فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
42

الثقافات الشعبية والبراديغم السوسيوأنثربولوجي الجديد مقاربة إبستمولوجية

العدد 42 - آفاق
الثقافات الشعبية والبراديغم السوسيوأنثربولوجي الجديد  مقاربة إبستمولوجية
كاتب من المغرب

«يوجد، دائما، داخل فضاء اجتماعي ما، تراتب ثقافي»

Denys Cuche

ربما يتساءل الكثير منا عن علاقة الثقافات الشعبية بتخصصي الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا؟ وهو تساؤل مشروع ومطلوب، ذلك أن مفهوم الثقافة الشعبية أو الثقافات الشعبية بصيغة الجمع، إنما يندرج في صلب اهتمام التخصصين السالفي الذكر، لأنهما يعالجان بطريقة أو بأخرى وبمنهج أو بآخر، كيف تخلقت هذه الثقافات وكيف نمت وكيف تؤثر في مخيال ووجدان الأفراد والجماعات، وفي المجتمع برمته. لكن التعاطي الأكاديمي مع هذه الثقافات، لم يبدأ إلا متأخرا، وهو ما يجد تبربره –حسب اعتقدنا- في طبيعة تخصصات العلوم الانسانية، ومنها بطبيعة الحال، تخصصا: السوسيولوجيا والانثربولوجيا. حيث شهدت السنوات الأخيرة، نقاشا أكاديميا هاما، حول المنهج الابستيمولوجي لكلا التخصصين، ولعل من أهم ذلك، ما تم تداوله في إحدى الجامعات الأمريكية مؤخرا (العقد الأخير من القرن الماضي) «جامعة «يال» «YALE»، حيث ظهر تخصص جديد يعنى بدراسة الثقافة كمتغير مستقل، وهذا ما يخالف التعاريف السابقة التي كانت متداولة في تخصص الانثربولوجيا، لمفهوم الثقافة. فإذا كانت أغلب الدراسات التي تناولت هذا المفهوم، تعود بنا إلى التعريف الشهير الذي وضعه «تايلور» والذي يؤكد أن «ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والاخلاق والقانون والعادات وكل القدرات الاخرى التي يكتسبها الانسان بوصفه عضوا في المجتمع»(2). فإن هذا التعريف سيتغير مع بروز تخصص جديد في حقل سوسيولوجيا الثقافة، وهو المعروف بـ«علم الاجتماع الثقافي» فما الفرق بين التخصصين: علم اجتماع الثقافة، وعلم الاجتماع الثقافي؟ وكيف قاربا كلا التخصصين موضوع «الثقافات الشعبية»؟

في الخلفيات الابستمولوجية لتحول البراديغم السوسيوأثنربولوجي لمقاربة المسألة الثقافية

لا جدال في أن النشأة الغربية لتخصص الانثروبولوجيا في القرن التاسع عشر، التصقت بها تلك اللوثة الاستعلائية التي كانت تنظر للثقافات الأخرى بكونها «بدائية» أو «متوحشة»، إلا أنه بعد التطور الذي عرفته الدراسات الميدانية والاثنوغرافية، أزيحت تلك الصورة النمطية، واستبدلت بها نظرة أخرى موضوعية تنظر للثقافات كلها باعتبارها مكونا اساسيا في تاريخ كل التجمعات والحضارات. ولعل المجهود الذي بذله الانثروبولوجي الفرنسي الكبير «كلود ليفي ستروس» في كتابه (العرق والتاريخ،1952)، غير الكثير من القناعات والمسلمات في هذا الباب.

