فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
51

الخطاب الثقافي والمجتمع: مدخل أنثروبولوجي لساني

العدد 51 - آفاق
الخطاب الثقافي والمجتمع:  مدخل أنثروبولوجي لساني

نحاول في هذه الدراسة تبيُّنَ بعض المرتكزات المهمة التي تربط بين الخطاب الثقافي والمجتمع على مر العصور، من حيث بلورةُ المفاهيم الأنثروبولوجية المتنوعة للأنماط الثقافية التي شكّلت أبنية الفكر لمختلف المجتمعات؛ فالتفاعل الاجتماعي الثقافي هو- بالأساس- تفاعل فكري، ذو منطلقات فلسفية، ومنابع أسطورية حكائية، تحكمت في بناء ضخم من المفاهيم المتباينة والمتكاملة- في آن- لدى كل جماعة وداخل كل مجتمع، وأدت- بالنهاية- إلى الصورة العامة التي نراها حاليا للعالم المحيط بنا.

تقدم الدراسة مجموعة منتقاة من الموضوعات، مع بيان شيء من تاريخ بعض المفاهيم والمصطلحات ذات الصلة، بهدف طرح هذه الإشكالية من خلال تحليل بعض جزئيات الخطاب الاجتماعي الثقافي، وما يتعلق به من بواعث أنثروبولوجية وفلسفية.. إلخ، وانتهاء بمحاولات تأويل المعنى بواسطة ربط الرمز بالواقع، وتشكل أنساق الثقافة المختلفة.
كلمات مفتاحية:
- الأنثروبولوجيا؛
- الثقافة؛
- تحليل الخطاب؛
- الأسطورة؛
- الأعراق؛
- الرومانتيكية؛
- القصّ.

الأنثروبولوجيا والثقافة (مقاربة مفاهيمية):
اولاً :
يتشكل المفهوم الثقافي خصوصا، وأي مفهوم آخر، ابتداءً من الكلمة؛ فالكلمة في لغة الإنسان تتحول إلى مفهوم؛ أي إن الحسي يتحول إلى ذهني، وينتقل البسيط إلى المُركّب، ويصير البيانيُّ برهانيًّا، ويتغير الفردي إلى اجتماعي، ويصبح الثابتُ متحولا، فالتحول المفاهيمي الشامل يبدأ بالتحرر من قيود اللغة وعالمها وقوانينها، نحو انفتاح آفاق عالم الاجتماع وقوانينه وسيروراته1.

وقد أحدثَ القرن التاسع عشر تقدما ملحوظا في مفهوم كلمة (ثقافة) من أجل تطوير تعريفها؛ فعلوم الأنثروبولوجيا والأجناس وعلم النفس والاقتصاد السياسي.. إلخ، تتلاقى جميعُها في بحث الواقع الاجتماعي وتحليله، ومن هنا كانت (الثقافة) واحدة من المشكلات المركزية لعلم الاجتماع والخطاب الأدبي عموما2. كما لوحظ أن فكرة (الثقافة) تمتد لتشمل ما وراء ما كان يُطلق عليه (الإنسانيات الإغريقية اللاتينية)، وأن معنى الثقافة يتجاوز ما أنتجته مباحث الفكر الكلاسيكي من أعمال أدبية، ليضم- في اتساعه- واقعا اجتماعيا يتجاوز حدود أوروبا، ويحمل- بصورة عامة- طابع العبقرية الإنسانية الفريدة3. وبين الأنثروبولوجيا والثقافة علاقة وطيدة، للدرجة التي تجعل بعض الباحثين يجعلون من الأنثروبولوجيا حاويةً مفاهيميةً ضخمةً للثقافة. وقد ظل الخلاف على ذلك الأمر قائما وعميقا، بداية من إدخال الاتجاه الثقافي في الحياة الاجتماعية في مقابل الاتجاه الاجتماعي البنائي، وانتهاء بالكلام عن (علم الثقافة) في مقابل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية4.

وقد استمر الخلاف بين من يرون أن المجتمع هو الحقيقة النهائية التي تجعل من الممكن فهم الطبيعة الإنسانية، ومن يرون أن الثقافة هي التي تمثل تلك الحقيقة النهائية المتمايزة بذاتها، والمجتمع هو مجرد أداة أو وسيلة لقيام الثقافة ولوجودها واستمرارها؛ بمعنى أن المجتمع هو مجرد ظرف أو شرط ضروري لأجل وجود الثقافة5.

وعلى جهة العموم، فقد حررت الأنثروبولوجيا الثقافةَ من قيود البيولوجيا؛ فالثقافة تخص الإنسان فقط من دون سائر المخلوقات، فهي مرتبطة بعالمه وبمحيطه، وتتأثر ببيئته. والثقافة لا تُورّثُ من خلال الجينات، أو تُنقل هكذا بصورة أحيائية، ولكنها تُكتسبُ من خلال التنشئة والتربية والتعليم .. إلخ؛ فالثقافة- إذن- اختيارية وليست جبرية. ومن هذا المنطلق يرى «هوبل» أنه في حالة تحليل الثقافة فلا بد من الابتعاد عن القيود البيولوجية والوراثية، لأن الثقافة هي مجموع التجديدات الاجتماعية التي يمكن عدها- بالنهائية- إرثا اجتماعيا ينتقل عبر الأجيال المتلاحقة، من خلال التنشئة والاكتساب الثقافيين الدائمين والعمليات المعرفية المرتبطة بكل ذلك6.

