فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
38

التراث الثقافي والمواريث الشعبية الموريتانية

العدد 38 - أدب شعبي
  التراث الثقافي والمواريث الشعبية الموريتانية
كاتب من موريتانيا

تعيش موريتانيا معركة التنمية والتقدم بجل مصاعبها، ومعركة تأكيد الهوية معاً، بعد أن رسمت حدودها سكين الاستعمار الحادة. والتي ما زالت تعيش أوضاع الماضي وتتطلع الى المستقبل، ولا يغيب عن ذهن المتابع للحركة الثقافية في موريتانيا، ما لجملة الخصوصيات المجتمعية من انعكاسات تتبدى ظاهرة في المواريث الشعبية صحراوية ام ساحلية، والتي كان لها صداها في الثقافة والفنون والآداب يلفحها مزيج رياح حاملة معها بعض المتغيرات المعرفية المعاصرة.

لقد أُسِّسَتْ مدينة شنقيط القديمة في القرن الثاني الهجري، وعاشت لقرون حياة مزدهرة قبل أن تندثر لتنهض على أنقاضها مدينة شنقيط الحالية التي أُنشئت حسب عديد الروايات التاريخية عام 660ه، وقد شهدت ازدهاراً تجارياً وثقافياً كبيراً، وترجع بعض الروايات تسمية هذه المدينة "شنقيط" إلى نوع من الأواني الخزفية يسمى "الشقيط" كانت تشتهر به، بينما تذهب رواية أخرى إلى أن اسم "شنقيط" يعود إلى أصل "بربري" ومعناه "عيون الخيل"، حيث تعقد ألوية الفتح من رباط الخيل بها، وقد كانت المدينة منطلق القوافل المتجهة من المنطقة نحو الشرق قاصدة الحجاز لأداء الحج مروراً ببلاد السودان ومصر، وهو ما عَمّقَ التواصل الثقافي لهذه المنطقة بجذورها العربية الإسلامية.

وقد غلب اسم شنقيط على البلاد الموريتانية، وبه اشتهر سكانها قديماً، فلم يكونوا يُعرَفُون بغير النسبة إليها قبل أن تتبنى الدولة الحديثة اسم موريتانيا، وحتى بعد اعتماد هذا الاسم بقيت صفة الشنقيطي غالبة على البلاد وأهلها في كثير من الكتابات التاريخية والفكرية والأدبية، ربما لأن زهرة الحياة الثقافية للبلد قد ارتبطت بالقرون السابقة التي حمل القُطر فيها اسم شنقيط.

اسم موريتانيا القديم، شنقيط، والتي كانت تعتبر إحدى المدن المقدسة، يتجمع فيها الحجاج كل عام. وتقصد قافلتهم مكة والمدينة وينتظرها الشعراء في المدن التي يمرون عليها . وأينما يحلون تبدأ المناظرات والمحاورات التي تكشف عمق الحياة الفكرية والثقافية في شنقيط. إنه بلد الشيخ الشنقيطي صديق الشيخ محمد عبده والذي حقق كتاب الاغاني. من شنقيط التاريخية خرج كل من المرابطين والموحدين بكل أمجادهم التاريخية. لشنقيط دور تاريخي كهمزة وصل بين افريقيا البيضاء وافريقيا السوداء عندما كانت إحدى بلاد التخوم العربية. ونقطة تماس داخل الحزام الإفريقي، وعندما حملت خلال عدة قرون مشعل الحضارة إلاسلامية إلى ما وراء الصحراء، بعد أن قام بدو الصحراء بعبورها وامتلاكها وهم على ظهور الابل وأصبحت أهم مراكز تبادل السلع والأفكار، وأحد مراكز الإبداع ومصدر إشعاع حياة دينية وثقافية غنية .

يجابه الموريتانيون بوجوههم المميزة وزيهم الخاص قسوة الحياة بقصائد الشعر والتغني بالماضي ويواجهون الفقر بالكبرياء الحزينة، حيث يتصافح المحيط الأطلسي الذي كان يطلق عليه بحر الظلمات مع رمال الصحراء المتناهية ، فبين صحراء المحيط وبحر الرمال توجد نواكشوط بين العواصف الرملية.

ومن يتجول في شوارع نواكشوط وفي المدن الموريتانية المختلفة، لا يغيب عنه التقاط القضية الرئيسية فيها، وهي تلك الحيرة بين الماضي والمستقبل بين المجتمع التقليدي الضارب بجذوره في الصحراء والذي ما زال يقوم على أسس عشائرية وبين المستقبل الذي يتساوى فيه المواطنون في إطار الوطن الواحد.

 

 

1 . بصمة عشائرية

يحافظ رجال البادية في الصحراء على النظام العشائري، ويشكل استمرار قيم البادية وأوضاعها قيدا على انطلاق موريتانيا وتحديثها. ففي البادية قوة موريتانيا وضعفها وفي البادية رموزها الخاصة وزعامتها وتمر البلاد بمرحلة انتقالية دقيقة بين مجتمع العشائر ومجتمع الانتماء الواحد.

المجتمع ينقسم بحدة إلى فئات اجتماعية في سلم صارم، يقوم على الأنساب، ومن المألوف أن تحتفظ كل قبيلة في مكان أمين بشجرة العائلة التي تحدد القبيلة الأصلية التي تنتمي إليها. ويتمثل مقياس الشرف عند البدوي في نقاء نسبه، ويرفض الاعتراف بابناء القبيلة اذا كانوا ثمرة اتصال غير متكافئ.

يقوم التقسيم التقليدي على أساس البيضان والسودان، ويطلق وصف البيضان على الذين يتكلمون العربية من عرب او بربر او زنوج تم اندماجهم في مجتمع البيضان، بينما السودان تطلق على الذين يتحدثون باللغات الافريقية وليس لهذا التقسيم علاقة باللون او العنصر. ولا يعني الاسم ان بشرتهم دائما فاتحة اللون، بل يعني الذين يعتزون بثقافتهم العربية مهما اختلف لونهم، كما لم تمح سيادة اللغة العربية "الحسانية" العديد من التنظيمات الاجتماعية البربرية، فلا تزال النساء من قبائل الرقيبات مثلا يلعبن دورا هاما في حياة المجتمع .

وهناك تقسيم للسكان يشيع في كتابات الاوربيين والذي يقوم على التركيب "الاثنى" للسكان، والذي يقسم الشعب الموريتاني من حيث الجنس الى العرب الذين وفدوا مع الفتح الاسلامي وتزايدوا ايام بني حسان، ثم البربر الذين شكلوا مجموعة صنهاجة واخيرا الزنوج.

وربما كان التاريخ أصدق قولا، وقد وقع تغير في حياة شمال افريقيا في منتصف القرن الحادي عشر عندما انطلق اليها بنوهلال وبنو سليم خلال حكم الدولة الفاطمية من وادي النيل للقضاء على الحركة الانفصالية في المغرب العربي، وأدى وصولهم الى انتشارهم في الصحراء وامتزاجهم بالبربر في عملية استغرقت ثلاثة قرون.

والتاريخ ما زال حيا محفوظا يلقي بظلاله على العديد من جوانب الحياة الاجتماعية، فمازال التميز القديم في أعماق الصحراء بين البدو الأنقياء وغيرهم من الهجناء. واستمر البدوي يتعالى على العمل اليدوي، ولا يعترف سوى بالرعي حرفة له، وما زال تقسيم البيضان إلى خمسة أقسام قائما: المحاربون ورجال العلم والمحاظر والحرفيون والحراطون، ثم الأتباع والخدم.

وبقي المحاربون وإن تركوا السلاح، وبقي الحراطون، يشكلون أغلبية الرعاة، وقد يستقلون بذاتهم ويكونون جماعات مستقلة ويملكون قطيعهم الخاص... ولكن دائما يلاحقهم وضعهم الاجتماعي ويلتحقون بالقبيلة التي يحملون اسمها، ويأتي "الحراطون" في درجة ادنى من السلم الاجتماعي، والكلمة تعني الحر الطارئ والذين يتألف منهم العتقاء الذين نالوا حريتهم، وفي الجماعات المستقرة يشكل الحراطون الايدي العاملة الزراعية الرئيسية.

وما زالت فئات أخرى في قاع السلم الاجتماعي مثل "الاكاون" الموسيقيين والمغنيين والمداحين والمضحكين والمهرجين، الذين يقومون بدور الترفيه، ولم يواجهوا صعوبة في استمرار عرض فنونهم ولم يعودوا في كنف قبيلة كما كان في الماضي.