بيد أنه بالرغم من هذا التحول الذي طرأ في البراديغم الانثروبولوجي في التعاطي مع الثقافات، بقيت عدة رواسب حملها العديد من الباحثين سواء من جهة الغرب/ الخارج، أو الشرق/ الداخل (أقصد الباحثين العرب) أهملوا البحث والنظر في العديد من الكنوز الثقافية التي تحفل بها مختلف الشعوب والحضارات، ولعل من بينها ما يسمى اليوم ب»الثقافات الشعبية»، وذلك باعتبارها «ثقافات منحطة» لا تستحق الاهتمام والدراسة والمتابعة. وهنا يطرح السؤال المحير: كيف يمكن فهم هذه الجدلية، إذ في الوقت الذي تقدم العلوم الانسانية والاجتماعية ومن بينها الاثنروبولوجيا وعلم الاجتماع الثقافة، أنها هي المؤهلة لدراسة البينات الثقافية للمجتمعات بشكل أعمق، فإنها في ذات الوقت بقيت مقاربتها جد محتشمة بسبب قصور في منهجها المعتمد على «الوصف الرقيق» كما ذكر ذلك الباحث الانثروبولوجي «كلفورد غيرتز 1973، في كتابه المشهور، تأويل الثقافات». ولكي نوضح أكثر ما يعنيه «غيرتز» من الاعتماد على «الوصف الضعيف»، للثقافات، فإننا نحيل على ما ميز مسيرة علم اجتماع الثقافة (the sociology of culture)، والذي في سنة 1995 على يد Crane حيث يركز على تأويل وفهم القضايا المتواترة والدائمة في البنيات الثقافية، «بالنظر للثقافة كشيء رخو (soft) تابع لعوامل أخرى في المجتمع. بمعنى آخر، فإن علم اجتماع الثقافة يعطي دورا هامشيا لتأثير الثقافة في المجتمع» (3).

وغني عن البيان أن الموجة الثانية من التحول في البراديغم البحثي للعلوم الاجتماعية والانسانية، في التعاطي مع القضايا الثقافية، سيطرأ مع ما عرفه السياق العالمي من تحولات. يمكن أن نذكر منها:

التوجه الأول، ما أطلق عليه بـ«عودة ثقافوية» culturalist معلنة من طرف «جيفري ألكسندر» «ستيف سيدمان» وكل أعضاء مدرسة «الدراسات الثقافوية.

التوجه الثاني، الانتباه إلى الظواهر الميكروسيوسيولوجية بدل الماكروسيوسيولوجية «سلاسل التفاعل الطقوسي» تفتيت الظواهر إلى بينات ميكروسكوبية لدراستها». ولعل في هذا التحول يمكن أن نفهم سر العودة لدراسة مختلف الثقافات سواء «الهامشية» أو «العالمة»، باعتبارها تختزن معان يضفيها الفاعل الانساني على نمط حياته وعلى وجوده.

التوجه الثالث: بروز علم الاجتماع الانعكاسي(4) على يد كل من «بورديو أو تلك التي تم تشكيلها من قبل المفاهيم المرتونية، حول نبوءات الهدم الذاتي والتنفيذ، الحافزية لبناء الفعل، التأثير على عقائد الناس من خلال معرفة المجتمع بخصوصياته، وبشكل خاص في بنائه الثقافي العميق(5).

انطلاقا من كل هذا التراكم المعرفي، وإبان موجة ما يعرف بالتحول الثقافي the culturel turn، تخلق تخصص جديد في العلوم الاجتماعية، يدعى علم الاجتماع الثقافي sociology cultural على يد Spillman سنة 2007. والذي تعرفه«(سبيلمان) بأنه علم حول عملية إنشاء المعنى، يدرس علماء الاجتماع الثقافيون كيف تحدث عملية إنشاء المعنى، ولماذا تختلف المعاني وكيف تؤثر المعاني في السلوك البشري الفردي والجماعي، وكيف طرق إنشاء المعاني أم مهم بالنسبة للتلاحم الاجتماعي وللهيمنة والمقاومة في المجتمعات».البرنامج القوي، الثقافة دور محوري في عمليات التغيير الاجتماعي»(6).

ورغم وجود قواسم مشتركة بين علم اجتماع الثقافة وعلم الاجتماع الثقافي، «فإن الأول ينظر إلى الثقافة كمتغير تابع dependant variable، بينما يتعامل الثاني مع الثقافة، كمتغير مستقل independant variable، ذي ثقل كبير في تأثيره على سلوكيات الأفراد وحركية المجتمعات البشرية».

لماذا هذا التوجه الجديد؟ الانسان كائن رمزي بامتياز (تجاوز التعريف الذي وضعه تايلور، غياب اللغة). والثقافة متغير مستقل بذاته، بمعنى له قيمة جوهرية في عملية التغيير.(التوجهات مع تشومسكي وولسن السوسيوبيولوجيا).

ما الجديد الذي يركز عليه «علم الاجتماع الثقافي»؟

1 - الانسان شديد الاستعمال للرموز البشرية، الانسان كائن رموزي قبل أن يكون اجتماعيا»

2 - الانسان يمتلك منظومة فريدة ومعقدة ورفيعة النوعية من الرموز البشرية في المقام الأول، المكونة من لغة منطوقة ومكتوبة ومعايير ثقافية، ومن قدرة على استعمال الرموز لانشاء العلم والمعرفة ‘homo symbolicus».