ثانياً:
لـقــد طــور الألـمــــانـي «لـيـــو فـايـسـجــربـر» (1899 – 1984م) مفهوم التصور اللغوي للعالم انطلاقا من فلسفة الطبيب النفسي الألماني «فلهلم دلتاي» (1833 – 1911م)، الذي رأى أن فلسفة الحياة الحقيقية هي التي تقوم على أوسع معرفة ممكنة بالحياة، وهي المعرفة التي تتيحها العلوم الإنسانية، التي يسميها «دلتاي» العلوم الروحية Geisteswissenschatenn، وهي مجموع الدراسات التي تبحث في حقيقة التاريخ والمجتمع، وتشمل علوم النفس والتاريخ والاقتصاد وفقه اللغة والنقد الأدبي والأديان المقارنة وفلسفة التشريع، وكلها دراسات موضوعها الإنسان وأفعاله ومبتكراته. ونلاحظ أنها تلتقي أو تتقاطع بصورة ما مع الفلسفة اللغوية الهمبولدتية «نسبة إلى فيلسوف اللغة الألماني «همبولدت» (1769 – 1859م)»، وتلتقي كذلك مع فرضية «وورف وسابير» الشهيرة حول رؤية العالم. والخيط الجامع بين مجمل هذه النظريات يكمن في رؤيتها للصلة الوثيقة بين اللغة والفكر والثقافة؛ فاللغة ليست فقط أداة للتواصل، بل هي أداة للتفكر أيضًا، ومن هذا المنظور فإنها وسيلة أساسية لتقديم مفاهيم وتفاسير للعالم الذي يحيط بأهل اللغة. وهكذا تصبح اللغة عملية ذهنية تصوغ أو تعكس رؤية العالم عند أمة من الأمم أو ثقافة من الثقافات. وقد نقل «فايسجربر» نظرية ارتباط اللغة بالثقافة من حيز الدراسات الأنثروبولوجية إلى الدراسات اللسانية بعدما اطلع على إنتاج العالم السويسري «دي سوسير» (1857 – 1913م). وخلاصة رأي «فايسجربر» أن كل واحدة من كلماتنا تمثل منظورا خاصا نرى فيه العالم، وما نسميه مفهوما ليس سوى بلورة لهذا المنظور الذاتي، أي إنه عبارة عن شكل ثابت تقريبا يفرضه المنظور، وهذا المنظور هو اجتماعي بالضرورة، لأنه يمثل الملكية الذهنية المشتركة لجماعة كاملة في حلقة التواصل، وهو أيضا ذاتي؛ بمعنى أنه يفضي إلى شيء من الاهتمام البشري الإيجابي الذي يجعل تمثيلنا المفهومي للعالم ليس نسخة دقيقة أو مطابقة للواقع الموضوعي. وعلم الدلالة الألسني- بهذا المنطلق- يصبح دراسة تحليلية بامتياز لمثل هذه التطورات المتبلورة في كلمات؛ فالرموز في المعجم الذهني لا تمثل تطابقا مباشرا مع أشكال الواقع؛ فالنسخة الذهنية ليست مطابقة للخارج، بل هي نسخة تصوُّرية تقريبية لأجل إدراك كنه العالم والتكيف معه. وكل جماعة لها طريقتها في عزل الأجزاء والوحدات وتفكيكها وإعادة تركيبها، لأجل فهم العالم من خلال اللغة، في إطار المنظومة العصبية الدماغية الشديدة الدقة والتطور. وهذا الكل المنظم أو هذه المنظومة الدقيقة هي المعجم الذهني عند كل جماعة من بني الإنسان. وهنا تدخل الأنماط اللغوية مع الأنماط الثقافية7. وهو أمر بالغ الأهمية والعمق، اشتغل عليه العلامة «إدوارد سابير» في سِنيّ عمره الأخيرة بالولايات المتحدة، من خلال عمله على ما أطلق عليه اللسانيات العرقية Ethnic Linguistics.

ثالثاً:
ومنذ بدايات القرن العشرين بدأت الأنثروبولوجيا الثقافية تتبلور بوصفها علما قائما بذاته، واتجه البحث فيها نحو الاعتراف بتنوع الثقافات الإنسانية بمختلف طرائق تفكيرها وأبنية المفاهيم الاجتماعية والحضارية بها. ومن أبرز أعلام هذا التوجه العلمي بأطروحاته الجديدة «مارسل موس» (1872-1950م) بفرنسا، وهو ابن أخت «إيميل دوركايم» عالم الاجتماع الشهير، وتلميذه. وقد قام بتطوير اتجاه البحث المقارن في الأنثروبولوجيا عموما، وقام باستخدام الإحصاءات الإثنوجرافية التي جمعها الباحثون قبله من طوائفَ شتى من المجتمعات الصغيرة التي كانت تعيش مرحلة ما قبل الصناعة، واستنبط منها الأنماط المشتركة التي ربما تكون مسؤولة عن تنظيم الحياة الاجتماعية والثقافية لمختلف الأمم والشعوب. وفي كتابه الشهير (الهبة، 1966م) قام بتحليل ظاهرة تبادل الهدايا، ورأى أن الهدية تحمل معها التزاما أخلاقيا متبادلا؛ حيث يتوجب ردها- بصورة ما- في وقت لاحق. حتى إنه رأى أنه بالإمكان تأمين القوة السياسية لنظام حُكم ما من خلال ما يتمتع به القائد من قدرة على تقديم الهدايا؛ حيث يمكنه أن يربط من يتلقون هداياه به وبحكمه؛ لأنهم سيكونون مستعدين لرد هذه الهدايا له في صورة الولاء السياسي. وعموما فإن «موس» يُصنّف بوصفه مُنظّرًا للأنثروبولوجيا الثقافية، خصوصا في تمييزه الجوانب المعرفية للثقافات المختلفة؛ من حيث إن ثقافة الإنسان تُزوده بالوسائل التي تُمكّنه من تصنيف المجالات الطبيعية والاجتماعية وفهمها والتمييز بينها8.

