فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
43

الذاكرة والتراث الثقافي اللامادّي

العدد 43 - آفاق
الذاكرة والتراث الثقافي اللامادّي
كاتب من تونس

إنّ ما سنتحاور حوله معا، انطلاقا من هذه الورقة، سيشمل، كما هو مذكور في عنوانها، من جهة، آلية (ميكانزما، أو Process) من أهمّ ما يميّز الحيوان، مطلقا، والإنسان، بصفة خاصّة. هذه الآلية هي الذاكرة. وما سنتحاور حوله معا أيضا، من جهة ثانية، هو التراث، وليس أيّ تراث، بل التراث الثقافي اللامادّي (Intangible Cultural Heritage) أي ذلك الزاد المعرفي الشاسع، الذي لا حدّ له، القديم الحديث، والذي بدونه لا يمكن للوجود المادّي أن يحدث، أن يوجد وأن يستمرّ.

وعلى قدر ما قد تبدو هذه المسألة يسيرة الاستقراء، ألاّ أنّها في حقيقة الأمر جدّ معقدة ومتشعّبة. ولعلّ أوّل سمة من سمات التعقيد هذا أنّ التراث الثقافي اللامادي، من حيث أنّ طبيعته الأساسية هي طبيعية معرفية من شأنها أن تتشكّل في المادّة أو في الأفكار والوجدان (Subjectivité) فحسب، لا يمكن له أن يوجد إلاّ في الذاكرة، فتكون نتيجة المعادلة الأولي (Equation) هي: الذاكرة = التراث، والعكس صحيح، بمعنى أنّ التراث هو مكوّن أساسي للذاكرة، ولعله أشملَ مكوّنٍ لها. وهذا ما جعلنا نصطلح على التراث، في بعض دراساتنا حول التراث الثقافي اللامادّي، بأنّه «الذاكرة الجماعية المعرفيّة والعمليّة الحاضرة القديمة». من ثمّة فهو المكوّن الأساسي الثاني، إضافة للمكوّن البيولوجي والعصبي، لذات الإنسان. ولمزيد من الدقّة، لا بدّ من التأكيد على أنّه يوجد مكوّن ثالث، مرتبط ارتباطا عضويا بالسابقين، وهو ما يسمّى «العادة»2. وللحقيقة العلميّة نعترف أنّنا لم ننتبه له من قبل، وأغلب الظنّ أنّ الدراسات العربيّة وأغلب الدراسات الغربيّة، التي اهتمّت بالتراث – وأستثني الدراسات الفلسفيّة والسيكولوجية3 - لم تنتبه هي الأخرى، لهذا «الوسيط » الضروري (nécessaire) الذي أرى أنّه من الصّواب اعتباره، كما قلت، مكوّنا أساسيّا ثالثا للذات الحيوانيّة، بصفة مطلقة، والذات الإنسانيّة، بصفة خاصّة.

إنّ تعرّفنا على هذا المعطى، أوجب علينا إعادة النظر في قراءاتنا للتراث الثقافي اللامادي، كما حثّنا على النظر في طَرْق منهجيّ معدّل لمزيد بلوغ الصواب في فهم التراث وكيفية تناولها وجعله مكنزا من مكانز الذات الثقافيّة الجماعيّة. فهذه الورقة قد تكون لها إضافة منهجيّة، وخاصة في حقل الدراسات العربية للتراث، لو اتّسعت لدراسة علاقة الذاكرة الجماعيّة والعادة بالتراث الثقافي اللامادي.

وبتعبير أخر، إنّ ما نرومه في هذه الورقة هو أن نطرح السؤال حول ماهية الدراسات العربيّة التي تعنى بالتراث الثقافي اللامادّي، ومدى اعتمادها المنهجي على أدوات استقرائه التي ما انفكّ الباحثون، وخاصّة منهم الانثربولوجيون، والفلاسفة، والألسنيون ما بعد-الشمسكيّة (Post-Chomsky’s) وكذلك الـ(Neuro-biologists) يعيدون النظر فيها. ما هي هذه الأدوات المنهجية ؟ ما هي الإضافات الفعليّة والأخرى المحتملة، وماذا ينتج عن استعمالها في حقول التراث الثقافي اللامادي ؟ ما مقدار دورها في عودة «توافق الإنسان العربي» مع تراثه وفي تضييق بل إزالة شرخ القطيعة مع الذات الثقافية التراثية التي أخذت تنخُرها عواملٌ داخليّة وخارجيّة (endogène et exogène) في ذات الوقت ؟

الذاكرة

يقول آلان، في كتابه حول الذاكرة :