3 - النقد للنظريات السابقة: تعريف تايلور: الثقافة ظاهرة جماعية، الثقافة نتيجة عوامل في المحيط الاجتماعي، علماء الانثروبولوجيا تبنوا تعريفا مقابلا في دراستهم للثقافة: الثقافة تأتي من المجتمع: هل يمكن أن توجد الثقافة البشرية بدون وجود كائنات بشرية.

4 - الثقافة مجرد مولود للمجتمع، إن الكائنات البشرية هي الكائن الفاعل الأول المركزي الذي يحدد الثقافة.

للتوضيح يمكن أن نحاجج بمقولة «تورين» ليس من المفارقة ولا من المبالغة القول بأن فكرة المجتمع نفسها هي حجرة عثرة رئيسي تعرقل نمو العلوم الاجتماعية، لأن هذه الأخيرة تستند على الفصل وحتى التعارض بين النظام الاجتماعي والفاعل الاجتماعي، بينما تفيد فكرة المجتمع التواصل المباشر بينهما» التركيز على دراسة الأنساق والبنيات الاجتماعية في تغيب للذات الفاعلة (ماركس، نيتشه، فرويد)»(7) .

وعليه نخلص إلى أن:

النظر للثقافة كمتغير مستقل، ومركزي في الهوية البشرية.

التعرف بعمق على الجوانب الخفية/ الداخلية لطبيعة الرموز البشرية/ الثقافة non-obvious sociology، فالملامح الخفية للظواهر الاجتماعية وغيرها يمكن أن تكون أكثر أهمية بالنسبة لفهم وتفسير الظواهر والاشياء. (نموذج كليفورد غيرتز): استقلالية الثقافة/ والثقافة كنص للحياة الاجتماعية، وبعبارة فإن الثقافة هي النص الداخلي الخفي للحياة الاجتماعية.

ولتوضيح الأمر أكثر، يمكننا أن نتوقف قليلا عند هذا التعريف الذي يوضح مغزى الثقافة التي نحن بصدد البحث فيها:

«مجموع طرق التفكير والعمل والشعور، في ارتباطها المتعدد بالطبيعة والانسان والمطلق، فإنها تكون، بذلك بؤرة التذاوت والتنشئة والوعي بالذات، إن لم نقل الحقل الذي تتشكل فيه الهوية». ويضيف سبيلا(2007) أن «الهوية الثقافية تتمحور حول أدوات وأشكال التعبير التي تربط بين أعضاء الجماعة وحول تصوراتهم المشتركة للانسان والعالم والمجتمع، وحول خيالهم الاجتماعي، كما يتمثل في الحكايات والأمثال والموسيقى والأغاني والقصص الشعبي والفن، وحول منظومة السلوك والاخلاق العملية» تعريفSelim Abou, l’identité culturelle;1996»،

تأسيسا على هذا التأطير النظري، نتساءل هل استطاع تخصص علم الاجتماع الثقافي أن يقارب مختلف الثقافات ولا سيما «الثقافات الشعبية» بمنظور جديد؟ هل الثقافات متساوية، ولا سيما في هذا العالم الذي لا يكف ينتج أشكالا من الفوارق والتفاوت كلها من الغنى والمعرفة وأنماط العيش والقدرة على الحركة والمبادرة، أم إنه يوجد، بقوة الواقع، تراتبا للثقافات أفرزه لا تكافؤ العلاقات والتبادل الاقتصادي والمعرفي، وتداعيات العولمة؟ ثم هل يمكن تصور هوية ثقافية أو تبادل ثقافي، أو حتى تثاقف فعلي من دون نزعة نسبية في النظر إلى الوجود والمجتمع والرموز؟ وعلاقة كل ذلك بالثقافات الشعبية؟ وهل يمكن الحديث عن هذه الثقافات كنصوص خفية للحياة الاجتماعية؟

في دلالات مفهوم «الثقافات الشعبية»

