فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
24

الاحتفالات الشعبيّة .. في الجنوب الشّرقيّ التّونسيّ

العدد 24 - عادات وتقاليد
الاحتفالات الشعبيّة .. في الجنوب الشّرقيّ التّونسيّ
كاتب من تونس

الاحتفالات الشعبيّة زمنٌ يحلو فيه طعم الحياة وتتزيّن الأرض وتتجدّد النفوس فيشعر الإنسان بحياته وهويّته وتاريخه، ويُحيي عواطفَ قرابته وأواصرَ اجتماعه، وينفض ترابَ العادة عن رموزه وأوهامه، وتستيقظ في رقصه وغنائه دفائنُ لاشعوره، ويرقّ حجاب الغيب فيرى بشائرَ أيّامه وأشباحَ آفاتِ وجوده. وللناس في الجنوب الشرقيّ التونسيّ احتفالات بعضها موسميٌّ يقع في أيّام معيّنة من كلّ عام، وبعضها آنيٌّ ينعقد كلّما دعت إليه حاجةٌ أو اشتاقت إليه نفسٌ، وكلّها قديمٌ، قد احتفل به الناس في البوادي، ثمّ أحيوه في الأرياف والقرى والمدن وإن تغيّرت هيئات الاحتفال.

 

وسنهتمّ في هذا المقال بستّة احتفالات: ليلة القدر، والمولد النبويّ، والعيدين، والختان والزواج. فنصف في قسمه الأوّل كيف كانت تُقام في بوادي بنقردان منذ أربعينات القرن الماضي، وكيف تغيّرت هيئات الاحتفال لمّا استقرّ الناس في القرى وأقاموا في المدينة وتطوّر الاجتماع. ونبيّن في القسم الثاني دلالات الاحتفالات في جزأين: أوّلهما للاحتفالات الدينيّة وهي ليلة القدر والمولد النبويّ والعيدان؛ والثاني للختان والزواج، وقد جمعنا بينهما لاشتراكهما في دلالة الاحتفال بالجنس.

1 - وصف الاحتفالات:
· الاحتفال بليلة سبع وعشرين من رمضان: هي ليلة القدر، والناس يعرفون هذا الاسم ولكن يغلب على استعمالهم عبارة “لِيلِةْ سَبْعَ وعِشْرِينْ”. وكان الرجال يجتمعون في بيتٍ (الخيمة أو الكوخ) والنساء في بيتٍ، وتحمل كلّ امرأة عشاء، نصيبا إلى الرجال ونصيبا إلى النساء. وطعامهم في تلك الليلة الكسكسي. ويسمر الرجال بعد الفراغ من الأكل، ويشربون الشاي، ويَروُون القِصص والأساطير ويتحدّثون في ما يتّصل بحياتهم اليوميّة. فإن كان في «النَّزْلَه»(1) «مِدِّبْ» (مؤدِّب) لم يخل مجلسهم من وعظ وإرشاد وتذكير. وأمّا النساء فلا يطلن الجلوس ولا يشربن الشاي على شدّة حبّهنّ له، وربّما أخفينه عن أزواجهنّ وشربن، ثمّ يعدن إلى بيوتهنّ فالصِّبْية ينامون باكرا، ولهنّ أعمال تنتظرهنّ: تنظيف الأواني-وكانت قليلة، وطحن الشعير إن لم يكن في البيت دقيق، والاستيقاظ لإعداد السحور.
· الاحتفال بالمولد النبويّ: يسمّيه الناس “المِيلُودْ”، وصِفَة الاحتفال به أن يُشترى اللحم قبله بيوم، أو تُذبح شاة وتُقسم بين الناس. وفي الليل يتعشّى الناس، ويعود النساء إلى بيوتهنّ، ويَسْمُر الرجال كما وصفتُ في الاحتفال بليلة القدر.

· الاحتفال بالعيد: تُكنس ساحة البيت صباح يوم العيد، وإذا كان في الحيّ مؤدّب اجتمع الرجال في “مَنْدْرَه” (بيدر) أو مكان مستوٍ نظيف، فيصلّون صلاة العيد، ثمّ يقف “المِدِّبْ (المؤدّب) على صخرة أو نحوها، ويتحدّث في خطبة عيد الفطر عن المغفرة للصائم وفضل الزكاة؛ ويروي قصّة إسماعيل ويذكّر بأحكام الأضحية في عيد الأضحى. ويحثّ على إصلاح ذات البين في كلّ حال. ثمّ يهنِّئ بعضهم بعضا. ويعود كلّ رجل إلى بيته، فيهنّئ أسرته ويذبح أضحيته (في عيد الأضحى)، ويتزاور أهل “النَّزْلَه” بعد ذلك. ثم يجتمعون للغداء، فالرجال في بيت أسنّهم والنساء في بيت أسنهنّ. ويمكث الرجال بعد الغداء يتحدّثون، وترجع كلّ امرأة إلى بيتها كما في الاحتفال بليلة القدر. فإن لم يكن في الحيّ مؤدّب تزاور الناس، ثمّ يعود كلّ رجل إلى بيته فيذبح أضحيته (في عيد الأضحى)، ويجتمعون للغداء كما تقدّم، ولا صلاة.
ومتى بدأ الرجال الخروج للصلاة جعلت كلّ فتاة تمشط شعرها وتقول: “اجْرِي يَا رَاسِي وزِيدْ زَيْ مَا جرِتْ صَلاَّيِتْ نهَارْ العِيدْ”.
وكان طعامهم في العيد الكسكسيّ -وقد أصبح اليوم أكلة مشهورة- أو “العِيشْ بِالمَعْقُودْ”، و“العِيشْ” هو دقيق الشعير يُذرّ قليلا قليلا في ماء وملح على النار، ويُحرّك بجريدة من غير خُوصٍ تسمّى “المَغْرِفْ” حتّى ينضج ويصبح كعجين الخبز، ثمّ يوضع في إناء ويعالج بالأصابع حتّى يصبح أملس مستديرا.

و“المَعْقُودْ” هو “الشرِيحْ” (التين المشرَّح المجفّف) أو التمر يُطبخ جيّدا ثمّ يصفّى بخرقة، ويُضاف إلى مقدار من الزيتِ، والفلفلِ مسحوقا أو مدقوقا، ومدقوقِ “الكِرْوِيَّه والكُسْبُرْ” (الكَرَوْيَا والكُسْبَُرَة)، والطماطمِ المشرّحِ المجفّفِ، والماء والملح، ويُطبخ حتّى ينضج، فإذا نضج صبّوه على “العِيشْ” وأكلوا(2).
· الاحتفال بالختان: كان الغالب في عرف الناس أن يُختن الصبيّ في أعوامه الخمس الأُوَل، وربّما تأخّر ختانه إلى العاشرة. وكان رأس الصبيّ قبل الختان يُحلق صدغاه وقفاه، ولا يُحلق الشعر الذي فوق أمّ رأسه بل يُخفّف ويسمّى «بَرْدْعَه»، ويترك له في مؤخّر هامته (فوق القَمَحْدُوَة) قضيب من الشعر يتدلّى خلفه ويسمَّى «قُطَّايَه». فإذا دنا ختانه اشترى له أبوه قميصا أبيض وطربوشا أحمر «كَبُّوسْ» (الصورة2) فتُزيِّنه الأمّ بالوَدَع، وتظفر يومَ ختانه «تمِيمَه» (الصورة3) و«قُطَّايَه» من الصوف المصبوغ في «قُطَّايِةْ» رأسه، ثمّ صار النساء يضفرن «التمِيمَه» و«قُطَّايِةْ» الصوف (الصورة 4) في خيط الطربوش، ويسمّونه «نُوَّارْة المَغْزُولْ»(3). فإنْ لم يكن للطربوش خيط شُدَّتَا في مكانه منه. وتُنْظم سبع بصَل(4) وثلاثة قرون فلفل أحمر في خيط وتعلّق في البيت، فإذا شُفي الصبيّ انتزعوها، فإن وجدوها عَفِنَة ألقوها، وإن بقيت صالحة أكلوها. ويُنقب سقف الخصّ في وسطه، وتؤخذ جريدة خضراء (غصن نخلة بخُوصِه) (الصورة 5) فتُنصَب فيه: يشدّ أصلها بالحبال وتظلّ منصوبة يراها الناس حتّى تيبس، فإذا يبست ألقوها. وتجتمع نساء «النَّزْلَه» ليلة «الطهَارْ» (الختان)، فتخضب إحداهنّ -من غير تعيين- يدي الصبيّ وقدميه بالحنّاء، ويغنّين، فإن رفعن أصواتهنّ بالغناء سمّي الاحتفال «طهَارْ بالْعَالِيَه»، وإن غنّين بصوت خفيض يسمعه أهل البيت وجيرانهم الأدنون سمّي «طهَارْ بالسَّاكْتَه». وليس للختان غناء خاصّ، بل يُغنَّى فيه ما يجري على ألسنة الناس كالغزل ومدح الرجال ووصف الخيل والإبل.
وفي صباح يوم الختان يذبح وليّ الصبيّ شاة، وربّما اشتركت أسرتان أو أسر في شاتين أو أكثر، وتجتمع النساء لإعداد الغداء وهو الكسكسيّ. وتطهّر الأم صبيّها بغُسل، وتُلبسه القميص الأبيض وطربوشه، ويُؤتَى بجفنة من الخشب تسمّى “قَصْعِة العُودْ”(5)، فتوضع في البيت مقلوبة، ويغربل عليها الرجال التراب بالغربال ليكون ناعما. فإذا ارتفع النهار جاء الخاتن، وهو من عائلة عرفت بهذه الصناعة يتوارثونها أبا عن جدّ ولا سيّما عائلة من السود(6)، فيُجلَسُ الصبيُّ على الجفنة، ويغطَّى نصفه الأسفل بلحاف أبيض، ويستقبله الخاتن، فيدخل تحت الغطاء، ويختنه لا يطّلع عليه أحد من الذين يُوثِقُون الصبيّ.
وإذا شرع الخاتن في عمله وقفت أمّ الطفل في قصعة فيها الماء الذي طهّرته به، وأمسكت في يدها جَلَماً، وصنعت كفعل من يقصّ شيئا وبكت أو تباكت، والنساء يغنّين: “اللهْ وَحَدْ الحُوتْ الحُوتْ، واللِّي خذِى بِالعِينْ ايمُوتْ؛ اللهْ وَحَدْ الدَّادْ الدَّادْ، والمِلْحْ فِي عِين الحَسَّادْ؛ يَا مطَهِّرْ طَهِّرْ واخْفِي اِيدِيكْ، لاَ تُوجِعْ الغَالِي وَلاَ نَغْضِبْ علِيكْ؛ يَا مطَهِّرْ طَهِّرْ صَحَّه لِيدِيكْ، لاَ تُوجِعْ ولِيدِي وَلاَ نَغْضِبْ علِيكْ”(7). فإذا فرغ الخاتن من ختانه ومداواته -وهو سريع جدّا- ارتفعت الزغاريد، ونُقل الصبيّ إلى فراش أُعدّ له قرب الجفنة، وأُعطيَ قطعة من اللحم المطبوخ في الغداء ليرمي بها الخاتن، يُدعى إلى ذلك لتسكينه، فكأنّه اقتصّ من خاتنه. ويوضع طربوشه عند فراشه مقلوبا، فيلقي فيه الناس “النحِيلَه”(8)، وهي قدر من المال غير محدّد، ثمّ يجتمعون على الغداء(9).
· الزواج: يبدأ الإعداد للاحتفال قبل الزفاف بأسبوع أو نحوه، فيوزّع أهل العرس ما يحتاجون إلى رحيه من الشعير والقمح على قَرَائِبِهِمْ ونساءِ “النَّزْلَه”، ثم يطوف رجل منهم فيجمع أكياس الدقيق(10).
ثمّ يطوف قبل العرس بيوم أو يومين على “النَّزْلَه” رجل أو امرأة لدعوة الناس إلى العرس. واشتهرت في السبعينات والثمانينات ظاهرة “الحَضَّارَة”، فكانت تخرج من بيت أصحاب العرس قبل الاحتفال بيوم فتيات “الحُومَه” ترافقهنّ شابّات من المتزوّجات، وهنّ جميعا في أفخر ثيابهنّ وزينتهنّ، ويُسمَّيْن “الحَضَّارَة”، فيطفن على البيوت بيتا بيتا، ويدعون الناس إلى العرس. ولمّا كثر الناس وتوسّعوا في العمران وانتشر التعليم جمع الناس بين “الحَضَّارَة” و“اللِّيسْتَه”، فتُكتب قوائم فيها أسماء الرجال الذين لا ينبغي إغفالهم في الدعوة إلى الوليمة من كلّ “حُومَه”، وهم الجدّ وأبو الأسرة وكبار أبنائه، ويسمُّون القائمة “لِيسْتَه”(11)، وتُقَدّم “اللِّيسْتَه” إلى أحد بيوت “الحُومَه” ثمّ تنتقل من بيت إلى بيت. وأمّا “الحَضَّارَة” فللإعلام بالعرس ودعوة النساء والأطفال.
ثمّ استعمل الناس الدرّاجات الناريّة والسيّارات، فكان يطوف فِتْيَةٌ على درّاجات ناريّة، أو رجلٌ وامرأتان أو ثلاث في سيّارة “لِلتِّحْضِيرْ” (الإعلام الشفويّ) أو لتوزيع الدعوات المكتوبة، ثمّ أصبحوا يوزّعونها في مراكز العمل ويطوفون بها على البيوت.