«أن تتعرّف على شيء لا يعني الحكم على وجوده مرّة ثانية، بل يعني أنّك تدرك أنّه لم ينقطع عن الوجود. فالمحافظة على الأشياء لا تعدو الرابط الضروري (اللازم) بين الحاضر والماضي. بيد أنّ دراسة آلية حفظ الذكريات [ما قد نصطلح عليها بالمتذكَّر] (Conservation وهو ما نعبّر عنه في حقل التراث الثقافي اللامادي بعبارة الصون) قد مكنتنا من التثبّت من أنّه لا شيء فينا، في ذواتنا، يتغيّر؛ إنّما ما يحصل هو تراكم الطباع، ومن ثمّة فإنّها لا تضبع تلك الطباع، أو قل تلك العادات، أي ما اعتدنا عليه من تصرفات ذهنيّة وعمليّة. ومفاد القول إنّ حصيلة هذه العمليّة أنّ ذاتنا تتغيّر، وفي الآن نفسه، لا تتغيّر بشكل مّا. فهي تتغيّر من حيث أنّها تثرى بالمتذكَّر الجديد الذي يضاف للقديم، وهي لا تتغيّر من حيث أنّ أفكارَنا وأعمالَنا، جميعَها، تترك فينا أثرا لن يمّحي»4.

ليس من اليسير أن نصوغ تعريفا كافيا شافيا لهذه الظاهرة التي يتمتّع بها، على ما يبدو، جميعُ الكائنات. ورغم عدم وجود منْ مِنَ المفكرين والباحثين والأطباء من ينفيها عن الكائنات، وعن الإنسان بصفة خاصة، ويذهب بعضهم إلى اعتبار الإنسانَ فاقدَ الذاكرة هو كائن فاقد أهمّ مكونات الوجود (The Being) - فإن تحديد هيئتها وموضعها، وإلى حدّ ما كيفية اشتغالها، إن صحّ التعبير، لا ينفكّ يؤرّق من ارتمى في خضمّ البحث فيها. يرى أفلاطون، وقولته لا تُزيل تعقيد تحديد الذاكرة، بأنّ «الأفكار لا تولد ولا تموت، ولكنّها توجد فحسب»5. وأغلب الظنّ أنّه يعني أنّ الأفكار كامنة في موطن (أو مواطن) من كيان الإنسان الجسدي (والروحي). وهذا الموطن غير المحدّد والمختص باحتضان الأفكار، أي الرؤى المجرّدة (Perceptions)، هو الذاكرة. وقولة أفلاطون اعتمدت، بشكل أو بآخر في ما تلاه من البحوث. من جهة، لأنّ كلّ تحديد لمكان هذه الآلية الضرورية في جسم الإنسان سيكون من باب التعسف غير الموضوعي، ومن جهة ثانية لأنّ مواد الذاكرة (Matériaux) ليست ماديّة، فهي من طبيعة الأفكار والرؤى، أو كما يقول بعضهم، وهم على حق، إنّها من طبيعة التصوّرات (Images/Imagination): فأيّ حيّز يمكنه احتضان مثل هذه المواد إن لم يكن من طبيعتها وطبعها ؟ قال بعضهم: إنّها الروح - وإن سألوك عن الروح قل إنّ الروحَ من أمر ربّي !، أي إنّها في اللامكان، أو بتعبير آخر، توجد الذاكرة في كلّ مكان، كبير أم صغير، مرئي أو غير مرئي، وحتي في مختلف الجينات، ناهيك عن خلايا الجهاز العصبي، لدى الإنسان. جميع هذه مواضعٌ للذاكرة، ولفعل التذكّر: «فالجسد، حسب آلان، هو الذي يحتفظ بالذكريات (المتذكَّر)، وهناك حيث تجدها الروح (spirit/ âme)... ومن ثمّة قد يكون الجسد هو المسبّب في النسيان إذا تعرّض للهلاك والتلاشي، ولكنّه هو الذي يحفظ ويحافظ على كلّ مكونات المتذكَّر طالما استمرّ حيّا»6.

وسأتعرض لاحقا لاستمرارية «الجسد غير المادي ومحمل الروح»، إن صحّ التعبير. فالأجساد تتناسل، فيحمل الجديد في ذاته الكثير ممّا حُمِّل من زاد بالوراثة.