هل هناك تقسيمات للثقافة، على شاكلة التقسيم الطبقي للمجتمع؟

بتفحص بعض الكتابات التي اهتمت بالموضوع، نجد من يتبنى مفهوم الثقافة الشعبية، كنموذج للثقافات التاريخية وللطبقات المهمشة، التي استطاعت أن تشكل ثقافات خاصة بمستواها المعيشي، وبنمط حياتها وبرؤيتها للذات وللآخر وللكون. وهناك البعض الذي يطلق مفهوم الثقافات الجماهرية، كنمط إنتاج هذه الثقافة، والذي يخضع إلى ترسيمات الانتاج الصناعي الجماهيري، والذي تلعب فيه وسائل الاتصال الجماهيري الدور الرئيس في ترسيخ هذا المفهوم، كما يشرح ذلك «إدغار موران» (9). أيضا نجد مفاهيم أخرى محايثة للمفهومين الأولين، حيث هناك من يطلق مفهوم «ثقافة الطبقة العمالية»، كالباحث «موريس هالفاكس»، خصوصا في أطروحته المعنونة: «الطبقة العاملة ومستويات العيش»، المنشورة سنة 1913. والتي يفسر بها الثقافة العمالية، بربطها بعلاقات الانتاج، والتي تتمظهر في طبيعة الشغل العمالي وأشكال الاستهلاك العمالية»(10). وأخيرا، هناك من يصنف نمط عيش الطبقة البورجوازية في ثقافة خاصة بها، لأنها تعبر عن طريقة في الحياة، تتفاعل عبر مجموعة من التمثلات والممارسات والاتجاهات والأذواق، وبكلمة، إنها (أي الثقافة البورجوازية) تعكس رؤية الكون بلغة ماكس فيبر.

كل هذه التقسيمات، تعكس النمذجات التفسيرية التي اعتمدتها مجموعة من المدارس الفكرية والفلسفية والانثربولوجية والسوسيولوجية، لكنها بالرغم من وجاهة طروحاتها، تبقى قاصرة عن إدراك كنه الحياة الثقافية، باعتبارها نمطا في الوجود الاجتماعي، الذي يخترق كل الفئات وكل الحساسيات وكل الطبقات. وهذا ما سنوضحه في تفسيرنا لمفهوم الثقافات الشعبية، كثقافات تخترق كل الانساق، وتعبر عن رؤية في الكون. فماهي أهم المواقف التي تبلورت للتعبير عن طبيعة هذه الثقافة؟ وهل الثقافات الشعبية، تؤشر على نموذج انتقاصي وهامشي وفلكلوري للثقافة؟ أم أنها على العكس من ذلك تؤشر على أصالة الثقافة في المجتمعات، وأنها عربون عن وجود ذاكرة اجتماعية مشتركة تؤطر الكل المجتمعي؟

يؤكد «دينس كوش» على أن الاهتمام بالثقافات الشعبية، لم يصبح موضوعا مطروقا في العلوم الاجتماعية، إلا في السنوات الأخيرة، لكونه كان موضوعا مقتصرا على الاشتغال الأدبي والتراثي: «إن إثارة مسألة ثقافات المجموعات المهيمن عليها، تؤدي، لا محالة، إلى إثارة الجدال حول مفهوم «الثقافة الشعبية». ففي فرنسا، تدخلت العلوم الاجتماعية، مـتأخرا نسبيا، في هذا النقاش الذي كان في البداية، أي في بداية القرن التاسع عشر، من فعل المحللين الأدبيين خاصة، إذ كان منحصرا في تفحص الأدب المسمى «شعبيا»، وخاصة منه أدب البيع الجوال(colbortage) لاحقا، وسع دارسو الفلكلور المنظور بأن اهتموا بالتقاليد الفلاحية. ولم يقارب علماء الانثربولوجيا والاجتماع حقل الدراسة هذا إلا منذ أمد قريب» (دينس كوش، 2007).

ولهذا يخلص الباحث من كون مفهوم الثقافة الشعبية يشكو أصلا، من غموض دلالي، اعتبارا لتعدد معاني الكلمتين اللتين تكونانه. فالكتاب الذين يعمدون إلى استخدام هذه العبارة لا يقدمون كلهم التعريف نفسه لـ«ثقافة» أو لـ«الشعبية»، وهو ما يجعل الجدل بينهم عسيرا بحق.

العلوم الاجتماعية ومنظورها للثقافات الشعبية

بلورت العلوم الاجتماعية مجموعة من الأطروحات، للتعريف بالثقافات الشعبية، ويمكن إجمالها في أربع أطروحات:، حسب ما ذهب إليه «دينس كوش».

