فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
47

«اللاَّنص/ السيرة الشعبية» وتعالق المفاهيم في كتاب: «الكلام والخبر» لسعيد يقطين1

العدد 47 - أدب شعبي
«اللاَّنص/ السيرة الشعبية» وتعالق المفاهيم في كتاب: «الكلام والخبر» لسعيد يقطين1
كاتب من المغرب

قليلون هم الباحثون الذين يهتمون بقضايا الإبداع ضمن مشروع نقدي متكامل، فيصدرون عن رؤية واضحة، وخلفية فكرية تُمَكِّنُهم من وضع تصور متكامل لِما يبحثون فيه، فيضعون الَّلبِنات الأولى للمشروع، ويُوجِدون الأسس النظرية لتأطيره، ويختارون الإبداع الملائم ليكون موضوعا للدراسة.

وعلى الرغم من قِلَّتهم كما قلنا، لا يمكن للباحث في السرديات العربية إلا الانتباه إلى المشروع العلمي السردي الكبير للأستاذ سعيد يقطين، الذي دشنه بعدة مؤلفات، نذكر منها: انفتاح النص الروائي: النص والسياق (1989)، الرواية والتراث السردي: من أجل وعي جديد بالتراث (1992)، ذخيرة العجائب العربية: سيف بن ذي يزن (1994)، قال الراوي: البنيات الحكائية في السيرة الشعبية (1997)، تحليل الخطاب الروائي: الزمن، السرد، التبئير (1999)، الأدب والمؤسسة: نحو ممارسة أدبية جديدة (2000)، ولا يزال ممتدا إلى الآن من خلال مؤلفاته: قضايا الرواية العربية الجديدة: الوجود والحدود (2010)، النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية (2012)، السرديات والتحليل السردي: الشكل والدلالة (2012)، الفكر الأدبي العربي: البنيات والأنساق (2014)؛ وحيث إن اللاحق من الأعمال «يحيل على السابق دائما، لا يمكن لهذا المشروع أن يُقْرَأَ إلا متكاملا ومتعالقا مع بعضه البعض»2.

ويتبوأ كتاب «الكلام والخبر» مكانة متميزة في المشروع العلمي للباحث؛ إذ إنه يعد استمرارا لمشروع نقدي كبير دُشِّنَ في بداية التسعينات بقراءات متعددة للتراث الأدبي العربي؛ كما يعد تتويجا لهذه القراءات أيضا، وفاتحة لدراسات أخرى، وبداية طموح كبير لإعادة قراءة التراث برؤى جديدة اختمرت لديه بالتجربة وبالاطلاع على هذا التراث من جهة، وعلى ما أُنْجِزَ في غير الثقافة العربية من جهة أخرى. وهو طموح مشروع ما دام يصدر عن معرفة دقيقة بخبايا البحث العلمي، ويصدر عن أسئلة جوهرية تضع التراث موضع الـمُساءَلَة والاختبار بحس نقدي صارم لا يعرف المنافحة، ولا يروم خيار التقديس، حتى وإن مر الباحث عبر جيوب مَرِنَةٍ اقتضاها الاختيار المنهجي، وفرضها التباس الموضوع وطبيعته؛ فكان لزاما أن يسلك مَسْلكَيْ الصرامة والمرونة معا، ما دام المسعى هو إعادة بناء تصور جديد لمفاهيم اسْتُهْلِكَتْ بما يكفي، وما دام يحاور تصورات متراكمة قصد تصحيح ما اعتور منها، وتهذيب ما اختل فيها. وكل ذلك لأجل تقديم قراءة تجعل التراث، بمختلف مكوناته، ممتدا فينا دون أن يقف على عتبات الماضي، بل لأجل النظر إلى/ وفي ما أُهْمِلَ منه، وغُضَّ الطرف عنه، باعتبارٍ أو بآخر، أو بدونهما.

لقد أُنْجِز الكتاب في ضوء الاهتمام بالأعمال السردية عموما، لا سيما تلك المهمَّشة منها. وهو ما يُفْهَمُ بوضوح من التشديد المستمر للباحث على ضرورة الالتفات إلى أدب السِّيَرِ، لا سيما الشعبية منها، والعمل على إبراز خصوصيتها. وهو ما يحيلنا مباشرة على القضية النقدية الجوهرية في الكتاب، إنها قضية الأجناس الأدبية، التي يعود إليها الباحث من خلال هذا الكتاب، لا لتزكية ما تم تداوله بين الباحثين والنقاد، وإنما للتعديل في ذلك، بتوسيع دائرة هذه الأنواع، لتشمل كل الكتابات السردية التي تم إقصاؤها أو تهميشها، منطلقا من تصور واضح لهذه المسألة، سعيا إلى بناء نظرية شاملة للكلام العربي، وذلك بإقامة حوار بين المُنْجَز النقدي الغربي والتراث الإبداعي العربي.

فإلى أي حد مَيَّزَ سعيد يقطين بين المفاهيم؟ وبأي دليل أقام بعضها مقام البعض؟ وبماذا تَوَسَّل للانتقال من مفهوم إلى آخر عبر ما يجمع وما يميز بينها أيضا؟ وما حدود التعالق بين هذه المفاهيم؟

هذه الأسئلة وغيرها إحدى البواعث الرئيسية التي حركت رغبتنا في إنجاز هذا القراءة، التي سنتطرق فيها إلى تصور سعيد يقطين للسيرة الشعبية، وسننظر من خلالها إلى مفاهيم أساسية، هي: «التراث» و«النص»، و«الجنس الأدبي». مع الوقوف عند الوسائط التي تم الانتقال عبرها بين هذه المفاهيم، مثل: «الكلام» و«اللانص».

