت القرعة على إبنة شيخ القبيلة واستبدل بها إبنة الهمدانية، كان معناه الدخول في مرحلة زمنية جديدة يمكن أن يخدع فيها النسر، وهي مرحلة توحي بتخلخل المعتقد. ثم تأتي الفقرة السردية التالية لذلك فتحكي عن قتل النسر من خلال خديعة تمت على القبيلة مما يعني أن عبادة النسر قد انتهت، ولكنها لم تنته من ذاكرة الجماعة، ولهذا لم يسلموا باختفاء النسر، فقامت الحرب بين القبيلتين مما يعني استمرارية الحياة الجاهلية حتى جاء الإسلام.

وتنتهي الأسطورة بعبارة شديدة الإيجاز وهي «حتى جاء الإسلام فحجر بينهما» ليشير إلى زمن مستقبلي ممتد ألغى كل ما كان يحدث من قبل فكرا وسلوكا إلى غير رجعة.

إن الأسلوب الذي تحكى به الحكاية أسلوب بسيط يعتمد على الإضافات السردية. فالحدث التالي يلحق بالأول. وتظل الأحداث تتوالى في نظام سردي تستخدم فيه الحرف (و) أو الحرف (ثم) إلى أن تنتهي الحكاية. ويعد هذا الأسلوب الإضافي المتسلسل من جماليات السرد الشعبي. فالنص المروي يقوم على علاقة مباشرة بين الراوي والمتلقي الذي يصاحب رواية النص دون توقف حتى ينتهي الراوي من روايته، ومن ثم فهو في حاجة إلى مسايرة الأحداث المتلاحقة حتى تنتهي الرواية. على أن مثل هذا الأسلوب البسيط في الحكي يكون مشبعا بالدلالات واللغة الإشارية التي تجعل النص يعيش مدة أطول مع المتلقي، وذلك عندما يسأل نفسه: لماذا كان الجاهلي متلهفا على معرفة المستقبل قبل حدوثه خاصة وأنه كان يدفع الثمن غاليا للنسر حتى يبوح له بالسر الذي يحمله المستقبل في طياته؟ ولماذا يقوم النسر بصفة خاصة بهذه المهمة؟ ولماذا تقدم الفتاة البكر للنسر ليلتهمها ولا يقدم له لحم يشبعه؟ كل هذه التساؤلات التي تحتاج إلى إجابات مقنعة تؤكد أن النص الذي يروى في أسلوب سلس يقوم على إضافة الحدث التالي إلى سابقه في سرعة متتالية يحمل في طياته شفرات تحتاج إلى تفسير والشفرة الأساسية التي تفسر الكثير من هذه التساؤلات هي شفرة علاقة الإنسان الجاهلي بالزمن والتاريخ، وهي العلامة الفارقة بين العصر الجاهلي والعصر الإسلامي. فالإنسان الجاهلي كان يعيش الماضي والحاضر فحسب، أما المستقبل فهو لا يريد أن يشغل نفسه به، وكان النسر يسهم في تحقيق هذه المهمة. ثم أصبح الإنسان في الإسلام يفكر على نحو آخر. فالمستقبل غيبي ولكن الانسان مسئول بأفعاله الراهنة والماضية عما يمكن أن يحدث له في المستقبل، أي أن الإنسان أصبح يفهم معنى التاريخ ويعي أنه إنسان تاريخي، تبدأ حياته من لحظة ميلاده، ولا تنتهي بموته لأن وراء الموت حسابا في العالم الآخر، أي أن هناك ماضيا وحاضرا ومستقبلا. وبهذا يتضح أن الحكاية ليست مجرد أحداث أسطورية، وإنما هي تخفي وراء تسلسلها البسيط معنى فلسفيا يثار في مستويات فكرية مختلفة وهو علاقة الإنسان بالزمن.