وكان العريس يختفي عند أقاربه أو عند الجيران قبل بداية الاحتفال بعشرة أيّام أو نحوها، وعادة ما تُرسل إليه أمّه بالطعام، ويكون في هذه الأيام مخدوما مبجّلا، ويسمّى في أيّام عرسه “السلطان”. وقد انتهى هذا التقليد منذ زمن، وإن تجنّب عِرْسَانٌ مخالطة آبائهم في أيّام العرس.
وكان الاحتفال يدوم ثلاثة أيّام يكثر فيها إطلاق النار من بنادق الصيد. وتغنّي النساء في صباح اليوم الأوّل ويعددن الطعام لأهل العرس، وفي المساء يُحمل المتاع الذي أعدّه العريس -وهو قليل- من بيت أسرته إلى بيت أسرة الزوجة، ويسمَّى هذا اليوم “نهَار الكِسْوَه”؛ وفي الليل يذهب النساء والأطفال إلى العرس، فتغنّي النساء ويلعب الأطفال. وكان الغناء يسمّى “الصُّوتْ”، وهو غناء جماعيّ بمدّ الصوت لا يصاحبه عزف ولا ضرب.
وفي صباح اليوم الثاني يذبح أهل العريس من الماشية ما يكفي لإطعام الناس، ثمّ يقطّع اللحم، ويطبخ الكسكسيّ في المساء. فإذا صلّى الناس المغرب جلسوا في حلقات أربعة أربعة، ويتوّلى جماعة من الأقارب والأصحاب توزيع الكسكسي، وتسمَّى هذه الليلة ليلة “العشِى” (العَشاء)(12). وأمّا أهل الفتاة فلم يكونوا يولمون، ثمّ صار الناس يولمون في زواج الابن وزواج البنت، إلاّ أنّ وليمة الابن أكبر.
وفي هذه الليلة يساعد الناس أسرة الزوجين بالمال، يقدّمونه إلى الأب أو الأخ أو من يتولّى جمعه من الأسرة. ويتبرّع كلّ إنسان بما يستطيع، وكثيرا ما “يُرجع” كلّ واحد إلى صاحب العرس ما كان دفعه إليه في عرس ابنه أو بنته. ثمّ يَرجع أكثر الرجال إلى بيوتهم، ويبقى بعضهم للسمر. وأمّا النساء فيبقين للغناء والسمر. فإن كان العرس “بِالعبِيدْ”، غنّى “العبِيدْ” -وهم مُغَنُّون من السود- واستمع الناس ودفعوا إليهم المال. وكانوا يغنّون ويضربون الطبل والفتيات “تنُخْ”، يجثون على ركبهنّ وشعورُهنّ مرسلة والعروس معهنّ، ويحرّكن رؤوسهنّ يمينا وشمالا.
وقد اندثر تقليد “النَّخَّانْ” منذ زمن، وانقرض “العِرْسْ بالعبِيدْ”، وأصبح الغناء والرقص على دقّات “الدَّرْبُوكَه” خاصّا بالنساء في مكان خاصّ بهنّ من البيت(13).
وفي هذه الليلة، يذهب العريسُ -ومعه “العَرَّاسَه” أي أصدقاؤه الذين يهتمّون به في أيّام عرسه- إلى بيت العروس، فتُخْرج يدها من خرق في بيتها وفيها سبع قطع صغار من “الحِنَّه” (الحنّاء المسحوقة المعجونة بالماء)، فيلتقطها العريس بإبرة يأتي بها معه قطعة قطعةً، ثمّ يعود وأصدقاءه إلى بيته، ولذلك تسّمى هذه الليلة “بليلة الحنّه”.
وأمّا في بيت العروس، فتعدّ النساء “السْخَابْ” في صباح اليوم الثاني، وهو مسحوق “المَحْلِبْ” يعجن بماء السواك، ثمّ يُجْعل قطعا صغيرةً مختلفةً صُوَرها، ويُنْظم في خيط، وقد يزيّن بالخرز، ثمّ يوزّع على النساء، فتعلّقه المرأة في جيدها كالقلادة (الصورة 7).

وفي مساء اليوم الثالث يخرج موكب من بيت العريس إلى بيت العروس، فتزفّ إلى بيت زوجها في هودج يسمّيه الناس “الجِّحْفَه” (الصورة8)، وتأخذ معها المتاع الذي أعدّته وما حمله إليها زوجها “نهَار الكِسْوَه”. وفي الليل تكون “الدُّخْلَه”. فيأتي العريس من مكان قريب من خيمة عروسه يتقدّم “العرّاسه” يُنشدون “البردة”، وتوقد نار ملتهبة قرب الخيمة، وتجتمع النساء عند باب الخيمة وفي يد إحداهنّ مِجْمَرة، ويجتمع بعض الرجال غيرَ بعيد، ويختفي والدا العريس في الناس ليريا ابنهما من حيث لا يراهما، فإذا دنا “العرّاسه” من الخيمة و”السلطان” يتقدّمهم عمد صاحب البندقيّة إلى النار الملتهبة فأطلق فيها النار، فيتطاير الشرر كالشهب، ويتقدم “السلطان”، فإذا بلغ باب الخيمة وهمّ بالدخول أخذ أحد الرجال أو إحدى النساء (من غير تعيين) “جِدِّيوَه” (قلّةً) ملئت ماء (الصورة 9)، ويضربها آخر بعصا فيتناثر ماؤها ويقول الرجل الذي يضربها لاَمَانْ لاَمَانْ، أي الأمانَ الأمانَ، مرّتين أو ثلاثا. ويدخل العريس الخيمة.

وينتظره الناس، فإذا خرج أطلق صاحب البندقيّة ثلاث طلقات، ويهنّئه الرجال ويهنّئ النساء المرأة، ثم يعود من رافقها من أسرتها إلى بيوتهم، ويتفرّق الناس، وتمكث العروس في بيت زوجها، فإذا مضى عليها سبعة أيّام زارت أباها، فتقبّل رأسه، ويقال يومئذ إنّها جاءت راضية(14).

2 - الدّلالات
2-1 - الاحتفال بليلة القدر والعيدين والمولد النبويّ
الزمن في الاحتفال بليلة القدر والمولد والعيدين زمن مقدّس مختلف عن سائر الأيّام. ويعبّر الناس عن قداسته واختلافه بكلمتين هما: «عوَاشِيرْ» و«مُوسِمْ». فـ«المُوسِمْ» تسمية تُطلق على ليلة الاحتفال خاصّةً، فيقال «اللِّيلَهْ مُوسِمْ»، وتقترن في أذهان الناس بشراء اللحم، فقد كان أكل اللحم نادرا جدّا. ولم يكن للناس طعام خاصّ بالمولد وليلة القدر والعيدين(15)، فإذا جاء «الموسم» اختلف الطعام عن طعام سائر الليالي، واجتمع أهل الحيّ في بيت واحد فأكلوا جميعا.

وأمّا «العوَاشِيرْ» فهي ثلاثة أيّام في كلّ «مُوسِمْ»: يوم الاحتفال وسابقه وغَده. والتسمية تعني أنّ هذه الأيّام لها حُرمة ليست لسائر الأيام، أي مقدّسة. والظاهر أنّها جمع لـ»عَاشُورَا»، فقد كان الاحتفال بـ»عَاشُورَا» أكبر احتفال وأهمّه في الجنوب الشرقيّ التونسيّ(16)، فاشتقّ الناس من اسمه تسمية لكلّ مواسمهم الدينيّة. وكان الناس يغيّرون سلوكهم في «العوَاشِيرْ»، فيرفق الأب بأطفاله، ويكفّ يده عمّن كان يؤدّبه منهم بالضرب، ولا يقسو على زوجته، ويكظم غيظه؛ وتكفّ الأمّ يدها ولسانها فلا تدعو بالشرّ، وكان الدعاء بالشرّ كثيرا في كلام النساء؛ ويجتنب الناس الخصام، ويصلحون ذات بينهم، فإذا تعسّر الإصلاح بين الخصمين كُتمت الخصومة حتّى تنقضي العواشير؛ ويتزاور الأقارب والجيران في العيدين؛ وإذا وُلد غُلام في شهر المولد فربّما سُمّي «المِيلودْ».