أما الأمريكي «فرانز بواس» (1858-1942م)، الألماني النشأة، فقد أحدث ثورة في منهجية العمل الميداني، من خلال التركيز على تحليل النصوص المحلية، والإفادة من اللسانيات، وتدريب ممثلين من الثقافات المحلية ليقوموا بتسجيل ثقافاتهم بأنفسهم. وقد أصدر كتابه (الفن البدائي) عام 1927م، الذي كان نواة مركزية انطلقت منها إشعاعات التأثير الكبرى على البحوث الأنثروبولوجية المهتمة بدراسة الثقافة المادية للشعوب9.

وقد استطاع «بواس» أن يوفر- من خلال مشروعاته المتنوعة- مادة إثنوجرافية ضخمة عن الثقافات الأمريكية المحلية السائدة في الشمال الغربي المُطل على المحيط الهادي. وكان مؤمنا بقوة بمسألة النسبية الثقافية- وسيأتي الحديث عنها- كما رأى أن الثقافة ينبغي أن تُفهم من خلال إطارها المرجعي للمعنى، بدلا من أن يتم الحكم عليها من خلال القيم الثقافية للباحث الخارجي. وكان يؤكد دوما أن الثقافات هي كيانات كلية تتشكل من أنساق مُكوَّنة من الكثير من الأجزاء المترابطة. ولذلك فإن «بواس» يُعد المؤسس الحقيقي للبحث الإمبريقي (أو الميداني الواقعي) في مجال الأنثروبولوجيا الثقافية؛ فبعد أن عاش وسط أقوام (الإنوت) Inuit، في أثناء عمله في إحدى البعثات العملية المشتغلة بالأرصاد الجوية، صار يؤكد- بصورة مستمرة- أهمية الوصف الدقيق والتفصيلي لكل أحداث الحياة اليومية في كل ثقافة يتصدى الباحث لأجل دراستها، مؤكدا أهمية العمل الميداني واستخدام التقنيات والأساليب الإثنوجرافية في تحليل البيانات والمعطيات .. إلخ.

ومن أشهر الذين أثّروا في البحث الأنثروبولوجي الثقافي أيضا الأمريكية «روث بندكت» Ruth Benedict ، تلميذة «بواس»- ونلاحظ أنهما قد توفيا في العام نفسه- ولها تأثير مهم في تطوير البحث المقارن. وقد ارتبط ذكرها بما عُرف بــ مدرسة الثقافة والشخصية في الأنثروبولوجيا الأمريكية. وقد قدمت في كتابها (أنماط الثقافة، 1934م) تفسيرات ممتازة لقيت استحسانا كبيرا. وفي كتابها (زهرة الأقحوان والسيف، 1946م) حللت الموضوع الأساسي أو المحوري في الثقافة اليابانية؛ فهناك- دوما- صدام بين قضيتين أساسيتين: السمة العسكرية (ورمزها السيف)، والسمة الجمالية (ورمزها زهرة الأقحوان). وعُرف عنها أنها كانت تُركز دوما على الدور الذي تقوم به الثقافة في تشكيل الشخصية الإنسانية10.

أثرت كل هذه الأطروحات على «ليفي شتراوس» لاحقا في تطويره للأنثروبولوجيا البنيوية، وهو الذي تأثر أيضا بعلم العلامات، الذي وضع «دي سوسير» أسسه، كما تأثر بعمل «رادكليف براون» عن دراسة الأبنية الموجودة داخل الأساطير، خصوصا ما يتعلق بالتعارضات الثنائية- مثل الأبيض والأسود- ودورها في التعبير والإفصاح عن معاني هذه الأساطير وأهدافها. من ثم، كتب «شتراوس» رباعيته (الأساطير، 1970-1973-1977-1981م)، بالإضافة إلى كتابه (العقل الهمجي، 1966م)، مستكشفا الطرق التي تتبعها الثقافات الإنسانية في تنظيم أنساق التصنيف، بحيث يؤدي ذلك إلى إحداث التكامل بين فهمها للعالم الطبيعي وتفسيرها للعالم الاجتماعي. ثم يضيف إلى هذا الاستكشاف بلورة هذه الأبنية بما تحتوي عليه من أساطير وحكايات وأنساق تصنيفية، باعتبارها تجلياتٍ لبناء عميق قائم على عمل العقل الإنساني بوصفه عقلا. كما ينظر إلى التنوع الذي تتسم به بعض الأساطير والمعتقدات الخاصة على أنه يقتصر على استخدام مجموعة محدودة نسبيا من الوحدات ذات المعنى (أو من الرموز)، ويتحدد الربط بين هذه العناصر من خلال قواعد تشبه قواعد التحويل النحوية؛ حيث إن هناك- بالواقع- أساطير معينة تشبه الكلام عند «دي سوسير»، في حين أن بناءها يتأسس على اللغة11.