بناء الكتاب

حدد الباحث مشروع كتابه بوضوح تام، وبشكل صريح لا لَبْس فيهما، فهو يحاول إبراز خصوصية نص «السيرة الشعبية» ضمن النص العربي العام، وإظهار موقعه «النصي في نطاق ما يمكن استنتاجه من خلال الشروط النصية في التقليد العربي قديما وحديثا، وذلك بغية البحث عن نصية جديدة، ظلت مُقْصاةً ومُهْمَلَةً من دائرة البحث والاهتمام»3.

غير أن هذا المسعى الصريح لا يمكن إنجازه باليُسر نفسه الذي تُطْرَحُ به المشاريع عادة، وإنما يفرض الأمر على الباحث - في مواضيع من هذا النوع والحجم، وبهذه المواصفات - المرور عبر مقدمات تُسْعِفُ في تهييئ خيارات عدة لتدبير الدراسة، وتيسير البحث. لكن الأمر يصبح عسيرا حين تصير هذه المقدمات إشكالية حقيقية، ما دامت تنهض على مفاهيم ملتبسة، بدون الوقوف عليها لا يمكن التقدم إلى الأمام.

والأعسر من ذلك كله، حين تكون هذه المفاهيم هي: «التراث» و«النص» و«اللانص» و«الجنس» و«النوع» و«النمط»... فهذه مَنْظومات مفاهيمية قائمة الذات، ومواضيعُ بَحْثٍ أيضا، والعلاقة بينها غائمة ومُتداخلة. وتَبَيُّنُ ما يميز بينها ليس بالعمل الهيِّن والمتيسر. ولكل هذا كان لزاما على الباحث، من الناحية المنهجية، الوقوف على هذه المفاهيم قصد فحصها وتحديد موقعها، وتبيان حدود التفاعل، وحجم التمايز بينها.

إن أصحاب المشاريع العلمية الكبرى يتميزون بوضح الرؤية والمنهج؛ وهو ما ينعكس -بشكل كامل - على بناء كتبهم وطرحهم للقضايا التي يتناولونها. إنهم أصحاب نسق فكري ومنهجي لا يجد الباحث صعوبة في إدراكه.

وككل كتب الأستاذ يقطين، كان كتاب «الكلام والخبر» مبنيا بشكل واضح، يتدرج في طرح قضاياه من الأعم إلى العام، إلى الخاص فالأخص، بما يشبه القراءة الاستقرائية للقضايا المطروحة؛ وهكذا، فقد بنى كتابه على تأطير وأربعة فصول كبيرة، بَيْنَها ترابط شديد، حتى وإن تفاوتت القضايا المدروسة بحسب طبيعتها (عام/ خاص)؛ أي السرديات بشكل عام، فالسيرة الشعبية باعتبارها نصا جزئيا من منظومة السرد عموما.

السرديات والسرد العربي

خصص الأستاذ يقطين فصله الأول لمعالجة مسألة السرديات، مُرَكِّزا على تعريف السرد، الذي قال عنه: إنه «لا حدود له، يتسع ليشمل مختلف الخطابات، سواء كانت أدبية أو غير أدبية. يبدعه الإنسان أينما وُجِدَ، وحيثما كان»4. جاعلا ذلك تمهيدا لإدراج نص السيرة ضمنه، باعتبار فرضيتين كبيرتين، بِخَلْفِيَتَيْ السردي والثقافي، حددهما الأستاذ يقطين كما يلي5:

السيرة الشعبية خطاب سردي، ويعني بذلك أنها نوع من الأنواع السردية، التي خلَّفها العرب من خلال العديد من النصوص السردية.

إنها نص ثقافي قادر على استيعاب النصوص الأخرى، وامتصاصها وصهرها في خصوصياته، ممثِّلا لها بالرواية.

وهنا يشير يقطين إلى عنصر حاسم في الأدبيات جميعا - وإن بتفاوت - وهو التناص، الذي يُعْنَى برحلة المعاني الثقافية المشتركة6. وقد أشار إلى ذلك غير ما مَرَّةٍ، بل خصص له كتابا كاملا، هو «انفتاح النص الروائي: النسق والسياق».

وفي إطار تحديداته دائما، تناول الباحث، في هذا الفصل، مصطلح «السرديات»، مُكافِئا بينه وبين مصطلح «الشِّعْرِيات»، ضمن ما سماه: «البُوَيْطِيقا» كجنس أعلى؛ وقد رأى أن «السرديات» هي الاختصاص الجزئي، الذي يهتم بسردية «الخطاب السردي، ضمن علم كلي، هو البويطيقا، التي تعنى بأدبية الخطاب الأدبي بوجه عام»7.

ليختم هذا الفصل بالحديث عما سماه: «الملاءَمة العلمية والملاءَمة الاجتماعية» سَعْياً منه للربط بين طبيعة الموضوع (السيرة الشعبية، المنتمية للثقافة الشعبية العامة) والقراءة العالِمَة الممنهجة، التي تبنى على معرفة علمية بنسق محدد، يقوم على ضبط علاقة الذات بالموضوع، وفق إجراءات وأسئلة محددة، لنص «لا علمي» يتمثل في السيرة الشعبية وفق تصور تَبَنَّاه الأستاذ يقطين، لا يقوم على الإقصاء، بناء على موقف التطهير أو الجنس الخالص، وإنما على التكامل والتداخل.

السيرة الشعبية ومقولة الأجناس

لا يجد الباحث صعوبة كبيرة في تتبع عمل الأستاذ يقطين وفق ما حدده في مقدمة كتابه، فهو يسعى إلى إيجاد الموقع الملائِم لــ «نص السيرة الشعبية» ضمن الأنواع الأخرى «المعتَرف» بها. ولهذه الغاية خصص الفصل الأول من كتابه للحديث عن مجموعة من المفاهيم المتَداوَلَة بين الناس، كـ «التراث»، الذي اعتبره مفهوما ملتبِسا وشاملا؛ لأنه يمتد إلى المكتوب والمحكي، وإلى العمران والعادات والتقاليد8. مُعَرِّجا على مفهوم آخر أكثر التباسا هو «النص»، مُناقِشا إياه في علاقته بالزمان والنظرية والتفاعل. وكل ذلك للوصول إلى الهدف الْـمُعْلَن في مقدمة هذا الكتاب، ألا وهو «نص» أو «لا نص» السيرة الشعبية، الذي قَرَنَهُ بمفهوم أكبر هو «الكلام».