تشترك هذه الاحتفالات في اجتماع أهل الحيّ في بيت أسنّهم للأكل والسمر. واجتماعهم عنده اعترافٌ بسلطة السنّ والتجربة وتجديدٌ للطاعة الرمزيّة وحرصٌ على وحدة الجماعة. ولقد كانت طاعةُ الأكبرِ في المجتمع البدويّ تكرارا لنمط واحد في التنظيم الاجتماعيّ يأخذه الأبناء عن الآباء بالتسليم، فكان الاجتماعُ راكدا والأخطاءُ متوارثةً والظلمُ الاجتماعيّ مبرَّرا بتجربة الأجداد. إلاّ أنّ سلطة السنّ حفظت على المجتمع البدويّ وحدته ومكّنته من الاستمرار. فتبجيلُ الكبير (في القبيلة والحيّ والأسرة) وتقديمُه واستشارتُه والاجتماعُ في بيته وتحكيمُه في الخصومة أعمال كانت تجدّد القيم الاجتماعيّة، فيجد الفرد أثرها في نفسه ويدركه في علاقاته بقبيلته وأهل حيّه، ويشعر بانتمائه إلى الجماعة، ويرى موقعه فيها.

وربّما اختصم ناس من الحيّ في امرأة أو أرض أو كلأ، وشجّ بعضهم بعضا بالهَرَاوَى، إلاّ أنّ الخصومة كانت علامة على شعورهم بأنّهم أحياء وأنّ لهم ما يتنافسون فيه ويسفكون فيه دماءهم ويقطعون أرحامهم وإن ساعة من نهار، فإذا ذهب الغضب وسكنت النفوس وسعى في الإصلاح أهل «السنّ والعقل» بكى المختصمون وتعانقوا ونُسيت الخصومة كأنّها لم تكن، وكثيرا ما يجتمع الناسُ بعدها على الطعام يعدّه أحد المختصمين أو شيخ في الحيّ، فيجدّدون العقد الاجتماعيّ بينهم ويُحْيُون قيم الصفح والحلم والمسامحة وأواصر القرابة والجوار، وينقلب الخصام والتنافر ألفةً ويصبح سببا لتجديد حياة يغلب عليها الركود القاتل. فلذلك لم تؤدّ الخصومة العارضة إلى انحلال المجتمع البدويّ في الجنوب الشرقيّ التونسيّ، بل كانت تعبيرا «بدويّا»عن حياته، وكان الاحتفال من أهمّ ساعات تجديد تماسكه، وكانت «سلطة الكبير» أحد محاور الانتظام الاجتماعيّ فيه، ورموزُها «كبِيرْ العَرْشْ» (القبيلة) في قبيلته، و»كبِيرْ النَّزْلَه» في حيّه، والأب في أسرته، ويليه في المنزلة أكبر أبنائه.

ويساهم الاحتفال أيضا في تجديد الزمن وتجديد الشعور به(17)، فيقطع الزمنَ العاديَّ الراكد الساكن وينشئ زمنا مختلفا ويبعث الشعور الدينيّ. فالاحتفال يسبقه الاستعداد له بشراء اللحم وإعداد الطعام والتزيّن ولبس الجديد إن وُجد، والاستعداد يعني أنّ في الحياة شيئا مهمّا تستعدّ له النفس وتتعلّق به. وإحياء السابع والعشرين من رمضان احتفالٌ بليلة القدر، والعيدُ احتفال إسلاميّ وسنّة نبويّة، والمولدُ إحياء لذكرى ميلاد الرسول محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وكان مؤدّب «النَّزْلَه» يتحدّث في تلك الاحتفالات، فيشرح معنى ليلة القدر ويبيّن فضل رمضان ويعظ، ويصغي إليه الناس، فهو يقرأ ويكتب ويطالع كتب الفقه ويعلّم الصِّبْيةَ القراءة والكتابة ويحفّظهم القرآنَ، وله في كتبه مثال يقيس عليه ما يقع في مجتمعه، فيقرأ ويفهم ويفسّر ويؤوّل من تلقاء نفسه ولا رقيب عليه. وأمّا الناسُ فأمّيّون، وليس لهم إلاّ ما استفادوه من تجربتهم وورثوه عن آبائهم وحصّلوه من المؤدّب بالسماع. وكانوا يعترفون بفضله فيقولون «فلاَنْ يقْرَا ويِكْتِبْ» و»يِعْرِفْ كلاَمْ رَبِّي»، ويعبّرون عن سعة علمه بقولهم إنّه «بحَرْ»، ويعترفون بفضل من يلازمه ويأخذ عنه ويقولون «فلاَنْ مِسْتمِعْ» أي سمع من المؤدّب «علما كثيرا».

هذا الشعور الدينيّ المتجدّد بالاحتفال والوعظ كانت تخالطه أمانيّ النفس وأشواقها، فكانت الفتاة تمشط شعرها في صباح يوم العيد وتقول: «اجْرِي يَا رَاسِي وزِيدْ زَيْ مَا جرِتْ صَلاَّيِتْ نهَارْ العِيدْ»، أي: «طُلْ يا شعري واسْترسِلْ وعجّلْ كما عجّلَ المصلّون إلى صلاة العيد». ويُفهم من هذا «الدعاء» أنّ صلاة العيد كانت شيئا مألوفا عند الناس، إمّا بأدائها في البيادر متى كان مع الناس مؤدّب؛ وإمّا بالذهاب إلى الجوامع في بنقردان أو جرجيس أو مدنين، وهذا لا يتّفق دائما. وكان طول الشعر من مقاييس جمال المرأة، فكأنّ في استحثاثه ليطول احتفالا بجمال الجسد وانتظارا لزوج متصوَّر تُمنَّى به النفس منذ الصغر. واختُصِر التعبير عن الجنس في مخاطبة الشعر مصانعةً للمجتمع الذي يتشدّد في منع الحديث عن مفاتن الجسد وإن صوّر شعراؤه جمال المرأة تصويرا لا تورية فيه ولا عفّة. وجاء الكلام في هيئة الدعاء ليتوهّم السامع أنّ الفتاة تدعو ربّها في يوم احتفال دينيّ يعتقد الناس أنّه موعد إجابة، والمُنَاجَى في الحقيقة الرجلُ، فهو يعرف أنّ هذا الدعاء يُتلى في العيدين فيمنّي نفسه بزوجة يعبث بشَعرها الطويل، ويتغنّى به في شِعره.
ومن أمانيّ النفس وأشواقها أيضا قرعُ باب المستقبل واطّلاعُ الغيب، وقد شرحتُ هذا الأمر في تأويل الاحتفال بعاشوراء(18)، وتكشفه في الاحتفال بعيد الأضحى قراءة عظم لوح الكتف، فكان الناس يذبحون الأضحية، ويطبخون الكتف اليمنى في الليل، ولا يصيبون منها شيئا، ويحفظونها في دقيق السويق، فإذا أصبحوا في ثاني أيّام العيد أفطروا عليها، ولا يكسرون عظمها، ثمّ يأخذه الجدّ أو الأب فينظر فيه، ويقرأ ما كتب فيه من خبر السنة الجديدة، فإذا رأوا سوادا مستطيلا قالوا: هذا قبر، وسيموت أحد أفراد الأسرة؛ وإذا وجدوا فيه أثرا مستديرا قالوا: هذا بيدر، وسيكون عامنا هذا عام خصب؛ وإذا كان العظم الناتئ على صفحة اللوح أَحْرَشَ كأنّه مُحَزَّز قالوا: هذا منجل، وعامنا هذا عام زرع وحصاد؛ وإذا كان أملس قالوا: عامنا هذا «عَجْرُودْ» أي إنّ الزرع فيه سيكون رديئا. ثمّ يعلّق العظم في أعلى «ركِيزْةِ الخُصْ»(19) إلى عيد الأضحى من قابل، وهكذا في كلّ سنة.

تعليق العظم في الخصّ استعجالٌ لإشراق بشارة وتوطينٌ للنفس على استقبال البأساء والضرّاء، وتأويلُ خطوطه نقرٌ لأبواب القضاء وتحديقٌ في سُجُفِ الغيب وإلهاءٌ للنفس العاجزة دون قهر الغيب وسطوة الدهر، فالمستقبل عند البدويّ الأميّ غيب مكنون، وليس له في معارفه ما يمكّنه من توقّع حوادث الزمان والاستعداد لنوائبه، وما يساعده على تطوير فلاحته وتكثير إنتاجه، وما يدفع به الأمراض المزمنة والأوبئة الفتّاكة، فكان يقلّب عظم كتف الأضحية يبحث فيه عن أشباح آفات حياته ووجوده، ويتخيّل بشائر غده، فإن وافقت وقائعُ التاريخ تأويلاتِه اطمأنّ إلى ما يسرّ وتوهّم أنّه عالم بما يسوء مستعدّ له، وإن كذّبتها فرّ إلى القضاء والقدر وقد حاك في صدره اعتقادُ اطّلاعِ الغيب في لوح الغيب المعلّق في الخصّ.

ولم أجد في صفة الاحتفال بالمولد النبويّ شيئا يميّزه، فلم يكن للناس طعام خاصّ فيه ولا دعاء، إلاّ أنّ منهم من كان يسمّي وليده في ربيع الأوّل «مِيلُودْ» أي باسم الشهر في تقويم الناس(20). وفي التسمية تيمّن بمولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما في التسمية بمحمّد، فقد كانوا يتبرّكون بأسماء ويعظّمونها، فإذا سبّوا صاحبها قالوا: «حاشا اسْمَاكْ» أي «حاشا اسمَك»(21).
وأرى أنّ في هذه التسمية محاولة للسيطرة على الزمن في مجتمع أمِّيٍّ لا تدوين فيه. نعم، كان الناس يستعملون التقويم القمريّ الشعبيّ، وتقويما آخر يسمّونه «حسَابْ غِيلانْ»، وهو تقويم دقيق يعتمد على حركة النجوم. وقال لي أحد الشيوخ: «كان الناس يقولون: إنّ «غِيلان» وضع حسابا دقيقا ضبط فيه أيّام كلّ فصل. وأراد عارفون بالتقويم اختباره، فزاروه في يوم خروج الشتاء ودخول الربيع، وجلسوا وقد خرج يحتلب ناقة. ولمّا دخل تظاهروا بالملل وقالوا: أبطأت. فقال: «سرِيعْ متِيعْ، مشِيتْ في الشّتاء
جِيتْ في الرّبِيعْ»(22)، وشرَح كلامه بأنّه لمّا همّ باحتلاب الناقة استدارت واستقبلت المشرق، وهو سلوك غريزيّ في الإبل في الربيع. فأقرّوا بأنّه أعلم الناس بحساب الزمن»(23).