ومن بقايا هذه الفئات أيضا "الايمراجيين" الذين يمارسون بعض الحرف مثل صيد الأسماك، ويربط بينهم الأكواخ والخيام ويعيشون في منطقة تمتد من تيميراس حتى نواذيبو، وما زالت بقية منهم تعيش في مجتمع مغلق له عاداته وتقاليده وتمتلك قطعا من أخشاب الشجر لصنع القوارب. ويأتي دخل الايمراجيين من البحر، ومنهم من يعيش بعائلاتهم في قوارب كبيرة ويتحركون في البحر وراء الأسماك، أحيانا يبقون في البحر ثلاثة شهور بين اكتوبر وديسمبر.. وقد حدث تغيير جوهري في حياتهم بعد تطوير ميناء نواذيبو. وفضل الكبار البقاء على الساحل وفضل الشباب مغادرة أكواخ القش المتواضعة وانتقلوا الى ميناء الصيد الحديث .

وبقيت مخلفات هذا التقسيم في عصر لا يعرف العزلة وأصبحت المساواة إحدى سماته الرئيسية، مما جعل ثمن بقاء هذا السلم الاجتماعي فادحا، فمثلا يتضامن الجميع ضد هيمنة الأسياد القديمة، وكان لهذا التضامن أثر على كتابة اللغات الافريقية بالحروف اللاتينية بدلا من العربية ، ويتحالفون مع استمرار اللغة الفرنسية في التعليم والدوائر الحكومية. كأحد أشكال التعبير عن الإحباط الناتج عن القهر الاجتماعي.

2. ازدواجية لغوية وعرقية

التعقيدات والعصبيات القبلية، تشكل عصب التركيبة السكانية. والسائر في نواكشوط يلمح في عينيه لون الرمال الأصفر. ويشعر بعنف الصحراء، ويلاحظ النمو العشوائي متمثلا في البيوت الوطئة مع قلة الأبنية المتداخل فيها كل الطرز المعمارية، وقطعان المواشي والماعز تقطع الطرق وتتداخل مع السيارات في صراع المرور والعبور، وإلى جوار الفيلات الفاخرة توجد أكواخ الصفيح، لا أسماء لمعظم شوارع المدينة.

يهيمن المواطنون المنحدرون من أصل افريقي او "السودان" على معظم الانشطة التجارية، بينما داخل المكاتب والمؤسسات يوجد "البيضان" وهم المواطنون الذين ينحدرون من امتزاج العرق البربري مع العربي وكل واحد من العنصرين يزعم أنه جاء الى هذه البقعة من الأرض أولاً، الازدواجية اللغوية واضحة، والفرنسية هي الغالبة، ولكن عرب موريتانيا يكنون اعتزازا خاصا للغة العربية. فالدين الاسلامي يوجد حقا بينهم وبين المنحدرين من اصل افريقي، ولكن اللغة هي التي تميز خصوصيتهم، وتمد جذورهم مع قبائل بني حسان، وهم أحد فروع قبائل الهلالية من هذه المنطقة الى جنوب نهر السنغال، وهم يفخرون دائما بانهم بلد المليون شاعر، وانهم من نسل علماء "شنقيط". اهم المدن الدينية في موريتانيا، والتي انتشر اسمها علي كل المنطقة.

التحديات التي تواجه موريتانيا كثيرة، تحديات الماضي وتحديات الحاضر، فهي بلاد قلقة، تمتد على مساحات شاسعة من الرمال ودوامات العواصف، عرفت قديما ببلاد الملثمين، فعندما تتحول ذرات الرمل الى شواظ حارقة، يصبح على فرسان الصحراء من البربر المرابطين ان يضعوا على وجوههم لثاما دائما لا تظهر من خلفه الا عيونهم، لا تكف قوافل الملح فيها عن الرحيل عبرالصحراء من الجنوب الى الشمال حاملة بضاعتها من الملح التي تساوي في وزنها حياة انسان .

منذ القدم انصهرت في هذا المكان الجاف خلطة من الأعراق بربر وعرب وزنوج في البداية جاء البربر من قبائل "صنهاجة" لينشئوا مدنهم ويحفروا نقوشهم على الصخر، كانوا محاربين اشداء. لا يفصح اللثام الذي يخفي الوجوه عن نقاط ضعفهم، استطاعوا ان يخترقوا الصحراء الجافة بفضل استئناسهم للخيول والجمال ثم جاء العرب مع أول الفتوحات الاسلامية، حاملين الدين واللغة، وطال الصراع بين العرب والبربر، ولم يمتزج العرقان ويتداخلا حتى جاء بنو حسان، إحدى موجات هجرات بني هلال التي عمت الصحراء، هم الذين فرضوا وجودهم وسيادتهم وحرموا على غيرهم حمل السلاح، وما زالت اللغة العربية في موريتانيا يطلق عليها حتى الان، اللغة الحسانية، وكانت نتيجة هذا التداخل بينهم هي ظهور مجتمع "البيضان" في مواجهة مجتمع السودان اي المواطنين من اصل افريقي الذين كانوا لا يكفون عن الهجرة للصحراء عبر نهر السنغال لم تكن الصحراء على الرغم من جفافها خالية ابدا من صراعات البشر، ولم تكن غائبة أيضا عن أعين القوى الأجنبية التي تتصارع للاستيلاء عليه، هذا الشاطئ الممتد على الجزء الدافئ من المحيط، كان دائما يجذب الصيادين والقوافل الرحل والباحثين عن مهرب من ماض بعيد، والمستعمرين والراغبين في الحرية ايضا، وجاءت فرنسا مستطلعة ومستكشفة للمنطقة في أول الأمر، ثم سرعان ما شحذت غريزتها الاستعمارية، ودخلت في صراع هائل مع السكان الأصليين حتى احتلت هذه البلاد، ودام هذا الاحتلال حتى الستينيات من القرن الماضي، وترك خلفه كثيرا من القضايا المفجرة، لعل أبرزها تلك الازدواجية اللغوية ما بين فرنسية وعربية، وكذلك تلك الازدواجية العرقية ما بين عرب وافارقة.

 

 

3. المحاظر التعليمية

أدى الصراع الثقافي الذي نشب منذ الاستقلال الى عرقلة التعريب في موريتانيا، وكانت نتيجة هذا الصراع استمرار اللغة الفرنسية في المدارس والدوائر الحكومية وقد تقرر وضع حد له بالبدء بتدريس اللغة العربية الى جانب اللغات المحلية حتى لو كان ذلك بالحروف اللاتينية كبديل لاستمرار التدريس باللغة الفرنسية.

واستمر الجدل في العاصمة نواكشوط بين الحروف العربية والحروف "اللادينية" كما اطلق عليها بعض معلمي المحاظر، أما في بقية أنحاء موريتانيا فالصورة تختلف جذريا، والمؤسسة التعليمية التقليدية ما زالت تقوم بدورها والمحاظر بمستوياتها المختلفة وتقاليدها القديمة، تقوم بتدريس القرآن الكريم واللغة العربية، والمحاظر تشبه الكتاتيب في الشرق العربي ويستمر فيها التعريب والنسيج الواحد للشعب الموريتاني، على أرضية العقيدة الواحدة التي تجمع كل أبناء موريتانيا، وهذه المحاظر إحدى إيجابيات موريتانيا التاريخ، وفيها ما تبقى من مزايا الأوضاع التقليدية، وقد انتقلت المحاظر من تمبكتو إلى ولاته إلى كل أنحاء موريتانيا.

ويعود تاريخ هذه المحاظر إلى القرن السادس الهجري ولعل اسمها كان في البداية ايام صنهاجة "الزوايا" والتي تحولت إلى المحاظر وفيها يبدأ الصبي بحفظ القرآن الكريم المكتوب على الواح بالخط المغربي الجميل، واللوح في ذاته تحفة فنية، وكان دورها التاريخي إعداد الدعاة وسط الصحراء وعند التخوم لحمل الرسالة الاسلامية، وامتزجت فيها الحركة الصوفية مع البيئة الصحراوية وحولت المحاظر الشعب الموريتاني من مجموعة من الرعاة إلى شعب يملك تقاليد ثقافية عميقة الجذور. ويشترك البنات والأولاد في الدراسة في المحاظر، ويعيش التلاميذ ظروف تقشف قاسية، يأتي الدارس ببقرته او عنزته التي يشرب لبنها ويعيش في خيمته متفرغا للثقافة والرياضة الروحية، والتعليم في المحاظر مجاني ويكتفي المعلم بتلقي الهدايا التي تسمى "جراي اقرآن". وقدمت المحاظر والطرق الصوفية تيارا مناهضا للاستعمار الفرنسي، ويتعرف المتصوفة بعضهم على بعض بصور شتى من بينها نوع المسبحة التي يحملونها، وانفردت موريتانيا عن الأقطار الأخرى في شمال وغرب أفريقيا بمقاومتها للتعليم الفرنسي وكانت المحاظر مراكز هذه المقاومة.