والملاحظ أن اهتمام الأستاذ يقطين بمفهوم «اللانص» كان كبيرا، وهو منسجم في ذلك مع نفسه؛ لأنه يسعى - بتدرجه من مفهوم إلى آخر - إلى استرجاع بعض المفاهيم التي تناولها -ومنها النص- بدلالات «متعددة ومتنوعة، تتنوع أو تتعدد بتعدد الاستعمالات في القديم والحديث، وتتنوع بتنوع المشتغلين به لغة واصطلاحا»9، قصد إعطاء «السيرة الشعبية» المكانة المتميزة، التي هي جديرة بها بين الأنواع الأدبية.

وما يؤكد هذا الفهم، هو أنه الأستاذ يقطين خصص الفصل الثاني بأكمله لمناقشة مفهوم «السيرة الشعبية»، مناقشة مستفيضة: تعريفا وماهية، سواء في دراسات العرب، أم لدى المستشرقين، على اعتباره السبق التاريخي للغرب على العرب في الاهتمام بأدب السِّيَر عموما10.

ويبدو - من خلال فاتحة الفصل الثالث المعنون بــ: «تساؤلات حول الكلام العربي» - أن الأستاذ يقطين نَسَفَ مبدأ الخَطِّيَّة، الذي سلكه في معالجة قضاياه؛ إذ عاد من جديد إلى المفاهيم الكبرى المحيطة بمفهوم «الكلام». ومع التدرج في تتبع معالجة الأستاذ يقطين لها، سيتضح أن الحديث فيها ما هو إلا مَداخل عامة حول الكلام، لبسط الرأي في تلويناته، لا سيما تلك الْمُهْمَلة، التي اعتنى بها اعتناء شديدا من خلال حديثه عن «النادرة» و«اللَّطيفة» و«النكتة» وغيرها .

وبتخصيص أكبر، جاء الفصل الرابع ليناقش مسألة الجنس والنص في الكلام العربي، خاصة مفاهيم «الجنسية»، و«السردية»، و«النصية»، وفق مبادئ ومقولات وتجليات سنتعرف عليها، وعلى ما يحيط بها.

قلنا إن الكتاب معقود لأجل «السيرة الشعبية»، التي أُهْمِلَتْ أو هُمِّشَت من الدراسات العربية، كما أُهْمِل وهُمِّشَ غيرها من أشكال الإبداع، وهو الموضوع نفسه الذي تطرق إليه الأستاذ يقطين في كتابه «قال الراوي: البنيات الحكائية في السيرة الشعبية». قال الأستاذ عبد الفتاح الحجمري في ختام دراسةٍ له لكتابيْ: «الكلام والخبر»، و«قال الراوي» للأستاذ يقطين: «يظهر مما سلف، أن الإشكالية التي يبحثها سعيد يقطين في كتابَيْه: «الكلام والخبر»، و«قال الراوي» ترمي دراسةَ السيرة الشعبية العربية والسرد العربي، واستخلاص تصوّر نظري محدد يراعي تميّز السيرة في حقل الإنتاج العربي والإنساني»11.

والمطلع على الكتاب سيتأكد من أن الأستاذ يقطين أولى أهمية قصوى لمسألة التجنيس والتصنيف، وذلك واضح من خلال تَدَرُّجِه من مفهوم «التراث» إلى «النص» إلى «اللانص» إلى «الجنس والنوع والنمط». وهو ما سَنُفْرِدُ له نقاشا خاصا في هذا المقال.

وبالعودة إلى الكتاب يتضح أن الأستاذ يقطين مارس مجموعة من التأويلات التي تسمح له بالانتقال من مفهوم إلى آخر بما يخدم تصوره ومسعاه.

إن تبني الباحث لمفهوم «الكلام» باعتباره الجنس الأعلى والجامع كان هو المنطلق لبسط تصوراته، جاعلا إياه مدخلا لتصنيف الكلام العربي وفق ثلاثة إجراءات محددة، هي:

1. المبادئ، التي عرَّفها بقوله: «الكُلِّيات العامة المجردة والمتعالية على الزمان والمكان»12؛

2. والمقولات، التي تعني عنده: «مختلف التصورات والمفاهيم التي نستعملها لرصد الظواهر ووصفها»13، 

3. والتجليات، التي يقصد بها مجمل التحققات النصية، التي تجسد التصورات والأفكار، أو تربط «المجرد بالملموس»14.

تعالق المفاهيم

من مفهوم «التراث» إلى مفهوم «الجنس الأدبي»

1)«التراث» بين «النص والكلام»:

- مفهوم التراث:

لا يُشْكِلُ على المُطَّلِعِ تَبَيُّنَ طبيعة التصورات المُنْجَزَة حول «التراث» مفهوما ومَتْنا؛ إذ يمكن، بِيُسْر، تصنيفها إلى اتجاهين؛ يقف الأول منه موقف الْـمُعْجَبِ الْـمُنْبَهِرِ الْمُنقاد إلى التقديس المجاني دون رَوِيَّةٍ أو تَبَصُّرٍ؛ ويقف الثاني منه موقف الْمُنْكِرِ لإشْراقه، الذي يذهب مذهب التعسف حين يحاول سلب هذا «التراث» كل الصفحات النَّضِيرة، ويسعى خلف تكريس القطيعة معه، وهو في الواقع إنما يسبح، بهذا التفكير، في فلك الوهم؛ لأن التسليم بفكرة القطيعة مستحيل، والركون إلى الإلغاء هروب إلى الأمام دون جدوى.

