فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
45

واجهة وخصوصيات: مقاربة سيميولوجية/ بصَرِية لنماذج من أفضية سكنية تقليدية بالجنوب التونسي

العدد 45 - ثقافة مادية
واجهة وخصوصيات:  مقاربة سيميولوجية/ بصَرِية  لنماذج من أفضية سكنية تقليدية بالجنوب التونسي
كاتبة من تونس

يُعدّ الفضاء السكني حاملا لمخزون ذاكراتي، يتجسّد عناصر معمارية مُشبعة رموزا وعلامات. فمحامل الذاكرة على تعدّدها تُعدّ نمطا لتواجد الانسان في هذا الامتداد مُتعالقا مع مركّبات اجتماعية، ثقافية، دينية... تُعطى هذا الفضاء رمزية لنكون مع سيميائية الفضاء.

من هكذا منطلق يكون العمل على هذه الدراسة السيميائية للأمكنة الهندسية والبنية الفضائية للمساكن التقليدية بالجنوب التونسي تحديدا واجهة المباني. علّها دلالية تتجاوز من خلالها سطحيّة محتوياته المادية ومعطياته الجغرافية لنكون مع المعنى الذي تحتكم عليه هذه الصّروح. كذلك استقراء مجموع العلامات والتمفصلات داخل التركيب المكاني الذي يُؤسّس الفضاء المكاني ككُلّ.

كانت المساكن التقليدية بالجنوب التونسي على بساطة بناءاتها وسيلة تعبيريّة طوّعها مُنظّر الفضاء السكني بما يتوافق وهويّته ومعتقداته، وذلك بما تحويه هذه الانتاجات المعمارية من معاني ودلالات لمفرداتها التي تعود لماهيات مادّيّة تقدّم في شكل رموز وعلامات باعتبارها عناصر ضمن أنساق سيميائية، يُعدّ الادراك البصري أولى تجلّياتها.

تُعدّ الواجهة المعمارية حافظة السكن وحاضنته، يُحيطها متساكنو الجنوب التونسي بهالة كبيرة من الخشوع وهي العنصر الظاهر للعيان و«الغريب الوافد»، وأول سطور كتاب العمارة، عناصرها وسائل بصرية مضمونة الوصول.

من هنا يكون السؤال:

كيف لها أن تجتمع هذه العناصر التكوينية من أشكال وخطوط، ألوان وزخارف بمختلف تمظهراتها لتنتج لغة بنيان بإملاءات مخصوصة؟

كيف أبدع أجدادنا مساكن بواجهات واءمت بين المعارف التقنية والوظيفية النفعية للمبنى والملامح البصرية فتختزل كلاهما صورة ذهنية متكاملة لواجهة المبنى؟

إنّ ما يقوم به منظرو الفضاء السكني على محمل السكن عموما وواجهته بالخصوص من صنوف التشكيلات المختلفة تتجاوز ماديات المكان إلى علامات المكان. فهذه النشاطات والممارسات والمشاهد التعبيرية غير اللّفظيّة، تُضفي على المكان دلالات أعمق محطّ مسائلة دائمة ومادة قابلة للتأويل. وفي هذا السياق يعتبر بارث1 الفضاء فضاءً دالا يدعو إلى افتراض نصّيات أخرى تسري في الظواهر الاجتماعية والممارسات اليومية، وعليه يمكن اعتباره ظاهرة سيميائية ومعطى علاماتي نستقي منها معارف عن أشياء أخرى. فالفضاء على حسبه يحتضن مجموعة من الدوال المثبوتة داخل عاداتنا وتقاليدنا وفضاءاتنا المشبعة بالرموز والعلامات. إنه ليس سلبيا ولا صامتا، وإنما يحمل دلالة تتخلّل جميع الأبعاد والاحداثيات والأركان، على أساسها لا يحتاج المرء إلى ذكر تعريف تفصيلي لمدينة ما، وإنما يكتفي بذكر اسمها أو بعض معالمها وهذه المعالم هي بمثابة إحالات تُعطي أبعادا تأويلية ونفسية ورمزية لزائرها، بحيث تشكل على إثرها خطابا بصريًا لا نستطيع الهروب من بعده التواصلي والدلالي2.

فتواجد البناءات في فضاء معين، إضافة إلى الأشكال الهندسية والتصاميم ومواد البناء والزخرفة، له رمزيته الخاصة التي تختلف باختلاف وظيفة البناء الاجتماعية سواء كان مسجدا، منزلا، قصرا ... الخ، وتكون على أساس الهندسة المعمارية فضاء لتقاطع مجموعة من العلامات التشكيلية التي تحمل دلالات ورموز في لغة العمارة، التي من أجل فهمها يجب علينا أن نعتبرها كائنا حيّا يتفاعل معنا ويتطوّر وفقا لاحتياجاتها، إذ أن القراءة التواصلية لفن الهندسة المعمارية يتجاوز مجال الإحالة، والانزواء على تأمل الموضوعات المعمارية بوصفها أشكالا تستمدّ ملموسيتها من ذاتها3، أي الدلائل الرّمزية للعمارة الحبيسة بتنوع الثقافات واللغات التي تنعكس على النسيج العمراني وخصائصه لأي بلد4.

لا يُمثل الوجه المعماري للسكن سوى الجزء الظاهر من ممارسة السكن في أبعادها المادية والوظيفية والرمزية، منظورا إليها في أشدّ عناصرها بساطة إلى نظام رمزي يُعطي لها معنى. لذا فالسلوك نفسه رمز مادام ينطوي على حدّ أدنى من التمثّل الصامت. والسكن في سياق المجتمع التقليدي هو حقل من السلوكات الرّمزيّة التي تنشأ وتتوالد في بناء متوازن مع بناء المنزل منذ التأسيس. ومن وجهة نظر سوسيولوجية5 يمسّ البناء الجماعة بصورة مباشرة نظرا للمضمون الاجتماعي للفضاء، إذ من خلاله تتجسّد العلاقات الاجتماعيّة وتعبّر عن نفسها، فالسكن حلقة وصل بين الفرد والمجتمع وآليات الدّمج الاجتماعي طالما أن الاستقلال بالسكن يرتبط إلى حدّ بعيد بمؤسّسة الزواج بما تعنيه من الانتماء والضبط والالتزام. فالمنزل يرتبط ارتباطا وثيقا بالاجتماع العائلي وانشاؤه عادة ما يكون مندرجا في إطار هذا السياق، ويستكمل بشروط الاعتراف الاجتماعي والأخلاقي6.

بالنسبة لسيميولوجيا الفضاءات السكنية، فان هذا المقترب يقوم على مبدأ تشبع المكان المديني بالمدلولات حاملة لمعان تتنوع بتنوع الصور التي تبثها وباختلاف الاذهان التي تتلقاها لان صورة كل مدينة، بأبعادها الشكلية والوظائفية والرمزية، هي نتاج تراكم العديد من التصورات الشخصية البحتة. فالأفضية السكنية لقرانا ومدننا التقليدية -بكونها نظاما من علامات- يمكن رصدها عن طريق آليات المعاينة ومن ثمة التأويل. تأسيسا على ذلك تكون القرى/المدن التقليدية فضاءات مشبعة بالمعاني الظاهرة/المستترة المضمرة/المعلنة الحقيقية/المتخيلة المتطابقة/المتنافرة الحسية/الرمزية المتهتكة/المقدسة الدنيوية/الميتافيزيقية. هذه العلامات وغيرها جعلت من القرى/المدن فضاءً تعثر العين على جدرانه وواجهات مساكنه على جزء كبير من خيالات الذهن البشري وأعقد التباساته واستيهاماته وتوتراته7.