إن الأنثروبولوجيا الثقافية تبقى مهتمة بالتنوع الثقافي لمختلف المجتمعات، ورسوخ مجموعة من الأنساق المعرفية داخل كل مجتمع، مما يستتبع ظهور سلسلة من مجالات البحث الفرعية داخل علم الأنثروبولوجيا الثقافية، تتناول الطرق التي تتبعها الثقافات المختلفة في تنظيم معارفها حول مختلف الظواهر؛ فتجد مثلا أن «الطب السلالي»12 Ethno-Medicine يدرس الطريقة التي تعبر بها الثقافات غير الغربية عن معارفها الطبية. أو تجد «علم النبات السلالي» مهتما بمعرفة النباتات وتصنيفها عند الثقافات المغايرة .. إلخ. بحيث إن حاصل كل هذه الاتجاهات هو كَمٌّ هائل من الأنساق المعرفية والخطابات النوعية المتراكمة والمترابطة على مر الأزمنة والحقب التاريخية، وهي تلك الأنساق والمعارف والخطابات التي شكّلت الإنسان وميّزته بالعرفان Cognition، كما نعرفه في عصرنا الحالي13.

علم الاجتماع المعرفي والثقافي
وبناء المفاهيم الإنسانية:
صاغ الفيلسوف الألماني «ماكس شيلر» (1874-1928م) مفهوم علم الاجتماع المعرفي والثقافي في عشرينيات القرن العشرين، ومن قبله كانت هناك محاولات عند «ماركس» و«دوركايم». والقضايا المطروحة في هذا المجال تنتقد التصورات التقليدية لأطروحات المعرفة والفن والعلم؛ فالمعرفة العلمية- على سبيل المثال- تطمح إلى أن تكون معرفة صحيحة، بصرف النظر عن المجتمع أو الثقافة التي تحدث في إطارها عمليات إنتاج هذه المعرفة14.

والمعرفة- عموما- قابلة للتفنيد والتحسين دوما، ويحدث ذلك من خلال الرصد المعرفي لحالات التراكم المختلفة لعمليات إنتاج المعرفة حول العالم الخارجي؛ وبذلك تتوقف قيمة المعرفة العلمية على درجة مطابقتها لواقع الحال الفعلي عن العالم الخارجي المستقِل عن الأفراد الباحثين. وهو الاتجاه ذاته الذي يتبناه علم الجمال (الإستطيقا) Aesthetics منذ أن نشر «كانط» أطروحته حول (نقد القدرة على التحكيم، أو نقد فنون الحكم) في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي؛ حيث تكون قيمة العمل الفني كامنة في مدى اتّصافه بقيمة جمالية معينة نابعة منه ومستقلة عن السياق التاريخي الذي توجد فيه؛ فالعمل الفني هو ثمرة للعبقرية المجاوِزة لمختلف صور القيود. بينما يرى الاجتماعيون أن المعرفة والأعمال الفنية الثقافية تحددها- بالأساس- المجتمعات التي تحدث فيها عمليات الإنتاج15.

لقد اتخذ «دور كايم» (1976م) موقفا، يبدو متطرفا، عندما قال إن الطريقة التي ندرك من خلالها الواقع والعالم، بما يشمل إدراك الزمان والمكان، تتحدد وفقا للخبرة الاجتماعية، وسار على ذلك أيضا الأنثروبولوجي الثقافي «مارسل موس» Mauss Marcel. وهو ما يخالف رأي «كانط»، الذي ذهب في نظريته للمعرفة إلى أن إدراكنا للزمان وللمكان يعتمد على الطريقة التي يُشكل بها العقل الإنساني الكلي خبرتنا16. ليأتي «دوركايم» ويقول إن العقل البشري يتشكل اجتماعيًّا؛ بحيث إن الأفراد المنتسبين إلى ثقافات مختلفة يُدركون العالم بصور مختلفة، بمعنى- من حيث الفضاء الإبستيمي- أن هؤلاء الأفراد ربما يعيشون داخل عوالم مختلفة، أو متوازية- بلغة الفيزياء الكونية- بينما نجد مثلا أن المفكر الماركسي «لوكاتش» يرى أن إدراك الزمكان هو في الواقع أحد نواتج الحياة داخل النظام الرأسمالي، بما يشمله من تقسيم للعمل، وما يحويه من نظم مكانية وزمنية لأجل تنظيم العمل داخل المصانع .. إلخ.