والحقيقة ان مما يحتجب عن الكثيرين من خفايا المرجعية الثقافية الموريتانية وجود نظام فريد لتربية وتعليم وتثقيف الإنسان الصحراوي، في فضاء الخيمة المفتوح، تحت لفح حَرّ الشمس، حيث يعيش البدوي حياة تمتزج فيها الأنشطة الرعوية والزراعية بنظام تعليمي متكامل، يبدأ من القراءة الأبجدية إلى علوم تخصصية في مختلف فروع العلوم الشرعية واللغويّة، فقد اشتهر المجتمع الموريتاني بمؤسسات علمية مرموقة، تضاهي تلك القلاع العتيقة التي اشتهرت في بلدان عربية وإسلامية أخرى، وقد عرفت هذه المؤسسة العلمية في الاصطلاح الموريتاني باسم (المحظرة)، وأصلها (محضرة)، ينطقها الناس وفق لهجتهم التي تُبْدِلُ الضاد في بعض الكلمات ظاء، وتعني الحضور أو المقام حول المياهِ، مرتكزِ الحياة وغايةِ مبتغى إنسان الصحراء الظامئ إلى الري في غياب المكث بمدن عمرانية على ضفاف نهر أو شاطئ بحر، وتلك ميزة لهذا الصرح المعرفي أن استطاع الإنسان البدوي الصحراوي المُترحِّل ابتكار نظام تعليمي تخصصي متميّز خارج دفء حاضنة العمران، حيث الدِعَة والاستقرار.

إن أبرز سمة لهذه المؤسسة هو الترحال، فالشيخ المدرس أو (المرابط) مُرتكزُ هذه المحظرة دائب الرحلة، متنقل مع حيّه بحثاً عن الكلإ والمرعى في بيئة لا تعرف حياة الاستقرار، والطالب كلما استوعب مناهج محظرة ارتحل إلى أخرى، في نَهَمٍ وَشَغَفٍ لمزيد من التحصيل. وتنتشر هذه المحاضر في ربوع البلد، إذ لا يكاد تجمّعٌ سكاني يخلو من وجودها لشدة ارتباط المجتمع الموريتاني بها، ويشير مسح إحصائي شامل هو الأول من نوعه، يرمي إلى تحديث قاعدة بيانات وزارة الشؤون الإسلامية الموريتانية إلى أعداد ضخمة للمحاضر رغم انتشار منافستها (المدارس النظامية)، حيث توجد في موريتانيا (6718) محظرة و(5082) مدرسة قرآنية، تضم (163912) طالباً.

وتُعَدُ هذه المحاضر مَثابةً لطلاب المعرفة العربية والإسلامية، تستقبل مختلف الوافدين من الدول العربية أو من أوروبا أو أميركا فضلاً عن دول الجوار الإفريقية، ولعل مما يغري هؤلاء بالالتحاق بها طابع البساطة ويسر التسجيل، إذ لا دواوين للقيد، ولا مناهج ملزمة، ولا اعتبار للمستوى العمري أو العلمي للطالب الملتحق بها، ذلك أن البساطة أبرز سمات هذا النظام التعليمي، فلا أُبّهة في مسكن أو ملبس أو مطعم، ولا ألقابَ ولا رتبَ ولا تعقيدَ في الحياة الدراسية المحظرية. وبالرغم من مناخ المحظرة الحَرِّ تلتزم هذه المؤسسة العلمية بأقصى قواعد الانضباط، إذ تستمر الدراسة بها على مدار زمني قياسي، يتصل ليله بنهاره بوتيرة من المجاهدة للنفس والمغالبة للهوى أشبه بانقطاع المتبتلين في مقاماتهم الروحية لرياضة النفس، فالطالب موزع الميقات في مرتقى سُلَّم تعلمي تربوي مُتّبع في هذه الجامعة بداية من حفظ النص واستظهاره إلى سماع شرحه من الشيخ في حلقة مفتوحة، فمدارسته مع أقرانه، ثم مذاكرته معهم في شكل أسئلة لتثبيته حتى يقرّ في الفهم وينطبع في الذاكرة .

ويمكن القول إن غياب الصبغة الرسمية لهذا النظام يكاد يلقي به في يَمّ مجاهل النسيان لولا تجلّي آثاره في نخبة من العلماء من خريجي هذه الجامعة الصحراوية الخارجة عن أطر التصنيف وفق المعايير العالمية، والحق أن من لم تختطفه أضواء الشهرة من علماء هذا النظام التعليمي يذهب ضحية هذا النسيان، إذ لا مؤهّل لديه يقدّمه لجهة توظيف، ولا إفادة تشفع له في عالم يتعامل بالشهادات والألقاب العلمية، فلا غرابة إن صُنف كبار العلماء من خريجي هذا النظام وفق المعايير المدنية العلمية كأمّيّين لانعدام أي إجازات تثبت المستوى المعرفي للطالب أو حتى إفادات تشير إلى فترته الدراسية.

وبالرغم من تنوع وثراء مناهج المحظرة الدينية والعربية ونزوعها نحو الطابع الشمولي يميل بعض منها إلى التخصص في مجال محدد، كاللغة وآدابها أو القرآن وعلومه، بل قد يَتَبحّرُ بعضها في مجال محدد كالفقه المالكي أو علم النحو أو الأصول أو المنطق، ولبعض هذه المحاظر شهرة اكتسبتها من عراقتها التاريخية وكثرة تلامذتها، نذكر منها على سبيل المثال: محظرة أهل عبد الودود، ومحظرة أهل محمد ولد محمد سالم، ومحظرة أهل بيه ومحظرة النباغية، ومحظرة أهل محنض بابه الديمانية ومحظرة أهل أجويد اليعقوبية...

لقد حافظت المحظرة الموريتانية في نظامها التقليدي على هويّة البلد الثقافية، وظلت رافد إشعاع علمي في الساحل الإفريقي، وأنجبت علماء كان لهم صيت في أصقاع العالمين العربي والإسلامي، فضلاً عن توليها أدواراً في حفظ قيم سامية لمجتمع موريتاني مسلم، ظل أفراده يتحاكمون إلى شيوخها، وهو ما بوّأها منزلة عظيمة جعلت أحد أعلامها القدماء هو المختار بن بونه الجكني يباهي بمآثرها منشداً في عزة وشموخ قوله:

ونحن ركبٌ من الأشرافِ منتظمٌ

أجلّ ذا العصر قدراً دونَ أدنانا

قلائدُ المجد في أعناقنا نُظِمت

عِقْداً وكنّا لعين الدَّهر إنسانا

قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة

بها نبيّنُ دينَ الله تبيانا

فهل تحتفظ محظرة الحاضر بهذه المكانة بعد نزوعها مؤخراً إلى الحداثة وقد سطعت مصابيح الكهرباء في بيوتها وتمتع طلابها بالاستقرار وأنشأت الحكومة مؤخراً قناة المحظرة الفضائية، وقد كان طلابها قديماً يتخذون من شُهب الحطب مصابيح على ضوئها يدرسون، جاعلين من ظهور العيس مُتدارسَهم ومن فضاء الصحراء بساطهم؟

4. الزي

ترى الرجال في الطرقات يرتدون زيهم المميز، وفي الأغلب ترى السواك في افواههم، وكأنه بديل للسجائر او الدخان الذي يدخن هنا فيما يشبه "البايب" الطويل الذي يحمل في كيس جلدي ملون، ويسيرون على مهل، ويرتدون الدراعة وهي عباءة خاصة مفتوحة من الجانبين بلا أكمام، وغالبا ما يكون لونها ازرق، وتشبه البرنس الذي ينتشر في تونس والمغرب. اما النساء فيرتدين "الثوب" الذي يشبه ما ترتديه النساء السودانيات، وكثيرا ما ترى النساء يحملن أطفالهن خلف ظهورهن. ومن النادر أن تلتقي بأحد لا يحمل الحجاب الذي يوضع بحرص في كيس جلدي ويغلق جيدا، ويربط في الذراع او يعلق على الصدر، بل ومنهم من يحمل اكثر من حجاب، واحد للحسد، والثاني لطول العمر والثالث لمواجهة الفاقه وهو بعض آثار الصحراء الواسعة وما تحمله من مجهول، ويطلق على الحجاب هنا اسم "حرز الناقة" ويكتب هذه الأحجبة رجال يعيشون في أعماق الصحراء.

يُعد الزي التقليدي الموريتاني ميسماً خاصاً وعلامة مُميّزة لشعب عاش في صحراء مُترامية الأطراف، حيث تتقاطع ثقافات عربية وإفريقية، وهو ما يجعل فرضيات الأصول مفتوحة، لكننا لا نبالغ إذا قلنا إن كثيراً ممن يرتدون هذا الزي يجهلون أصوله التاريخية وجذوره الثقافية، وما عرفه من تطوّر عبر العصور.