ومع أنّ معظم الدراسات والنظريات التي أتيح لنا الاطلاع عليها تتّفق حول فكرة أنّ الذاكرة في «اللامكان» من الجسد، أي أنّها في كلّ مكان منه، إلاّ أنّه من الواضح أنّ هذه الدراسات لم تتمكّن من تحديد موضعها، رغم تمكّنها من الإحاطة تقريبا بمجال بل بمجالات تصرّفها. فلم يعد الموضع مسألة تستحقّ البحث بقدر ما أصبح تصرّف الذاكرة المحور الأساسي للبحوث السيكولوجية والعصبيّة-الحيويّة، وبعض البحوث الفلسفيّة، وفيما يعنينا أصبح تصرّف الذاكرة الجماعية (والفرديّة على حدّ السواء)، الآلية التي ينبغي فهم عملها حتى يستقيم فهم تصرّف الإنسان ومدركاته والوسائط المساعدة على تحقيق استمراريته.

وفي هذا الصدد، لا يغيب عن ذهني أن أشير إلى أنّ بحثي عن مفهوم الذاكرة في المصادر العربية، في الفلسفة والعلوم الطبيّة، لم تكن مسعفةً. فمن بين تعريفات الذاكرة القليلة التي صادفتنا، تعريف ابن سينا الذي يقول ما مفاده إنّها ملكة (فطريّة) للحفظ7. ويبقى السؤال قائما حول المجال المعرفي الذي قد يكون عالج هذه الآلية الأساسية لدى الإنسان. وغياب التعرض لها يحثّ على البحث عن أسباب عدم اكتراث الباحثين والعلماء العرب بسبر أسرار الذاكرة وآليات تصرّفها. ورُغم أنّ النقل والتواتر للحديث الشريف وللشعر وغيرهما قد أُفرد لهما علمٌ مكتملٌ، إن صحّ التعبير، قام على ما أسميه بفنّ «حذق التذكّر» (The memorization)، نرى أنّ عدم الاهتمام بالذاكرة خاصّة من حيث طرقُ عملها من تخزين المعارف والتصرّفات (comportement) ثمّ استحضارها بفعل دافع مّا (Déclencheur)، كان من بين الأسباب الرئيسيّة التي حالت دون تطوّر دراسات التراث الثقافي اللامادي، بالمعنى الواسع للكلمة، بل ولم يحدث الاعتناء بها علميا، إلاّ في ما ندر، واقتفاءً بالدراسات الغربيّة حيث كان للبحوث الاثنولوجية والانثربولوجية الرائدة الفضل في لفت الانتباه إلى أهميّة «المتذكَّر»، على مستويي ثرائه المعرفي والفني وغيرهما، ودوره في استقراء الذهنيات.

الذاكرة واللسان

وحتّى لا أطيل في هذا الباب، فما ذكرتُه ليس أكثر من قطرة من بحر، أسعى لإبراز مجال يمثّل مكوّنا بنيويا للذاكرة، وفي الآن ذاته، للتراث الثقافي اللامادي، ويربط بينهما بل يكوّن رابطا وثيقا بينهما، بمعني أنّ استعمال أحدهما يستدعي مباشرة الآخر، من جهة، وقد يؤدي اضمحلال أحدهما تلاشي الثاني. هذا المجال هو اللسان (Langage). واللسان، كما نعلم، هو وسيلة لتجسيد الأفكار ونقلها، وهو المولّد (generate) للأفكار انطلاقا من الذاكرة الحافظة. واللسانَ عند الإنسان، مثل التذكّر، نشاطٌ عقلي عصبيّ، ودوره الأوّل أنّه «يفصح» عن المتذكّر، وهو بالتالي محمل للذاكرة. ومن حيث أنّه كذلك فله ذاكرة، مثله مثل مختلف الحواس ذات التصرّف «الفطري» (Intuitive)، ومنه يمكن الحديث عن «ذاكرة اللسان». ولعلّه ليس أفضل دليل على ذلك العلم المتميّز الذي طوّره المعجميّون العرب على مدى القرون، أي علم المعجميّة، والمعجم ذاكرة لسان فإن لا تفتحه لا يستدعي لك مكنون ذاكرة اللسان. وكما يعلم جميعنا فإنّ المحمل الأساسي للتراث الثقافي اللامادي وناقله الأوّل، مبدئيّا، هو اللسان، وبصفة أدقّ الألسن. وفي غير المعجم، أين تقيم ذاكرة اللسان ؟ يرى بعضهم أنّ موطنها هو العقل. ويرى بعضهم أنّه يقيم في القلب (عن الفرّاء: الذِّكر ما ذكرته بلسانك وأظهرته. والذُّكر بالقلب. يقال : ما زال منّي على ذُكر، أي لم أَنسَه). ويرى أغلب المختصّين أنه يقيم في الدّماغ، أي في كامل الجهاز العصبي المنتشر في الجسم. وفد توصّلت الدراسات المختصّة إلى إثبات هذه الفرضية بصفة نسبيّة عالية، رغم أنّها لا تزعم أنّ مكوّنات المُتذكّر المحمول عبر (أو في) شبكة الجهاز العصبي، هي مكوّنات من طبيعة ماديّة. إنّها على حدّ قول مؤسس اللسانيات الحديثة، العالم السويسري، فرديناند دي سوسير (F. de Saussure)، صور (Images) - ولو اعتمدنا الاصطلاح القديم لقلنا إنّها خيال الشيء أو خيال المسمّى، فاللفظ يكون كلمة، لاماديّة وماديّة، من اجتماع ما يسمع، وهو الصور الصوتيّة، وما يدرك، وهو الصور الدلالية، وتقرن بينهما آلية الدماغ اللسانية لتجعل منهما لسانا مدركا، لكنّه لا يدرك إلا بمقتضى وجود قائل ومتقبّل يشتركان، على مستوى متذّكَرِهما في إيوائهما لذلك اللسان. ومفاد القول، إنّ مواد الذاكرة (materials)، هي الأخرى، من طبيعة صوريّة، من أخيلة الأشياء لا مادة ولا حجم لها.