وتتعدد جماليات التوصيل في النص الشعبي. وتتوقف نوع الاستجابة على مستوى كثافة شفراته. فإلى جانب بساطة السرد التي تظل مميزة لرواية النص الشعبي هناك تشابك كلي بين الواقع والمتخيل، على الرغم من بقائهما منفصلين على مستوى السرد. ونقدم مثالا من الحكايات الفرعية في ألف ليلة وليلة، وهي حكايات تحكى ضمن حكايات الملوك السبع. وعلى الرغم من أن السرد الواقعي والسرد المتخيل يردان منفصلين في هذه الحكاية إلا أن القيمة الجمالية المدركة بعدئذ كفيلة بتوليد طاقة جمالية ما كانت تتولد لو أن كل نص من النصين المتجاورين يحكى على حدة بعيدا عن الآخر.

وتحكى الحكاية عن ملك، أطل ذات يوم من نافذة قصره فوقع بصره على امرأة رائعة الجمال. فلما سأل عنها قيل إنها زوجة وزيره. فسولت له نفسه أن يزور المرأة في بيتها بعد أن يبعد عنها زوجها الوزير. ولم يكن الأمر صعبا، إذ قرر أن يرسله في سفر يستغرق عدة أيام، وما أن اطمأن إلى سفر الزوج حتى أسرع وذهب إلى بيت الوزير وطرق الباب، ففتحت له الزوجة فإذا بها أمام الملك. وفوجئت الزوجة بتلك الزيارة الملكية، ولكنها استجمعت قواها في الحال وأدركت حينئذ السبب في إبعاد الملك لزوجها في سفر طويل، فرحبت بالملك ودعته للدخول بعد أن هيأت له الفراش الوثير، ثم استأذنته أن تعد له بعض المرطبات لزوم الزيارة الملكية، ولكنها قبل أن ترحل لشئونها أعطته كتابا ليقرأ فيه ويتسلى ريثما تعود. واضطجع الملك وبدأ يقرأ في الكتاب، وبحركة آلية خلع خاتم الملك من إصبعه وركنه تحت الوسادة. وفجأة اعتدل وهو يقرأ الكتاب الذي كانت حكاياته تحث على الفضيلة وتنبذ الرذيلة من خلال حكايات شبيهة بحكاية الخيانة التي شاء أن يمارسها الملك مع الزوجة وزوجها، وزيره الذي يثق فيه. وفي الحال رمى الكتاب وتسلل خارجا من البيت دون أن يتذكر أنه نسي خاتم الملك تحت الوسادة. ولما عادت الزوجة ولم تجده، أدركت أن الكتاب أدى دوره في الردع، فحمدت الله وعادت إلى شئونها. وبعد أيام عاد الزوج من سفره الطويل، ولم تحك له الزوجة شيئا عن زيارة الملك لها حتى لا يشك فيها الزوج. وجلس الزوج مضطجعا ليستريح من عناء السفر.