وتفيد مصادر التعريف التراثية من معاجم وغيرها أن زي الرجل الموريتاني "الدُّراعة" ومثلها أو قريب منها ثياب فسرت بها كالجُمّازة والجُبة والقباء والفروج والنمرة - ثوبٌ ذو أكمام يجتاب من جهة الرأس، جيبه أمامه مع وجود فتحة من الأمام أو الخلف، وهذا الثوب خارجي مخيط للجسم كله كما في حاشية ابن القيم.. ونبه بالقميص على ما فصل للبدن كله من جبة أو "دُّراعة". وقد بدأت الدُّراعة فيما يظهر ثوباً ضيقاً طابعه التشمير والبساطة، ولكن هذه الصفات تعرّضت لسُنّة التطور، فأصبحت فيما بعد ثوباً فاخراً فضفاضاً واسعاً؛ يدلنا على ذلك ما ورد في تاريخ الطبري من قول معن بن زائدة "دخلت على المنصور ذات يوم وعلي دُّراعة فضفاضة وسيف حنفي أقرع بنعله الأرض وعمامة قد سدلتها من خلفي وقدامي".

رافق ازدهارَ الحياة الاقتصادية في المجتمعات العربية القديمة تمايزٌ في الزي، فقد أصبح لكل طبقة زي خاص بها، ويبدو أن الدُّراعة كانت زياً مميزاً للخلفاء، يتضح ذلك مما حكاه الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" حيث قال: ".. ولكل قوم زي فللقضاة زي، ولأصحاب القضاة زي، وللشرط زي، وللكتّاب زي، وأصحاب السلطان ومن دخل الدار على مراتب؛ فمنهم من يلبس المبطنة؛ ومنهم من يلبس الدُّراعة؛ ومنهم من يلبس القباء". ويؤكد ما قرره الجاحظ حديث الطبري في تاريخه عن الخليفة المخلوع محمد بن هارون، حيث قال في أخباره: "ولبس ثياب الخلافة دُّراعة وطيلسانا والقلنسوة الطويلة" فهذا صريح في اعتبار الدُّراعة من ثياب الخلافة. وفي تاريخ الطبري كذلك ورد أن الخليفة الواثق» لما توفي حضر الدار أحمد بن أبي دؤاد ووصيف وعمر بن فرج وابن الزيات وأحمد بن خالد أبو الوزير فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق وهو غلام أمرد فألبسوه دُّراعة سوداء وقلنسوة فإذا هو قصير فقال لهم وصيف: أما تتقون الله؟ تولون مثل هذا الخلافة، وهو لا تجوز معه الصلاة!

فكأن في لباس الدُّراعة والقلنسوة تولية لهذا الطفل منصب الخليفة، وأذاناً بارتقائه مرتقى الحكم، فهذا الثوب سبيل إليه وهو عليه دليل. وربما لبسها بعض القضاة، فقد كان الشعبي، كما ورد في الطبقات الكبرى يلبس الدُّراعة. ولاختصاص الملوك بالدُّراعة كانت تتخذ من الثياب الفاخرة، وتوشى بالجواهر الثمينة، تماماً كما يوشيها الموريتاني اليوم بصنوف التطريز، ولذا علت منزلتها، وغلا ثمنها، فقد تواترت الروايات الدالة على نفاستها، كما نُقِلَ إلينا في كتاب سير أعلام النبلاء من خبر الوزير ابن بلبل، فقد قيل إن فتاه ناوله مدة بالقلم، فنقطت على دُّراعة مثمنة، فجزع، فقال له: لا تجزع ثم أنشد:

إذا ما المسك طيّب ريح قوم

كفاني ذاك رائحة المداد

فما شيء بأحسن من ثياب

على حافاتها حِمم السواد

ولولا أن للدُّراعة ثمناً غالياً وقيمة كبيرة لما جزع هذا الفتى لنقطة أصابت الدُّراعة.

والذي يظهر أن الموريتاني قد زاد بنيقتين في عرض الدُّراعة: بنيقة في الجانب الأيمن وبنيقة في الأيسر حتى آلت إلى هذه السعة وجعلها مفتوحة من اليمين واليسار بعد أن كانت الدُّراعة القديمة مفتوحة من الأمام أو الخلف.

وفي ما يخص زي المرأة الموريتانية أي "الملحفة"، فإن أغلب المصادر التراثية تتحدث عن هذا الثوب أو مرادفاته كالملاءة والريطة والجلباب والإزار والمرط والمشمال والمسفرة باعتباره ثوباً نسائياً مميِّزةً بين عدة معانٍ للملحفة هي دلالة اللحاف كغطاء للبرد؛ ودلالة الالتحاف كطريقة في اللبس، إضافة إلى دلالتها كثوب للمرأة، وهي عبارة عن فلقتين مخيطتين، تخله المرأة بخلال. والملحفة دثار ملبوس فوق الشعر الداخلية، يرتبط بخروج المرأة؛ يقول زكريا بن محمد الأنصاري في كتابه أسنى المطالب: "والملحفة ثوب لخروج المرأة تلبسها فوق الثياب الداخلية". وتُعد الملحفة الزّيّ الوحيد الذي يرتضيه المجتمع للمرأة الموريتانية، فلا يسمح لها بارتداء ثوب آخر، سواء أكانت عاملة في مكتب أم راقصة في حفل موسيقي، وبالرغم مما امتاز به هذا الزي النسائي من بساطة في تفصيله وثبات نسبي في طابعه العام إلا أن المرأة الموريتانية قد توسعت في زخرفته بشتى الأشكال والألوان، ومن اللافت لباس المرأة الموريتانية ملحفة سوداء في فرحها، تتبدل بحسب الأحداث والمناسبات.

 

 

5. عمائم الأجواد

عند إلقاء الضوء على الدور الذي تقوم به المرأة الموريتانية في الحياة الاجتماعية والسياسية، فقد أعطتها التجربة الديمقراطية، مركزا مميزا، وفتحت أمامها كل المناصب بلا استثناء. يبدو حضور المرأة قويا في كل مكان بالحياة العامة، وتنبع هذه المكانة المعاصرة من مكانتها المميزة في الفكر المرابطي القديم، ففي مجتمع لا تكف قبائله عن التنقل، ولا تتوقف قوافله عن الترحال، كان لابد من وجود مستقر يعود الرجل إليه، خيمة وامرأة ترعاها، كانت المرأة هي الجذر الذي يربطه بالأرض والمكان، كان المرابطون من القبائل المتشددة في اتباع تعاليم الدين الإسلامي، يؤمن أفرادها بأنه لايكرم المرأة إلا كريم، ولا يهينها إلا لئيم، ويقول المثل الحساني الذي يجسد التراث المرابطي: "إنهن عمائم الأجواد، ونعال الأنذال"، هذه النظرة المتفتحة على المرأة والاعتراف بمكانتها لم يمنع عوامل الغبن التي كانت تمارس ضدها في بعض الأحوال. إنها تاجرة ماهرة، فمعظم الأسواق تقوم على أكتاف النساء، وهناك أسواق مغلقة عليهن فقط، ولكن مهارة المرأة التجارية امتدت حتى أصبحت تتاجر في كل شيء تقريبا، من أول سوق السمك، حتى أسواق المنسوجات والمشغولات والذهب، إلى المقاولات والعقار، وهناك مقاولة شهيرة قامت ببناء واحد من الأسواق المجمعة وأطلقت عليه سوق النساء، وبالطبع اقتصر الاتجار فيه على النساء فقط، وهو سوق غريب حقا، لا يفتح أبوابه إلا متأخرا، وربما تنتظر المرأة حتى تفرغ من شئونها المنزلية قبل أن تتوجه للسوق، وبعد ذلك تجتمع كل التاجرات معا لتناول شاي الصباح، ويتم هذا عند الظهر تقريبا، وتبادل آخر الأحاديث والنمائم، قبل أن تتوجه كل واحدة منهن إلى محلها، ويبدو أن هذا الطقس الصباحي لا يقل أهمية عن ممارسة البيع والشراء، ومن خلال التعامل مع التاجرة الموريتانية تكتشف كيف أنها مرنة وحازمة في الوقت نفسه، فهي تدخل عملية المساومة مبتسمة، ولا تدع الزبون ينصرف بسهولة، وتحرص في الوقت نفسه على أن تنال السعر الذي تريده، إنها تتمتع بنوع من قوة الشخصية في مواجهة ظاهرة الحياء التي تبدو واضحة على تصرفات الرجل الموريتاني.

في سوق السمك المشحون بالصيادين وحركة القوارب، كانت الغلبة للنساء، كن يقمن بتوجيه حركة الصيادين، وتسلم الأسماك ووزنها وتنظيفها وتهيئتها ويحتلن مكانهن فوق كل "بسطات" البيع. ويعود وجود المرأة في سوق العمل هو انتشار ظاهرة الطلاق، الطلاق سهل في موريتانيا، فهو يتم شفهيا، مثلما يتم الزواج شفهيا في العديد من حالات الزواج. وقديما كان الشرع والأخلاق والقيم المتعارف عليها ترغم الرجل على الإنفاق على أولاده، ولكن لم يعد الأمر كذلك، فالرجل يتنصل، ويتزوج من جديد، وينجب أولادا جددا، ولا يبقى أمام المرأة غير الخروج إلى سوق العمل.