تعدّ واجهة المسكن بنية الوعي في العمارة التقليدية، ووثيقة ما يتلقّاه وما يعكس ذاكرته، لتقدّم الواجهة الرمز والاشارة والايماءة فيكون التواصل. بمساكن قرى/مدن الواحة التقليدية نفذت واجهاتها بأبسط خامات البيئة الطبيعية وبرزت العناصر الزخرفية فيها نتيجة لإيجابية الانسان وتفاعله مع الطبيعة وجهوده في تنفيذ احتياجاته، فعبر عنها في صورة رموز تلخص فكر الانسان وعقيدته نحو التغلب على قسوة الطبيعة، فكان للبيئة تأثير أساسي على الواجهات فيكون ظاهرا على المباني وعلى الأسلوب الذي كان متبعا في البناء والخامات المستخدمة.

أفضية سكنية تقليدية تستخدم العناصر الزخرفية في واجهاتها، وتقوم على تكرار الوحدات الهندسية المجردة على جانب مدخل المسكن وأعلاه بطريقة متماثلة، وقد ظهرت الزخارف الحائطية للتغلب على قسوة الحياة الطبيعية حيث الهواء الجاف والمناخ الحار. وقد حقق المتساكنون الاتزان والتناسق في التكوينات الهندسية البارزة والغائرة التي صمّمها. فقد احتفظت العمارة بهوية مميزة وواضحة، فهي انعكاس صادق للبيئة، وهذا نتيجة تفاعلات كثير من العوامل البيئية والاجتماعية والثقافية والمناخية.

ان تشكيل الواجهات التقليدية، كتل وعناصر معمارية وزخرفية يؤكد مبدأ البساطة، فجاءت عمارة صريحة تعبر عن الوظيفة التي أنشئت من أجلها في صياغتها، وعمق مضامينها التعبيرية والتي كانت نتاج تراكم معرفي لسلسلة من التجارب. ولعلّ من خصوصيات الواجهات أنه:

يوجد تناسق في التشكيل الفني للواجهة وذلك من خلال اعتبارين أساسين؛ أولهما علاقة عناصر التشكيل بعضها البعض، ونقصد هنا عناصر «التصميم» بأدواته التي يتلاءم فيها كل عنصر بالآخر لخلق التوافق والصلة المستمرة بين هذه العناصر (نوافذ وأبواب وزخارف وغيرها) والمساحة الكلية للواجهة. ثانيهما: علاقة كل عنصر بالمبنى المعماري ككلّ تحقيقا للتوافق.

يوجد تنوع بين العناصر المعمارية وهي تخلق مع الوحدة تميزاً في العمل التشكيلي.

يوجد إيقاع باستخدام الوحدة والعناصر التي تتوالى متكرّرة بانتظام، فالوحدة والتنوع لم يلغ أحدهما الآخر.

يوجد سيادة في التشكيل العام، وذلك أنه على رغم القواعد السابقة من وحدة وتكرار وتغير وعلاقات، إلا أنه يوجد شكل غالب مسيطر على الكلّ.

الواجهة بين المحدّدات الشكليّة والاملاءات الرّمزية

تنشأ الرموز عادة من الطّوْطم8 والتّابو9 (totem-tabou) هما معتقدان سحريّان، مؤدّاها قانون التبجيل والتحريم لغاية المحافظة على بناء المجتمع التقليدي. وكلّ عشيرة يقابلها طوطم يكون محطّ تحريم وتقديس ومعتقد سحري، وتكون التمثيلات الرّمزية كفيلة بطرد الأرواح الشرّيرة ومصدر إسعاده وتحقيق رغباته مثلا. ففي تمزرط مثلا نشاهد بعض الرموز القديمة المتعلّقة بالسّكن، أشكالا رسمت ونقشت على الأبواب والجدران لحماية المسكن وتحصينه. فالرمز لم يخلق للتزيين فقط بقدر ما كان سلاحا هجوميا ودفاعيا ضدّ شرّ ما.

تنتمي الرموز المعلّمة بالمساكن التقليدية إلى المدوّنة الرمزيّة الشعبية المستخدمة على محامل مختلفة كالواجهات والأبواب والأثاث والأدوات المنزلية اليومية كالفخار والمنسوجات والجلد والألياف النباتية، أين تكرّر فيها الأشكال الهندسية نفسها كالمعينات والمثلثات والخطوط المنكسرة.

1) الجدار:

يعدّ الحائط فسحة ممتدّة للخطّ والكتابة وتعليم الرّموز والتي تتوزع بين موضوعات دينية وأخرى دنيوية حيث تتجاور بل وتتداخل مثل عقود البيع والشراء وأدوات البناء بالأدعية والبسملة والتسبيح. لكن الفصل بينهما غير موجود أصلا لأن كل ما هو دنيوي كان دينيا بالأساس 11.

نقائش خطية دينية: علّها كتابات باللغة العربية تصنّف إلى نقائش «استخدمت لتمجيد وتعظيم اسم اللّه وفق صيغ مختلفة مثل «ما شاء الله» «الحمد لله» «الله أكبر»، «بسم الله الرّحمان الرّحيم»12. وهي كتابات دعائية «نجد فيها ذكر الله والبسملة وذكر الرّسول محمد ﷺ اعتقادا من الأهالي بطرد العين والحسد ومحافظة على المسكن من الأذى»13.

نقائش خطية دنيوية: هي نقائش حياتية تعريفية تأريخيّة بالأساس تقدّم أسماء البنائين وأصحاب الغرف، كما تسجّل تاريخ البناء معتمدة في ذلك على تاريخ وفاة الرسول الكريم. كما تعرّف بعض النقوش بأصحاب الغرف، كما هو الشّأن في الدويرات بتطاوين ويعتبرها المتساكنون وثيقة ملكية. والغايات من الكتابة متعدّدة منها التوثيق والوقاية والحماية وتحصين الغرف بنوع من السحر المقبول دينيا «لا سيّما وأن الأمر يتعلّق بمكان لخزن الطعام الذي كما هو معروف يحاط بالكثير من قواعد الحماية والتّأصيل الروحي بما يجعله مباركا نافعا ليس فقط عند استهلاكه وإنّما من البذرة إلى المائدة مرورا بعمليّة الحفظ والخزن» 14. تخلّد أسماء البنّائين باستخدام الصّيغة اللّغوية «صنع فلان بن فلان» والتي من خلالها يتسنّى لنا معرفة هويّتهم في بناءات الدّويرات مثلا.