آليات تصرّف الذاكرة التراثيّة:

لمكتسب، التراكم، والانتخاب

ومهما كان الأمر، فمن الصّواب التساؤل حول سعة الذاكرة، هذه الطبيعة (Nature) الإنسانية، هذه المَلكة - المُعجزة بحقّ. للإجابة، لابدّ من التذكير بأنّه عِلاوةً على أنّ هذه المَلكة طبيعةٌ إنسانيّة، أي أنّها من ذات بناء الإنسان، فهي موروثةٌ (جينيّا): يرث المولود ذاكرة منجبيه، يرثّ الطبائع ذات العلاقة بمختلف أعضاء الجسد وما جُبلت عليه، كما يرث آليةً من الآليات الضروريّة للذاكرة، ألا وهي «قابلية الاكتساب». وهذه الآليّة والصفة في الآن نفسه، هي التي تخوّل لنا القول بأنّ الذاكرة هي الثقافة (Memory is Culture)، حيث يكون الموروث عن السلف جزءً من الثقافة الإنسانية، وفي نفس الوقت، جزءً من ثقافة مجموعة الانتماء. وكما تساعد «قابليةُ الاكتساب» الرضيع على أن يتقبّل نتفا من لسان ذويه، تساعده أيضا على أن يكتسب نصيبا من الأحاسيس (Emotions) التي يحاط بها. ويغلب الظنّ عندي أنّ نصيبا هاما من الثقافة يُورَث بشكل مُتَضَمَّن، والعلوم النوروبيولوجية لا تنفك تفاجئنا باكتشافاتها في هذا المجال، خاصّة وأنّ بعض التصرّفات لدى الإنسان تبدو وكأنّها رواسب نادرة من ذاكرة قديمة، أي أنّها ليست مكتسبة من بيئتها ومجالها المباشَرين والمباشِرين. فهناك ذاكرة جينيّة تحافظ على «المُكَوَّنات المطلقة والمُشترَكة بين جميع أفراد البشر» (Universals)، وهي تحمل، في ذات الوقت، زادا ثقافيا مطبوعا9، إن صحّ التعبير، بمواصفات البيئة والمجال المناسبين. وهذا يعني أنّ ذلك الزّاد الثقافي المطبوع يصبح من ضرب العادة، لا العادة البيولوجيّة فحسب، وإنّما من ضرب العادة الثقافيّة - والصواب هنا استعمال الجمع فنقول من ضرب العادات الثقافيّة. إنّ قولنا هذا، الذي نصوغه كفرضية بحث، في انتظار مزيد البحث والاطّلاع على ما سيفيدنا به العلم مستقبلا، إنّ قولنا هذا لا يفيد بأنّ الذاكرة الثقافيّة تتصرّف بمثابة الآليةُ الساكنة. فلو كانت تلك حالتها لاستحال تفسير ما تتمتّع به من «قدرة استيعابيّة» عجيبة وشاسعة. فمن حيث إنّها آليةٌ حيّة، ديناميكية، فهي تتمتّع مثل أغلب أعضاء الجسم بصفات الحياة من نموّ وتتطوّر، أي من اكتساب ما ينتجه المحيط والمجال، وخاصّة الاحتكاك والتواصل البشري، وبصفة أخصّ المُحدَث. ونتيجة لذلك، وهو ما تقيم عليه الدراسات الميدانية الدليل القاطع، فإنّ مكنز العادات - بما فيها الطقوس، وما يطلق عليه بالتقاليد وكذلك حذق المعارف والحرف التقليدية، والممارسات الاحتفالية المدنيّة والدينية، وكذلك بعض المعتقدات غير القائمة على الكتاب المقدّس، الخ - هو نفسه تلحقُه التحوّلات (Mutations) التي يوجبها راهن الممارسة وبالتالي التطوّر. وباختصار شديد لا شيء في وجود الإنسان، في ماضيه، في حاضره ومستقبله، بإمكانه ألاّ يخضع لقانون التحوّلات والتطوّر، الذي هو قانون طبيعي دائم الفعل، وبفضله وبفضل قوانين الذاكرة التي سنأتي على بعضها في ما يلي، تتحقّق الاستمراريّة الثقافيّة/التراثيّة أو ما أسميه بالذات الثقافيّة أو الذات التراثية، تلك الذات التي تحرص الشعوب، بمختلف ثقافاتها، وبدوافع موضوعيّة وأخرى وجدانيّة (Subjective)، على تجنيبها القطيعة، ذلك الشرخ في منظومة ثنائية ماضيها - مستقبلها الثقافيين، والذي يعسر مداواته وعلاجه.