لايوجد في المجتمع الموريتاني تعدد للزوجات، بالمعنى الرأسي، أي أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة في وقت واحد، ولكن يوجد تعدد بالمعنى الأفقي، أي أن الرجل يتزوج ويطلق، ليعاود الزواج والطلاق من جديد، ويفسر هذا مساعدتها في امتهان حرفة تعيل بها نفسها وأسرتها. من خلال رائدات النشاط النسائي.

وللفنانات المطربات منزلتهن الفريدة، من اولئك مطربة موريتانيا الشهيرة "معلومة بنت الميداح"، المطربة القومية الأولى في موريتانيا، أو فنانة الشعب كما يطلقون عليها، فهي إضافة لنشاطها الفني لها نشاط سياسي كعضوة منتخبة في البرلمان، وهي من مواليد قرية "مشارات" بالقرب من نهر السنغال كان أبوها شاعرا وفنانا ومداحا للنبي الكريم، وعلى يديه تعلمت الموسيقى والغناء، لقد كان أول من علم الناس في قريتة كيف يسمعون أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وعبدالوهاب، ولم يكتف بهذا، بل ولكنه كان منفتحا على موسيقى العالم، الموسيقى الكلاسيكية والجاز والبللوز. ولدت معلومة في 1960 وسط مناخ من الفن والموسيقى التقليدية، وأحست منذ طفولتها بأنها تريد أن تصنع نوعا مختلفا من الموسيقى غير التي ينشدها أبوها، كانت تريد ابتكار قالب يجمع بين موسيقى القبائل الموريتانية، والفن العالمي الذي كانت تسمعه من خلال الاسطوانات السوداء الكبيرة التي يحضرها الأب، تقول معلومة: "وفي عام 1986 بدأت أكتب كلمات الأغاني وألحنها بنفسي، لم ألجأ للشعراء المحليين، لأن الكلمات التقليدية التي كانوا يكتبونها لم تلب الصورة العصرية التي كنت أسعى إليها، اضطررت إلى أن أعبر عن مشاعري بكلمات لم تكن خاضعة لقواعد الشعر الفصيح، ولكنها كانت تفي من وجهة نظري ببعض مواصفات الأغنية العصرية التي أسعى لتأسيسها، لقد خرجت عن مديح القبيلة، وأخذت أغني عن مشاكل العصر ومتاعب الجيل الذي أنتمي إليه، وكانت ردود الفعل شديدة التباين. البعض وأغلبهم شباب أعجب بهذا النمط الجديد، لكن البعض الآخر - خاصة الأوساط التقليدية المحافظة - استنكر أدائي". والفنانة معلومة معروفة في بلدان المغرب العربي، ومعروفة أكثر في فرنسا وبعض بلدان أوربا . وللفنانة ألبوم جديد "نور"، وهو يضم أغنيات دون موسيقى في مدح الرسول الكريم وإبراز صورته السمحة في مواجهة الرسوم الكاركاتورية التي نشرتها بعض الصحف الأجنبية التي حاولت الإساءة إليه. يصف الباحث الموريناني سيدي ولد اباه مشكلة موريتانيا قائلا: "هذا البلد عاش في عزلة شديدة بدأت من القرن السادس عشر حين تم هجر طرق القوافل الكبرى التي كانت تصل بين المدن الصحراوية، مثل شنقيط وولاته وتلمسان، بينما ازدهرت الطرق الأخرى القريبة من البحر مثل الطريق الأطلسي، وقد أثرت هذه العزلة على نظرة الآخرين لموريتانيا بشكل عام، وللمرأة الموريتانية بشكل خاص، فبالإضافة إلى النظرة الإيجابية لها والتي تتمثل في انفتاحها على العالم الخارجي، ونشاطها التجاري الذي تعتمد عليه الأسرة في أغلب الأحيان، وعدم استخدام الرجل للعنف ضدها، هناك الكثير من الحقائق التي لا يستطيع الغرباء رؤيتها بسبب "القناع الزائف" الذي تضعه المرأة، وتضعه التقاليد الاجتماعية أيضا، منها على سبيل المثال أن المرأة الموريتانية تحب الطلاق، لأنها تدرك أن المرأة المجربة مرغوبة أكثر من الرجل، وأنها تستطيع الزواج للمرة الثانية والثالثة، هذه أكذوبة، فالطلاق مؤلم لها مثل أي امرأة، وما الحفلة الصاخبة التي يقيمها لها أهلها، والتي تصل أحيانا في الأسر الغنية إلى حد ذبح ثور إلا نوع من التعويض لها، إنه قناع زائف تضعه لتخفي خلفه أحزانها، طقوس الزواج نفسها تكتسي بهذا القناع الزائف، فعلى المرأة ألا تبدي سعادتها بالحصول على زوج، ولكنها تلبس السواد في ليلة الزفاف، وتحرص صديقاتها على أن يخبئنها في مكان بعيد عن أعين الزوج، وعليه أن يبحث عنها في بيوت الأهل والمعارف حتى يجدها، وتفتح له البيوت حتى الغريبة عنه حتى يفتش فيها براحته ويجد زوجته. القبيلة أيضا في داخل الصحراء تساهم في خلق نوع من القناع الزائف حول المرأة، بحيث تقتل فيها أنوثتها، ففي مجتمع الخيمة لا يوجد حجاب، ولا يوجد عازل يبقي المرأة بعيدا عن الرجل، لذلك تلجأ بعض القبائل إلى "تسمين" الفتيات الصغيرات، هذا التسمين لا يهدف إلى تشويه أجسادهن فقط وجعلهن يبدين أكبر سنا، بل لتشويههن نفسيا وعاطفيا وقتل الرغبة فيهن بشكل مبكر، إنه نوع آخر من الحجاب الزائف تضعه القبيلة لتحمي شرفها، الزواج أيضا في موريتانيا مازال نظاما مغلقا، لايستطيع أن يتخطى الطبقة، أو القبيلة، كل واحدة هنا مكتفية مع ذاتها، لا تتزاوج من بعضها، قناع زائف آخر تضعه كل طبقة حول ذاتها، وهناك مظاهر لهذه الأقنعة تتبدى في الشعر الحساني وفي غيره من طقوس أخرى".

 

 

6. تنوع ثقافي

بتعاون من الصين، شهدت نواكشوط تعميرا زاهرا، يرجع الى خمسة عقود منصرمة بداية من البنية التحتية الثقافية الأساسية متمثِّلة في مبنى وزارة الثقافة القديم، والمكتبة الوطنية، والمتحف ودار الشباب، إضافة إلى القصر الرئاسي الذي تُدار منه شؤون الحكم، وقصر المؤتمرات المُعَدّ لاستضافة الوفود الرسمية، والملعب الأولمبي المَعْلَم الرياضي الضخم والفريد، وميناء نواكشوط المستقل، المشروع الساحلي الكبير، ومستشفى الصداقة ثاني أكبر مستشفى في البلد في أكثر مقاطعات العاصمة كثافة سكانية، هذا عدا المدارس المشيَّدة هنا أو هناك، ناهيك عن إمداد الصينيين هذه المدينة بمياه الشرب من بحيرة (إديني) المعدنية العذبة، وتنضاف إلى هذه الصروح الصينية مساجد شيَّدتها دول عربية شقيقة في مدينة تتصاعد في مركزها بوتيرة سريعة حركة بناء عمودية مشكِّلة معالم عمرانية بارزة، أقدمها مبنى (أفاركو)، وأحدثها عمارة الخيمة.

إن مدينة نواكشوط ملتقى هام للتنوع الثقافي العربي الإفريقي، كانت بالأمس القريب مرتعاً للظباء ومأوى للذئاب، تكاد تخلو من الحياة، باستثناء بضع خيام منزوية لقومٍ بدْوٍ، آثروا المقام في مضارب أجدادهم مجاورين البحر، حيث لا يوجد ماء عذب يروي غليلاً، ولا مركز استقرارٍ تجاري لاقتناء حاجاتهم، مختارين السكنى بساحل غير ذي زرع في مفاوز لا توصل إليها طرق بريّة سالكة، أو تتجه إليها، أو حتى تحطّ قريباً منها سفن بحرية مبحرة لانعدام الموانئ، يعيش ساكنوها الرحَّل على شيء زهيد مما تنتج أنعامهم، أو على ما يقذف إليهم اليمّ من أسماك، ظل معظم سكان القطر الموريتاني إلى وقت قريب يعافون أكل لحومها البيضاء بالرغم من غنى شواطئهم بشتّى أنواعها.