كتابات رمزية: وهي عادة ما تكون حروف «التيفانغ»15 وهي كتابات بربرية قديمة لا تفيدنا المصادر الشفوية عن ماهيتها، وقد عثر عليها سواء بقمة الجبل أو على السّهل.

علامات تشكيلية: إن في علاقة العناصر التشكيلية مع بعضها تحقق الانسجام والتآلف من الناحية البصرية، فجاءت العناصر المعمارية متناسبة. وتنظيم التشكيل في واجهات العمارة التقليدية «توزر ونفطة» بصرياً وحسياً يعبر عن الوحدة التصميمية الثابتة لقالب «الياجور» الآجر الذي يستخدم لعمل التشكيلات الابداعية في أشكال متعدّدة ومتنوعة. إن القوالب بأبعادها القياسية أظهرت تآلفاً وتجانساً وتناسقاً لمكونات الواجهة على المستوى الجزئي والكلي.

كما اعتبرت الأشكال الهندسية خاصة منها المثلثية عنصراً رمزياً بارزاً في واجهات الأفضية السكنية لقرى/مدن الواحة التقليدية. ندر وجود مبنى بدون مثلثات على اختلاف تمثلاته. فهذه العناصر ترمز إلى حرص السكان على إيجاد عناصر رمزية لطرد الأرواح الشريرة (حسب بعض المعتقدات والأقاويل)، كذلك إضفاء علامة معبرة أخرى لمحيطهم المعيشي ورمزا لوحدتهم. المثلث علامة متكرّرة بأشكال مختلفة ونمط هندسي يمكن ملاحظته في الزخارف الموجودة داخل البيت أو في حواشي المبنى والواجهة الرئيسية.

توحي الخطوط المتكسرة بالحركة، كما نلاحظ في هذه الخطوط الحدة في التشكيل، مما يستلزم استعمال بعض الحليّات معه لكي تلطف وتهدئ من تأثيره. ويمكن للخط المنكسر المكوّن من مستقيمين أن يتضمن اتجاها مؤكداً مهما كان وضعهما في الحيز، على أن يحدد هذا الاتجاه بمحصلة المستقيمين المكونين للخط المنكسر.

إنّ كلّ ما خطّته أيادي البنائين والحرفيين هو فعل رمزي يحيل بشكل أو بآخر على معان مجرّدة تتخطى أحيانا الواقع الحسّي الذي تنطلق منه. وعلى عكس ما قد يوحي به الظاهر الزخرفي والجمالي للعلامات والرموز، فإن الانسان ماثل فيها بقوة عبر كلّ تفاصيلها16، فمواضيعها تتمحور حول الانسان في إطاره البيئي الملموس وضمن شروط الحياة الواقعية دون إغفال للتاريخ17، فيأتينا الكثير منها، تلك الرموز، مستوحى من بيئته مع بعض من التجريد، ومع ذلك فهي تتطابق مع الطابع التشخيصي للفن البدائي والممارسات التشكيلية.

2) العتبة18:

تعدّ العتبة، ذلك الحيز المتواضع مساحة والمشحون دلالات، الفاصلة الواصلة بين الخارج والداخل، الخارج الغريب والداخل المألوف. إنّ هذا التعيين المادّي الذي تمارسه العتبة باعتبارها الحدّ العازل والواصل، في آن، بين المنزل والشارع ينطوي على تعيين اجتماعي ورمزي يقوم على ضرب من التقابل بين الفضاء الخاصّ والفضاء العامّ، وبالتّالي التمييز بين المرجعية العائلية والمرجعية المجتمعية بكلّ ما تنطوي عليه من التصوّرات والمواقف.

والعتبة فاتحة السّكن، ولعلّ التعامل مع موضع العتبة فيه من مظاهر الخشية والانفعال الكثير. فيتمّ تخصيصه -هذا الموضع-دون غيره من الأجزاء والوحدات المعمارية بطقوس عدّة تختلف العناصر المستخدمة فيها، إلاّ أنّــها تتجانس بين ما يعتقد أنّه «طبيعة العتبة» ومستقبل المسكن وساكنيه، فإن كانت العتبة مباركة، جـاء كلّ ما تأسّس عليها ميمونا مباركا، والعكس صحيح، وهو ما يترجمه المثل الشعبي الدّارج «نواصي وعتب والبعض من الذريّة»19. كما أن المثل الشعبي القائل «الدار عتبة والمرا قصّة» له دلالاته الرمزية والمعنوية لذلك لا نستغرب ممارسات الأهالي لعادات صارت طقسا خاصا بالبناء، فعند المطاوى20 يرمون قطعة ذهب على شكل حوتة (سمكة) أو شعير21. وهي الوظيفة نفسها الّتي يؤمّنها الباب عبر ثنائية الانغلاق والانفتاح والضيق والاتّساع، وهو ما تجسّده لحظة التأسيس عبر الطقوس التي بمقتضاها يدشّن البناء.

3) الباب:

إذا أخذنا الباب مجرّدا من ملحقاته الرمزية المادية، واعتمدنا أحد نماذجه الشائعة، وجدنا أنّه يتألّف من باب ضخم من مادّة الخشب جهّز أحد مصراعيه بباب ضيّق منخفض يعرف «بالخوخة»، وهو المستخدم في الظروف العادية من قبل ساكني الدار. فالخوخة تعني المخترق بين شيئين سواء بين دارين او بين طريقين كما تطلق على كوة تدخل الضوء الى البيت وتدلّ في العمارة على باب صغير في الباب الكبير للمبنى للاستعمال اليومي دون حاجة الى فتح الباب الكبير كما انها تدل على الفتحة في الجدار او السور لتسهيل دخول وخروج الناس وهي لا تتسع الا لمرور شخص واحد والتنوع في المسمى محلي مع بقاء مصطلح (خوخة) كدلالة عامة على الباب الصغير الموجود في الباب الرئيس للمسكن. ولعلّ كبر حجم الباب قد جعل لدخول الدابة والعربة والأدوات الفلاحية على اعتبار أن أغلب السكان يمتهنون الفلاحة.

تحتوي أغلبية الأبواب على ثلاثة مقارع، ولكل منها صوت معين، تمكن أهالي البيت من معرفة الزائر: امرأة، رجل أو طفل. مقارع الباب مرتبة بطريقة معينة: مطرقة الرجل على اليمين، والمرأة على اليسار، والطفل على اليمين (ولكن أقل بكثير من غيرها). وإذا كان الباب الكبير المغلق مع الجدران العالية الصمّاء والسقيفة المظلمة الخالية توحي جميعها بالانـــغـــلاق ورفض الفضوليين والغرباء، فإنّ وسط الدّار ينطوي على معنى مقابل حيث تتدفّق فيه الحركة متجاوزة التقطيع الهندسي الوظيفي للفضاء.

لعلّ ما يميّز الباب «الدّقداقة»22 التي تُعلّق في الجانب أو الجانبين على مستويين مختلفين ولها أشكال متعدّدة ولكلّ منها ميزة خاصة. وبصرف النظر على الاختلافات التقنية في هندسة الأبواب التقليدية والتي ترتبط في جانب منها بالصفة التراتبية للسكن من حيث دلالته على الوضع الطبقي لساكنيه، فإنه يلاحظ الحرص على إبراز الباب ووسمه بما يجعله علامة المنزل وصورته.