ثم يأتي عالم الاجتماع المجري «كارل مانهايم» (1893-1947م) ليوضح أن علم الاجتماع المعرفي عبارة عن نظرية للتشريط الاجتماعي أو الوجودي للفكر الإنساني. وعَدّ كل أشكال المعرفة والفكر مرتبطة- بصورة ما- بموضع محدد في إطار البناء الاجتماعي والسيرورة التاريخية؛ وبذلك فإن الفكر يعكس- بالضرورة- منظورا بعينه، من ثم ينتسب إلى الموقف الذي يوجد فيه. وكل أطروحاته تدور في فلك بيان التغاير بين هذه المواضع الاجتماعية المختلفة للأفكار في ضوء عوامل الطبقة والمكانة بصفة خاصة؛ فتجده مثلا يقابل بين الفكر اليوتوبي utopian المتأصل في الآمال المستقبلية للمحرومين، والفكر الأيديولوجي الذي يتبناه المستفيدون من الوضع الاجتماعي القائم. وقد أولى اهتماما- كذلك- بالفروق بين الأجيال فيما يتعلق بالأفكار؛ فالجيل الذي ينتمي إليه الفرد- شأنه شأن طبقته الاجتماعية- يُضفي على الفرد وضعا محددا في الزمن التاريخي والاجتماعي، من ثم يوجهه إلى أنماط معينة من التفكير والثقافة. وقد وسّع موقف «ماركس» الخاص بالتركيز على البناء الاقتصادي التحتي فقط، لكي يثبت أن الجماعات المختلفة داخل المجتمع تُدرك العالم بصور مختلفة، وبذلك فسوف تُسلّم بالكثير من المعارف على أنها صحيحة. وقد فتحت أطروحاته هذه الطريق أمام ما عُرف بـــ النسبية الثقافية، ما أدى إلى صعوبة تحديد أي معرفة يمكن أن تكون حقيقية أو صادقة بمعزل عن وجهة النظر الاجتماعية التي حدث في إطارها إنتاج هذه المعرفة والإفادة منها17.

لقد لقيت هذه المضامين الفكرية للنزعة النسبية في علم الاجتماع المعرفي والثقافي دَعمًا وتأييدًا واسعًا جراء التأثير الذي أحدثته فلسفة «توماس كون» العلمية (1970م)؛ حيث ذهب «كون» إلى أن فلسفة البحث العلمي لا يمكن الاعتماد فيها على الملاحظة المستقلة للعالَم الخارجي، بل إن البحث العلمي يجب أن يعتمد على نموذج نظري إرشادي (باراديم paradigm) يمثل مجموعة من الفروض حول طبيعة العالَم وطبيعة العِلم وطبيعة المعرفة العلمية، وهي الفروض التي يمكن من خلالها أن يتشكل أي إدراك للعالَم.

إن هذه النماذج النظرية التي طرحها «كون» لا تبتعد كثيرا عن فكرة أنّ مثل هذه النماذج ذاتها تعتمد على توافر بعض الظروف أو الأوضاع الاجتماعية والثقافية الأشمل، التي تكفل تحقيق إدراك حقيقي وصادق لهذا العالَم، وفقا لكل توجه ولكل ثقافة. فمثلا نلاحظ أن كلام «نيوتن» ومفاهيمه حول الزمان المطلق والمكان المطلق لا تعتمد على الرصد المعرفي، بل على المعتقدات اللاهوتية والكوزمولوجية (الكونية العامة) السابقة عليه18. ولذلك فإن علم الاجتماع المعرفي والثقافي يؤيد بقوة- وبصورة تبدو متطرفة- الفكرة القائلة إن العِلم هو الذي يشكل العالَم المادي، وليس ما يقدمه هو مجرد استجابة لعالَم مستقل!

وعلى الرغم من النظريات والأفكار الكثيرة التي تبدو متطرفة في هذا المجال، فإن الاتجاهات الفكرية الأكثر تركيبا في علم الاجتماع المعرفي والثقافي تحاول دمج التصور السوسيولوجي داخل إطار الاهتمامات التقليدية للتفسير والنقد؛ فمثلا نلاحظ أن مؤرخي الفنون من أمثال «تيم كلارك» (1973م) و«باكساندال» (1980م) في تبنيهما لاتجاهات التفسير، التي ترجع إلى أعمال معهد «فاربورج» Warburg في ثلاثينيات القرن العشرين، نلاحظ أنهم قد اعتمدوا- بصورة أساسية- على الاتجاهات الفكرية السوسيولوجية لأجل إثراء قراءة الفن وتفسيره. وكذلك الأمر مع الموسيقيين، أمثال «ترايتلر» (1989) و«توملنسون» (1984).

وفي إطار التوجه الفكري لمدرسة «فرانكفورت» تدور نظرية «أدورنو» في المعرفة (1967) ونظريته في علم الجمال (1984) حول الاعتراف بالتوتر الجدلي بين استقلال الفن والعلم من جهة، ووضعهما بوصفهما ظاهرتين اجتماعيتين من جهة أخرى، وما يترتب على كل هذا من دخولهما تحت مظلة أدوات التحليل السوسيولوجي ونتائج ذلك19.