ولكن كيف يُحفظ هذه الكمّ الهائل ممّا يكتسب بمختلف الحواس الظاهرة والخفيّة؟ نحن نذهب، في هذا الصدد، مذهب المدرسة ما بعد - الشمسكيّة (postchomskism)، في مجال الـ (neurolinguistics)، والتي اعتمدت أساسا على استقراء اللسان، من جهة، وعلاقته الضروريّة بالذاكرة، من جهة أخري. وقد لا يتّسع المجال في هذا المقام للإسهاب في الحديث عمّا أثبتته هذه المدرسة التي، على عكس السائد بين الباحثين الغربيين، لا يبدو أنّها وجدت الرواج اللائق بها بين الباحثين العرب المختصين في مجال التراث الثقافي اللامادي. فقد استنبطت مجموعة من المبادئ، أي القوانين العمليّة الملزمة لتصرف الذاكرة، بصفة عامة، والذاكرة التراثيّة، بصفة خاصة، وهو موضوع مقالنا. وأهمّها ما يعرف بـ :

1 - الصيغ المجرّدة:

هناك، أوّلا، صفةٌ، طبيعةٌ، تتّصف بها آليّة التذكّر لحفظ (لصون) المُكتسَب، مهما كان مأتاه ونوعه، ومهما كانت صفاته. وتتمثّل هذه الصفة في أنّ الذاكرة التي تتّسم أشكال المتذكَّر من «منطوقها» و«أفعالها» بالماديّة، هي في حقيقتها لاماديّة أو خياليّة، كما يقول البعض. ومن حيث هي لاماديّة، ولكونها كما ذكرت منذ حين لا حجم لها وأنّها تقطن في اللاّمكان من جسد الإنسان، فإنّها رصيد هائل من «الصيغ المجرّدة» (scheme)، كما هو حال الشفرات الألكترونيّة اليوم التي قد تشتمل على البليارات من المعلومات بالرغم من صغر حجمها. وتحتضن الصيغ المجرّدة صورَ الأفكار والأفعال وتجعلها، بموجب إيعازات عصبيّة تتناسل (génère) من جهة، لاحتواء المُحدث بفضل التحوّل أو المُكتسب الجديد، ومن جهة أخرى لحفظ ما احتوته. وما تحتويه سيكون بصيغة مجردة أيضا، وهكذا دواليك، بحيث تتكوّن مساحة الذاكرة وتكون محدودة الحجم متّسعة المدار.

2 - «التّكرار» (Repetition):