فهو عادة ما يكون في إطار سواء اتخذ هيئات انشائية وزخرفية بسيطة أو معقدة، وبفضل عناصره المادية والوظيفية والرمزية يتحول الباب إلى نظام دلالي بصري وفضائي ليتجاوز فيه أنماطا مختلفة من التعبير كالرسم والحفر والكتابة مما يجعله يتمتع ببلاغة خاصة ترفعه إلى مستوى النص بالمعنى السيميولوجي للعمارة23.

عموما تكون أبواب البيوت التي تفتح على الشارع محاطة برقابة مكثفة مصدرها تعدد الحواجز مثل العتبة والسّدّة والسقيفة. فالبيت في تصميمه مغلق على الخارج، مفتوح على الداخل.

يحضر الباب بعناصره الإنشائية والزخرفية بوصفه الجزء الأكثر كثافة في التعبير عن السكن تعيينا وترميزا وتشكيلا، وإذا كان حضوره هندسيا لا يكتمل إلاّ في أواخر مراحل عملية البناء، فإنّ تمثّله يبدو واضحا منذ البداية لا سيما عبر التعامل مع موضع العتبة بكثير من مظاهر الخشية والانفعال، فيتمّ تخصيصه دون غيره من الأجزاء والوحدات المعمارية بطقوس عدّة تختلف العناصر المستخدمة فيها، إلاّ أنّــها تتجانس في تمثّل ضرب من العلاقة الحتميّة القدرية بين ما يعتقد أنّه «طبيعة العتبة» ومستقبل المسكن وساكنيه24. وما الانفعال الخاصّ في التعامل مع العتبة والفتحة المعروفة «بـالخوخة»، واللجوء إلى تعليق بعض الرموز المادية كالقرون والخمسة و«الحوته» إلاّ إحالات على نظام دلالي بصريّ وفضائيّ قد أحكم المجتمع شحنه. ولعلّه وبفضل عناصره المادية الوظيفية والرمزية يتحوّل الباب إلى نظام دلالي بصري وفضائي فيه أنماط مختلفة من التعبير كالرسم والحفر والكتابة.

نقوش وعلامات... بصمات الذاكرة:

1) حوته وخمسة وقرن غزالة:

تعدّ النقوش الرّمزية المختلفة التي ميّزت جلّ أشكال الزينة المستعملة على واجهات مداخل أفضية الحوش الواحي التقليدي (الواجهة الأمامية للمدخل ومداخل الغرف والأبواب) مثل اليد، الخمسة، الهلال والنجمة الخماسية26 والحوتة التي تشير إلى أن المكان مفتوح ثقافيا وغير مغلق على نفسه. ومن جهة أخرى يراد من ذلك طلب البركة وطرد العين والحسد. والسمكة بما معناها التجدّد والخير والعيش الرغيد. «إذا كانت السمكة في زوجين فهي ترمز للحياة والاقتران والخصب والألفة»27.

يتمثل هذا التشكيل الشعبي في صورة لسمكتين متقابلتين، وإذا ما ارتبطت السمكة (الحوتة) في المخيال والاعتقاد الشعبي بالخصوبة فان وجودها في هذا الموقع من الباب الرئيسي للمسكن لا يمكن الا أن يمثل أمنيات أصحابه بالبنين والبنات «والعمار والثمار».

وبصرف النّظر عن الاختلافات التقنية في هندسة الأبواب التقليدية والّتي ترتبط في جانب منها بالصفة التراتبية للسكن من حيث دلالته على الوضع الطبقي لساكنيه، فانّه يلاحظ حرص على إبراز الباب ووسمه بما يجعله علامة المنزل وصورته، فهو عادة ما يكون في إطار سواء اتّخذ هيئات إنشائية وزخرفية فاخرة، كالأفريز، أو بسيطة (شريط لوني محيط بالباب).

لم تكن السمكة الرمز الوحيد المعتمد لطرد العين الحاسدة على مداخل المساكن التقليدية، ففي توزر مثلا يستدعى قدر أسود من الطين المشوي لا يحمل عروتين كان يوضع في واجهة البيوت للتطيّر والتصدّي للعين الحسودة يسمّى «البُونِي». كذلك في الدويرات (تطاوين) وجدت بعض النقائش على نحو النجمة (النجمة الخماسية) والهلال على مدخل الحوش.

ولغاية المحافظة على بناء المجتمع التقليدي، تنشأ عدد من الرموز من الطوطم والتابو (هما معتقدان سحريان) مؤداها قانون التبجيل والتحريم. وكلّ «عشيرة» ويقابلها طوطم يكون محط تحريم وتقديس ومعتقد سحري، وتكون التمثلات الرمزية كفيلة بطرد الأرواح الشريرة ومصدر إسعاده وتحقيق رغباته مثلا. وذلك لظنّه أنه يسنده قدرة خارقة. ونشاهد في تمزرط بعض الرّموز القديمة المتعلّقة بالسّكن، أشكالا رسمت ونقشت على الأبواب والجدران لحماية المسكن وتحصينه.

رسم الناس كثيرا على أبواب منازلهم يدا مبسوطة الأصابع، وعلّقوا على صدور ابنائهم تعاويذ على شكل كفّ من عاج أو معدن ثمين، درءا للشرّ وإصابة العين. وقد كان رمز الكفّ ضدّ شرّ العين وقد عرف تحت أسماء متعدّدة: «يد الرّبّ» و«يد الإله بعل» في المسلات الفينيقية والقرطاجية. و«يد مريم» في الشمال الافريقي وبلاد المغرب، وعرف بـ «كف عائشة» أيضا28. والخُمسة نسبة لعدد أصابع اليد الخمسة، إذ يقال «خمسة وخميسة في عين العدو» أو «خمسة وخميسة في عين الحسود» أي اليد والأصابع مرفوعة في وجه الأشرار.

على اختلاف أشكالها، تمثّل الرموز المعلّمة طابعا فنيا متجانسا مع مكوّنات الزخرفة الحفرية (الغائرة والناتئة) والزخرفة المركبة بهذه الوحدات السكنيّة التي يطغى عليها الطابع العقدي. فكلّ هذه الرموز التي تزيّن الباب وإطاره تعكس قيما ثابتة بالمجتمع الواحي بالجنوب التونسي، فيتحوّل الباب إلى قيمة في حدّ ذاته لا يدلّ على هوية متساكنيه فقط بل يعكس هوية مجتمع بما يحمله من معتقدات متوارثة.

رغبة الإنسان في حماية نفسه من قوى الشر غير المعروفة، أو خلق حظ حسن لنفسه، قادته إلى ابتداع الخرافات الجالبة للحظ الجيد وأخرى للحظ السيئ. حدوة الحصان يعتبر واحداً من الطقوس الواسعة الانتشار، ويتصور من يضع حدوة حصان أعلى باب بيته، بقدرتها العجيبة على حماية أهل البيت من الحسد، فهو يهدف أساساً إلى جذب اهتمام الناظر قبل دخوله الدار إذا كان حسوداً، وبهذا يذهب حسده إلى الحدوة دون أن يستطيع التأثير على ساكني الدار.