نماذج من بعض الرؤى الحداثية للخطاب الثقافي الاجتماعي:
اولاً. «لوكاتش» والشمول الاجتماعي:
أكد الفيلسوف والناقد المجري الشهير «جورج لوكاتش» (1885-1971م) من خلال تحليله للتفاعل الجدلي (الديالكتيك) بين الواقع التاريخي والروح عند «هيجل» أن هذا التفاعل الجدلي المتواصل والدائم يسعى إلى التطابق ثم إلى التوحد الكامل بينهما في صورة (العقل)، كما ذكر «هيجل»، لكن «لوكاتش» جعل هذا التوحد يتخذ صورة (الوحدة الاجتماعية). وعندما درس «لوكاتش» تطور الأدب الروائي الأوروبي طبق مفهومه هذا على إنتاج عدد من كُتاب الرواية الواقعيين في أوروبا (مثل «بلزاك» في فرنسا، و«توماس مان» في ألمانيا)، وبيّن كيف تتمثل تلك الحركة «الغائية» للتاريخ والفكر، أو الواقع والروح، في (الوحدة الاجتماعية)، محاولا استكشاف الآليات الداخلية لذلك (الشمول الاجتماعي)، الذي يتغلب- في النهاية- على حالة (الاغتراب)، أو فقدان الإحساس بالهُوية والانتماء، مع الشعور بأن الواقع الذي صنعه الناس قد أصبح حاكما لهم، ومسيطرا عليهم وعلى وجدانهم وعواطفهم، وتلك هي الآلية التي يفرضها المجتمع الرأسمالي الصناعي على مواطنيه20.

هذا الطرح الذي أوضحه «لوكاتش» رفضه الماركسيون الحداثيون في أوروبا ووصفوه بالمثالية المفرِطة، ونعتوه كذلك بأنه اتجاه يتبنى نزعة «تاريخانية» غير جدلية؛ فالصراع الطبقي عندهم لم يكن يدرك مغزى (الوحدة الاجتماعية) التي تخلقها عوامل الانتماء الوطني، أو الثقافة القومية، أو الدين، ومختلف البنى الاجتماعية الأخرى، ونتيجة لذلك، لم يكن هذا الصراع ساعيا إلى غائية هذه الوحدة الاجتماعية بالأساس21.

من ثم، فقد اتهمه- على سبيل المثال- الشاعر والمسرحي الألماني الشهير «بيرتلوت بريخت» (1898 - 1956م) بأنه «شكلي»، يضع القالب الشكلي الخارجي للرواية في مرتبة أعلى من الميزات السياسية التي تكفلها حركة «الحداثة». وأكدت التيارات الفكرية ما بعد البنيوية وما بعد الحداثية- كذلك- أن التباين الذي أنتجته المجتمعات الحديثة، بتنوع مظاهرها الاجتماعية، وتنوع أنماط الخطاب الحداثي فيها، قد أدى- بالضرورة- إلى الابتعاد عن الشمولية والتوحد المثالي الذي دعا إليه «لوكاتش» ومن اتبع منهجه ومفاهيمه. يؤكد ذلك «دريدا» و«فرانسوا ليوتار» وغيرهما، بحجة التعددية الليبرالية، التي يرون أنها تمثل باعثَ التنوير والنضج الاجتماعي والقومي.

وعلى الرغم من أن «جيمسون» هو واحد من مفكري التيار الاجتماعي ما بعد الحداثي المشهورين، كما أنه من نقاد المجتمع ما بعد الصناعي في الغرب، فقد أعلن تمسكه بالشمول الاجتماعي؛ حيث أوضح أن هناك اختلافا كبيرا بين الشمول، والأنظمة الشمولية القمعية؛ ففي كتابه (ما بعد الحداثة: المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة)22 (1991) يوضح أن الشمول هو حالة يتميز بها الكل الاجتماعي أو الكيان الاجتماعي، الذي يتميز- برأيه- بقدر من التجانس، الذي قد يبدو محاطا بغطاء كثيف من التباين الظاهري.

لكن «جيمسون» يحذر من التجانس الذي تسعى إليه الرأسمالية المتأخرة (الحالية) لأجل فرضه على العالم، من خلال فرض أسلوبها في الإنتاج وتقسيم العمل .. إلخ، بحيث يتم تحويل (الشمول الداخلي) لهذه المجتمعات إلى (شمولية) مهيمنة على العالم كله، لأن هذا يؤدي إلى تفكيك شمول المجتمعات المتنوعة الثقافة والأفكار والمعارف والأخلاقيات، ومختلف الصور المعنوية التي تبلور صورة أي مجتمع بعالمنا، فضلا عن مسألة السلع المادية لكل مجتمع، بحيث تنصهر هذه المجتمعات بمختلف مكوناتها الثقافية والمعرفية في شمولية عالمية مهيمنة، تتبنى خطاب السيطرة تحت مسمى التنوير والتقدم والثورة الصناعية والتكنولوجية.. إلخ. وهنا يقوم خطاب الهيمنة بدور محوري في توجيه الأفكار، وصناعة الحجج، والتأثير على وجدان الشعوب وآمالهم. يوضح «جيمسون» أن هذه التوجهات هي أساس (المركزية الغربية) المرتبطة ببدايات تطور المجتمعات الغربية الحديثة ذات النمو الرأسمالي؛ فالرأسمالية المتأخرة، من خلال اندحار الشمولية الفاشية والشيوعية والنازية .. إلخ، تسعى- بقوة- إلى تحويل الشمول في مجتمعاتها الجديدة إلى شمولية عالمية، هدفها هو تفكيك شمول المجتمعات الأخرى ووحداتها، لأجل تحقيق الهيمنة والسيطرة الكلية، ثقافيا وحضاريا ومعرفيا وعلميا.. إلخ.