1 - التي يمكن نعتها بأنها «انتقاصية» للثقافات الشعبية باعتبارها ثقافات هامشية ليس فيها إبداع وليس فيها تجديد. وهي تأخذ من الثقافات المرجعية بعضا من صورها وتعمل على «تدجينها» و«تشويهها». ولعلنا لا نعدم الشواهد السوسيوتاريخية، التي كانت تنظر للثقافات الشعبية، بهذا المنظور الانتقاصي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفي غيره من المجتمعات العربية والاسلامية المشابهة لخوصيتنا الثقافية واللغوية والدينية والحضارية. وقد عانت المنطقة من ذلك بشكل كبير، في السنوات التي أعقبت الاستقلال، لدرجة أنه شكل شبه قطيعة مع تراثه وذاكرته وثقافته وتاريخه.

2 - ليست الثقافات الشعبية، في نظرها، إلا ثقافات تحريفية، فلا تكون، إذا، إلا نسخا مشوهة من الثقافة الشرعية التي لا تتميز الأولى منها إلا عبر صيرورة تفقير. إنها بهذا المعنى تعبير عن استلاب جماعي لفئات تعيش على هامش المجتمع، وتعمل على محاكاة الثقافات المرجعية، لكن بدون إبداع وبدون روح.

3 - طرح مغال وتضخيمي، حيث يزعم أن في الثقافات الشعبية ثقافات يتوجب اعتبارها مساوية لثقافات النخب، بل أرقى منها. إن الثقافات الشعبية، في نظر حملة هذه الأطروحة، ثقافات أصيلة، ثقافات مستقلة تماما، لا تدين بشيء لثقافة الطبقات المهيمنة. ويصر أغلبهم على تأكيد أنه لا يمكن أن يكون هناك تراتب بين الثقافة الشعبية والثقافة العالمة.

4 - يؤكد أن الثقافات الشعبية هي ثقافات أصيلة مبتكرة، فهي إذا، تتكون في وضعيات مقاومة. إذ أن الانسان دائم التفاعل مع محيطه ومع نسق الرمزي وأنساقه الحضارية، إذ غالبا ما يقع رد فعل بين الفئات المهيمنة والمهيمن عليها، وبالتالي يقع احتكاك يدفع في اتجاه بروز احتجاج ثقافي، يتمظهر في أشكال متنوعة من التعبيرات الثقافية، سواء عبر الفلكلور أو الأغاني أو الأهازيج أو الرسم أو الرقص أو ما إلى ذلك من أشكال احتجاجية في ثوب ثقافي خفي.

إلا انه بالتمعن في بعض الكتابات التي تناولت هذه الإشكالية (تصنيف الثقافات) ، يتبين أن الأمر أكثر تعقيدا من وسم هذه الثقافة بانها «هامشة» وأخرى «احتجاجية» وأخرى «هابطة» وأخرى «عالمة» أو «نخبوية»، فالحاصل أن فحص مختلف الأنماط الثقافية التي يبدعها الفاعل الاجتماعي في اي سياق سوسيوثقافي كان، هو أن كل ثقافة ثقافة إلا وتتضمن بالضرورة عنصري الاستيعاب والتجاوز.

إذا تبينا أوجه التعارض في تعريف مفهوم الثقاقات الشعبية بصيغة الجمع، فإن المؤكد أن هذا التعريف لم يبق جامدا بل إنه خضع لمجموعة من التغيرات والتعديلات والتنظيرات التي حاولت أن تبلوره في أفق التطور الذي تعرفه العلوم الاجتماعية والانسانية، وخصوصا في حقلي الانثروبولوجيا والسوسيولوجيا، وهكذا يمكننا أن نتوقف عند أهم تعريف صيغ في السنوات الأخيرة، والذي لاقى قبولا عن مجموعة من الدارسين، نظرا لكونه ينسجم مع التوجه الجديد لعلم الاجتماع الثقافي، الذي ينظر للثقافة كحقيقة للحياة الاجتماعية Life Fact، «هذا على الرغم من كون هذا التصور تمت الاشارة إليه قبل بروز هذ التخصص الجديد»، وهذا ما يشكل –في نظرنا المتواضع- الحدس السوسيوأنثربولوجي للباحث الفرنسي، «ميشال دوسيرتو».