لعلّ العلاقة العميقة التي تجمع متساكني قرى/مدن الواحة بالرمز هي التي تهبه القدرة على البقاء. فمحاولات التعديل والتطوير التي تمرّ بها الرّموز كانت إحياءً مستمرا لها. وهذا ما من شأنه أن يحدث نوعا من التوافق والمعايشة المستمرّة للرمز. فالعناصر الخشبية المكمّلة لمباني الواحة فلا أثر للزخارف على الخشب المحلّي وذلك لاستحالة النقش على هذه المادة الخام وبالتالي انحصرت الرموز في فترة أولى على الجدران أين كانت تطبق على الطين ثم ظهرت شيئا فشيئا الزخارف البسيطة على الأبواب وأطرها.

يُعدّ عنصر الباب أكثر الوحدات المعمارية المشحون دلالات رمزية، ففي المخيال الشعبي مثلا «فإنّ الملائكة تسكن بالباب فلا يمكن تجاوز العتبة إلا بعد أن تقول بِسْمِ الله الرّحْمَانِ الرّحيمِ، فكأن الملائكة تحرس هذا العالم الداخلي الخاص من عالم خارجي مليء بالشرّ والحسد»29، وغيرها من المعتقدات والتصوّرات التي تعطي لهذا العنصر المعماري قيمته وتجعله مجال تفنّن ومركز اهتمام خاص من قبل المجتمعات المحلّية.

2 ) شطحات المخيال الشعبي:

أ - الصور:

تجسّد مظاهر من الحياة اليومية المألوفة مثل أدوات الزراعة الرّحى التقليدية والمنجل والمعول والمذراة كما تجسّد بعض المنتجات الحرفية كالحليّ والقلادة والخاتم والخلال المستعمل لشدّ أطراف مئزر المرأة المعروف بالملاءة «الملية» والسكين والخنجر، ومن عناصرها أيضا الألعاب الشعبية لا سيما لعبة «الخربقة» والنباتات مثل النخل والحيوانات مثيلة الثعبان30 والسلحفاة كذلك، أعضاء الجسم من ذلك العين واليد.

النخلة: نقش رسمة النخلة يعطي نفس المعنى في كل الحالات حيث لا يوجد اختلاف في تأويل المعنى سواء كان على الجلد مثل الوشم أو نقش زخرفي على الصخر أو الطين أو رقش على النسيج أو القماش.وفي كل الحالات السابقة رسم النخلة33 في التصوّر الشعبي رمز قديم يدلّ على الانتاج والوفرة، يعترضنا جذع وبعض الورقات (تجريدي). إنه اختصار لمعان قديمة، ومعتقدات شعبية تدلّ على أن هذا الرّمز يعني الازدهار والخصب. يعتبر رسم النخلة تعويذة وفألا حسنا للشخص الذي يحمله، وذلك بأن يطيل في عمره ليصبح مثل عمر النخلة، كما أن النخلة تعتبر من الأشجار التي تبذل ثمارها الكثيرة بأقل تكلفة فهي لا تحتاج إلى ري أو رعاية خاصة. وهناك اعتقاد بأن النخلة أطول الأشجار التي تنبت في المنطقة عمرا ومن يرسمها على جسمه أو ملابسه فسيكون عنده صبر طويل واحتمال عجيب لكل الظروف وعمره يكون طويلا وله إنتاج من الذرية كثير. وأجدادنا القدماء قدسوا النخلة لأنها ساعدتهم على الصمود في وجه الطبيعة القاسية في تلك الأيام التي كان فيها تفكير الأنسان محدودا والطبيعة تهدده باستمرار فكانت النخلة هي الأم التي لم تبخل عن أبنائها بشيء فكل مقتنياتهم كانت في بداية حياتهم منها إضافة إلى أنها مصدر للغذاء الذي لا ينقطع ولا يحتاج إلى تعــب في الحصول عليه.

الرّمان: يستخدم رمز (حب الرمان) بكثرة في النسيج ويطلق عليها اسم الحجاب، ويرجع ذلك إلى ثمار الرمان التي يرجّح إلى أنها ترمز لسيدة الخصب تانيت.

السلحفاة: ترمز للكسل والبطء.

السمكة: «يعدّ الحوت في أبعاده الرمزية رمزا للبركة والتكاثر، يعني الحياة والخصب نظرا لقدرة السمكة (الحوتة) الفائقة على البيض. وفي مخيالنا الشعبي فإن الأسماك تتواجد ذكورا وإناثا، وهذا ما يعني أنهما يرمزان للاقتران والألفة والتكاثر والتزواج»34. فالسمكة رمز التكاثر، رمز قديم يعني التجدد والخير والعيش الرغيد وترمز لسعة الرزق وجلب الحظ والخصوبة. والسمكة رمز للتجديد والأدلة في الميثولوجيا قاطعة، ففي الأساطير العربية والحضارات السامية وفي المعتقدات الدينية السماوية، غالباً ما يدل هذا المخلوق على الانبعاث. والسمكة في موروثنا الشعبي طاردة للأعين الحاسدة، ويعتقد أن برسمها على واجهة الدار حمايته من أعين الحاسدين.

ب - الأشكال الهندسية والزخرفية:

تمثل السجلّ الطاغي على هذه الرسوم حيث تتكون من عناصر المثلث والمعينات والمربع وخطوط منحنية ومنكسرة ونقاط متعامدة أو متقاطعة ونجوم خماسية أو سداسية ذات خطوط مستقيمة. وقد رسمت الأشكال الهندسية (المثلث والمربع والدائرة) متداخلة ومتفرّعة للتعبير عن دلالات رمزية نجدها بكثرة في الوشم والسجاد والحصير.

ويتجلّى الرمز نقشا وحفرا ونحتا ورسما، أشكالا هندسية، نقطا، خطوطا منكسرة أو مستقيمة أو متعرجة، هيئات هندسية تجريدية. نزعة زخرفية تنحو إلى التجريد. تختلف التقنيات والأساليب بتنوّع المحامل. وينتج الأثر وليد ذاتية صانعة، والعناصر المادية المكوّنة له. ففي سكن الغار مثلا يُطوّر النحت بأسلوب التشكيل تقنية ونتاجا. وهو عكس النحت بالحفر. يعتمد الحذف والاضافة، لخامات متنوعة مأخوذة من محيطه الخاص، فهذا الاسلوب قوامه اختلاف الوسائط وتنوعها، وتداخل التقنيات؛ حفر، نقش، رسم، صباغة في تشكيل ذات الشيء. هو معيار جمالي قوامه أن التشكيل أهم من الشكل. وهذا وفق رؤية تأخذ بعين الاعتبار ما أوجده ذلك الزمن من أدوات، (الفؤوس والمعاول والمناجل والفخاخ وغيرها)، زاخرة بالنقوش والرموز. وقد امتلكت قيما جمالية، وعبرت على حسّ صانعها الفنّي.