وبدون قصد مد يده تحت الوسادة، فإذا به يمسك بخاتم الملك الذي لا يخطئه أحد. فعلم في الحال أن الملك زار بيته في غيبته. ولكنه لم يخاطب زوجته في هذا الأمر واكتفى بهجرها. ولما طالت مدة هجره لها، وذهبت إلى أبيها، وكان من ندماء الملك، واشتكت له زوجها. وانتظر الأب فرصة لمواجهته مع الملك. وواتته الفرصة عندما كان ثلاثتهم مجتمعين: الأب والوزير والملك. عندئذ بادر الأب بالحديث وقال للملك: جئت إليك اشتكي زوج ابنتي. إنه طلب مني أن يستأجر قطعة أرض خصبة مزدهرة بالأشجار المثمرة والزروع اليانعة، فأعطيتها له على أن يستمر في العناية بها. ولكنه أهملها فيما بعد ولم يعد يعتني بها. عندئذ انبرى الوزير ليشرح الأمر على حقيقته للملك. قال له: لا يا جلالة الملك إنني لم أهمل أرضه قط. ولكني جئت يوما إليها كالعادة لأطمئن على حالها، فوجدت أسدا رابضا في جهة منها. ولما رآني الأسد كاد يهجم علي. وفي الحال أغلقت الباب ورحلت خوفا من الأسد. ومن يومها يا جلالة الملك لم تطأ قدمي هذه الأرض. وبهذا - يكون طرفان من المتحاورين الثلاث قد تحدثا. فالتهمة وجهت للوزير من حميه، وخطأه الوزير وبرأ نفسه من التهمة التي سببها دخول الأسد وسكناه في الأرض بدون وجه حق. ولو كان الوزير وجد حيوانا ضعيفا داخل الأرض، لما خافه، ولكنه وجد أسدا رابضا ينتظر دخوله حتى يفترسه. ولم يبق بعد ذلك سوى أن يتحدث المتهم الحقيقي وهو الملك للرد على الوزير والأب معا، فقال للوزير، إن الأسد لن يدخل أرضك بعد ذلك، فاذهب إليها آمنا، ولتعلم أن هذا الأسد لم يؤذك قط من قبل: لن يؤذك قط من بعد». وبهذا تكون الأمثولة المتخيلة قد جاورت الحدث الواقعي لتؤدي دورا مهما في إثارة الحس الجمالي الذي يتشبع من تجاور الواقع من المتخيل.

وربما لم تضف الأمثولة معنى جديدا لما حكى من قبل على نحو واقعي. ولكن مجاورة المتخيل للواقعي ومقاسمته له في تأكيد الجانب اللاأخلاقي يعد إضافة جمالية وليس مجرد إضافة نصية شارحة لما حدث. ولا ننسى أن هذا الرد التمثيلي مناسب تماما للسياق من حيث أنه يعد إضافة بلاغية خففت من حدة التهمة اللاأخلاقية الموجهة للملك وذلك عندما وزعت التهمة بين طرفين هما الملك والزوج.

و كان على كل طرف من الطرفين أن يبرأ نفسه. وبذلك تكون الحكاية التمثيلية فضلا عن دورها الجمالي تكون قد أحدثت إضافة للمعنى عندما وزعت التهمة بين طرفين: تهمة الأب لزوج الابنة، وتهمة الزوج للملك، وكان على كل طرف منهما أن يرد على التهمة بطريقة غير مباشرة.

إن الميل إلى جعل المتخيل مجاورا للواقعي يعد من أبرز ملامح الإبداع الشعبي بدءا من أطولها وهو السير الشعبية إلى أكثرها إيجازا وهو اللغز الشعبي والمثل الشعبي يقول المثل الشعبي. على سبيل المثال : ازرع الزرع تقلعه، وازرع بني آدم يقلعك.

إن المبدع الشعبي بارع في تصوير المعنى تصويراً جماليا من خلال قدرته على تحريك اللغة في مستويات فكرية مختلفة، فقد ينشأ المتخيل من تأمل الظواهر الطبيعية والكونية، أي تأمل ما هو خارجه. ومن تأمل الشيء الخارجي الذي يعد جوهر الفلسفة الظواهرية، ينتقل إلى عالمه الداخلي ليقيس عليه عالم الإنسان. وقد تتطابق الصورتان تماما، الخارجي والداخلي إذا كان ما التقطه خارج عالم الإنسان يماثل عالم الإنسان.

وغالبا ما تكون الصورة الخارجية في هذه الحالة تمثل عالم الفوضى عند الإنسان، يقول المثل الشعبي: الحمار لما يشبع يبعزق عليقه. فهذه صورة فوضوية التقطها من الطبيعة لأنه عندما تأملها وجدها تتطابق تماما مع عالم الإنسان الفوضوي. ولعل هذا يفسر الصيغة البلاغية لهذا المثل الذي بدا مكتفيا بالصورة المتخيلة التي توحي بسلوك الإنسان الذي يماثلها تماما.