تعريف دو سيرتو «Michel de Certeau»للثقافات الشعبية

يمكن اعتبار التعريف الذي نحته الانثروبولوجي الفرنسي لمفهوم الثقافات الشعبية، كثورة معرفية في البراديغم التفسيري الذي يتعاطى مع المسألة الثقافية في أبعادها الشمولية، وفي انسجام مع التحول الذي طرأ في تخصص علم الاجتماع الثقافي. وعليه فإن «ميشال دو سيرتو»، يقربنا من « الثقافة الشعبية بوصفها الثقافة (الاعتيادية) للناس الاعتياديين، أي ثقافة تصنع يوما بيوم، خلال الأنشطة العادية والمتجددة، يوميا، وفي آن معا. بالنسبة إليه، لم تنته الإبداعية الشعبية ولكنها لا تكون، ضرورة، في الموضع الذي نبحث عنها فيه، ضمن الانتاجات القابلة للرصد والتحديد بوضوح. إنها متعددة الأشكال ومبثوثة: «إنها تتفلت سالكة ألف درب»(دينس كوش،2007).

إذن من خلال هذا التوصيف الدقيق لمفهوم الثقافات الشعبية، فإن الخلاصة التي يمكن استخلاصها منه، هو أن هذه الثقافات أصيلة ومعبرة عن قيم واتجاهات وأذواق ورؤية للذات وللآخر والعالم المحيط بنا، إنها بمثابة السجل الشخصي للانسان، والذي بدونها يستحيل معرفة الذات لذاتها وللعالم المحيط بها. وعليه يمكننا المجازفة بالقول، إن الثقافات الشعبية ليست سوى السجل الخالد للمجتمع، سواء في سكونه أو ديناميته التي لا تتوقف عند اللحظات الماضية بل تمتد لتشمل كل اللحظات التي يعيشها الانسان في الشرط الوجودي.

ولهذا التحليل مزية إظهار أن الثقافة الشعبية، وإن كانت مكرهة على الاشتغال، جزئيا على الأقل، بوصفها ثقافة مهيمنا عليها، في معنى ما يجب على الأفراد المهيمن عليهم دوما من «التلاؤم مع» ما يفرضه عليهم المهيمنون أو يمنعونه عنهم، فإن ذلك لا يمنع كونها ثقافة مكتملة، مؤسسة على قيم وعلى ممارسات أصيلة تكسب الوجود معنى.

بعض الخصائص الجوهرية للثقافات الشعبية

بالرغم من التحليل الذي بلوره «ميشال دو سيرتو» للثقافات الشعبية، فإننا مع ذلك لا نتمكن من تجلية كل عناصره، إلا بالتوقف قليلا، عند التمييز الذكي الذي انتهجه الباحثان الفرنسان: «غرينيون Claude Grignon وباسرون Jean Claude Passeron» حول ما تتصف به الثقافات الشعبية من ازدواجية يعتبرها، من جهتهما، خاصية جوهرية. فالثقافة الشعبية، حسبهما، هي ثقافة قبول وثقافة إنكار، في آن واحد. وهو ما يؤدي إلى إمكانية تأويل الممارسة الواحدة على أنها خاضعة لمنطقين متعارضين. مثال ذلك أن نشاط الترميق لدى الطبقات الشعبية كان محل تحليل من لدن بعض علماء الاجتماع على أنه خاضع إلى الحاجة وبوصفه نوعا من امتداد استلاب العمل، إذ العامل مضطر أن ينجز بذاته ما لا يقدر على اقتنائه أو ما يظن نفسه مجبرا على اقتنائه، بل إنه يعتبر، في تحاليل أخرى، غير قادر على أن يصنع من وقته الحر شيئا آخر غير وقت للعمل. ولكن باحثين أخرين قدروا أن الترميق إبداع حر أيضا إذ يبقى الفرد سيد التصرف في وقته وفي تنظيم نشاطه وفي استخدام المنتوج النهائي.

إن هذا الجانب الثاني هو الذي يفسر، من دون شك، نجاح الترميق(13) بوصفه ترفيها إذ يعيد الترميق إدراج فضاء لاستقلال داخل عالم من الإكراهات. إن الترميق، في الواقع (مثله مثل البستنة والحياكة وسرد الصوف عند الأجيرات) يمكن أن يكون وليد الملل والسخرة ومتعة المبادرة والإكراه والحرية، في آن واحد.