وإنشاء «الصيغ المجرّدة» وظائف عدّة. وقد نفترض منها أنّها تتجدّد حتى لا يلحقها الهوان (الضعف) فلا تقدر على مقاومة التلاشي، ولعلّ الأهمّ أنّها تُصاغ من جديد بمفعول «التّكرار» الذي يمثل آلية تذكريّة (Remembering Tool) نافذة المفعول، على مستويين على الأقل. الأول، أنّها تركز صون الأفكار والتصرفات وتثبّتها وتقيها من النسيان. ويكفي كمثال على ذلك أنّ تكرار بيت شعر مرارا يثبته البيت في الذاكرة وتحدث استعادته ذهنيّا بتذكّر ميزانه، وقس على ذلك في مجال الحرف أنّ تكرار صنع شكل من الأشكال يجعل إعادة إنتاجه آليا (أوتوماتيكيّا). وماذا يفعل راوي القصص الشعبي والسير والملاحم. ألا يكرّر نفسه، حتّى يصحّ عليه القول بأنّه يعرف الشيء عن ٍ«ظهر قلب» ؟ غير أنّ للتكرار وظيفة أساسيّة ثانية، نوجزها في ما أصطلح عليه بـ«التجديد النسبي» (Renewal). وننعت التجديد بالنسبي، لأمرين. أوّلهما أنّ التجديد لا يلحق الصيغة المجرّدة إلاّ في ما قلّ وندر، ولكنّه يلحق مضمون المتذكَّر؛ وهو في ذلك لا يشمل سوى بعض العناصر المكوّنة للمضمون لأنّها لم تعد متطابقة مع سياق إنتاجها، أي مع زمن استعمالها ومجاله. فتعوّض بالعنصر أو العناصر المناسبة. لا ينبغي أن نرى في هذه العملية حالةً من حالات الإسقاط، لأنّها في واقع الأمر عمليةُ تعويض (Substitution). ومما لا شكّ فيه أنّ مثل هذه العملية تمهّد الطريق للنسيان. وممّا لا شكّ فيه أيضا أنّ الذاكرة التي لا تنسي قد يصيبها التلف. فحتّى تتوازن هذه العمليّة التي لا مفرّ منها، تلجأ ملكة-التذكّر-المعجزة لآليتين يجعلان «التجديد النسبي» إحدى الوظائف التي تساهم في تحقيق استمرارية الذاكرة (Memory Continuum). ويقوم «التجديد النسبي» على الآليات التالية : التراكم المنتخب (Selective accumulation)، النقل أو المواترة (Transmission)، التحوّلات (Mutations) والانتخاب (Natural Selection)

3 - التراكم المنتخب :

لقد أشرنا أعلاه إلى أنّ الذاكرة، علاوة على رصيدها الجيني، تقوم بعملية التراكم المنتخب بغية تأثيث ذاتها بالأفكار والعادات والأفعال المحيّنة (Updating). وهي تتمثّل في تخزين المكتسب في المواضع المناسبة من الجهاز العصبي ومن جسم الإنسان. ولقد تساءلنا هل تتمتّع الذاكرة بالطاقة والمساحة القادرتين على حفظ جميع المكتسب بواسطة مختلف حواس الإنسان الظاهرة والخفيّة. يجيب العلم الحديث بأنّ للذاكرة مقدرة استيعاب هائلة، ونصيب هام من ذلك المستوعب مخفيّ في غياهب مواطنها، من الشعور واللاشعور وما بعدهما عمقا. ونشير عرضا أنّ المستتر منها قد يطفو، وأنّه قد لا يطفو مطلقا. وقد نكشف مقابل المستتر الذي يطفو في تحليل اللسان عن «غير المقول/ المسكوت عنه» (Le non dit) - وهذا باب هام في دراسة السرديّة الشعبيّة. لكن مهما كانت مقدرة استيعاب الذاكرة شاسعةً، ومهما كانت موادها ضاربةً في القدم، كما نري ذلك في بعض العادات والتقاليد التي تعود إلى آلاف السنين، إلاّ أنّ الذاكرة، كما يبدو، منهمكة في «غربلة» محتوياتها، فالنسيان رفيق التذكّر، ولو أنّ اصطلاح النسيان يعسر تفسيره بشأن الذاكرة. فكما نعاينه في التراث الثقافي اللامادي يبدو وكأنّ ذاكرة حملته وناقليه، أفرادا وجماعات، عبر الأجيال المتعاقبة، ذاكرة لا تنسى لا الشاردة ولا الواردة. بيد أنّ الذاكرة في الحقيقة تتصرّف بشكل مغاير إلى حدّ مّا لما قلناه. ويكون أقرب إلى الصواب أن ننعتُها بأنّها تراكميّة انتخابيّة (Cumulative and selective). فهي تُبعِد عن مدار التواصل كلَّ ما لم يعد ذا جدوى (Utility, of no need)، أي لا يتماهى والسياق والبيئة والمجال، وتُقيم محلّه البدائل المناسبة باعتماد آليّة التعويض (Substitution). والتراث الثقافي العربي يزخر بالشواهد على هذا الأمر، فيكفي الباحث أن يقارن بين ظواهره المسجّلة (المحفوظة) والموثّقة ومثيلاتها، على مختلف المحامل بما فيها المكتوبة وهي كثيرة، أو الظواهر الميدانية فحسب، ليتأكّد من أنّ الذاكرة التراثيّة، وهي لا تنفكّ تتجدّد، تخدع الباحث في التراث، بمفعول «الوهم» (Illusion)، بأنّ ما يعاينه من موروث ثقافي هو ما تركه السلفُ للخلف، بينما ما وُرث قد يكون في بعض الحالات مغايرا للأصل، إن سُمح لنا بهذا التعبير. والسّبب الرئيس في ذلك الاختلاف بين قديم التراث وحاضره (أي زمن المعاينة) أنّه خلال نقل الأجيال له بالتواتر عبر الأزمنة تقوم الذاكرة الفرديّة والجماعيّة بما يصطلح عليه في النظرية التطوّريّة ما بعد الدروينيّة بعمليّة الانتخاب (Process of Natural Selection)، فتكون النتيجة موروثا ثقافيّا قد جُرّد مما أهملته ممارسةُ الإنسان طيلة الأجيال المتعاقبة بموجب قانون «الأولويّة للأصلح».