والأكيد أن الموقفَيْن - إضافة إلى تناقضهما وسلبيتهما - سَهْلا التبني؛ لأنهما يُعْفِيان من معاناة الموضوع ومناقشة جوانبه المتشعبة. وهما معا مَدخولان لا يصمدان أمام الانزياح الكوني للثقافة/ عولمة الثقافة. أو بأخف تعبير، التوجه نحو الكُلِّيات التي لا تُلْغي أيَّ تراث، بل تقوم على مكوناته، وتستأنس بمنجزاته قصد تشكيل قاعدتها.

فبأي آليات نصنع لتراثنا موقعه ضمن هذه الرغبة، ونُهَيِّئُ له أسباب الصمود أمام الاجتياح الثقافي العالمي، إذا لم يكن مَسْنُوداً بقراءة مُسْتَوْعِبةٍ تُشْرِفُ بنا وبه على حداثة نتطلع إليها؛ حداثةٍ نابعة من صميم حياتنا، معبرةٍ عن مقومات شخصيتنا؟15؛ حداثةٍ بعيدة عن العَطب، شديدةِ النُّزوع إلى إنتاج ثقافي ذي هُوية عربية صِرْفٍ، بمقومات كونية. فالعبور بين ضِفَّتَيْ «التراث» و»الحداثة» يستلزم، بكل تأكيد، تَشْيِيدَ جِسْرٍ، مُؤَادُّه النظر الدقيق، وتحديد الأهداف. وإلا فـ «الحداثة» التي نخطب وُدَّها ستظل وهْما نلهث خلف تحقيقه ما دمنا غير مُحَصَّنِين بـ «تراث» معلوم ومدروس ومفهوم، وغير محاورِين الآخر من موقع الوعي بالخصوصية، والوعي بالتفاعل معه كذلك في حدود معلومة.

ووعيا منه بهذا النُّكُوص في فهم «التراث»، وبالحاجة إلى مفهوم حضاري يحفظ له مكانته، ويدفع به في اتجاه الاستمرارية والامتداد، وقف الأستاذ يقطين طويلا ليستقري كل ما يحيط به، ويستنطق كل ما ساهم في فهمه فهما مُتَرَهِّلا لا يصمد أمام الْمُقارعة بالحُجة.

وإحساسا منه بالتباس هذا المفهوم وشساعته أيضا، شبهه بألبوم الصور الذي يعود إليه الأفراد «بعد مرور زمن طويل، لو أُتِيح لكل فرد أن يرى كتاب الصور هذا، لكن لكل منهم تصور خاص، يُشَكِّلُه عن نفسه وعائلته، بناءً على ما انتهى إليه إدراكه وعلمه بالأمور في المرحلة التي يتفحص فيها هذا الكتاب»16.

وبذلك يتجاوز إشكالية التعريف الضيق، الذي قد يفتح الجدال ويعرقل السير العادي للدراسة؛ إنه تعريف يتيح له أن يتخطى القراءات التي «لم تأخذ بأسباب البحث العلمي، التي ننطلق منها في معالجة الجوانب التراثية التي اهتمت بها، كما أنها لا تُمَكِّنُنا من تجديد النظر إلى ماضينا بالصورة التي تجعلنا نتقدم في فهم الذات العربية وذِهْنيتها، بما يخدم تطلعات العربي وآفاقه المستقبلية»17.

ولأن «التراث» لا يسمح إلا باتخاذ المواقف، بتوجيه من إيديولوجيات معينة، وجب طرح بدائل/ مفاهيم أخرى تقوم مقام هذا «التراث»، وتكون أكثر تَخَفُّفاً من الشّحنات الأيديولوجية والذاتية التي تحيط به، فَتُسْعِفُ في تقدم الدراسة دون القفز على إشكاليات حقيقية، ودون إلغاء المقدمات وتزوير النتائج؛ أي: وجب أن تكون هذه البدائل مُعادِلا موضوعيا لـ «التراث»، لا يقود تَخَيُّرها إلى تغيير النتائج، وإلا فالاختيار لا يستقيم بهذا المعنى. فأي بديل هذا الذي بإمكانه أن يقوم بوظيفتين: التَّحَلُّلُ مما يُشْحَنُ به «التراث»، ويحفظُ له هُوِيته، ويُهَيِّءُ له أسباب الامتداد؟

إنه ببساطة، «النص» بِتِجَرُّدِه التام من الأبعاد التي جعلت «التراث» مفهوما ملتبسا وغائما. لكن هل «النص» يسمو عن الالتباس؟ وإلى أي حد سيصمد هذا الاختيار مع تدرج الدراسة؟

- من مفهوم «النص» إلى «اللانص»:

في سعيه الحثيث إلى تجاوز الالتباس الذي يطرحه مفهوم «التراث»، وظف الباحث مفهوم «النص» بمبررات اختزلها في كون هذا «النص» «أقدر من التراث على التحلل من البعد الزمني، فهو لا زمني؛ لأنه يتصل بخاصية متعالية على الزمن، هي النصية» 18، وبهذا التحلل يتجاوز «النص» القَيْدَ الزمني الذي كَبَّل حرية «التراث»، الذي يعني في مختلف «الأبحاث التي تناولته: كل ما خلفه لنا العرب والمسلمون من جهة، ويتحدد زمنيا، بكل ما خلفوه لنا قُبَيْل عصر النهضة من جهة ثانية»19.

إن النص بالمعنى المشار إليه، يستطيع أن يمتد فينا في كل الأوقات، ويحضر بيننا في كل المناسبات، يتحرك دون مؤشر زمني محدد، وهو ما يتيح، حسب الباحث، تأسيس نظرية لـ «النص»، أو على الأقل معالجته ضمن نظرية مَّا من النظريات النصية. ومعلوم أن الوعي بـ «النص» في إطار نظرية متجانسة، تقوم على جهاز مفاهيمي مُحدَّد، ووعي حديث نتج عن تبلور أسئلة أدبية قديمة حول «النص» ومكوناته الفنية20.