وفي ترتيب المنازل وتزيينها، فقد كان البربر «يعتبرون الفنّ ظاهرة اعتيادية للحياة لا متعة للنخبة. وكانوا لا يزخرفون إلاّ الأثاث المستعمل. والمرأة فنانة أكثر من الرجل في غالب الأحيان فهي التي تزخرف آنية الخزف أو تنسج الزرابي. ولا يستمدّ الفنّ البربري نماذجه من الطبيعة، بل يتعلّق بالزيتة ذات الأشكال الهندسية ولا يستعمل الخطوط المنحنية إلا نادرا وبدون براعة «وهذا الفن» الهندسي الرتيب في الظاهر والذي ربما يحمل في طياته ما يعبّر عن مختلف مراحل تطوّر يرجع إلى عصور قديمة جدا. وهو يتّصف بحيوية. وبقيت الفنون كالأدوات لم تتغير. ولعلّ النساء هن اللاتي حافظن على تقاليد الفن المنزلي العريقة التي لم تأت عليها الاضطرابات والغزوات»36.

هناك أشكال طبيعية تتحوّل إلى أشكال مجرّدة، ويزداد تجريدها إلى الحدّ الذي يتعذر معه على المرء أن يدرك أصل تلك الرموز. فرمز العين الواقية مثلا اتخذ شكل الخطوط المنكسرة واستخدم في النسيج والمصاغ والمشغولات الخشبية. واتخذ شكل المربّعين المتقاطعين، وشكل المثلث أحيانا.

توحي الخطوط الرأسية بالثبات، وباتجاه من أعلى إلى أسفل، وسبب ذلك أن العين تتبع اتجاه الثقل في قراءة الخط حيث تبذل مجهوداً أقل من ذلك المجهود اللازم لقراءة خط بحركة صاعدة وبنفس الطول. إن ظاهرة الجاذبية الأرضية هي إذن -بالنسبة لإحساسنا-الحركة الطبيعية، وكل حركة مضادة تتطلب مجهودا أكبر حتى تتحقق، فصعود مستوى مائل أكثر مشقة من نزوله.

رموز ورسوم وزخارف تتناقلها الأجيال عبر الذاكرة الجماعية. هذه الذاكرة هي حافظة التراث وقد وصفها بول روبرت «بأنها الملكة التي تجمع وتحفظ المدركات الماضية وما يرتبط بها. وهي في الواقع الفكر الذي يخزن ذاكرة الماضي»37. فالرمز هو الاشارة الصادقة التي توضح تاريخية التراث الشعبي ومعانيه. لنستنتج من عرضنا لعدد من الرموز المتناقلة -على اختلاف محاملها-أن المجتمع هو الذي يحدّد قيمة الرّمز وهو الذي يضفي على الأشياء الماديّة معنى معينا فتصبح رموزا.

ج - الرّموز اللّونية:

يعدّ اللّون من أهم الخصائص التي تلعب دورا هاما في الادراك البصري لما يصاحبها من مؤثرات مختلفة. فاللّون وكما يشير Porter «يستخدم باستخدامين الأول الرمزي ويقول نحن نرى اللون أولا ليعطينا انطباعا عن الشكل، أو تعبيرا عنه. والثاني يتعلق بالتكامل الجيّد لبناء الشكل»38. فيمكن للون أن يتحرك على هيئة تعبير رمزي لمختلف الأغراض الحياتية أو الفنية المرتبطة بعواطف الانسان من حب وكراهية وطموح وأمل وغيرها من النوازع الغريزية والعقلية.

يتضمن الرمز المعنى وليس فقط الشارة، والمعنى يمكن قراءته متى كان مفهوماً. ففكرة الاتصال متوفرة في مدلول المعنى. هذا ما يفسر ارتباط وجود الإنسان ارتباطاً وثيقاً بالرمز والرمزية. المبنى بغلافه الخارجي وفراغاته الداخلية وسيلة مهمة لإشباع حاجة الإنسان في التواصل مع الغير ونقل المعلومات. فمُنظّر الفضاء السكني يعلق أهمية كبرى على فكرة الرمزية، وهو باستمرار يستخدم رموزاً مختلفة ومفردات معمارية مميزة.

يعدّ الشكل الهندسي العام للمبنى أو المخطط وتشكيل الفراغات ودرجة البساطة أو التعقيد وكتلة المبنى ونوعية المواد المستخدمة والألوان عناصر معمارية غنية بالرموز. مفردات معمارية كالأعمدة، الحوائط، الأقبية والقباب، الزخارف والفتحات، النقوش المختلفة والمنتشرة في أركان المسكن لإثراء المدلول الرمزي.

الخاتمة

لضمان عمارة ذات مضامين رمزية معبرة، هناك حاجة للسّعي في اتجاه اقتراح تصاميم معبرة عن البيئة، ذات هوية مميزة ومستخدمة لمفردات معمارية مقروءة. يمكن تحقيق ذلك من خلال النظر إلى العمل المعماري وارتباطه بالمحيط.

من الصعب رؤية العمارة كانعكاس لفكر فردي في الوقت الذي تشير فيه كل الدلائل على أن العمارة هي نتاج اجتماعي جماعي. يمكن رؤية ذلك في ثراء القيم المعمارية للمدن المحلية. عمارة الواحة شكّلت مثالاً صادقاً عن غنى العمارة كنتاج حضاري جماعي. النظرة لهذا الإرث تتخطى الحنين إلى الماضي والتباكي عليه، إلى التمعن فيه برؤى واقعية. لكن ما يمكن تحقيقه هو العمل على تقليص الفجوة التي عزلت الكثير من المصممين عن البيئة الموجودين بها، من خلال النظر في الماضي.

بهذا فالوجه المعماري للسكن لا يمثّل سوى الجزء الظاهر من ممارسة السكن في أبعادها المادية والوظيفية والرمزية منظورا إليها كوحدة تخضع، حتّى في أشدّ عناصرها بساطة وبداهة، إلى نظام رمزي يعطي لها معنى، لذا «فالسلوك نفسه رمز»39 ما دام ينطوي على حدّ أدنى من التمثّل الصامت، والسكن في سياق المجتمع التقليدي هو حقل من السلوكات الرمزية التي تنشأ وتتوالد في بناء متنام متواز مع بناء المنزل منذ لحظة التأسيس.

الهوامش

1 - رولان بارث فيلسوف فرنسي ناقد أدبي وسيميولوجي ومنظر اجتماعي ولد نوفمبر 1915 وتوفي في مارس 1980.

2 - "سيميولوجيا الفضاء ودلالة التمثلات المعمارية: دراسة تحليلية سيميولوجية لحي العربي بن مهيدي –قسنطينة-"، آمال برواق، مذكرة لنيل شهادة الماجستير تخصّص سيميولوجيا الاتصال، السنج الجامعية 2011-2012، الصفحة 7.

3 - عبد القادر فهيم الشيباني، معاليم السيميائيات العامة أسسها ومفاهيمها، الجزائر، الطبعة الأولى، 2008، الصفحة 129.

4. "سيميولوجيا الفضاء ودلالة التمثلات المعمارية: دراسة تحليلية سيميولوجية لحي العربي بن مهيدي –قسنطينة-"، آمال برواق، مذكرة لنيل شهادة الماجستير تخصّص سيميولوجيا الاتصال، السنج الجامعية 2011-2012، الصفحة 8.