و«حسَابْ غِيلاَنْ» تقويم دقيق يضبط أيّام الفصول وخصائصها، ويحفظ نتائج تجربة الإنسان البدويّ في أعماله وخصائص بيئته(24)، ولكنّ الناس لم يستعملوه للتأريخ لخفاء علاماته وعدم أهميّتها في حياتهم، فلم يقولوا مثلا إنّ فلانا ولد لمّا طلعت الثريّا أو ظهر الميزان، بل اختاروا علامات من بيئتهم وتاريخهم فأرّخوا بها، وهي صنفان:

- الصنف الأوّل فيه الاحتفالاتُ (ليلة القدر والعيدان والمولد النبويّ وعاشوراء)، والأشهرُ المقدّسةُ («المِيلُودْ» (ربيع الأوّل) ورجب وشعبان ورمضان)، وفصولُ السنة، وأيّامٌ معيّنة من الفصول (قِرِّة العَنْزْ)، والأعمالُ الزراعيّة الكبرى (الحرث، و»الزَّرْعْ» أي الحصاد والدِّرَاس، وجني الزيتون).

- والصنف الثاني فيه الأحداث الكبار في بيئة الإنسان البدويّ ووطنه وتاريخ أمّته، ومنها: عَامْ الغَبَّارِي (مجاعة)، وعامْ الرّيحْ لَصْفِرْ (يقول الناس إنّه هبّت فيه ريح أثارت غبارا أصفر)، وعامْ الجِدْرِي (قتل فيه وباء الجدريّ خلقا كثيرا)، وعامْ التِّلْجْ (تساقطت فيه الثلوج وهي ظاهرة نادرة جدّا في الجنوب الشرقيّ التونسيّ)، وعامْ طِيحِة الزِّكْرَهْ (الزِّكْرَه قرية فيها آبار كان يشرب منها الناس، ففجّرها الفرنسيّون في الحرب العالميّة الثانية لقطع الماء عن الألمان فطُمرت ثمّ أحْيَوْها وأصلحوها)، وعامْ الفَلَسْطين (1948).

وكان الناس يؤرّخون بهذه الأحداث فيقولون مثلا: «فلاَنْ ولِدْ «عَام التِّلْجْ» أو «عَامْ الفَلَسْطِينْ» أو «في عقَابْ الصِّيفْ» أي في آخر فصل الصيف، و»رحَلْنَا بَعْد الزَّرْعْ»، «ورَوّحْ فلاَنْ في عاشورا» أي رجع إلى بيته في شهر «عاشُورَا» (محرّم)، و«مَاتْ في الكَرَْمُوسْ» أي في وقت نضج التين، وهكذا... فيتّخذون الفصول والأشهر والأحداث والاحتفالات علامات يهتدون بها في تقسيم زمن راكد ثقيل يشبه بعضه بعضا، وينصبونها في ثنايا عمر خامل ساكن تتكرّر فيه الأيّام والليالي، وينشّطون بها ذاكرة لا تعرف رسما ولا قلما. وقد أطلقوا على أولادهم أسماء شهورهم المقدّسة تيمّنا فسمّوهم «رُمْضَانْ» و«رُمْضَانَه» و«رجَبْ» و«المِيلُودْ»، واشتقّوا من أيّام فرحهم واحتفالهم أسماء أخرى تفاؤلا واستبشارا فسمّوا المولودَ في أيّام العيد «العَيَّادِي» والمولودةَ فيها «عَيَّادَه» و»عَيَّادِيَّه»، والمولودةَ في أيّام عرس «عرُوسيّة»، والمولودةَ في أيّام مطر «مْطِيرَه»، ثمّ يتّخذون مولد الولد علامة ثابتة يؤرّخون بها، فيقيّدون الزمن بأسماء أولادهم، ويشعرون أنّهم يحصون بها شهوره وأيّامه، ويحتمون بها من النسيان.

2-2- الاحتفال بالزواج والختان
الزواج هو أكبر احتفالات الناس في الجنوب الشرقيّ التونسيّ، وهو احتفال يتداخل فيه الدنيويّ والمقدّس والاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ وأكثر أبعاد الحياة. وربّما كَمَن بعضها أو كُبت فتسلّل من شعاب النفس في كلمات أو زفرات أو نكت أو نظرة... وربّما غلب بعضها فبدا في كلّ شيء: الكلام والأغاني والزينة والحركات؛ وقد يبالغ ناس في بعضها فيكون فجّا غليظا أو ثقيلا مملاّ.
ولم يكن للناس في البادية اهتمام بالشأن السياسيّ فلم يبدُ له إلاّ أثر شاحب في بعض قصائد الشعراء. ولمّا اتّسعت القرى وكثر المتعلّمون وانتشرت وسائل الإعلام ازداد الاهتمام بالسياسة، ولكنّها لم تكن موضوعا عامّا يتكلّم فيه الناسُ جميعا، بل كانت من حديث الأصدقاء والأتراب في مجالس الرجال فقط. ولا توجد دراسات في هذا الموضوع ولكن أظنّ أنّ هذا الأمر بدأ في سبعينات القرن العشرين خاصّة. وفي آخر الثمانينات أصبحت ولائم زواج بعض الإسلاميّين مهرجانات خطابيّة سياسيّة، فإذا فرغ الناس من العَشاء وجلسوا للاستماع هنّأ الخطيبُ العريسَ بزواجه ودعا له بالخير والسعادة، ثمّ يأخذ في تشخيص سياسة البلاد ونقدها، ويمزج الآيات والأحاديث بالأخبار السياسيّة، وينبّه على شرعيّة مطالب الحركة(25)، ويحثّ الأتباع على التمسّك بها. وحضرتُ سنة ثمان وثمانين (1988) زواج أحد معارفنا، فلمّا ذهبنا «لِيلْة الحِنَّه» إلى بيت العروس وجدنا الناس في ساحة فسيحة: الرجال في ناحية والنساء في ناحية أخرى، واستقبلهم أربعة رجال واقفين يسمّونهم «فِرْقة ملتزمة»، وكانوا ينشدون أناشيد ليس معها عزف ولا ضرب، وممّا أنشدوه قصيدة «أمّاه»، وفيها:
أُمَّاهُ لاَ  تَبْكِي عَلَيَّ إِذَا سَقَطْتُ مُمَدَّدَا
فَالمَوْتُ لَيْسَ يُخِيفُنِي وَمُنَايَ أَنْ أَسْتَشْهِدَا

فصارت ساحة البيت كئيبة كأنّ الناس في مأتم(26).

وأمّا الجانب الاجتماعيّ فأظهر أبعاد الاحتفال، فقد كان أصحاب الحفل يدعون “النَّزْلَه” كلّها، ولمّا كثر الناس واستقرّوا وكبرت القرى صار أهل العرس يدعون أكثرَ سكّان القرية، وكلَّ من لها به نسب أو صداقة أو عمل من أهل القرى الأخرى ومن المدينة عامّة. ويساهم هؤلاء بأصناف المساعدة، فيبذلون المال، ومنهم من يعدّ الطعام ويخدم المدعوّين إلى الوليمة... ومازال الناس على هذا التقليد إلى اليوم(27). وفي إطلاق النار إشهاد للمجتمع كلّه على زواج الزوجين على سنّة الله ورسوله وسنّة المجتمع، وفي الانتقال بين بيت العريس وبيت العروس في “الكِسْوَه” و“الجِّحْفَه” إعلان لتأسيسِ بيت جديد وإنشاءِ نسب جديد ونسل جديد(28).

وأمّا الاحتفال بالجنس فيبدو في لبس الجديد والتزيّن والغناء والزغاريد والأعمال الرمزيّة. وأهمّ الأعمال الرمزيّة ما يقع ليلة الدخلة. فالنار الملتهبة ترمز إلى استعار الشّهوة الجنسيّة، ولقاء العريس بعروسه يصوّره مشهد النار الملتهبة في الكانون المستدير المحفور في الأرض أمام بيت الزوجيّة(29)، إذ يقف صاحب البندقيّة على أمتار منها ويصوّب إليها بندقيّته ويطلق فيها النار فيتطاير الشرر وتعلو الزغاريد ويتقدّم العريس. وللمشهد ثلاث غايات: تأجيجُ شهوة العريس الذي يتقدّم الجمْع ويرى النار والشرار؛ وإعدادُ العروس التي تسمع إطلاقَ النار والزغاريدَ؛ وتحقيقُ الاحتفالِ الدّرامي بافتضاض البكارة. وأظنّ أنّ المشهد يعدّ العزّاب لمثل هذه الساعة ويحرّك شهوتهم ويثير أمانيّهم ويعوّدهم مواجهة الجمهور الكبير الذي يرصد حركات العريس وقسمات وجهه؛ ويعزّي المشهدُ من أُطلقت نارُه من قبل فلم يبق له إلاّ الذكرى والتسلّي بمشاهدة ألسنة اللهب واستنشاق رائحة البخور والبارود.

هذا المشهد الناريّ يتلوه مشهد مائيّ، فتؤخذ قلّة ماء ويضربها رجل بعصا يكسرها ويقول: “لاَمَانْ لاَمَانْ” (الأمانَ الأمانَ)، ثمّ يدخل العريس على عروسه. فالبندقيّة عوّضتها العصا، والنار المستعرة عوّضتها قلّة الماء، وإطلاقُ النار عوّضه ضرب القلّة، والشرر المتطاير عوّضه الماء المسكوب، ويصاحبُ تكسيرَ القلّة الدعاءُ بالأمان، والماءُ رمزُ الأمان عند الناس. فإذا خرجَ أحدٌ في سفرٍ سكبت امرأة (أمُّه أو أختُه أو زوجتُه...) الماء في أثره وهي تودّعه وتدعو له بالسلامة؛ والنائم يوضع عنده الماء ولا سيّما إذا كان طفلا صغيرا، ويعلّلون ذلك بأنّ “المِى أَمَانْ”(30).