غير أن النظر إلى «النص» كان من زوايا متعددة، وعُولِجَ بمفاهيم مختلفة فـ «جوليا كريستيفا» طرحت «نظرية النص» من خلال مفاهيم متنوعة كـ«الممارسة الدالة، الإنتاجية، التدليل، التناص، النص الظاهر، والنص الْمُوَلِّدُ». أما «جاك دريدا» فقد طرح النظرية من خلال مفاهيم أخرى، كـ«الكتابة والاختلاف»، وطرحها «جيرار جنيت» من خلال «النص الأعلى، جامع النص»، بينما ناقشها «رولان بارث» من خلال مفاهيم عديدة، لعل أهمها مفهوم «لذة النص»21.

إن مفهوم «النص» - بالإضافة إلى تحلله من البعد الزمني - أَقْدَرُ من مفهوم «التراث» على التفاعل مع غيره، فخاصية الانجذاب بين النصوص خاصية معلومة، وميزة التَّعالُق ميزة ثابتة، ما دامت النصوص لا تُولَد من فراغ. وهذا التميز، إضافة إلى كونه «يسمح لنا بالنظر إلى النص في ذاته، يتيح لنا إمكانية النظر إليه في مختلف علاقاته مع نصوص أخرى، ومع السياق الاجتماعي والثقافي الذي ظهر فيه»22.

وبكل هذه الاعتبارات يتم تجاوز سلبيات النظر إلى «التراث» في بُعْدِه الزمني، ويتم التركيز على ما تغفله الدراسة، حين تتعامل مع هذا «التراث» من زوايا لا تستند إلى تحديد الموضوع، ولا تنطلق من أسس نظرية، وتمارس الانتقاء في المعالجة (محكومة في ذلك بوعي أيديولوجي مسبق).

غير أن الحديث عن «النص» جر الباحث إلى «اللانص»، ومنهما إلى «الكلام» الذي أَحَلَّهُ، في إطار استراتيجية استبدال المفاهيم، محل «النص» بدلالاته المتنوعة. وهذا التنوع في الدلالة هو الذي دفع بالأستاذ يقطين إلى اعتبار هذا الإحلال كالاستجارة من النار بالرَّمْضاء؛ لأن مفهوم «النص»، أيضا - وبتنوعه الدلالي - لا يقل التباسا عن مفهوم «التراث»؛ قال: «وإحلالنا إياه (النص) محل التراث وليد رغبة خاصة في تجاوز المفاهيم الْمُلتبسة، لكننا في وضع الْمُستجير من النار بالرَّمْضاء؛ لأن النص متعددة الدلالات. ولذلك، وبهدف تَجْلِيَّةِ المراد تحقيقه بتوظيف النص في بحثنا هذا، وحتى تتاح لنا إمكانية الانتهاء إليه تحديدا وتصورا، نستعير مفهوما أنسب وأدق في الأدبيات العربية، وهو مفهوم الكلام، ونُحِلُّه محل مفهوم النص. وسنعاين أنه (مفهوم الكلام) أكثر ملاءمة للانطلاق في معالجة مختلف القضايا والإشكالات التي نود إثارتها. سنوظف الآن الكلام محل النص، كما أَحْلَلْنا النص محل التراث، ونظل نتدرج وصولا إلى استرجاعه وتوظيفه مُحَمَّلاً بدلالات جديدة، مستمدة من علاقته بالكلام»23.

يعلن هذا النص عن الهدف الذي جعل الباحث ينتقل من مفهوم «النص» إلى مفهوم «الكلام»، ومن مفهوم «الكلام» إلى مفهوم «النص» أيضا؛ فالكلام وسيط بين النص والنص (دون اعتبار جنسه أو نوعه: قصة، شعرا، رواية)؛ إذ الانتقال مرحلة تسمح بِتَعْبِيئِ «النص» بدلالات تخدم التوجه العام للباحث، تماما كما كان «النص» وسيطا بين «التراث» و«الكلام». وفي حقيقة الأمر فـ «الكلام» هو الوسيط الحقيقي بين «التراث» و«النص». وهنا يُطْرَحُ السؤال: لماذا توسَّلَ الباحث بهذه المفاهيم لتكون وسائط في ما بينها من جهة، ومواضيع بحث من جهة أخرى؟ ولماذا لم يختصر الطريق فينتقل من «التراث» إلى «الكلام»، دونما حاجة إلى تنصيب «النص» مباشرة بعد «التراث» وقبل «الكلام»، ثُمَّ اسْترْدادُهُ بعد ذلك؟

يبدو، في نظرنا، أن هذا الإجراء وحده الكفيل بتوليد مفاهيم أخرى كــ «اللانص»، وعقد المقارنة بينه وبين «النص»؛ وبالتالي مشروعية البحث فيه، ومحاولة إيجاد موقع له. وهذا الإجراء مدخل متماسك يُضْمِرُ مبررات إدخال «اللانص» شريكا لـ «النص» في ارتباطهما بــ «الكلام»؛ قال سعيد يقطين: «وعندما نستعمل النص أو اللانص هنا، فإننا نُحَمِّلُهُ دلالة مفهوم الكلام كما هو عند العرب»24.