5 - كان رولان بارت يقول ان على "من يريد دراسة المدينة سيميولوجيا، ان يكون، في ذات الوقت، مختصا بعلم العلامات وجغرافيا ومؤرخا حضريا ومهندسا معماريا وربما محللا نفسيا ايضا" رولان بارت، المغامرة السيميولوجية، الصفحة. 261

6 - عماد صولة، سيرورة الرّمز من العتبة إلى وسط الدار: قراءة انثروبولوجية في السكن التقليدي التونسي"، وهران، انسانيات، المجلة الجزائرية في الانثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية، عدد 28، 2005، الصفحة 11.

7 - "سيميولوجيا المدن أو المدينة بوصفها نصا"، قراءة أولية في الجزء الأخير من "الكتابة: انقاذ اللغة من الغرق"، د. حسن سرحان، جريدة الصباح، 12/2/2014.

8 - الطوطم: "هو أي كيان يمثل دور الرمز للقبيلة، وأحيانا يقدس باعتباره المؤسس أو الحامي".

9 - التابو: "ج. تابوهات: كلمة بولينيزية تطلق على (المحظور في نظر المجتمع)، أي ما تعتبره أعراف المجتمع (أو السياسة أو جهة أخرى) من المحرمات (وليس حتما وفق الشريعة التي يدين بها ذاك المجتمع) وإن كانت في بعض الأحيان تقرن لدى البعض بمفهوم "الحلال" و"الحرام". فالتابو أي خط أحمر لا يقبل المجتمع تجاوزه بغض النظر عن مدى كون (التابو) مبررا أو حتى متناسقا مع القوانين والشرائع".

10 - القرى الامازيغية بالجبال في الجنوب الشرقي التونسي: دويرات / شنني / حاف جرجر /قرماسه /بير تلاتين/ ايخف ام سوف....

11 - عماد صولة، "العلامات والرموز في القرى الجبلية بالجنوب التونسي"، الثقافة الشّعبيّةCULTURE POPULAIRE ، فصليّة علميّة متخصصة، العدد 27، المنظمة الدولية للفن الشعبي، الصفحة 161.

12 - مصدر سابق، الصفحة 161.

13 - طلال المسعدي، المعمار التقليدي بجهة مطماطة دراسة المنزل الحفري من خلال الذاكرة الشعبية، أطروحة الماجستير في علوم التراث، 2009، الصفحة 20.

14 - "العلامات والرموز في القرى الجبلية بالجنوب التونسي"، الثقافة الشّعبيّةCULTURE POPULAIRE، عماد صولة، فصليّة علميّة متخصصة، العدد 27، المنظمة الدولية للفن الشعبي، الصفحة 162.

15 - "التيفانغ" هو الخط الأمازيغي الأصيل. هناك من يسمي التيفانغ "بالتنفيناق" حيث كان يعتقد لوقت قريب أنها كتابة فينيقية ظهرت في القرن الثاني قبل الميلاد ولكن مصطلح "تيفيناغ" يعني بالأمازيغية "اختراعنا" أو "ابتكارنا".

http://zaiocity.net حرف-تيفيناغ-الأمازيغي-وجذوره-التاريخ

16 - Louis (André), étrange cité berbère du sud tunisien, Douiret, Tunis, STD, 1975, page 47.

17 - Ibid.

18 - معنى العتبة لغة: كما في المعاجم العربية: "ان جمع عَتَبَة، وهي أسكفة الباب، والاسكفة: هي خشبة الباب التي يوطأ عليها بالقدم السفلى أو العليا، وإنما سميت بذلك لارتفاعها عن المكان المطمئن السهل، لذا فهي تطلق على مراقي الدرجة، وما يكون في الجبل من مراقي يصعد عليها. معجم مقاييس اللغة: احمد ابن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، الدار الإسلامية بيروت، ج4: مادة (عتب).

* "عَتَبَةٌ: جمع: ـات. [ع ت ب]. - جَلَسَ بِعَتَبَةِ الْبَابِ: -خَشَبَةُ الْبَابِ الَّتِي يُوطَأُ عَلَيْهَا قَبْلَ اجْتِيَازِهِ. - لِلْبَابِ عَتَبَتَانِ: العَتَبَةُ السُّفْلَى وَالعَتَبَةُ العُلْيَا". المعجم: الغني

* " 1- عتبة: خشبة الباب، أو بلاطته، التي يوطأ عليها. 2 -عتبة: كل مرقاة من الدرج. 3 -عتبة من الأرض الغليظ " المعجم: الرائد.

* العتبة: جمع عَتَبَات وأَعْتاب وعَتَب: قطعة من الحجرِ أو الخشبِ أو المعدنِ تكون تحت الباب. المعجم: اللغة العربية المعاصر.

* العَتَبَةُ: خشبَةُ الباب التي يُوطَأُ عليها. والعَتَبَةُ كلُّ مِرْقَاةٍ. والجمع: عَتَبٌ. المعجم الوسيط

19 - لمزيد التعمّق في دلالاث العتبة: العودة إلى مقال لعماد صولة تحت عنوان؛ سيرورة الرمز من العتبة إلى وسط الدار: قراءة أنثروبولوجية في السكن التقليدي التونسي بمجلة إنسانيات Insaniyat، ماي 2005. يعتبر مؤلف المقال "أن ثمّة متخيّل كامل للفضاء يجعل لكلّ عنصر من الموضوع المعماري وظيفة رمزية، بحيث يملأ الفضاء هندسيا عبر البناء، كما يبنى أنثروبولوجيا عبر استيعابه ضمن بنى المتخيّل وشروط الممارسة الطقوسية في المعيش اليومي على حد ّسواء. ولا تتعلّق العملية بمجرّد إضافة عناصر ثقافية للمعطى المعماري ترتبط أساسا بظروف استخدامه دون أن تنال من جوهره، فالأولى القول إنّها سيرورة واحدة لا تستند إلى التعاقب الزّمني بقدر ما تقوم على ضرب من التوافق والاندماج كما يبدو واضحا في التزاوج والتوازي بين مختلف مراحل بناء السكن والطقوس المتّصلة بها".

20 - نسبة لأهالي المطوية.

21 - رواية لمسعودة بنت ضو بنت محمد بو فايد (خالتي الصّوفية)، أصيلة مدينة المطوية، عمرها 80 سنة.

22 - الدّقداقة: أداة لطّرق على الباب.

23 - "سيميولوجيا الفضاء ودلالة التمثلات المعمارية: دراسة تحليلية سيميولوجية لحي العربي بن مهيدي –قسنطينة-"، آمال برواق، مذكرة لنيل شهادة الماجستير تخصّص سيميولوجيا الاتصال، السنج الجامعية 2011-2012، الصفحة 111.