4 - النقل أو التواتر (Transmission) :

فإذا كان التكرار مساعدا على تثبيت المعطى التراثي، صيغة ومضمونا، في سجل الذاكرة، فإنّ تواتر المعطى التراثي عبر الأجيال المتعاقبة، وضمن الأجيال المتداخلة، يضمن له في شكله «المحيّن»، في أغلب الحالات، الثبات والاستمراريّة ؛ كما يضمن له «التناسب» مع المجال الطبيعي والإنساني في زمن تعاطيه له وآدائه. ولعملية النقل والتواتر أهميتها، لا فقط من حيث إنّها تعوّض عناصر المعطى التراثي غير المناسبة بغيرها الأكثر تناسبا مع الذهنيّة الجماعيّة الحاملة، وبالتالي الناقلة لها، وإنّما لأنّها تحقّق «تعايش» مستويين على الأقل من المعطيات التراثيّة المحمولة من قبل جيلين معاصرين لبعضهما. ولا نبالغ إن قلنا إنّ هذا التعايش بين الأجيال، الذي يوازيه تعايش بين مستويي الموروث الثقافي اللامادي، من شأنه أن يحِدّ من تفاقم القطيعة بين الأجيال، وكذلك القطيعة مع التراث.

5 - التحوّلات والانتخاب « Mutations & Natural Selection»:

ولا تتمّ عمليّة النقل للمعطيات التراثية إلاّ وتكون عدّة عوامل داخلية وخارجية ذات صلة بالمجال الطبيعي والإنساني، وبالوجدان الجمعي، وكذلك بالتطوّر الاقتصادي، والاجتماعي والعلمي والتكنولوجي...، إذن تكون جميع هذه العوامل قد لقّحت، بطريقة تفاعليّة، المعطياتِ التراثية، أو بعضَها، بالمُحدث. فينتج التحوّل في مكوناتها، من مضامين، ومعجم ودلالة، وأحيانا في الأبنية الشكليّة للمعطيات نفسها (هكذا، مثلا، بُعثت موسيقى الراي، Ray، من تلاقح الموروث الغنائي الشعبي الجزائري، بالموسيقى الأوروبيّة، والأمريكية الإفريقية، والإفريقيّة جنوب الصحراء).

الخاتمة

في حقيقة الأمر، جميع هذه الآليات تحدث، تتفاعل، في ما بينها في ذات الوقت, فكّكناها لأسباب منهجية وحتّى نتمكّن من إدراك عمل الذاكرة الجماعية في علاقتها بالتراث الثقافي اللامادي بصفة تكاد تكون حصريّة. أقول، «حصريّة» لأنّنا تجنبا للإسهاب في القول، لم نحلّل مظاهر من الاجتماع والاقتصاد وخاصّة الفكر، فللذاكرة المختصّة في كلّ من هذه المجلات قراءات مناسبة.

وتبقى مسألةٌ، ألمحنا إليها من حين إلى آخر، ونعتقد أنّها تستحقّ مزيد الدرس والحوار، ألا وهي «مصير التراث الثقافي اللامادي في عصر العولمة». وإذا نختم حديثنا بهذا التساؤل حولها، فلإدراكنا بأنّ أمواج العولمة قد اكتسحت شعوبنا العربيّة منذ بضعة عقود، وصنعت صنيعها، وهي الآن قد خطت خطوة أخرى أكثر خطورة على تراثنا بمكوّنيه المادي واللامادي، وسطت على الذات الثقافيّة العربيّة الإسلاميّة بعنف فتاك. وشتّان ما بين حصيلة الدمار الذي لحق بها، وحصيلة المساعي التي تقوم بها المؤسسات في بلادنا، في غياب إستراتيجية متكاملة واستشرافية، لصون هذا التراث صونا لم يجعل منه إلى حدّ الساعة سوى نماذج تراثية يُنظر لها بمثابة المعلّقات على حائط التظاهر، ومكانز تحفظ على رفوف المكتبات.