إن الالحاح المفرط على ما يؤثر في الثقافات الشعبية، جراء كونها ثقافات مجموعات مهيمن عليها، يمكن أن يكون فيه انتقاص مفرط من استقلاليتها النسبية. إنها، بفعل عدم تجانسها وفي بعض مظاهرها، مطبوعة أكثر بالتبعية تجاه الثقافة المهيمنة، وهي، على العكس من ذلك، في بعض مظاهرها الأخرى، أكثر استقلالية. سبب ذلك أن المجموعات المهيمن عليها لا تواجه المجموعة المهيمنة أينما كانت وبصفة مستمرة. عندما نكون في أمكنة ولحظات في ما بيننا يسمح نسيان الهيمنة الاجتماعية والرمزية بنشاط ترميزي أصيل. وبالفعل، فإن نسيان الهيمنة، لا مقاومتها، هو ما يجعل الأنشطة الثقافية المستقلة ممكنة بالنسبة إلى الطبقات الشعبية.

إن الأمكنة والأزمنة المسحوبة من المواجهة غير المتساوية عديدة ومتنوعة: هي ما بين قوسي يوم الاحد وهي السكن الذي نهيئه على طريقتنا وهي أمكنة اجتماعية الاقران ولحظاتها ( مقاه، ألعاب، فضاءات عمومية، ساحات عامة...)، إلخ.

يستنتج «غرينيون» و«باسرون» من هذا أن الاستعداد للغيرية الثقافية، من قبل من هم أكثر ضعفا يكون في أرقى درجاته إبداعا رمزيا، حيث يكون على مسافة ممن هم أكثر قوة، بحيث لا تطالهم المواجهة. إن الانعزال، حتى عندما يكون تهميشا، يمكن أن يكون مصدر استقلال (نسبي) وإبداعية ثقافية.

خلاصات واستنتاجات، حول المنظور المستقبلي لدراسة الثقافات الشعبية

لا شك أن خوض غمار البحث في موضوع الثقافات الشعبية، من وجهة النظر السوسيوأنثربولوجية، تحفه الكثير من المحاذير الابستيمولوجية، نظرا لضبابية المفهوم من جهة، ونظرا لتقاطع مجموعة من الحقول المعرفية في الاقتراب من هكذا موضوع، وأيضا لكون الثقافات الشعبية، تميل للتستر ولا تعبر عن ذاتها بشكل شفاف وواضح، بل إنها تتخذ أشكالا ملتوية ومتخفية وأحيانا غامضة ومتعذرة الفهم، لذلك يدعو «كليفورد غيرتز»(14) إلى انتهاج المقاربة التأويلية للبحث عن المعاني الخفية والكامنة في الثقافات الشعبية، خصوصا تلك التي لا تتمظهر على شكل كتابات أو فنون أو سجلات أو وثائق تاريخية. فكما هو معروف عند الباحثين للتراث الشفهي، أنه من أعقد وأصعب الدراسات.

من جهة أخرى، وبالرغم، من هذه الصعوبة المثارة، فإن التقدم الذي حصل في حقل العلوم الانسانية، وخصوصا الانثروبولوجيا والسوسيولوجيا، قد ساهم بشكل أو بآخر في تجلية مجموعة من الكوامن والغامض والمدهش والمحير في هذه الثقافات، فإذا أخذنا على سبيل المثال، النمذجة التي تحدثنا عنها في سياق عرضنا لمجموعة من المدارس في التعامل مع هذا النوع من الثقافات، يتبين أنه يمكن مقاربته من عدة زوايا، ومن عدة أوجه، ففي بعض الأحيان، قد تكون الثقافة الشعبية معبرة عن ردود فعل اتجاه قوى مهينة ومتسلطة، كما هو الحال في تاريخ الأغنية الغيوانية المغربية مثلا. وفي بعض الأحيان، يمكن قراءة هذا التراث برده إلى نوع من الثقافات الهامشية التي تتخذ مسلكيات جديدة في التعبير عن مكنونات المشترك الجمعي. أو في النظر لهذه الثقافات باعتبارها ثقافة مساوية لثقافة النخب، والتي تنحو نحو المعيارية. وأخيرا باعتبارها نوعا من الحياة الاعتيادية للناس، وهو ما نميل إليه شخصيا، حيث يمكننا من خلال هذا النموذج أن نقرأ ثقافة المجتمع ككل، وأن نحلل أوضاعه وسجلاته في امتداده التاريخي والراهني وحتى المستقبلي.