ثانياً. الرومانتيكية والتنوير وخطاب الحداثة:
تمتد الفترة الرومانتيكية في الثقافة الأوروبية ما بين عامي 1780 و1850م تقريبا. ويرى النقاد الاجتماعيون أن الصياغة الدقيقة لما يشترك فيه الفنانون والمفكرون الرومانتيكيون هي أمر عسير جدا، ولهذا يمكن النظر إلى الرومانسية بوصفها مجموعة من الاتجاهات والموضوعات الأساسية، وليس بوصفها مذهبا متماسكا أو مستقلا. وعموما فإن الرومانسية- في جوهرها- هي ردُّ فعل مضاد لتأكيد حركة التنوير على كل من العقل والنظام الاجتماعي، ولذلك تُعد ردَّ فعل للنزعة الكلاسيكية في مختلف أشكال الفنون واتجاهات الفكر23.

ظهرت المدارس الفنية والفكرية لهذه النزعة في ألمانيا وفرنسا في القرن التاسع عشر، ثم انطلقت نحو إنجلترا والولايات المتحدة لاحقا، وشملت كل أنواع الفكر والفنون: الأدب والموسيقى والنحت والشعر والرسم والمسرح والفلسفة والتاريخ والاجتماع والسياسة وعلم النفس .. إلخ. ومن المعروف أن الملامح الرئيسية لهذه النزعة ذات الجذور التاريخية القديمة24 قد اتخذت شكلا ما ومضمونا معينا منذ ظهرت في ألمانيا جماعة العاصفة والاندفاع Sturm und Drang في سبعينيات القرن الثامن عشر، وهي الجماعة التي استعارت أفكارها من خلال النظر إلى الرابطة بين الطبيعة والفطرة الإنسانية. كما استعارت النبل الأصيل في الإنسان الفرد البسيط من الفرنسي «جان جاك روسو»، واستعارت الكثير من أفكارها حول عظمة النماذج الشعبية من الألماني «هيردر»25، كما استعارت أفكارها حول الواجب الأخلاقي من الفيلسوف الألماني «كانط»، والتقطت أفكار الملامح المشتركة للأمة من المفكر والفيلسوف الألماني «فيخته»، ودمجت أفكارها مع أفكار المفكر والناقد الألماني «شيلينج»، حول التمايز المطلق لكل فرد وحقه في الحرية الكاملة وفي الحب وفي العمل.. إلخ26.

ارتبط ظهور الرومانتيكية بحالة الغليان الثوري التي اجتاحت غرب أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر. وكان النظام الفكري السائد يؤكد أنه قائم على أسس عقلية تعتمد على التوازن المحسوب والقواعد الصارمة والثبات المطلق والتكرار الآلي المنتظم.. إلخ، من ثم، خرجت الرومانتيكية على هذا النظام بكل أطروحاته ومقارباته.

كانت كلمة «رومانتيكي»- في الأصل- تشير إلى اللغات الناشئة عن اللغات اللاتينية، ومن هنا كان يُشار بها إلى الكتابة باللغة الفرنسية العامية، وليس إلى الكتابة باللاتينية الفصحى. وفي الوقت الذي كانت فيه حركة التنوير مهتمة بالطبيعة، من حيث كونُها أحدَ مصادرِ العقل والنظام (ميكانيكا نيوتن مثلا)، كان الفنان الرومانتيكي يرى في الطبيعة نموَّها المتناسقَ وتنوعَهَا؛ حيث يشكل الطبيعي والخارق للطبيعي ضفيرة واحدة. كما أصبحت الرومانسية علامة على تجدد الاهتمام بثقافة العصور الوسطى، حتى الوثنية منها27.

يمثل كل من «فريديرك» و«أوجست فيلهلم فون شليجل» F. und A.W. Von Schlegel، فيما كتباه في نهاية القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، يمثلان شخصيتين رئيسيتين في تطور الحركة الرومانتيكية؛ حيث أكدا ما للعمل الفني الرومانتيكي من طبيعة تتسم بالسيولة والتجزيء؛ فالشعر الرومانتيكي- مثلا- في حالة من الصيرورة والتحول الدائم، ولذلك فلا يمكن أن يحقق ذلك التماسك المتناغم الذي يطمح إليه الفن الكلاسيكي.

لقد قامت النزعة الرومانتيكية بالنسبة للقرن التاسع عشر- بوصفها تيارا فكريا، فلسفيا وسياسيا وفنيا- بالدور نفسه الذي قام به تيار الحداثة- بكل اتجاهاته- بالنسبة للقرن العشرين، على الرغم من أن كثيرين يقررون أن الغرب ما زال يعيش عصرا رومانتيكيا، بصورة أو بأخرى.