الهوامش

1 - قدم نص هذ المقال بمركز عبد الرحمن كانو الثقافي بالبحرين بتاريخ 15 مايو 2018. يُرجى الإطلاع على المنتخبات الببليوغرافية في نهاية المقال. اعتمدت لبلورة الأفكار الواردة في هذا المقال، بصفة أساسية علي دراسات أنجلوسكسونيّة، بالدرجة الأولي، وفرنسيّة أغلبها مترجة عن الانجليزيّة. وتحاشيت ذكر ما كتبته شخصيا في الموضوع وقد نشر في مجلات عربيّة وأجنبيّة معتمدة وفي كتب أرجو ألاّ يجد القارئ المهتمّ عناءَ في العثور عليها، إذا رام البحث في موضوع التراث والذاكرة.

2 - Félix Ravisson, De l’Habitude, imp. H. Fournier et C°, Paris, 1838.

3 - منذ صدور كتاب رافيسون المذكور أعلاه، اتسع مجال الاهتمام بموضوع العادة (l’habitude) حتى لدى فريد ومدرسته، وكذلك بين الفلاسفة وبعض فلاسفة تاريخ الأفكار. راجع :

4 - ألان، حول الذاكرة، ص 7-8 وص 40

5 - عن آلان، م. س، ص 18 :

* «Les idées ne peuvent naître ni mourir, mais seulement être».

6 - م. س، ص 48 بتصرف.

7 - ابن سينا، كتاب الحدود (Le livre des définitions, Teste établi, annoté et traduit par Anne-Marie Goichon, Vrin, 1963)؛ لسان العرب : الذِّكر = الحفظ للشيء تذكّره. والذِّكر أيضا : الشيء يجري على اللسان. الاسم : الذكرى. وحسب الفرّاء تكون الذكرى بمعني الذِّكر. والذّكر والذِكرى، بالكسر، نقيض النسيان. والذّكر، بحسب الفراء، ما ذكرته بلسانك وأظهرته، والذُّكر بالقلب، يقال : ما زال منّى على ذكر أي لم أنسه.

8 - Chomsky، 1971.

9 - يقول لأورنو كونراد « إنّ تلاشي البنى الطبيعيّة يوفر للبنى المحدثة إمكانيات جديدة تظهر بوضوح في حواس التعبير »

- « … Le déclin des structures innées ouvre de nouvelles possibilités aux structures librement inventées n’apparait nulle part clairement que dans les facultés d’expression », Tous les chiens , tous les chats, Flammarion, 1970, p. 169.

المراجع

Alain (Emile Chartier), « Sur la Mémoire », in Revue de Métaphysique et de Morale, VIIe année, 1899

Brown, Donald L., Human Universals, McGraw-Hill, NY 1991

Changeux, Jean-Pierre, Neuronal Man. The Biology of Mind, Pantheon Books, NY 1985

Chomsky, Noam, Aspects de ka théorie syntaxique, traduit de l’anglais par Jean-Claude Milner, Seuil, Paris 1971

De Waal Frans, Our Inner Ape, Riverhead Books, NY 2005

Jackendoff, Ray, Consciousness and the Computational Mind, A Bradford Book, the MIT Ptress, Cambridge 1992

Jackendoff, Ray, Patterns in the Mind. Language and Human Nature, Basic Books, NY 1992

Jung, C. G., Les racines de la conscience, Buchet/Chastel, paris 1971

Klatsky, Roberta L., Human Memory. Structures and Processes, W. H. Freeman and Ce, NY 1980

Liberman, Philip, The Biology and Evolution of Language, Harvard Univ. Presse, London 1984

Ninio, Jacques, Les sciences des illusions, Odile Jacob, Paris 1998

Pinker, Steven, The Language Instinct, How the Mind Creates Languages, William Morrow and Ce, NY 1994

Pinker, Steven, How the Mind Morks, Norton, NY 1997

Pinker, Steven, Words and Rules. The Ingredients of Languages, Basic Books, NY 1999

Ravaisson, Félix, De l’Habitude, Imp. Fournier et Ce, Paris 1838

Ricœur, Paul, Temps et Récits, 3 tomes, Seuil, Essais, Paris 1983, 1984, 1985

Ricœur, Paul, La Mémoire, l’Histoire et l’Oubli, Seuil, Essais, Paris 2000

Rose, Steven, Le cerveau conscient, traduit de l’anglais par Mireille Boris, Seuil, Paris 1975

Thirion, Benoit, « La lecture ricœurienne de Ravaisson dans Le Volontaire et l’Involontaire », in Etudes Philosophiques, 3, 2002

أعداد المجلة