24 - يقول نربرغ شلوز ان الباب -قد ينغلق او ينفتح- انه يمكن ان يوحد ويفصل من الناحية السيكولوجية يكون على الدوام مفتوحا ومغلقا بالوقت نفسه وان كان مظهرا واحدا هو المهيمن مادام يمكن فتح الباب، ان الفتحة هي العنصر الذي يجعل المكان حيا لان اساس اية حياة هو التفاعل مع البيئة لكن الفتحة المفردة في انغلاق لا تعير الجهات الاصلية اعتبارا، نعود مرة اخرى للمسكن التقليدي وعلاقة الداخل - الخارج التي نعتقد انها كانت علاقة عميقة ومزدحمة بالأعراف الاجتماعية - الثقافية تتمثل هذه العلاقة في اعم صورها من كون المجتمع التقليدي مجتمعا جمعيا الامر الذي جعل المرأة ترتبط بالمسكن بينما الرجل هو دائم التعلق بالخارج، هذا التباين في دور الرجل والمرأة في البيئة العمرانية طور تركيبة من العلاقات تقنن ظاهرة الداخل - الخارج في المسكن الواحي التقليدي، فلو نظرنا لمدخل المسكن الذي يمثل الحد الفاصل بين الداخل والخارج سنجده يعكس كثيرا من المعاني الظاهرة والضمنية كما انه يؤثر تأثيرا كبيرا على التوزيع الفراغي للمسكن ويعكس المكانة الاجتماعية للأسرة من الناحية البصرية.

25 - الخُمسة هو نوع من "حماية" اليد أو "يد الله". ويرد بعض الباحثين أهمية الأصابع الخمس إلى كتب التوراة الخمسة لليهود، وأركان الإسلام الخمسة للسنة أو اهل الكساء الخمسة من ال البيت للشيعة. البديل هو أن مصطلح اليد الإسلامية فاطمة أو عين فاطمة، في اشارة الى فاطمة الزهراء، ابنة النبي محمد. صلى الله عليه وسلم اسم آخر يهودي وهو يد مريم، في اشارة الى مريم، أخت موسى وهارون.

26 - الهلال والنجمة رمزان اسلاميان، "كثيراً ما ظهرا في الصور الدينية، وهما يدلان على التفاؤل، فالمسلمون يتفاءلون بهلال اول الشهر، ويحددون اوقات اعيادهم على اساس هلال القمر، وتقويمهم الهجري مقسم على اساس السنة القمرية". أكرم قانصو، التصوير الشعبي العربي، عالم المعرفة، الصفحة 93.

27 - عبد الرحمان أيوب، رموز ودلالات بالبلاد التونسية، تونس 2003، الصفحة 50.

28 - أكرم قانصو، التصوير الشعبي العربي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب -الكويت، الصفحة 103.

29 - أسماء الناجح، الخشب واستعمالاته المعمارية: دراسة اثنوغرافية، ماجستير في علوم التراث اختصاص آار اسلامية، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس، 2011، الصفحة 143.

30 - "ومن الطوطميّة جاءت الأسطورة تقول أن قبيلة الناسمون البربرية القديمة التي كانت ضاربة بجهة قابس في العصر الفنيقي أن الحنش جدها. كما نجد لدى البربر معتقدات وطقوس خاصة بالحيوانات. هناك الجنيات النافعة تسكن بعض الحيوانات، مثل السلحفاة التي تسكنها جنية تنفع من عين السّوء". عثمان الكعّاك، التقاليد والعادات التونسية، الدار التونسية للنشر، تونس 1987، الصفحة 50. "والحيوانات الطوطمية هي حيوانات مقدّسة لأننا نعتقد فيها النفع والبركة أو نخشى شرّها، وفي الأصل كانت أجدادا لنا". نفس المصدر، الصفحة 127.

31 - في كتابه «قصة العادات والتقاليد وأصل الأشياء»، يقول الباحث الإنجليزي تشارلز باناتي إن حدوة الحصان أكثر تعويذات الحظ انتشاراً في العالم، إذ شاعت في كل زمان ومكان وحيثما وجد الحصان والإنسان. اخترع الإغريق حدوة الحصان في القرن الرابع وعدوها مثالاً للحظ الجيد، إلا أن الأساطير تعزو تلك العادة إلى القديس دونستان الذي أعطى للحدوة المعلقة فوق باب المنزل قوة خاصة لردع الشيطان. وأخذت شكل هلال القمر الذي اعتبره الإغريق رمزاً للخصب والحظ الجيد، بينما أخذ الرومان حدوة الحصان عن الإغريق عادين وظيفتها المزدوجة في حدي الأحصنة وردع الشيطان والأرواح الشريرة.

32 - شكل الدائرة على الأبواب المسمارية يرمز إلى الخصوبة. كما يرمز ذات الشكل إلى "القدسية" لأن الدائرة لها صلة بالكثير من الأشكال المقدسة كالشمس والقمر، فهي الشكل الذي يرسمه المسلمون في طوفانهم حول الكعبة في موسم الحج والشكل الذي يرسمونه في توجههم نحو الكعبة وقت الصلاة.

33 - لعلّ قيمة النخيل في الوسط الشعبي ليست نابعة من فراغ، إنما لها خلفية دينية وجذور تاريخية. ففي الاسلام مثلا ذكر النخيل عشرين مرة في القرآن الكريم (سورة البقرة/ الآية 266-سورة الأنعام-سورة ق- سورة الكهف- سورة الاسراء الآيات 90/91/92- سورة النحل- سورة المؤمنين الآيتين 18/19- سورة يس الآيات 33/34/35- سورة الشعراء الآيتين 146/148- سورة الرّعد الآية 4- سورة طه الآيتين 70/71- سورة القمر الآيات 18/19/20. ومعجزة مريم العذراء بعد أن استضلّت بنخلة، وكان جذعها يابسا فاخضرّت بقدرة الله واعطت ثمرا دون لقاح. هذه المعجزة القرآنية أعطت النخلة احتراما بالغا عند المسلمين والعرب. وأصبحت رمزا شائعا لما خصّها الله من تقدير. نضيف أنه رُوي عن الرسول الكريم محمد صلّى الله عليه وسلم أنه قال "أكرموا عماتكم النخل"، وقال القزويني "إنما سماها عماتنا لأنها خلقت من فضلة طينة آدم". حسن الباشا، المعتقدات الشعبية في التراث العربي، دار الجليل، الصفحة 335.

34 - أيوب عبد الرحمان، رموز ودلالات بالبلاد التونسية، وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، تونس، الصفحة 50.

35 - اسم لمقال نشر بصحيفة العرب في 2015/10/31، العدد: 10083، الصفحة 20.

36 - شارل اندري جوليان، تاريخ افريقيا الشمالية، تعريب محمد مزالي، البشير سلامة، الدار التونسية للنشر، تونس النشرة الرابعة، 1983، صفحة 77-78.

37 - Paul Robert, le robert, dictionnaire alphabétique et analogique de la langue française, Paris 1920, page 351.

38 - Porter Tom, l'œil de l'architecte, visualisation et représentation 1997, page 58.

39 - Sapir, Edward, Anthropologie, Traduit par Chr. Baudelot et P. Clinquart, Paris, Editions de Minuit, 1971, p. 52.

الصور

* الصور من الكاتب.

أعداد المجلة