تحوَّلت تلك المفازة المنقطعة في مجاهل الساحل الصحراوي خلال عقود إلى عاصمة عامرة، يعيش فيها أكثر من ربع سكان بلد يربو تعداده على ثلاثة ملايين نسمة، كان ذلك عندما قرَّر الموريتانيون نقل عاصمة المستعمرة الفرنسية السابقة من مدينة (سانت لويس) السنغالية إلى أرض الوطن تمهيداً للاستقلال، فقد اختيرت منطقة ساحلية خالية من مظاهر التمدُّن والعمران في عام 1957م لتحتضن ميلاد عاصمة جديدة من رحم صحراء قاحلة شبه مهجورة، وتشهد على خروج بلد مستعمَر من أسر الفرنسيين، ليشكِّل هذا الاختيار الصعب أكبر تحدٍّ يواجه الإنسان الموريتاني في تاريخه الحديث يوم وضع الحجر الأساس للعاصمة في العام 1958م، فقد كان التفكير في تأهيل هذه المنطقة شبه الخالية لإدارة الدولة الوليدة يشبه المغامرة.

كان تأسيس هذه المدينة امتحاناً صعباً لإرادة شعب يطمح لإنشاء دولة حديثة لا يملك من وسائل بناء أركانها غير الصمود في وجه تحدّيات الطبيعة، فالمدينة الجديدة يكاد يلتهمها الرمل الزاحف من الشرق، أو يغمرها الموج الطامي من الغرب، وبين هذا وذاك شيدت صروح مثَّلت ملتقى للثقافات العربية والإفريقية.

منذ فجر الاستقلال كانت بيئة المجتمع الموريتاني الثقافية سانحة لتقبُّل الجديد، يساعد على ذلك طبيعة هذا الشعب المنفتح، وشوقه الظامئ إلى التناغم مع محيطه العربي الإسلامي والعالمي، خاصة إذا علمنا أن التشكيلة السكانية للعاصمة قادمة من بداوة عالمة، تُخرِّج جامعاتها في أحيان كثيرة جهابذة متبحِّرين في علوم اللغة العربية وآدابها وفقه الشريعة ومذاهبها، وهي تفتقر إلى التكوين والتأطير للقيام بأدوار ثقافية في مجتمع جديد يؤسِّس أركان دولته الحديثة.

ترافق تأسيس مدينة نواكشوط مع فترة تفتُّق الاتجاهات الفكرية الإسلامية والقومية، وكان لكل بلد عربي اتجاهه الفكري والسياسي، ولعل بلداً عربياً لم يشهد من التنوُّع والتعدُّد في المشارب الفكرية ما عرفته موريتانيا، حيث شكَّل افتتاح عدة مراكز ثقافية عربية وغربية في العقد الأول من تاريخ تأسيس هذه المدينة بيئة ثقافية لتشكيل وعي فكري سياسي متنوِّع لدى أجيال وجدت نفسها منصهرة في الحركات الفكرية السائدة في الوطن العربي والإسلامي إضافة إلى الرافد العالمي.

هذه المراكز الثقافية العربية مَثَّلت مدارس موازية، ساعدت في تدريب وتكوين أطر الدولة الوليدة، ولعل من أهم هذه المراكز وأكثرها تأثيراً المركز الثقافي المصري، والمركز الثقافي المغربي والمركزان الثقافيان الفرنسي، والأميركي.....

وقد تعرَّض كثير من هذه المراكز للغلق أو التوقُّف بتأثير من العلاقات السياسية البينية عدا مراكز قلّة من أهمّها المركزان المصري، والفرنسي، إذ ظلّ كلّ منهما رافداً للتنوير الثقافي ومصدراً لإثراء الساحة العلمية والفكرية بقطبيها المتصارعين: الإسلامي العروبي، والفرانكفوني الفرنسي.

المركز الثقافي المصري في نواكشوط (1964 ):

يقوم هذا المركز بتوفير الكتب في مختلف فروع المعرفة لقرائه، وينعش الساحة الثقافية للمدينة بعرض الأفلام السينمائية والوثائقية، وتنظيم المحاضرات والندوات الثقافية، وإحياء المناسبات الوطنية والقومية والدينية، وقد أنشأ هذا المركز فرقة مسرحية قدَّمت عدّة مسرحيات، كان يسهر على تدريبها لإنتاج مسرحيات وطنية وقومية منها "جهاد فلسطين"، و"عين جالوت"، و"رؤوس في السماء"، التي خلَّدت حرب 6 أكتوبر المجيدة 1973 م، ومسرحية "جهاد الشيخ ماء العينين" في المقاومة الوطنية الموريتانية. وبفضل جهود هذا المركز الثقافي المصري نمت وتطوَّرت أجناس أدبية حديثة في الأدب الموريتاني، مثل القصة القصيرة، والرواية، والمسرحية.

ولئن كان هذا المركز مثالاً للتعاون الثقافي المشرقي - المغربي فإن أنموذجاً آخر مماثلاً للتعاون الثقافي المغاربي - المغاربي أنشأت ضمنه المملكة المغربية مركزاً ثقافياً في نواكشوط يعود تاريخ تدشينه إلى سنة 1987 في إطار مشروع ثقافي متكامل يضمّ مسجدَ الحسن الثاني ذا المعمار الأندلسي البديع، ويُعَدّ هذا المركزأولَ مؤسَّسة ثقافية مغربية في الخارج، وهو يثري بأنشطته الثقافية شتى ألوان المعرفة في نواكشوط.

 

 

7. الخيمة والسينما

دأب اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين - وهو أقدم إطار تنظيمي ثقافي أدبي - على إقامة مهرجان سنوي - في الغالب - ضاربين بإحدى ساحات هذه العاصمة خيمة بدوية أصيلة، تصدح فيها بلابل بلد المليون شاعر، وقد شهد هذا التنظيم في العقد الأخير نقلة نوعية، حيث أصبح أهمّ جهة ناشرة لدواوين شعراء، يشتكي أغلبهم من شحّ موارد النشر والتوزيع في بلد يظل أغلب إنتاجه الشعري طيّ النسيان لقلّة الجهات الراعية للنشر والتوزيع.

لعل أهمّ ما يميز الحياة السينمائية في مدينة نواكشوط هو تحوُّل قاعات عرضها الكبيرة في العقد الأول من الاستقلال إلى محلّات تجارية قبل أن تُبعث من جديد على يد فتية عشقوا هذا الفن، وأرادوا أن يعيدوا إليه ألقه وجاذبيته، فقد سعت دار السينمائيين الموريتانيين منذ إنشائها في العام 2002 م إلى تغيير الصورة النمطية المجتمعية عن السينما كداعية للعنف والانحلال مقدّمة هذا الفن الجميل كأداة للتوجيه والتثقيف والتسلية، ونهضت بمهام التدريب والتكوين لحرفيّين في مجالات الكتابة، والإخراج، والتصوير، والمونتاج، والصوت، والتمثيل، وتميَّزت بتوجُّهها نحو الفضاءات المفتوحة، حيث عمدت إلى نوع من السينما المبتكرة لجذب المشاهد إلى هذا الفن المتراجع تحت ضغط الصورة التليفزيونية، هو سينما الساحات، وهي شاشات متنقِّلة تطوف أحياء مدينة نواكشوط مقدِّمة عروضاً لنماذج مختارة من الإنتاج المحلّي والدولي.

وكان آخر ما ألهبت به هذه الدار حماس الجمهور مهرجان نواكشوط الدولي الثامن للفيلم القصير الذي انطلق العام 2013 في فضاء التنوُّع الثقافي والبيئي بمشاركة محلّيّة وعربية، ودولية واسعة، حيث شاركت فيه عشرات الأفلام المتقدمة لجوائزه الثلاث، وهي مسابقة أفلام الورشات المحلية، ومسابقة الأفلام الوثائقية التليفزيونية، ومسابقة الأفلام الدولية المتنافسة على نيلها أعمال سينمائية من تسع دول، هي: موريتانيا، ومصر، وتونس، والمغرب، والعراق، والسينغال، وفرنسا، وإنجلترا، وإسبانيا.

 

 

8. حداء الصحراء

انتظم في موريتانيا العام 2011م بالعاصمة نواكشوط حدث ثقافي دولي، يحمل عنوان : "مهرجان حداء الصحراء للشعر والانشاد"، وهو التجربة الاولى من نشاط ثقافي ، يسعى لتوطيد التواصل الطبيعي بين الكلمة الشاعرة والنغمة الساحرة .

حضر المهرجان الكبير وفود من الشعراء والمنشدين من دول عربية اسلامية عديدة مثل: السعودية وقطر والكويت والبحرين وفلسطين والأردن والسودان والعراق ومالي والسنغال والجزائر والمغرب وساحل العاج وبنين وغامبيا، ومن المشاركين الأمين العام لرابطة الفن الاسلامي العالمي ورئيس جامعة مكة المفتوحة بالاضافة الى فرق انشادية مثل فرقة اليرموك، وفرقة الأقصى، وفرقة الهدى، وفرقة صدى شنقيط.