ولعل أهم ما يمكن أن نخلص إليه في هذه المساهمة، هو أننا اليوم نتوفر على رصيد هائل من الأدوات والمناهج، لمعانقة القضايا التي تطرحها الثقافات الشعبية، وذلك بتخصيص بعض الدراسات للدكتوراه في مواضيع ذات راهنية قصوى، سواء من حيث القضايا التاريخية أو السوسيولوجية أو اللسنية أو حتى من الناحية الدينية الصرفة. وقد يمتد بنا الطموح للدعوة إلى إنشاء مركز بحثي Think Tank، يجمع لفيفا من المتخصصين في حقل العلوم الانسانية للانكباب على دراسة الجوانب المعتمة في الثقافات الشعبية بصيغة الجمع لا المفرد، لأنها أكثر تعبيرا عن مكون هذه الثقافات الأصيلة والمتجذرة والغنية بروافدها وبمساراتها وبتركيباتها وبتنوعها الحضاري، في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

الهوامش

1 - يوجد في جامعة «يال» مركز مختص بعلم الاجتماع الثقافي يدعى:Center For Cultural Sociology ، انظر لمزيد من التفصيل، محمود الذوادي، المقدمة في علم الاجتماع الثقافي برؤية عربية إسلامية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع(مجد)، بيروت،2010.

2 - دينس كوش، «مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية»، ترجمة، منير السعداني، مراجعة، الطاهر لبيب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، 2007.

3 - محمود الذوادي، م،س،ذ، ص، 22.

4 - انظر في هذا الصدد، بيير بورديو، ج.د،فاكونت، "أسئلة علم الاجتماع: في علم الاجتماع الانعكاسي"، ترجمة، عبد الجليل الكور، إشراف ومراجعة، محمد بودودو، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، 1997.

5 - وجبت الإشارة إلى اننا استفدنا من مقال: زومبكا بيوتر، "العودة إلى القيم في النظرية السوسيولوجية"، ترجمة، محمد مصباح، مجلة إضافات، عدد،20/21، بيروت، خريف وشتاء، 2012/2013.

6 - محمود الذوادي، مرجع سابق الذكر، ص،22.

7 - محمود الذوادي، مرجع سابق الذكر، ص ص،21/22/23/ بتصرف شديد.

8 - نور الدين أفاية، «الديمقراطية المنقوصة: في ممكنات الخروج من التسلطية وعوائقه»، منتدى المعارف، بيروت، 2013.،ص،34.

9 - Edgar Morin, L’Esprit du temps : Essai sur la culture de masse, la galerie,Paris,1962.

10 - دينس كوش، مرجع، سابق الذكر، ص،138.

11 - Michel de Certeau, Arts de faire, Paris, Union générale d’éditions,1980.

12 - Claude Grignon et Jean Claude Passeron, Le savant et le populaire : Misérabilisme et populisme en sociologie et en littérature, hautes études, Paris, Gallimard, Le Seuil, 1989.

13 - وجبت الإشارة إلى أن هذا المفهوم يتخذ أبعادا جدلية عند "ليفي ستروس"، حيث أنه يؤكد " أن الطريقة التي تتفحص بها الإبداعية الأسطورية الترتيبات الممكنة، انطلاقا من مخزون محدود من المواد المتباينة ذات المصادر الأكثر تنوعا (مواريث، افتراضات...). تتمثل الإبداعية في تنسيق جديد للعناصر سبق استخدامها ولا يمكن تحوير طبيعتها. هذه العناصر هي بقايا وقطع وفتات تصبح، عبر عملية الترميق، كلا مبنينا وأصلا. إن إدراج المواد المرمقة في المجموع الجديد، ولئن لم تتغير طبيعتها، يجعلها تقول غير ما كانت تقول قبل: دلالة جديدة تولد من هذا التنسيق النهائي المركب". انظر، دنيس كوش، م، س، ذ، ص،129.

14 - كليفور غيرتز، تأويل الثقافات، ترجمة، محمد بدوي، المنظمة العربية للترجمة،2009، لبنان، بيروت. الفصل الأول.

الصور

1 - www.wallpaperflare.com/static/76/102 /341/dark-planet-hands-hand-wallpaper.jpg

2 - www.laprocure.com/biographies/Certeau-Michel%20de/0-1198752.html

أعداد المجلة