وشبيه بهذا المثل ذلك الموال الذي ربط فيه بين حقيقة اكتشفها في الطبيعة وحقيقة اكتشفها في الحياة الإنسانية، إن كلا من الحقيقتين لا تؤتى ثمارها الطبية كما يرجوها ولهذا فهو يصور الصورتين في علاقة قوية حتمية. فلما حاول أن يغيرهما معا إلى ما هو أفضل، فإذا بالصورتين معا تأبيان التغيير إلى ما هو أفضل على الرغم من اجتهاده في تغييرهما معا.

يقول الموال:

انا من عشقي في الزرع جبت عود مُريّر وناشيته ( أي أنشأته )

وجبت غربال قعدت أغربل فيه ونقيته

وجبت ميّة بكف إبدى ورويته.

وصبرت عليه حول لما طرح جبته

(الحول: السنة)

وجيت أذوقه لقيته مر لم ينداق

تعتب عليه عليه ما هو أصل المر من بيته.

إن المبدع الشعبي عندما يبذل قصارى جهده لكى يجعل من نبات المر نباتا حلوا وهو مطلب عسير المنال، يصر على أن يتحدى الطبيعة لا من أجل أن يغيرها، بل من أجل أن يؤكد للإنسان الطيب حقيقة ثابتة ثبوت الطبيعة في ألا يعطى أملا في تغيير اللئيم. إن عالم الإبداع الشعبي لصيق بالواقع بكل متناقضاته وصراعاته، ومع ذلك فهو يمتلك طاقة إبداعية هائلة ورثها من رصيد حضاري سابق. وربما كان أهم موضوع ترسب في مخيلته حينه إلى العالم الآخر الذي يعشش في مخيلته ويلح عليه أن يقتحمه بخيالاته. ولكن عندما يكون عصر الأساطير قد انقضى بنماذجه القديمة على حد تعبير يونج، وعندما تكون هذه الصراعات بين الآلهة غير ملبية لاحتياجاته النفسية الجديدة، فإن الرحلة إلى العالم الآخر لا بد أن تتشكل على نحو آخر بحيث يصبح الإنسان نفسه بطل المغامرة في العالم الآخر، وليست الآلهة. ولأن الجماعة الشعبية أصبحت في المرحلة الثقافية التالية للمرحلة الأسطورية تحن إلى البطل الإنسان الذي يأتي إليها بما لم تحققه الأسطورة، فقد أخذت تحكي عن البطل الإنسان الجريء القادر على اقتحام العالم الآخر بشرط أن يعود إليهم في النهاية بعد صراع مع كل القوى المخيفة التي تقابله حاملا معه ما يفيد جماعته وهو في الغالب شيء نادر وثمين. وإلى جانب هذا، فإن البطل لا يحتفل به الشعب إلا بعد أن يكون قد قتل الشر المجسد في أي شكل من الأشكال.

إن شعوب العالم أجمع تمتلك رصيدا من هذا الرصيد القصصي. وما تزال ألمانيا تصدر أعدادا من دائرة معارف القص الخرافي الجرماني وغير الجرماني. ويمتلك هذا النوع من الأدب الشعبي بصفة خاصة صورا وتشكيلات جمالية تعد زادا للأعمال الإبداعية الفردية وما يعد زادا للفنون الراقية الأخرى مثل الموسيقى والباليه.

على أن الخيال الشعبي الذي يبحث دائما عن المعنى في العالم البعيد اللامحدود وليس في عالمه المحدود، هذا الخيال الشعبي لم يكتف بأن يقف عند حد الخيال الأسطوري والخيال الخرافي بل إنه ظل يلح على المبدع الشعبي بأن يكون إبداعه مزيجا من الواقع واللاواقع شريطة أن يكون الخيالي في خدمة الواقعي.