ولحداء الصحراء مقصد يذكوه حكماء موريتانيا فالصحراء يراد بها الطريق في الحياة والحداء هو ما يحرك الهمم، ويعين على الاستقامة على الطريق. ان الاحتفاء بالشعر الملحن المغنى يكشف خصوصية القطر الموريتاني التي ينعت ببلد المليون شاعر. ويعد الغناء في المجتمع الموريتاني اختصاصاً لطبقات اجتماعية محددة واسر معينة، يوصف ابناؤها شعبياً ب"الشعار" اي الشعراء، ولكن الابتهالات الدينية والتغني بالمدائح النبوية عادة شعبية ذات ذيوع في أوساط شعبية عديدة في هذا البلد.

وأقيمت في هذا المهرجان ندوات، تناولت قضايا عديدة كالشعر النسائي، وركزت على موضوع الانشاد الديني تاريخا ومفهوما واهدافا، وهو محكوم ب"ضوابط اسلامية"، تمنع الميوعة والانحلال، وتركز على الجوانب الجمالية والابداعية في الفن الغنائي. مع التركيز على القضايا الجوهرية للأمة والتحدث عن هموم الناس والمجتمع، من خلال كلمات حكيمة، يرددها صوت عذب، تهز وجدان الانسان، فتحرك فيه مشاعر النخوة والشهامة، وتعيد اليه بعضا من انسانيته.

 

 

9. نوادي الشعر

شهدت أندية الشعر والشعراء في موريتانيا في العقود السابقة ركوداً في بلد المليون شاعر، ولعلّ من أهم مظاهر هذا الركود ندرة المقاهي الأدبية، فلا نكاد نجد لها أثراً في حياة أدباء موريتانيا وشعرائها إذا استثنينا صالون الشيخ (ولد محمودن) الذي يتخذ من بيته السكني الواقع بمركز حيّ من أرقى أحياء العاصمة هو (تفرغ زينه)، اعتاد أن يتنادى إليه صفوة من الشعراء والأدباء والمفكِّرين في البلد منذ ما يقارب ثلاثة عقود، وهو حلقة دراسة وبحث حوارية شبه أسبوعية تتناول موضوعاً أدبياً أو فكرياً، يشترك المنتسبون إليه في اختياره في مناقشته وإثرائه، وهو متعدِّد المناحي الثقافية ذو طابع موسوعي، ينفتح على مختلف المناحي الفكرية الحداثية والقديمة.

ويبدو أن انتشار صفحات التواصل الاجتماعية شَكَّلَ بالنسبة للشعراء الموريتانيين فرصة لكسر هذا الركود، فقد أنشأ كثير من الشعراء صفحات لنشر إنتاجهم عبر هذا الموقع، وفتح بعضهم صفحات تحمل عنوان (الندوة الشعرية) تحدد موضوعاً معيناً يشغل اهتمام الشعراء، يقوم كل شاعر بارتجال أبيات لإثارته وإثرائه؛ لتتكون من مشاركاتهم قصيدة متكاملة.

يفتتح عادة أحد الشعراء موضوعاً معيناً ببيتين أو أكثر، فيتبعه شعراء آخرون بأبيات على الروي نفسه والقافية نفسها، فهذا الشاعر محمد ولد حامد يحكي عن امرأة هبت تعيّره بإدمان متابعة ما تزخر به صفحات الفيسبوك من مادة مفعمة بالإغواء والإغراء، وهو مَنْ وخطه الشيب، فيجيبها بأنه إنما يعكف على ما يناسبه منها:

قالت:

تساءلني عتباً وتبخيساً:

أبعد شيب قذالي أصحب (الفيسا)

فقلت:

آخذ منه ما يلائمني

وأتقي ما أرى في وصفه بيسا

فيتابع بعده الشاعر المختار ولد مقام كاشفاً غيرة المرأة من هذه الصفحات، فهي تعتبرها نسوة محبوبات منافِسات، تروم اقتناص قلب الشاعر، وتملأ حياته عشقاً وهياماً بسحرها الفاتن، يقول:

قالت وتُدمنه في الليل واعَجَبي!!

كمن تلبًسه في الغيّ تلبيسا

وصرتَ تصحبُ ممّن لستَ تعرفهم

لبْنى، و"جوهرة"، هندا، وبلقيسا

بعد هذا العتب يتابع الشعراء هذه الندوة الشعرية مدافعين عن هذه الصفحات، ويقول محمد سالم ولد أعمر:

(الفيس) منزل أهل الأرض قاطبة

قوم على الحق إيماناً وتقديسا

وآخرون على علّاتهم شيع

يقفون في النهج قاروناً وإبليسا

ويخاطب الشاعر أحمد سالم ولد الشيخ الحسن هذه المرأة العذول طالباً منها الكفّ عن عتب المتصفِّح، فإن الفيسبوك مزيج من التنوُّع الثقافي "الممغنط" فيه غنى فكري وثراء معرفي، يقول:

دعي العتاب وخلِّي اللوم سيدتي

لا تجرحي الفيس تعنيفاً وتنكيسا

الفيس رزمة إحساس ممغنطة

تفجِّر العقل تمحيصاً وتهويسا

إن هذه الصفحات الاجتماعية، رغم ما يجد الشاعر الموريتاني بها من فسحة سانحة لا تخلو من منغِّصات، أهمّها ضعف الشبكة العنكبوتية لفئات من الاشتراكات، فهذا الشاعر محمد ولد حامد يعتذر بتلك العوائق عن هجران هذه الصفحات لبعض الوقت، قائلاً:

إن عزّتِ المرْء في (فسبوكه)

الحركهْ فلا تظننّ يوماً أنه تركهْ

لكن عَدَتْه أمور قد تثبِّطهْ

إن لم يخنه رصيد خانت الشَّبَكهْ

وبذلك يكون تواصل الشاعر الموريتاني عبر صفحات التواصل الاجتماعية رهين دفع استحقاقات شركات الاتصالات، فهل يستطيع الشاعر الموريتاني دفع تذكرة العبور إلى جمهوره، أم يظل حبيس إكراهات العوز والخصاصة؟

10. مهرجان المدن التاريخية

تضم موريتانيا اربع مدن تاريخية مصنفة من قبل اليونسكو ضمن التراث العالمي للانسانية هي "شنقيط، ووادان، وتيشيت، وولاته ".

منذ بضع سنوات قليلة، أصبح للمدن التراثية التاريخية القديمة في موريتانيا موسم سنوي، تلبس فيه إحداها أجمل الحلل لاحتضان حشود من مختلف أنحاء البلد ومناكب العالم بين مُشارِك في أنشطتها الثقافية أو مُتفرِّج، واقفين في صعيد واحد مع سكّان المدينة العتيقة لتقديم صور مبهجة لروّاد كثيرين، المهرجان في دورته الرابعة احتضنته مدينة ولاته التاريخية 2013 حضره سياسيون وجمع من الشخصيات العلمية والثقافية إضافة إلى بعض المؤرِّخين والباحثين المهتمّين بمسيرة الوجود الإنساني على هذه الأرض، فلقد أصبح من التقاليد الثقافية منذ العام 2011 عندما أقرَّت الدولة تخصيص أسبوع سنوي للاحتفاء بإحدى المدن التي شكَّلت منذ إنشائها مراكز للتبادل التجاري والتواصل الثقافي في الصحراء الكبرى ومنارة للإشعاع الثقافي العربي والإسلامي.

وتعود بداية التاريخ الإسلامي لولاتة إلى دخول عقبة بن نافع هذه المدينة تذكر الروايات المتواترة أن قبره موجود بصحن مسجد المدينة.

وقد ورد ذكر مدينة ولاتة في المصادر التاريخية بأسماء متعدِّدة، أهمّها "بيرو، إيولاتن، ولاتن، ولاتة"، وشهد على ازدهارها - كمركز تجاري هام - أغلب من كتب عنها أو زارها من المؤرّخين أو الرحّالة في القرن الرابع عشر الميلادي أمثال ابن بطوطة، وابن خلدون، والمقري صاحب "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب"، الذي ذكر أن لأجداده شركة تجارية لها فرع في ولاتن.

ويبدو أن هذا المركز التجاري الكبير الرابط بين حواضر الصحراء الكبرى من جهة وبين المشرق والمغرب من جهة أخرى عبر طريق الممالح "تغازي، تاودني، تنيولك، سبخة الجل" شهد ازدهاراً عظيماً كنقطة مركزية للتبادل، نتيجة موقعها الإستراتيجي المميَّز بين الأقاليم السودانية (مالي) وبين سجلماسة والواحات المغربية. وقد وصف ابن بطوطة هذا الازدهار قائلاً إن أهلها "يجلب إليهم تمر درعة، وسجلماسة، وتأتيهم القوافل من بلاد السودان فيحملون الملح، ويباع الحمل منه بولاتن بثمانية مثاقيل إلى عشرة، ويباع في مدينة مالي بعشرين مثقالاً، وربّما يصل الى أربعين مثقالاً وبالملح يتصارفون كما يُتصارَف بالذهب والفضة يقطعونه قطعاً، ويتبايعون به".