هذا المشهد احتفال بالرجولة والأنوثة معا. فالعصا رمز الرجولة والفحولة، والقلّة رمز الأنوثة، وكسرها رمز افتضاض البكارة. وسكْب الماء شعيرة لحماية العروس وتفاؤل بسلامتها وإخماد(31) لشهوة العريس بماء الأمان. فقد كان الجنس من المحرّمات الاجتماعيّة، وكانت ليلة الدخلة موعدا لاختبار الرجولة، وكان الرجال يتنافسون أيّهم أسرع في افتراع عروسه، فمن كان أسرعهم خروجا كان أظْهَرهم فحولة. وربّما لقيت العروس مشقّة وعنتا وربّما نُزِفَتْ وغُشي عليها. ويؤكّد غايةَ الوقاية أنّ القلّة كانت تُكسر خلف العريس إذا همّ بدخول الخيمة كما يُسكب الماء خلف المسافر إذا خرج من البيت. ولا يرى العريس المشهد لأنّه لا يلتفت، ولكنّه يعلم أنّهم كسروا خلفه قلّة ماء ودعوا للفتاة بالأمان وأنّهم يرجون سلامتها.

وللبخور في هذا المشهد وظيفتان. أولاهما الوقاية. فالبخور كان يُستعمل للشفاء من العين(32)...، والطوافُ بالمجمرة في العرس وإدارتها بإزاء رأس العريس قبيل الدخلة تدبير لوقايته العين والسحر.
والوظيفة الثانية التطييب، فهو طيبُ النساء في البادية، وكانت المرأة تجمّر ثيابها، وتدْهن شعرها بخليط من زيت الزيتون و“السِّنْبِلْ” و“السِّعْدْ” و“القْرُنْفِلْ” و“المَحْلِبْ” و“الجِّدْرَه” و“لُخْزَامَى”، يحمى قليلا ثمّ يحفظ في وعاء. وتتّخذ كيسًا صغيرا من الجلد المدبوغ يسمّى “الدِّرْعْ”، فتملؤه طيبا وتخيط فمه إلاّ فُتْحَة صغيرة وتضعه تحت ثيابها فتضُوعُ رائحته. وإذا أرادت زوجة فراق زوجها نقبت درعها فتساقط الطيب قليلا قليلا وذهب عطرها(33). ولم يكن الرجال يتدخّنون (بالبخور) ولا يتعطّرون بالسنبل والسعد والقرنفل، بل كان هذا الشأن خاصّا بالنساء، وهؤلاء يأتين العرس في أحسن زينتهنّ وأذكى عطرهنّ. ولهذا أرى أنّ بخور ليلة الدخلة كان يُستعمل لتعطير الجوّ وإثارة شبق العريس الذي تقترن عنده رائحة البخور بالأنثى والجنس. وتعطيرُ الجوّ يعني أنّ النساء كنّ يتضوّعن حينئذ إثارة مقنّعة بالتقاليد، ويتحرّق الرجال شبقا مكتوما بالحفاظ.

فإذا دخل العريس على عروسه انقطع الغناء والزغاريد، وجلس الناس ينتظرون خروجه لتهنئته. والوقت الذي يقضيه في الخيمة وقت حرج وقلق. ويقلق والداه إذا أبطأ، لأنّ ذلك طعن في الرجولة، والعيبُ في الابن لا تسلم من عاره أسرتُه، ولا سيّما إذا سخر مازح أو شامت. وتدعو أمّ العروس بالسلامة: سلامة ابنتها من صولة “رجل مُغْتَلم”، وسلامة العرض والشرف، فربّما لم تكن الفتاة بكرا وأهلُها لا يعلمون. فلذلك يذهب معها إخوتها ليكونوا شهودا على شرفها، وليستعدّوا لما يجوز حدوثه ممّا لا يسرّ. وأمّا الأب فيمكث في بيته يسامره جيرانه، وأظنّ أنّه يُترك في البيت لحفظ ماء وجهه إنْ لم تكن بنته بكرا(34).
فإذا خرج الرجل من الخيمة أطلق صاحب البندقيّة ثلاث طلقات وعلت الزغاريد. وليس للعدد ثلاثة (3) دلالة خاصّة إلاّ بلوغ الغاية في البهجة وإعلان نهاية العرس، فالنساء يزغردن في العرس كلّما أطلقت النار، وتشتدّ الزغردة بالتثليث(35). وتأخذ العروس خرقة بيضاء فتتطهّر بها ثم تُلقى فوق الخيمة إشهادا على أنّها عذراء قد صانت شرفها، وقد ترقص فتيات حول تلك الخرقة. ويُعتبر هذا المشهد خاتمة الاحتفال بافتضاض البكارة، وهو مشهد جنسيّ قَانٍ وإنْ كنّى عنه الناس بالاحتفال بالعرض والشرف. فللبكارة في ثقافة الناس أهمّيّة كبيرة يبديها “طقس سحريّ” يسمّى “التِّصْفِيحْ”. والتسمية مشتقّة من جذر (ص، ف، ح)، ومنه (في العربيّة) الصّفيح وهو رقائق الحديد؛ ومنه في كلام الناس “تِصْفِيحْ الدَّابة”، وهو تنعيل حافرها بطبق من حديد يقيها الحجارة. وتتولّى “تِصْفِيح” البنت امرأة متخصّصة، فإن لم توجد فعجوز من “النَّزْلَه” تُجلِس الفتاةَ على صندوق من حديد أو خشب، وتضع المفتاح في القفل، فتغلقه، وتأمر الفتاة أن تقول: “نِى حِيطْ ووِلدْ الناسْ خِيطْ”، أي أنا (= بكارتي) كالحائط قوّةً، وكلُّ رجل كالخيط ضعفا ووهنا. ثمّ تأمرها بالوقوف، وتعيد هذا الطقس مرّتين أخريين، فإذا تمّت الثلاث أصبحت الفتاة “مصَفْحَه”. فإذا خُطبت وحان زفافها وصارت لا تستطيع مغادرة بيت أبيها إلاّ إلى بيت زوجها جاءت المرأة التي “صفْحِتْها”، فإن توفّيت أو منعها أمر نَابَتْها امرأة أخرى، فتَجلس الفتاةُ على ذلك الصندوق مقفلا أو على آخر يشبهه، وتفتح المرأة الصندوق بالمفتاح وتأمر الفتاة أن تقول: “نِى خِيطْ ووِلْدْ الناسْ حِيطْ”، وتعيد هذا الطقس مرّتين أخريين. و“وِلْد النَّاسْ” هنا هو الزوج.

وتزعُم النساء أنّ الفتاة تصبح بعد “التِّصْفِيحْ” آمنة على نفسها (= بكارتها) لا يستطيع أحد أن يفترعها وإن كانت منقطعة عن أهلها، حتّى زوجها يعجز عنها ليلة زفافها إلاّ أنْ يُفتَح الصندوق(36). وهذا الاعتقاد يبيّن أنّ “التِّصْفِيحْ” من “طقوس الوقاية”، فالفتيات كنّ يذهب إلى الآبار يستقين، ويحتطبن، ويرعين الماشية، وربّما انقطعت الفتاة في عملها فلم يستطع أهلها مراقبتها، وربّما غفلوا عنها في ساعة احتفال واختلاط. وظاهر “طقس التِّصْفِيحْ” أنّه تدبيرُ وقايةٍ من اعتداء مُغتلمٍ وغدر الغريزة. وحقيقته في نظري تبريرٌ اجتماعيّ وتقصيرٌ تربويّ. فالتبرير الاجتماعيّ هو أنّ طقس “التّصفيح” يوهم الناس أنّ أحدا من الرجال لا يستطيع أن يصيب من فتياتهنّ، فتجيز تقاليد المجتمع للفتاة الخروج والانقطاع عن عيون الأهل، وتجيز مخالطة الرجال للنساء على الآبار وفي الاحتطاب والاختلاء (التِّحْطِيبْ وِالحشِيشْ) وجمع “اللاَّزُولْ”(37). فكان شباب “النَّزْلَه” وفتياتها(38) يذهبون معا في غير حرج، وإذا خطب شابّ فتاة أو عُرف في “النَّزْلَه” أنّه سيخطبها جاز له أن يلتحق بها وهي تحتطب أو تجمع الكلأ، فيحادثها ويساعدها. ويعتقد الناس أنّ الأعراف والقيم رقيب لا ينام، والتصفيح درع لا تُخترق، وفي خيمة الأعراف وستر التصفيح تستطيع الفتاة أنْ تبادل حبيبها حبّا على عجل.

والتقصير التربويّ هو أنّ الناس كانوا لا يقومون على تربية أبنائهم ورعايتهم، بل كانوا يقتصرون على تغذيتهم بما يتيسّر في بيئة فقيرة غليظة، ويكتفون بتعليمهم مبادئ السلوك وتلقينهم قيم العَرْشْ والنَّزْلَه (القبيلة والحيّ). ولا يُنتظر شيء فوق هذا في بادية فقيرة وقرى منقطعة وبيوت أميّةٍ، وكانوا يعالجون اقتضاءات وجودهم بالسحر وعقائد العجز وتجارب الأميّة، فللغريزة الجنسيّة “التِّصْفِيحْ”، وللخوف والظلم والمرض النفسيّ دعاء “الوِلْيَانَ”، وللقروح “البَخَّانْ”(39). فالتصفيح بهذا المعنى طقس سحريّ لا يهذّب نفسا ولا ينمّي خُلُقا ولا يروّض غريزة، بل يربّي الفتاة بالكبت والخوف، والفتى بالزجر والقمع، ويحطّ عن الآباء مسؤوليّة تربية أولادهم.

وأمّا الختان فليس في ظاهر الاحتفال به ما يبرز البُعد الجنسيّ كما في الزواج. ولم أظفر عند العجائز والشيوخ الذين سألتهم بشيء يفسّر أصول التقاليد المذكورة في وصف الختان، وأظنّ أنّه يتداخل فيه بعدان. أوّلهما البعد الاجتماعيّ الإسلاميّ، ففي الختان خضوعٌ لسلطة المجتمع وأعرافه، وإمضاءٌ لتقاليده(40). وهو مع هذا سنّة إسلاميّة، ومن تمام انتماء المرء إلى الإسلام أن يكون مختونا، فلذلك كانوا يعدّونه شرطا لمخالفة النصارى، ويحرّمون ذبيحة غير المختون، فإذا اصطاد غلامٌ أقلف عصفورا أو يربوعا لم يجز له ذبحه. وكان رجال (ولا سيّما رعاة الإبل) يتركون الصلاة، وربّما أفطروا في رمضان من غير عذر شرعيّ، ولكنّهم لا يتركون ختان أبنائهم وإن أخّره بعضهم. ويتهاون أكثرهم في أداء الفرائض كالصلاة، ولكنّهم لا يتركون الختان لأنّه من تمام الرّجولة، فهم لا يفصلون بين الرّجولة والإسلام كما يفهمونه ويمارسونه.