يحكى أن فلاحا كان يملك قطعة أرض تقع بجانب المقابر وكان يذهب إليها في كل يوم في الصباح يزرعها ويرعاها ويجني محصولها، ثم يعود في المساء إلى بيته. وذات يوم سمع الفلاح صوتا من بعيد يناديه باسمه وهو منشغل بالعمل في أرضه ويقول له، غدا سيأتي فلان إلى هذا المكان، وبعد غد ستأتي فلانة. وفهم الرجل لتوه أن الصوت ينبهه إلى أن فلانا سيموت ويؤتى به إلى المقابر وكذلك فلانة التي هي زوجته. عندئذ ترك الرجل فأسه وأصبح منشغلا بما سمعه. وفي آخر النهار عاد إلى بيته مهموما، وأخذ يتأمل زوجته السليمة المعافية، فوجدها في أتم صحة، ومع ذلك فإن صدى الصوت في أذنه لم يغادره. وفي اليوم التالي سمع صراخا ونحيبا فلما استفسر عن ذلك، قيل له إن جاره قد توفى. وازداد الرجل حزنا لأنه إذا كانت النبوءة قد تحققت مع الجار فسوف تتحقق مع الزوجة. ولم يستطع الزوج أن يمكث طويلا بعد ذلك في بيته وخرج ليعمل في حقله. ليكون في انتظار الخبر بأن زوجته قد توفيت. ولكن أحدا لم يبلغه بشيء. فعاد إلى بيته ووجد زوجته ما تزال بصحة وعافية. وعندما عاد إلى حقله في اليوم التالي، نادى على الصوت وقال له: لقد قلت إن فلانا وفلانة سيحضران إلى هنا ليدفنا في المقابر. وفلان جاء ودفن، أما فلانة فلم تأت.

عندئذ رد الصوت عليه قائلاً : انظر إلى فوق وسوف تعلم الإجابة عن سؤالك. ونظر الرجل إلى فوق، فرأى منظرا لم يعرف له معنى. لقد رأى في السماء حجرا ضخما يكاد يسقط على أم رأس الزوجة وهي تعمل في بيتها، ولم يمنعه من السقوط سوى طبق به طعام. ولم يفهم الرجل تفسيرا لهذه الصورة. فلما عاد إلى زوجته سألها عما فعلته بالأمس فقالت له: إنني لم افعل شيئا غريبا سوى أنني ظللت أنتظرك حتى شعرت بالجوع فقمت وأعددت لنفسي طبقا من البيض مع رغيف وجلست لآكل. ولم أكد أضع اللقمة الأولى في فمي حتى قرع الباب رجل عجوز فقير وطلب مني شيئا يأكله. فحملت إليه طبق البيض والرغيف فأكل وشبع ثم دعا لي: روحي ربنا يكفيك الشر.   ثم قالت لزوجها، بعد ذلك لم أفعل شيئا وظللت انتظرك لآكل معك.

عندئذ استطاع الرجل أن يفسر ما رآه وما سمعه بأن دعوة الرجل الفقير لزوجته قد استجيبت بأن كفاها الله شر سقوط الحجر على رأسها.

هذا النمط من القصص الشعبي يروى اليوم بعد أن مر على القص الأسطوري والخرافي زمنا طويلاً، ومع ذلك فهو يعد امتدادا لهما، ومختلفا عنهما  في الوقت نفسه. فمما لا شك فيه أنه في هذا القص أصبح يدرك معنى الرمز الذي تصفه مخيلته.

وهي مما لا شك فيه تمثل نقلة حضارية ورصيدا فكريا جديا يجعل الحقيقة والخيال متجاوزين ليتبادلا المعنى والمغزى.

إن كل نص يروى من إبداع الإنسان الشعبي حاملا لبصمة الجماعة الشعبية صاحبة الرصيد الثقافي المتواصل، يعد تجربة إبداعية مثيرة عندما يغذيها الخيال وتكون ملائمة لثقافة عصرها، وعندئذ تتخذ مكانها في سلسلة الإبداع المتواصل من القديم إلى الحديث، وعندئذ يندرج في رصيد حضارتها التي لا يشاركها فيه أحد.

أعداد المجلة