إن الاشتغال بـ/ وعلى هذه المفاهيم مجتمعة «التراث، النص، اللانص، الكلام...» يُسَهِّلُ الإمساك بالموضوع الرئيسي: «السيرة الشعبية»، والإشراف على دراستها دراسة تُلغي الأحكام المسبقة، وتتجاوز الإقصاء الذي مُورِسَ على كل ما اعْتُبِرَ خارج دائرة «النص» بمبررات غير علمية، أو حتى بدونها؛ بل والانتقال بالسيرة الشعبية من موقع التوظيف البُرْهاني الحِجاجي، إلى نوع مستقل له مميزاته التي كانت تُطْمَسُ، وهي مُنْدَسَّة في ثنايا أنواع أدبية أخرى. كما يأتي هذا الاشتغال في سياق الدفاع عن الإرث العربي، بمبدإ الملاءَمة الاجتماعية، ومحاولة مَوْقَعَة «السيرة الشعبية» مَوْقعا تصير فيه بحثا يستدعي توظيف كل الآليات، ويُبْحَثُ فيه بوعي منهجي تام، وبتحديد الأهداف بدقة.

بيد أن الانتقال بين هذه المفاهيم، إنْ بالارتكاز على اللُّحْمَةِ التي تجمعها، أو بالركون إلى بعض ما تنفرد به عن بعصها البعض (بما يسمح بتجاوز الالتباس) دفع في اتجاه بحث مفاهيمَ أخرى في مبحث خاص، حتى وإن كان هذا المبحث شديد التعلق بالمباحث السابقة؛ ومبعث الخصوصية فيه أنه يبحث في مفاهيم «الجنس والنوع والنمط» ضمن نظرية الأجناس الأدبية.

2) الثابت والمتحول في مفاهيم: «الجنس، النوع، النمط»

لا يختلف اثنان في أن نظرية الأجناس الأدبية من أقدم النظريات؛ لأنها – ببساطة شديدة - واكبت الأدب متى كان، لكنها نظرية لا تكتفي بذاتها، ولا تملك ما تحترز به من التداخل مع غيرها من النظريات، وهو ما يبرر تَجَدُّدَ البحث في هذه النظريات، وتَعَاقُبَهُ ما تَجَدَّدَتِ النظريات النصية وتعاقبَتْ. فـ «النص» هو المساحة التي تتفاعل فيها نظرية الأجناس مع النظريات الأخرى، وأي بحث في طبيعة «النص» يستدعي - لا محالة - البحث في تصنيفه وتمييزه، وهذا يستدعي النظر في أَدَقِّ خصائصه الثابتة والمتغيرة.

إن الْمُضْطلع على المعاجم العربية، وهو يحاول محاصرة مفهوم ما بالمعنى الدقيق، قد تقوده محاولته هذه إلى فشل الْمَسْعى، فيلتبس عليه الأمر بما تُقدِّمه هذه المعاجم. ويكفي أن يتصفح الباحث بعضا من هذه المعاجم لِيُدْرِك حجم الصعوبة والالتباس.

ومفاهيم «الجنس والنوع والضرب» من أعقد المفاهيم تداخلا؛ إذ إن بعضها خرج من جِلْباب البعض الآخر، وتَقاسَم معه مساحات هائلة من المعنى، حتى إنَّ توظيف بعض هذه المفاهيم مكان البعض لا يغُير من أمر الدلالة شيئا.

فعندما نبحث عن معنى «الجنس» في قواميس اللغة25، نجده: «الضَّربُ من كل شيء، وهو من الناس، ومن الطير، ومن حدود النَحْوِ والعَرُوضِ والأَشياء جملةٌ. والجِنْسُ أَعَمُّ من النوع؛ ومنه الْمُجانَسَةُ والتَجْنِيسُ. ويق:ال هذا يُجانِسُ هذا، أَي: يُشاكِلُه؛ وفلان يُجانس البهائم ولا يُجانس الناسَ، إِذا لم يكن له تمييز ولا عقل، والإِبل جِنْسٌ من البهائم العُجْم». والنوع هو: «الضرب من الشيء، وهو أخص من الجنس». والضرب «هو الصنف من الأشياء». و«النمط: النوع والضرب».

ما عدا بعض الإلماعات (أَعَمُّ، أَخَصُّ) التي فيها اضطراب بَيِّنٌ، فإن حجم الوثوق من الفروق بين هذه المفاهيم أضيق من خُرْم إبرة. فكيف عالج الأستاذ يقطين هذا الإشكال؟

استَهَلَّ هذا المبحث بإبراز أهم القضايا التي تُطرح بخصوص نظرية الأجناس من خلال استقرائه الكلام العربي، ومواكبتِه بعض الأدبيات الغربية، وقد أجملها في ما يلي:

1. سَعْيُ نظرية الأجناس الأدبية إلى بناء تصور شامل يَسَعُ كل الأجناس، رغم انطلاقها من أجناس خاصة ومحددة.

2. انْشِطارُها بين النُّزوع النظري التَّجريدي، وبين ما تقدمه النصوص، وهو الأمر الذي دفع إلى الاهتمام بـ «النص» لاختبار التصورات النظرية.

ونتيجة لذلك، فالتشكيك في وجود النظرية، أو على الأقل قُصُورها عن تقديم تصور شامل أمر واقع. وهو ما دفع بالباحث إلى التفكير في مسألة الأجناس في انفتاحها على ما يمكن أن يقدمه «النص»، لتحقيق نوع من التفاعل بين «الجنس» و«النص». فلا يمكن لنظرية ما أن تستوي علما مكتملا ومُنتهيا بانغلاقها دون «النص»، ودون ما يمكن أن يقدمه لها من احتمالات للتطور والاغتناء26.

والإمساك بالعلاقة الموجودة بين «النص» و«الجنس» يمر عبر تحديد المبادئ العامة المجَرَّدة والمتعالية على الزمان والمكان، فهي موجودة أبداً، سواء أدركناها بالكيفية نفسِها، أو بِكَيْفِيات مختلفة27. وهذه المبادئ أنواع ثلاثة:

1. ثابتة؛ تحدد السمات الجوهرية في الأشياء؛ أي: السمات التي لا تشترك فيها مع غيرها.

2. متحولة؛ وهي متصلة بالصفات البنيوية للأشياء، والقابلة للتحول.