والبُعد الثاني رمزيّ سحريّ، فالجلم رمز القطع، و“الماء أمان” كما مرّ في وصف القلّة، وأظنّ أنّ الماء الذي يُطهَّر به الصبيّ ثمّ تقف فيه الأمّ كان وسيلة تواصل تنقل تأثير حركة الجلم من غير مُمَاسّة؛ وحركةُ القطع التي تمثّلها أمّ الصبيّ تجسيمٌ لاعتقاد الناس أنّها تسهّل عمليّة الختان وتصويرٌ للتفاؤل بنجاة الغلام، فربّما نُزِفَ نزفا شديدا فهلك. وكان الدواء المستعمل في علاج المختون شعبيّا، والرعاية الطبّيّة معدومة، فإذا لم تكن الأمّ حازمة صعب برء الصبيّ، وربّما تقيّح الجرح فمات منه، إلاّ أنّ الوفاة بسبب الختان كانت أمرا نادرا جدّا. وكان يقال إنّ تعليق البصل والفلفل يقي الصبيَّ العين، وأظنّ أنّ فيه أيضا تفاؤلا بالشفاء العاجل، فقد كان الناس يستعملون البصل(41) لعلاج القروح وألم الرأس؛ ولا أستبعد أن تكون لطقس الوقاية هذا دلالة جنسيّة مشتقّة من مذاق البصل والفلفل وشكلهما، فكأنّ في تعليقهما يوم ختان الصبيّ تفاؤلا بأن يكون فحلا، والفحولة من صفات الرجولة في المجتمع. وأمّا الجريدة فكان يُقال إنّ الصبيّ يُشْفى إذا يبست، أي إنّ نصبها كان تفاؤلا بالشفاء اليقينيّ. وأرجّح أنّها ترمز أيضا إلى الفحولة والبركة والحياة والتعمير، فالفحولة يدلّ عليها انتصاب الجريدة وجنسها، فقد كانت تقطع من “نَخلَه ذُكَّارْ” (فُحَّال)، كأنّهم كانوا يعتقدون أنّ خصائص الذكورة تنتقل من الفُحَّالِ (ذكر النخل) إلى الصبيّ المختون. فإن لم يجدوا فُحَّالا قطعوا جريدة من نخلة أنثى، وأظنّ أنّها ترمز حينئذ إلى البركة خاصّة، فقد كانوا يحبّون الإفطار على التمر في الصباح ويقولون في تفسيره: “التَّمْرْ الصُّبْحْ بَاهِي”، أي “الإفطار على التمر في الصباح أمر حسن”، و”بَاهِي” (حسن، جيّد) في هذا السياق فيها معنى البركة؛ وأمّا دلالة الحياة والتعمير فتدلّ عليها الخضرة ومنزلة النخلة في حياة الناس(42).

وفي بعض “طقوس الختان” ما يشبه “طقوس العبور”، فقد كان يقال في تشجيع الصبيّ “إِطَهْرُوكْ بَاشْ توَلِّي رَاجِلْ” (يختنونك لتصبح رجلا)؛ فإذا برأ أخذه أبوه (أو من يقوم مقامه) فحلق رأسه وجزّ “قُطَّايْتَه” و”بَرْدِعْتَه”؛ وإذا كان الصبيّ ممّن يصطاد اليرابيع والعصافير أُكِلتْ ذبيحته بعد الختان. وأظنّ أنّ الحلق رمز التطهير، وجزّ “القُطَّايَه” تمثيل لقطع الغُرْلة، وسمّي الختان “طْهَارْ”، والخاتنُ “طَهَّارْ” لأنّ الختان يطهّر الصبيّ من نقص الدين ونقص الرجولة. ولكنّ المختون لا يُعزل في بيت خاصّ، ولا يؤمر بأداء طقوس خاصّة، ولا يتغيّر موقع الغلام في الأسرة ولا في المجتمع، ولا تتغيّر معاملة الناس له بعد الختان. ولم يكن الناس جميعا يختنون أبناءهم في سنّ واحدة، فمنهم يختن ابنه قبل الثالثة، ومنهم من يؤجّله إلى التاسعة أو العاشرة. ومنهم من يترك لابنه “قطّايه”، ومنهم من يترك بردعة فقط. فلهذا لا يمكن اعتبار جزّ “القطّايه” وحلق “البَرْدْعَه” وقولهم للصبيّ “إِطَهْرُوكْ بَاشْ توَلِّي رَاجِلْ” من طقوس العبور.

الخاتمة
يُستنتج ممّا تقدّم أربعة استنتاجات:
- أوّلها أنّ احتفالات الجنوب الشرقيّ التونسيّ الشعبيّة المدروسة في هذا المقال تغيّرت اليوم كثيرا، تغيّرت طريقة إحيائها وعدد أيّامها وطعام الناس فيها، فلا أثر اليوم مثلا “للقُطّايه” والجلم والخيمة، ولا خرقةَ في ليلة الدخلة، والجبّةُ التّونسية البيضاء زحْزَحَتْها الهيئة الغربيّة السوداء، والهوادجُ انقرضت وحُملت العروس والنّاس في السيارات، واختفت صورٌ من مظاهر الزينة التقليدية كالاكتحال والاستياك. ولم يُحدث اندثارُ هذه الأمور انفعالا جماعيّا قويّا، فقد اختفت شيئا فشيئا، وكان تغييرها أحيانا من مظاهر التجديد التي يتنافس فيها الناس وإن اختلفت استجابة الأسر لها باختلاف طبيعتها (ريفيّة، قرويّة، مدنيّة) وثقافتها (عدد المتعلّمين فيها ودرجاتهم العلميّة، هجرة بعض أفرادها إلى أوروبا، سلطة الأب فيها...). وهذا التغيّر أمر اقتضاه تطوّر الحياة والمجتمع، فقد انتشر التعليم وفقدت القبيلة قوّتها وتنظيمها وتغيّرت منزلة المرأة في المجتمع وتنوّعت العلاقات الاجتماعيّة. وهو يدلّ على حياة المجتمع ويبيّن أنّ الثقافة الشعبيّة ليست ثقافة موروثة يتقيّد كلّ جيل فيها بما ورثه عن أجداده، بل هي ثقافة نامية لكلّ جيل من أجيال الجماعة في صناعتها حظّ ومجال.
- والثاني أنّ احتفالات الناس اليوم -ولا سيّما الزواج- خليط من تقاليد موروثة وإضافات حادثة، وفقد الموروث دلالته وصارت رموزه بلا معنى. ومن صور التنافر بين القديم والجديد في التسعينات أنّ الناس كانوا يحملون “الجِّحْفَه” (الهودج) على سيّارة؛ ومنها أنّ إطلاق النار اليوم -وهو أمر يبالغ فيه الناس- تعبير بدويّ لا يلائم حياة المدينة المكتظّة بالسكّان، ولا سيّما إذا استُعمل السلاح الناريّ غير بنادق الصيد(43)، ومنها أنّ الانتقال جيئة وذهابا بين بيت الزوج وبيت الزوجة في “الكِسْوَه” و”الجِّحْفَه” تقليد لا وظيفة له ولا دلالة. ويدلّ هذا التخليط على عجز ثقافيّ، فيتشبّث الناس بالقديم بلا روح. وأظنّ أنّ من أهمّ طرائق تطوير الثقافة الشعبيّة في هذا الجانب أن نجعلها موضوعا للنقد الفنّيّ والثقافيّ لتطويرها، ولتشكيل ثقافة شعبيّة تعبّر عن مشاغل الإنسان في الهنا والآن، ولا تستأسر للقديم بلا نظر.
- والثالث أنّ الأغاني في حفل الزواج لم تعد قصائد يؤلّفها الناسُ ويعبّرون بها عن أنفسهم وحياتهم، بل هي اليوم نصوص مجلوبة، ففي بنقردان تنتشر الأغاني الليبيّة، والناس يألفونها لأنّها تشبه أغانيهم. وأمّا في العاصمة ومدن الساحل والشمال فتُزَمجر أغان فرنسيّة وإنجليزيّة، وربّما عبّرت عن مشاغل الناس وترجمت شعورهم، ولكنّها أجنبيّة نبتت من غير نفوسهم، واستفحلت بالعولمة.
- والرابع أنّ الثقافة الشعبيّة صارت اليوم ثقافة مبثوثة في مواقع الانترنت، وقد سهّل هذا الأمر على الناس الاطّلاع على ثقافات غيرهم، وساعد الباحثين على جمع مادّة بحوثهم، إلاّ أنّ هذه الثقافة الضوئيّة المبثوثة خليطٌ من الحقائق والأخطاء، والأخبار والتأويلات، والصدق والكذب، والبحث العلميّ والتخليط العاميّ(44). وهذه الظاهرة من أشدّ الدواعي إلى ضرورة دراسة ثقافاتنا الشعبيّة، وتدقيقها، وتقييدها بالبحوث العلميّة الرصينة.