وقد بدأ مركز ولاتة التجاري يفقد وهجه تدريجياً عندما ازدهرت عمارة مدينة تومبكتو التي جذبت إليها الأنظار، هذا قبل أن يتحوَّل الثقل التجاري من البحر الأبيض إلى المحيط الأطلسي، لتصبح الموانئ الساحلية معابر تجارية بديلة لهذه المراكز.

إن كل مرتاد لاحتفاليات هذه المدن التاريخية القديمة اعتاد أن يظفر بما يريد، فعشّاق التنوُّع البيئي والرمال الذهبية ستغيب أرجلهم في كثبانها، ومحبو الفلكلور الشعبي والألعاب الشعبية وهواة الرماية سيجدون ما يطربهم، فلا عجب أن تجد الجميع يقطعون طرق الصحراء الوعرة ليشهدوا في هذه المدن مواسم غنية بالتنوُّع والثراء. ونتيجة لهذه الجاذبية حرص مئات السياح الغربيين على القدوم إلى هذا الحدث الفريد لاستكشاف خبايا هذه المدن والتعرُّف إلى كنوز الصحراء الدفينة ومعالمها الصامدة، حيث الطراز المعماري الفريد لمدن تاريخية، ظلت لقرون تصارع عاديات الخطوب، بعد أن كانت لأمد طويل مراكز إشعاع ثقافي ومحطّات تبادُل تجاري ومعابر آمنة لقوافل تسيرها شعوب الصحراء في حركة دائبة قبل أن يتحول مسارها إلى الشواطئ، لتبقى هذه المراكز معزولة يكاد يلتهمها غول الرمال الزاحفة، أو يقضي عليها النسيان.

وقد عُرِض في هذا المهرجان متحف خاص بالمقاومة، ضَمَّ جملة من الأسلحة المستخدمة في مواجهة الاستعمار، إضافة لبعض العتاد أو المقتنيات الاستعمارية غنائم معارك لأبطال المقاومة.

ولعل من أهمّ ما أثار الاهتمام في مهرجان ولاتة الثقافي ما مَيَّزَ دورته من اصطفاف لعشرات المكتبات العارضة لمخطوطات عتيقة نادرة، تشهد على إرث ثقافي ثري لمدن تاريخية، ظلَّت تغذّي القارّة السمراء وغيرها بعطائها العلمي، وهي اليوم مُهَدَّدة بالاندثار والضياع، يكاد عشقها والتفاني في التعلُّق بها يقضيان على كثير منها، نتيجة حفظها من قِبَل الأسر الثقافية المالكة لها في بيوت تفتقر إلى كثير من وسائل الصيانة، وإصرارها على تغييبها وحجبها في دواليب وأكنان وصناديق تعرِّضها للتلف، فلئن كانت يد المسح الإحصائي للمخطوطات الموريتانية امتدُّت إلى مئات المكتبات مسجّلة عشرات الآلات منها ضمن مشروع التراث عام 2003 إلا أن كثيراً منها ظلَّ حبيس مخازن تُعَرِّضها للتلف.

 

 

11. من ولاتة الي شنقيط

حيث اجتمعت المدن الموريتانية، 2015 م في حدثها السّنوي الأهم، وجدّدت صلتها بالثّقافة المحلية، وتطلعها لتفاعل أكبر مع الآخر ولمساحة نقاش أرحب.

مهرجان المدن التاريخية، في دورته الخامسة، كان المبادرة التي احتضنتهم، في مدينة شنقيط التاريخية، التي عُرِفَتْ تاريخياً بكونها مركز تبادل تجاري مهماً بين العرب والأفارقة، وقد حَجّ إلى المدينة بهذه المناسبة كبار شخصيات البلد، فشنقيط كانت ولا تزال جسر أمل بين جنوب وشمال القارة الإفريقية، وهي منارة علم، وسوقها رائجة، وليس من باب الصدفة أن تحتضن مهرجان المدن القديمة، ذا البعد الثقافي، الذي يهدف إلى إخراج هذه المدن من عزلتها؛ لتستعيد مكانتها، فتنهض بدورها الحضاري في المنطقة.

وقد تعدّدت المناشط الاحتفالية لهذا المهرجان، فأُلقيت محاضرات عديدة، تُعرّف بأدوار المدينة على مَرّ التاريخ كمركز إشعاع معرفي في شمال غرب القارة السمراء ومعبر تجاري، وعرضت أفلام وثائقية حول تاريخ ودور المدن القديمة، وأقيمت معارض لمخطوطات وكتب ومنشورات وطنية ومحلية، وقدّم الصنّاع منتجات تقليدية ومباريات فنية ثقافية، وتنافست فرق في رياضات وألعاب تقليدية كادت تُغيّبها سطوة الحداثة والاغتراب في قطار العولمة.

كما نُظِمَتْ مسابقات مُنِحَتْ فيها جوائز للشعراء المتميزين وقُدِمَتْ منح تشجيعية لأرباب البيوت الشنقيطية التي حافظ أهلها على طابعها المعماري الأصيل، فضلاً عن إعلان مشاريع لإعادة تأهيل التراث المعماري وخطط لتثبيت الرمال وتبليط الشوارع وإعادة تشييد المراكز الصحية والآثار التذكاريةلعلّ من أبرز ما ميّز هذا المهرجان تنافس كثير من المكتبات الرسمية والأهلية في عرض إصداراتها الثقافية، لكن جناح المخطوطات كان الأكثر جاذبية، وقد قُدّمِتْ فهارس لهذه الذخائر، منها كتاب "دليل نوادر المخطوطات في مدينة شنقيط"، وهو ثمرة رحلة علمية نظمتها جامعة شنقيط العصرية بالتعاون مع المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (إيسيسكو)، ويقدّم الدليل الببليوغرافي المُصغّر فهارس مفيدة ومعلومات مهمة عن فنون عديدة وعلوم متنوّعة مثل علم التوحيد وعلوم القرآن وعلوم الحديث، والفقه، والأصول، والفتاوى، والبلاغة والعروض، واللغة، والأدب، والجدل، والمنطق، والسيرة والتاريخ، والطب، والحساب.. وغيرها من فنون العلم الأساسية والأصلية».

وتضم مكتبات شنقيط مخطوطات نادرة كنسخة من كتاب مروج الذهب للمسعودي تعود إلى سنة 335ه، وقد كُتِبَتْ على رق الغزال.

وقد أسدل الستار على مهرجان المدن القديمة مع عروض فنية وموسيقية وتسليم جملة جوائز في علوم القرآن والحديث والشعر وسباقات الإبل والألعاب التقليدية، فانفض عقد احتفالية انتظم فيها آلاف المشاركين والزوّار في ليالٍ أعادت الاعتبار لكثير من الفنون التراثية الشعبية، لكن عمارة مدينة شنقيط التقليدية الأصيلة وآلاف المخطوطات التي تزخر بها مكتباتها لا تزال تنتظر مزيداً من الجهود؛ ليعود للمدن التاريخية وجهها المشرق الذي اكتسبت به صفة الإرث الإنساني العالمي

 

المراجع

نبيل ، مصطفي (1983) : "موريتانيا.. صراع اللون واللسان"، مجلة العربي العدد 292، ص 100: 123.

قنديل، محمد المنسي (2008): "موريتانيا.. المراة قمر الصحراء"، مجلة العربي العدد 601، ص 55:36

عتريس، محمد (2013): معجم بلدان العام، مكتبة الاداب، القاهرة، موريتانيا م 217، ص 684.

مقالات وتقارير الكاتب الموريتاني عبد الله ولد محمد و مجلة الدوحة.

المحظرة والمرابط العدد 80 ص 8 : 9.

موريتانيا وازياؤها العدد 86 ص 16 : 17.

نواكشوط... الخيمة والساحل العدد 74 ص 85:52.

الصحراء طريق الحياة في بلد المليون شاعر العدد 45 ص 8.

موريتانيا .. حزب الشعراء العدد 72 ص 12.

الفيسبوك يجمع الشعراء العدد 73 ص 5.

مهرجان المدن التاريخية الرابع في موريتانيا "مدن يدفنها الاهل وكنوز يقتلها العشق"، العدد 77 ص 9:8.

الحج الي شنقيط العدد 88، ص 7:6.

www.aljazeera.net/programs/.

‎mauritanie-mareyeurs.blogspot.com/2011/03/blog-post_14.html

المحاضر الموريتانية، "قلاع العلم الصامدة في أعماق الصحراء" - الاتحاد ...

iumsonline.org/ar/default.asp?ContentID=34&menuID=12

‎ www.dailymotion.com/video

http://www.bellewarmedia.com ...

www.alarabiya.net/.../

ar.wikipedia.org/wiki

‎www.elmokhalestv.com/index/details/id/16908

‎today.almasryalyoum.com/article.aspx?ArticleID=366185

الصور

من الكاتب

أعداد المجلة