3. متغيرة؛ أي: التي ترصد تحول الشيء نفسه من وضع إلى آخر، بحكم الزمن والظروف التاريخية؛ وبذلك، فهذه المبادئ تسمح برصد الكلام في:

- ذاته، من خلال البحث في عناصره الجوهرية الثابتة.

- صفاته البنيوية من جهة ثانية.

- تفاعلاته مع غيره، أو في صيرورته28.

ولتدقيق هذه المراتب (أي: المبادئ الثابتة والمتحولة والمتغيرة)، اقترح الأستاذ يقطين مفهوم «المقولات»، وهي: مُخْتَلفُ المفاهيم والتصورات، التي تُسْتَعْمَلُ لرصد الظواهر ووصفها، وخاصيتها الأساسية هي التحول، لكنها حين تتصل بالمبدإ الأول لمفهوم «المبادئ» تكتسب صفة الثبات؛ وبذلك ترتبط بــ«الجنس». أما صفة التحول فيها فترتبط بــ«النوع».

فالأجناس ثابتة، والأنواع متحولة، و«الجنس» قد يتضمن عدة أنواع29. ومع تعرض هذه الأنواع إلى تغيرات تطرأ في صيرورتها وتطورها التاريخي، تحدث الباحث عن السمة الثالثة للمقولات، وهي: التغير، الذي يرتبط بـ«النمط».

وتَحَقُّقُ هذه المبادئ والمقولات هو ما سماه بـ«التجليات» التي تظهر من خلال التفاعل النصي بين النصوص.

وبالرغم من التدقيقات الجوهرية التي رصدها الأستاذ يقطين، فإن العلاقة بين الأجناس والأنواع ظلت محكومة بالتبعية أو الاتصال التراتبي، الذي ينهض على قاعدة علاقة الخاص بالعام30، على عكس «النمط» الذي ينفرد بمركز خاص، يتيح البحث فيه دون النظر إلى طبيعة علاقته بـــ«الجنس» أو «النوع». فهو بصفة عامة بمثابة «صفات الكلام كما نجدها عند القدماء، على اعتبار أن الجنس والنوع يتصلان بالكلام في ذاته، وبعلاقة بعضه ببعض ائتلافا واختلافا.

وهكذا، فعندما نصف الكلام بأنه فصيح، فإن هذا الوصف يطال أي كلام بغض النظر عن كونه قصة، أو قصيدة، أو رسالة، أو تقليدا»31.

خاتمة

إن تعالق المفاهيم في كتاب «الكلام والخبر» ما كان ليكون على هذا القدر من التماسك، لو لم يلعب «النص» فيه الأدوار كلها. فهو اللُّحْمَة التي تجمع كل المفاهيم حين يُرادُ له ذلك، وهو العنصر الْمِطْواع حين يُسْتَدْعَى ليصبح شريكا ونِداَّ لهذه المفاهيم أيضا. وكأننا به المفهوم الْهَشُّ في البحث، الذي يمكن تعبيئه بما يخدم التصور العام للباحث، ويُعِين على تحقيق الأهداف. ومَناعتُه تتمثل في الحضور الضروري في هذه العلائق مجتمعة ومتفرقة.

إن أبهى تجليات البحث الدقيق هو تناسل الأسئلة خلف كل مبحث، فتتحول إلى مدخل لمبحث آخر، فَيُنْعِشُ الجوانب الهَّشَّة منه؛ أي: إن كل مبحث يصير، بأسئلته، مدخلا لمبحث آخر، حتى يصل الباحث إلى تشكيل تصور على قدر كبير من التماسك، بما يُلْجِمُ أسئلة القارئ، ويضعه في موقع الْمُحاوِر الإيجابي، لا المتسائِل السلبي؛ بل إن هذا الإنجاز/ البحث يكون مَدْعاةً لمشاريع أخرى، تُغَذِّيه وتُفَعِّلُهُ إنْ تَمَّ تأويل نتائجه في اتجاه الاستثمار، لا النَّسْفِ والتبديد.

إنَّ سعي الأستاذ يقطين لإدماج النصوص الْمُهْمَلَة في تاريخ الأدب عامة، والعربي خاصة32، التي عَبَّر عنها بـــ«اللاَّنَص» سَعْيٌ مشروع ما دامت هذه النصوص تُشَكِّل نواةً أساسية للثقافة العربية. فـــ «السيرة الشعبية» مَرْتَعٌ خِصْبٌ تَمْتَحُ من مَعِينِهِ كل الأنواع التي استحقت أن تكون موضوعا للدراسة والبحث، فَلِمَ لا يُلْتَفَتُ إليها لمعرفة خصائصها الفنية؟.

إن قارئ هذا العمل المتميز للأستاذ سعيد يقطين - على غرار أعماله الأخرى - لا يمكنه - في نهاية قراءته - إلا أن يتلمس صوت «بارث» الجاهِر بمفهوم «الكتابة» كفعل مُطْلَقٍ يُضَيِّقُ الهُوَّةَ بين خصوصية الأجناس.

وكما نال موضوع «السيرة الشعبية» اهتمام الأستاذ يقطين، فَخَصَّهُ بنصيب وافر من البحث ضمن مشروعه العلمي الكبير، نال هذا المشروع أيضا ما يستحق من التتبع والتدارس. فلا أحد من المهتمين بالسرديات يجهل ما للأستاذ يقطين من أَيادٍ بيضاء في البحث السردي، ليس من خلال اكتشاف القضايا فقط، بل من خلال دراستها بمنظور وأدوات جديدة، ساهمت بشكل فعال في تطويرها؛ ولذلك لا نستغرب إن وجدنا أحد الباحثين يقول في كتاب «الكلام والخبر»: «لقد جاءت دراسة يقطين رائدة في بابها، فخطت بالتصورات النقدية العربية خطوات متقدمة في القضايا المتصلة بنظرية الأجناس الأدبية، فقد كشف في هذه الدراسة عن وعي متطور بالإشكالات العميقة المطروحة على بساط البحث في أنواع الكلام العربي تجنيسا وتصنيفا»33.