الهوامش

1 - «النَّزْلَه» -وهاء السكت لا تنطق- الحيُّ، (ج. نزَالِي) وكان الناس يقولون: «نَرْحْلُو ونِنْزْلُو»، أي نرتحل وننزل (نقيم). ويختلف عدد البيوت من «نَزْلَه» إلى أخرى، فأقلّها أربعة وأكثرها عشرة في الغالب. والبيوت هي الخيام والأخصاص، و»الخُصْ» (ج. «أَخصَاصْ»، بيت مدوّر يُبنى بخشب الزيتون أو البرنبخ أو الطرفاء أو السدر، ثمّ يُكسى حُصُرًا من السَّبَط أو قصب القمح،  ثمّ يُسْقف بالخشب والقشّ (انظر الصورة 1).
2 - هذه الأكلة بهذا الوصف انقرضت منذ زمن، و»المَعْقُودْ» بقي اسمه وتغيّرت طريقة إعداده، وأصبح أكل «العِيشْ» اليوم نادرا جدّا، وهو أكلة معروفة في تونس بأسماء مختلفة (عِيشْ: في الجنوب الشرقيّ؛ بَازِينْ: في مناطق متفرّقة من الجنوب، وفي بعض مدن الساحل ومنها «جَمَّالْ» -وهي من مدن المنستير- فالـ»بَازِينْ» فيها طعام عاشوراء؛ عصِيدَه: في الشمال والعاصمة؛ تَرْوَايِتْ: في جربة، والكلمة بربريّة). ويسمّى في ليبيا «بَازِينْ». وقالت فيفيانا باك إنّ «العصِيدَه» طعام احتفالات شعبيّة في المغرب أيضا، انظر:
 Pâques, Viviana. «Les fêtes du mwūlūd dans la région de Marrakech.» Journal de la société des Africanistes 41 (1971) : 140.
3 - النُّوَّارة (ج. نُوَّار): الزهرة (فصيحة)؛ والمغزول: اسم مفعول من غَزَلَ: الخيط المفتول بالمغزل. ونُوَّارْة المَغْزُولْ: النوّارة المصنوعة بالخيط.
4 - الناس يسمّون البَصَلة الواحدة «رَاسْ بَصَلْ»، ج. «رُوسْ بَصَلْ».
5 - اشتُهر في مدينة بنقردان رجال من أسرة «بُوشْنِيبَه» -وهي أسرة من التونسيّين السود- بالحذق والمهارة في الخِتَانَة. واشْتُهر أيضا ضَوْ بن عبيد (من الأربعينات إلى بداية السبعينات)، وهو من أسرة أخرى من السود أيضا من قرية «ودَايَا السِّدْرْ» (وهي من قرى مدنين، وبينهما 21 كلم؛ وبينها وبين بنقردان 57 كلم)، وكان يطوف بين مدنين وجرجيس وبنقردان يختن الصبيان. وعرف عنه رحمه الله أنّه كان إذا مرّ ببيوت ووجد الصبية يرعون الماشية فحصهم، فإذا وجد فيهم أقلف ختنه وداواه وأرسله إلى أهله ليعالجوه، ومضى في طريقه لا يسأل على ذلك أجرا. فكان الناس يلتحقون به متى استطاعوا ويُؤْجِرُونَه. والخاتنون اليوم ممرّضون متخرّجون من مدارس الصحّة.
6 - «قَصْعِة العُودْ» وعاء من الخشب يؤكل فيه.
7 - اللهْ وَحَدْ: الله واحد أحدٌ، وهي عبارة تعجّب مثل سبحان الله وما شاء الله. وتُقال لئلاّ يصاب المتعجَّب منه بالعين. الحُوتْ الحُوتْ: الحوت كلمة تطلق في تونس على كلّ أصناف السمك، وبائعه يسمّى «الحوّات»، و»الحوته» (السمكة) من رموز دفع أذى العين، يرسمونها على منازلهم ودكاكينهم إلى اليوم، وكانت المرأة تجفّف ذنب السمكة الكبيرة ثمّ تعلّقه على صدرها. و»الحُوتْ الحُوتْ» عبارة لدفع ضرر العين، كالرقية للصبيّ. واللِّي خذِى بِالعِينْ ايمُوتْ: من عَانَ مَاتَ. الدَّادْ: انظر الهامش 32. المطَهِّرْ: الخاتن، ويسمّى «الطَّهَّار»، وأمّا كلمة «المطَهِّرْ» فاستعملت هنا لتوافق اللحن. طَهِّرْ: اختنْ. اخْفِي اِيدِيكْ: أسرعْ. لاَ تُوجِعْ الغَالِي: لا تؤلم العزيز. لاَ نَغْضِبْ علِيكْ: لا أغضب عليك. صَحَّه لِيدِيكْ: سَلِمَتْ يداك.
8 - من «النُّحْلِ» و»النِّحْلَةِ»: العطيّة، وانظر: ابن منظور، لسان العرب، تح. عامر أحمد حيدر؛ راجعه: عبدالمنعم خليل إبراهيم، بيروت، دار الكتب العلميّة، ط1، 1426-2005، 6/716-717 (نحل).
9 - راجع في موضوع الختان:
Chebel, Malek. Histoire de la circoncision des origines à nos jours. Tunis : cérès, 1993.    
ولا سيما القسم الثاني:
L’univers de la circoncision, 91-157
وانظر صفة الختان عند المسلمين واليهود في تونس في بداية القرن العشرين:
 De Mortillet, Adrien. «La Circoncision en Tunisie.»  Bulletins de la Société d’anthropologie de Paris, 1.5 (1900) : 538-543.
10 - كان الرحي يومئذ بالرحى اليدويّة.    
11 - «اللِّيسْتَه» تعريب للكلمة الفرنسيّة «liste» أي قائمة. وقد كان الناس في البادية يستعملون كلمة «النَّزْلَه» لتسمية الحيّ، ولمّا استقرّ الناس في القرى والمدن وكثر السكّان قُسّمت المدينة إداريّا إلى مناطق، ففي مدينة بنقردان مثلا مناطق منها العَامْرِيَّه والطَّابْعِي وجَلاَّلْ والوَرَاسْنِيَّه، وتتكوّن كلّ منطقة من «حوُمْ»، ومفردها: حُومَه، وهي الحيّ، وهي كلمة مستعملة في البلاد كلّها. ولا يَستعمل كلمةَ «النَّزْلَه» اليوم إلاّ الشيوخ.
12 - «العشِى»: تُنطق العين بين الفتحة والسكون، وتنطق الشين بالإمالة (بين الكسرة والفتحة).
13 - انقطع تقليد «العِرْسْ بالعبِيدْ» منذ زمن. وآخر «عِرْسْ بالعبِيدْ» حضرتُه كان في تمّوز أو أغسطس سنة اثنتين وتسعين (1992)، وكان يومئذ أمرا نادرا بل شاذّا. وكان الغناء والتصفيق والرقص والضرب على «الدَّرْبُوكَه» في حفلات العرس في السبعينات والثمانينات من شأن النساء، يجتمعن و»يصنعن» الحفل بأصواتهنّ وحركاتهنّ؛ ثمّ جعل الناس يتخلّون عن هذه الطريقة ويستعملون أشرطة الغناء ثمّ الأقراص (CD)؛ ومنهم من يدعو «فِرْقَه»، وهي جماعة من المغنّين الشعبيّين، وأهمّ آلاتهم «المِزْوِدْ» (الصورة 6).
14 -  قارن ما كتبناه في الزواج في هذا المقال بما كُتب في مجتمعات عربيّة أخرى، ومن ذلك مثلا:
 Chelhod, Joseph. “Notes sur le mariage chez les Arabes du Koweit.” Journal de la société des Africanistes 26 (1956) : 255-262.
15 -  طعام المولد في العاصمة التونسيّة والمدن الكبرى في الشمال والساحل «عصيدة الزقوقو»، وقد اقتبستها مدن كثيرة في البلاد، فأصبحت طعام المولد في شمال البلاد وجنوبها. وانظر صفة الاحتفالات والأغاني الشعبيّة التونسيّة في العاصمة والحواضر العريقة في الشمال والساحل في:
 Ben Abdallah, Chadly. Fêtes religieuses et rythmes de Tunisie. Collection Patrimoine. Hammamet : imprimerie de golf, 1988.
16 - انظر: عبدالله جنّوف، «الاحتفال بعاشوراء في الجنوب الشرقيّ التونسيّ»، مجلّة إبلا، ع 193، السنة 76، 2004/1، 3-23.
17 - انظر عن تجدّد الزمن وعن قداسته والبعد الأسطوريّ فيه:
Eliade, Mircea. Le sacré et le profane. Paris : folio, 1989, 63-69.
- - -. Aspects du mythe. Paris : 1963, 66.
18 - الاحتفال بعاشوراء، 14-15.
19 - في لسان العرب: «شَجَرٌ عَجْرَدٌ ومُعَجْرِدٌ: عارٍ من ورقه»: 2/669 (عجرد). و»ركِيزْةِ الخُصْ» خشبة صلبة طويلة يُحفر لأصلها في وسط الخصّ فتُنصب مستقيمة، وتُثبّت بالحجر والتراب، وتُوثق إلى رأسها أخشاب السقف بالحبال، فهي للخصّ كالمحور، وخشب السقف كأشعّة الدائرة.
20 - ينطق الناس الاسم بطريقتين: «مِيلُودْ» و»المِيلُودْ»، ويُسمَّى شهرُ ربيع الأوّل في التقويم الشعبيّ «المِيلُودْ»، أي شهر المولد، انظر: «الاحتفال بعاشوراء»، 8-9.
21 - الأسماء هي: محمّد، وميلود، والبشير (وهذه الثلاثة من أسماء النبيّ عند الناس)؛ وعليّ (أي ابن أبي طالب)؛ وعبدالقادر، والجيلاني (هذان اسمان لعبدالقادر الجيلاني الصوفيّ)؛  وعبدالسلام (الأسمر الصوفي الليبيّ).
22 -  «متِيعْ» هذا الكلمة لا تُستعمل في كلام الناس، وأظنّ أنّ تاءها تخفيف للطاء في «مطيع»، وترجمةُ الجملة: «سريعا مطيعا، ذهبت شتاءً ورجعتُ ربيعا».
23 -  وأمّا غِيلاَنْ فلا يعرف الناسُ من هو، ومنهم من يقول إنّه يهوديّ؛ ومنهم من يقول هو درِيدِي (من أصول هلاليّة، نسبة إلى بني هلال) وكان اليهود يخالطون قبيلة «الدريدي». و يحتجّ أصحاب الرأي الثاني بأنّ اليهود لا يشربون حليب النوق، فلو كان «غيلان» يهوديّا ما احتلب ناقةً.
24 -  ومنها مواقيت الحرث والزرع والحصاد، وفوائد الفصول وصفاتها كجودة المطر في مارس وشدّة الحرّ في آوِسُّو وخطورة لسع العقرب في غُشْت. وكانوا يحفظون هذه المعارف في أقوال مأثورة كقولهم: «مطَرْ مَارِسْ ذهَبْ خَالِصْ».
25 -  حركة «النهضة» التي كانت يومئذ حركة معارضة لا تعترف بها الدولة، ولم تستمرّ الحال الموصوفة إلاّ مدّة قصيرة من آخر الثمانينات إلى سنة تسعين، ثمّ شنّ عليها النظام السياسيّ حملة شعواء.