إن المشروع العلمي للأستاذ يقطين ليس مشروعا منغلقا، وإنما مشروع مفتوح يستوعب أشكال الخطاب مجتمعة.

الهوامش

1. صدر الكتاب في طبعته الأولى عن: المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 1997م.

2. سعيد (جبار)، الكلام والخبر: محاولة في تجنيس الكلام العربي، الموقع الإلكتروني للأستاذ يقطين، الرابط المباشر:

- http://www.saidyaktine.net/?p=226 (زِيرَ الموقع بتاريخ: 28 أبريل 2016م) .

3. سعيد (يقطين)، الكلام والخبر، ص 52.

4. الكلام والخبر، ص 19.

5. نفسه، ص 20-21.

6. لمزيد من توضيح فكرة «المعنى الثقافي» في الإبداع، يُنْظَر كتابنا: التناص ورحلة المعنى الثقافي في الغزل العذري، دار المعارف الجديدة، الرباط، ط1، 2013م.

7. الكلام والخبر، ص 23.

8. الكلام والخبر، ص 47.

9. نفسه، ص53.

10. نفسه، ص116.

11. عبد الفتاح (الحجمري)، السيرة الشعبية: السرد وبنية الحكاية من خلال «الكلام والخبر» و«قال الراوي»، ضمن الموقع الإلكتروني للأستاذ يقطين، الرابط المباشر:

- http://www.saidyaktine.net/?p=228

(زير الموقع بتاريخ: 28 أبريل 2018م).

12. الكلام والخبر، ص 181.

13. الكلام والخبر، ص 182.

14. نفسه، ص 185.

15. محمد (عابد الجابري)، المسألة الثقافية، ص 250.

16. الكلام والخبر، ص 16.

17. نفسه، ص 18.

18. الكلام والخبر، ص 48.

19. نفسه، ص 47.

20. لا يمكن إغفال الوعي بهذه الأسئلة من قبل البلاغيين والنقاد العرب، بدءا بالإرهاصات الأولى مع النموذج القتيبي للقصيدة العربية القديمة، مرورا بعمود الشعر مع القاضي الجرجاني والمرزوقي والآمدي وغيرهم، ومعاناة عبد القاهر الجرجاني الموضوع وهو يحاول الإجابة عن الأسئلة نفسها (أدبية النص)، وانتهاء بالمشروعين النقديين البلاغيين لابن سنان الخفاجي، وحازم القرطاجني وغيرهما.

21. عمر (أوكان)، لذة النص أو مغامرة الكتابة لدى بارث، ص 15.

22. الكلام والخبر، ص 50. لا بد من الإشارة هنا إلى أن مسألة التداخل بين النصوص نوقشت باستفاضة من قِبَل النقاد العرب ضمن مبحث «السَّرقات الأدبية»، بمفاهيمه وتمظهراته المختلفة: السرقة، الأخذ، الغَصْب، الإغارة، النظر، الإلمام، القلب، الـمُوارَدة... وهو أيضا ما تناولته الدراسات الحديثة ضمن مبحث «التناص».

23. الكلام والخبر، ص 53.

24. نفسه، ص 53.

25. يُنْظَر، على سبيل المثال لا الحصر: جمال الدين (ابن منظور)، لسان العرب، على سبيل التمثيل لا الحصر، مواد: (ج. ن. س)، (ن. و.ع)، (ن. م. ط).

26. الكلام والخبر، ص 180.

27. نفسه، ص 180.

28. الكلام والخبر، ص 182.

29. هذ على عكس ما تقدمه بعض التعاريف اللغوية التي تجعل النوع أعم من الجنس (والإِبل جِنْسٌ من البهائم العُجْم).

30. الكلام والخبر، ص 198.

31. الكلام والخبر، ص 198.

32. لا تعد ظاهرة الإهمال ظاهرة طارئة في الدراسات الأدبية، فحتى ضمن الأجناس الكبرى للأدب يتم إغفال بعضها بحجة أو بدونها. أَلَمْ يغفل أرسطو الحديث عن الكومديا، التي اعتبرها أحط اللأجناس مقارنة بالتراجيديا والملحمة؟ أَلَمْ يغفل العرب أغراضا شعرية مميزة كالغزل، خصوصا العذري، لا لشيء، سوى لأنه أدب أفراد، لا أدب مؤسسات، أدب الذات، لا أدب الأيديولوجية والعِرق ...؟

33. مصطفى (الغرافي)، الكلام والخبر لـسعيد يقطين: مشكلة التصنيف في الأدب العربي، ضمن موقع الأستاذ سعيد يقطين، الرابط المباشر:

- http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today%5C06qpt898.htm&arc=data%5C2012%5C02%5C02-06%5C06qpt898.htm(زير الموقع بتاريخ: 28 أبريل 2016م) .

المصادر

- جمال الدين (ابن منظور)، دار صادر، بيروت، دون طبعة ودون تاريخ.

- سعيد (يقطين)، الكلام والخبر: مقدمة للسرد العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب ط1، 1997م.

- عمر (أوكان)، لذة النص أو مغامرة الكتابة لدى بارث، دار إفريقيا الشرق، المغرب، ط1، 1991م.

- محمد (عابد الجابري)، المسألة الثقافية، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، ط1، 1994م.

المواقع الإلكترونية

- الموقع الإلكتروني للأستاذ يقطين، الرابط:

- http://www.saidyaktine.net/?p=226

الصور

1. https://www.nourbook.com/publice/covers_cache/7/6/5/350_ecde9bcbe4765f814c51484b8ca09b73.jpg

2. https://www.marrakechalaan.com/article-250308

أعداد المجلة