26 -   ولا أعرفُ أنّ أحدا يومئذ دعا «فرقة ملتزمة» إلاّ أسرتين: أهلَ هذه العروس وشابًّا إسلاميًّا. وكان أكثر الناس ينتقدون المحاولة انتقادا شديدا، فالأناشيد فيها غريبة عن واقع الناس في احتفالات الزواج، وبعضها حزين لا يلائم الاحتفال. وقصيدة «أمّاه» للشاعر السوريّ محمّد صالح نازي المقتول في حماه سنة 1982، ومطلعها: «أُمَّاهُ قَدْ أَزِفَ الرَّحِيلُ فَهَيِّئِي كَفَنَ الرَّدَى ++ أُمَّاهُ إِنِّي زَاحِفٌ لِلْمَوْتِ لَنْ أَتَرَدَّدَ»، ولا أذكر أنّ المنشدين أنشدوا هذا البيت.
27 -  أشرت إلى بعض وجوه البعد الاجتماعي في الاحتفالات الأخرى كعاشوراء والمولد النبوي. وقارن هذا الجانب في الاحتفال (التعبير عن الانتماء إلى الجماعة) بما كتبه دينسي لوميي في دراسته للاحتفال براس السنة الميلاديّة:
 Lemieux, Denise. «Le temps et la fête dans la vie sociale.» Recherches sociographiques 7. 3 (1966) : 296-301.                                                                         
28 -   قارن بدراسة نيكول بيلمون، وقد ذكرت فيها أنّ إطلاق النار في حفلات الزواج في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت غايته طرد الشياطين وإعلان ميلاد الأسرة الجديدة:
Belmont, Nicole. «La fonction symbolique du cortège dans les rituels populaires du mariage.» Annales. Economies, Sociétés, Civilisation33. 3 (1978) : 650-655.   
29 -   كانت الدخلة تقع في الخيمة، ولمّا استقرّ الناس في القرى كانوا يبنون للعريس خيمة قرب بيته لليلة دخلته، ثمّ تُرك هذا التقليد.
30 -   «المِى أَمَانْ» أي الماءُ أمانٌ. والناسُ ينطقون الماء بالإمالة ، فتخرجُ حركة الميم بين الفتحة والكسرة مثل المقطع الثاني من كلمة (jamais). وقد تركتُ شكل الحرف الأوّل من كلمات عاميّة كثيرة (مثل: عشِى، فلاَنْ، كلاَمْ، بحَرْ، سرِيعْ، متِيعْ، مشِيتْ، رجَبْ) لأنّه ينطق بين الفتحة والسكون ولا يمكن تقييده بالحركات المستعملة في العربيّة.
31 -   «خَمَدَت النَّارُ تَخْمُدُ خُمُودًا: سَكَنَ لَهَبُهَا وَلَمْ يُطْفَأْ جَمْرُهَا. وَهَمَدَتْ هُمُودًا إِذَا أُطْفِئَ جَمْرُهَا البَتَّةَ»: لسان العرب، 2/561 (خمد).
32 -   بتدخينه (حرقة في المجمرة أو الكانون) في البيت، أو تدخينه وتلاوة تعاويذ معلومة، فيلقَى البخور على الجمر ومعه حبّات من الملح ويقال: «المِلْحْ وِالدَّادْ فِي عينْ الحَسَّادْ فِي عينْ لِي مَا يْصَلِّيشْ عَلَى رسُولْ اللهْ، المِلْحْ وِالفَاسُوخْ فِي عينْ المَمْسُوخْ فِي عينْ لِي مَا يْصَلِّيشْ عَلَى رسُولْ اللهْ، المِلْحْ وِالحِنْتِيتْ فِي عِين المِنْتِيتْ فِي عِينْ لِي مَا يصَلِّيشْ عَلَى رسُولِ اللهْ». و»الدَّادْ» (Atractylis gummifera) نبتة معروفة، تنبت في تونس بالشمال الغربيّ، وتُستعمل بخورا، وهي سامّة تسبّب قصورا حادّا في الكبد وتقتل من يأكلها. و”الفَاسُوخْ” (Abrus precatorius) نبتة يتّخذ منها البخور أيضا. لِي مَا يْصَلِّيشْ: الذي لا يصلّي (على النبيّ)؛ المَمْسُوخْ: الخبيث الشرّير؛ الحِنْتيت: الحِلْتِيت؛ المِنْتِيتْ: الخبيث الشرّير. وتدخين البخور (حرْقُه) يسمّيه الناس «طَلْقَانْ البخُورْ».
33 -   «السِّنْبِلْ»: السُّنْبُلُ؛ «السِّعْدْ»: السُّعْدُ؛ «القْرُنْفِلْ»: القَرَنْفُل؛ «المَحْلِبْ»: المَحْلَبُ؛ «الجِّدْرَه»: الجَِدْرَةُ؛ «لُخْزَامَى»: الخُزامى. والكلمات كلّها عربيّة فصيحة إلاّ أنّ نطقها في لهجة الجنوب الشرقيّ التونسيّ مختلف عن الفصيح.
ولم يكن يومئذ للمرأة حقّ الطلاق ولا الجرأة على مطالبة زوجها به، فإذا أرادت الطلاق لتتزوّج غيره قصّرت في تدبير المنزل، وكسرت الأواني وهي تدّعي أنّها تسقط من يديها، ونقبت درعها فتسرّب الطيب قليلا قليلا وذهب عطرها، تريد بما تفعله من ذلك حملَه على تطليقها. فإذا عرف الزوج مرادها طلّقها، أو ضربها ضربا مبرِّحا وطلّقها.
34 -    وربّما يراد تجنيبه سخرية المزّاحين. ورأيتُ سنة سبع وتسعين (1997) رجلاً مزّاحا من قبيلة العريس يعدّ الطعام في ليلة الوليمة ومعه جيرانه وجاراته -وكنّ من قبيلة العروس- وكان يخاطبُ قبيلتهنّ من غير أن يواجههنّ ويقول: «قد آن لكم أن تتسلّموا الإناء فارغا»، وهنّ يجبنه مازحات أنّ غاية العرس سعادة الزوجين. والإناء الفارغ كناية مهذّبة عن افتراع الفتاة. وأمّا الشباب اليوم فيستعمل أكثرهم عبارات فجّة بذيئة.
35 -    والناس يعبّرون عن انتهاء الشيء بكلمة «كمِلْ»، فيقولون مثلا: «المِى كمِلْ»: نفد الماء؛ «الخِدْمَه كِمْلِتْ»: انتهى العمل. ولكنّهم يقولون «دَام الفَرْحْ»، أي انتهى.
36 -    هذه طريقة من طرائق «التِّصْفِيحْ»، ويجرى أيضا بطريقتين أخريين، وقرأت في مواقع الانترنت تعليقات كثيرة من تونس وليبيا تبيّن أنّه ما زال ممارسة حيّة إلى اليوم في ليبيا.
37 - الاحتطابُ جمع الحطب، وهو بلغة الناس «التِّحْطِيبْ»؛ والاختلاء اقتلاع النبات الرطب، والناس يسمّونه «الحشِيشْ». و»اللاَّزُولْ» نبتة برّيّة من البصليّات، رائحتها قويّة ولكنّها أطيب من البصل. تنبتُ في الشتاء، ويكون لها أوّل ما تنبت ورقة واحدة دقيقة قصيرة، ثمّ تكثر أوراقها وتطول، وتتّصل كلها بساق صلبة تسمو إلى نصف متر، وتزهر في الربيع زهرا أبيض كزهر البصل، فيه بذور صلبة سود، والناس يجمعونها قبل الإزهار، فيأكلونها، ويدقّونها في الهاون ثمّ يضعونها في الحساء بعد نضجه.
38 -   الشباب العزّاب والفتيات، وكانت سنّ زواج البنت يومئذ (في الأربعينات والخمسينات) بين الحادية عشرة والسادسة عشرة، وزواج الشباب بين العشرين والثلاثين.
39 -   «الوِلْيَانَ»، (جمعُ «ولِيْ»): الأولياء الصالحون. ويجمع الناس «ولِيْ» على «ولاَيَا» أيضا في قولهم «ولاَيَا اللهْ» أي أولياء الله، (وأمّا إذا استُعملت كلمة «ولاَيَا» غير مضافة إلى الله فهي جمع «ولِيَّه» وهي المرأة). وكان الناس يستغيثون «بالوِلْيَانْ» ويعالجون الأمراض النفسيّة بزيارة قبورهم. وأمّا «البَخَّانْ» (مصدر الفعل «بَخْ») فهو تَفْلُ «صاحب البركة» في طعام فيأكله المريض؛ أو تفله على موضع الألم في جسم المريض فيشفى؛ أو تفله على بدن سليم ومسحه بيديه لمباركته كما تفعل المرأة التي «تبُخْ» الوليد في اليوم الثالث من ولادته.
40 -   قارن بالختان والخَفْض (ما يسمّى اليوم ختان البنات) في بعض المجتمعات الإفريقيّة:
 Laghzaoui, Ghizlaine. «L’initiation: le corps dans tous ses états», Études françaises. 41. 2 (2005) : 25-41.  
41 -   انظر عن وظائف هذه النبتة عند بعض الشعوب وصِلاتها بعقائدها:
 «Oignon.»  Dictionnaire des symboles. Paris : 1982.
42 -    يُروى في حوار خياليّ أنّ رجلا حضرته الوفاةُ فأراد أن يوصي النخلة والزيتونة و»الكَرْمَه» (التينة) بأبنائه، فقالت له النخلة: «لا تهتمّ لأمرهم، سأكفيهم مؤونة خمس سنين: سنة رُطبا، وثلاثا تمرا، وسنة «لاقمي» («مَا علِيكِشْ فِيهِمْ، نسِدْهُمْ خَمْس سنِينْ: عَامْ بلَحْ، وثَلاَثَه تَمْرْ، وعَامْ لاَقْمِي». والبلح في لهجة الناس هو ثمر النخلة بعد نضجه وقبل أن يصير تمرا، ولذلك ترجمته بالرطب؛ واللاقمي هو عصير يُستخرجُ من النخل، ويُشرب جديدا ويسمّى «لاَقْمِي حَيْ»؛ أو يُترك في الشمس أيّاما فيصير مسكرا قويّا ويسمّى «لاَقْمِي مِيتْ»)؛ وقالت الزيتونة: «سأكفيهم مؤونة أربع سنين: سنة زيتونا، وسنتين زيتا، وسنة فِيتُورَه» («نسِدْهُمْ أَرْبعْ سنِينْ: عَامْ زِيتُونْ، وعَامِينْ زيتْ، وعَامْ فِيتُورَه». و»الفِيتُورَه» هي قشور الزيت وبذوره تجمع عند عصره، وتتّخذ علفا للحيوان)؛ وقالت الكَرْمَه: «بَرَّ، هَانِي فِي جُرْتِكْ» أي انطلقْ، فإنّي ذاهبة في أثرك، وهي كناية عن قصر عمرها.
43 -   استُعْملت في بعض حفلات الزواج في صيف 2012 المسدّسات المهرّبة من ليبيا إبّان الثورة، فمدينة بنقردان لا يفصلها عن ليبيا إلاّ ثلاثون كلم من ناحية الساحل، وأكثر من ذلك من جهة الصحراء، والتهريب فيها حرفة قديمة وتجارة رائجة.
44 -    من الأخطاء العجيبة مثلا أنّ كاتبا فسّر «قِرِّة العنز» بأنّ كلمة «قرّة» جاءت من الكلمة الفرنسيّة «guerre» (الحرب)، وقد ردّ عليه أحد المعلّقين ردّا علميّا جيّدا. انظر:
http://tataouinedel.com/news.php?action=view&id=3890
ومن صور التخليط ما كُتب في مواقع كثيرة في موضوع “التِّصْفيحْ”، تحدّثتْ فيها الكاتبات عن اعتباره سحرا وعن كيفيّة حلّه.

أعداد المجلة