إن المضامين الأساسية للرومانتيكية لا تزال رئيسية بالنسبة للعقل الحديث؛ خصوصا من حيث الاهتمامُ بالجوانب السيكولوجية والاجتماعية، كما نلاحظ مثلا في حالة النزوع العدمي مع الخوف المزمن من العدم ذاته.
وللرومانتيكية- كذلك- القدرةُ على التلون والتلاقح مع كل أنماط الثقافات القومية، مهما كانت بعيدة عن الثقافة المركزية الغربية، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة في العالم العربي، كما في حالات: حافظ إبراهيم، ومعروف الرصافي، وميخائيل نعيمة، والأخطل الصغير «بشارة الخوري»، وعباس العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، وإبراهيم ناجي، ومحمود حسن إسماعيل، وأبو القاسم الشابي.. إلخ. كذلك، كما حدث من حالات امتزاج ودمج في الثقافات اليابانية والصينية والتركية والهندية والإيرانية في الفترة نفسها28.

التحليل الوظيفي والسّرد:
اولاً. جذور الوظيفية:
مصطلح «الوظيفية» مصطلحٌ ذو أبعاد بينية متداخلة في الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والنقد الأدبي؛ حيث انتشرت النزعة الوظيفية منذ أواخر القرن الثامن عشر عند «فولتير»29، ثم انطلقت لتمتزج بمدارس فكرية مختلفة التوجهات والرؤى.

المعنى المباشر لمصطلح الوظيفية هو أن الأخلاق تقوم بوظيفة إقامة معيار للسلوك الإنساني للأفراد ضمن الجماعة التي يعيشون وسطها، من أجل الحفاظ على توازن العلاقات واستمراريتها. أما المعنى الضمني (غير المباشر) للمصطلح فهو أن الأخلاق تكبت الغرائز، لكنها تقوم بتنظيمها أيضا؛ فالأخلاق مصدر للتصور القانوني داخل مجتمع ما، لكن القانون يعيد أيضا صياغة الأخلاق، فالمسألة في تبادل مستمر30.

اكتسبت النزعة الوظيفية معانيَ مختلفة من خلال فلسفة الوضعيين (أوجست كونت، وإيميل دور كايم Durkheim) من خلال تأثرهم بمفاهيم «فولتير» عن الدلالة الاجتماعية للدين والإيمان ودور ذلك في صيانة التماسك الاجتماعي. ثم اتجهت النزعة الوظيفية وانتقلت من علم الاجتماع إلى الفلسفة وعلم النفس، وذلك عندما شُبه التاريخ الاجتماعي والتكوين النفسي بالنظام البيولوجي الحي، إذ إن لكل عضو وظيفةً معينةً في إطار النظام الحيوي لكائن حي واحد، يكون له- بدوره- وظيفته في النظام الحيوي «البيولوجي» العام، الشامل لمجتمع الأحياء برمته.

اقترنت الوظيفية- على جهة العموم إذن- بالاتجاه العضوي الحيوي في العلوم الطبيعية، كما عُرف الاتجاهُ الوظيفي في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بتركيزه على دراسة الثقافات الإنسانية، كل على حدة، وفق واقعها المكاني والزماني؛ ذلك لأنَّ الوظيفية ليست دراسة تعاقبية تاريخية بقدر ما هى آنية. وفي ذلك يختلف الاتجاه الوظيفي عن الدراسات التاريخية النزعة31.

وقد تجلى الاتجاه الذى عُرف لاحقا باسم المماثلة العضوية بداية في أعمال الفلاسفة الأخلاقيين الأسكتلنديين من أمثال «آدم سميث» و«ديفيد هيوم» وغيرهما، من الذين رأوا في المجتمع نسقا طبيعيا ينشأ من الطبيعة البشرية لا من العَقد الاجتماعى. وقد استخدم «مونتسكيو» مفهوم النسق في كتابه الشهير (روح القوانين) بوضعه أسس النسق الاجتماعى الكلي، بناء على ارتباط أجزاء المجتمع ارتباطا وظيفيا. وأصبحت فكرة النسق الاجتماعى هي العامل القوي في إرساء دعائم علم الاجتماع المقارن والأنثروبولوجيا الاجتماعية.

ثم أصبح التحليل الوظيفي مدخلا أساسيا في تحليلات علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية للربط بين النظام الاجتماعي ووظيفته، وبين خصائص سلوك الأفراد الذين يؤلفون ذلك النظام. يشتمل النسق الاجتماعي على عدد من النظم، بحيث يقوم كل نظام بوظيفته المعينة بهدف الحفاظ على سلامة النسق. وينظر الوظيفيون إلى المجتمعات البشرية بوصفها أنساقا اجتماعية تعتمد أجزاؤها على بعضها، ويدخل كل جزء منها في عدد من العلاقات الضرورية مع الأجزاء الأخرى. وقد ذهب «هربرت سبنسر» في موضوع المماثلة إلى أبعد من ذلك؛ حيث شبّه المجتمع من حيث البناء والوظيفة بالكائن الحي، لأن المجتمع ينمو ويتطور تماما كما ينمو الكائن الحي ويتطور. واستخدم «سبنسر» مصطلحات العلوم الطبيعية في تحليلاته البنائية الوظيفية للمجتمع والحياة الاجتماعية، مثل الفسيولوجيا والمورفولوجيا والإيكولوجيا…إلخ. وأشار بوضوح إلى أن البناء يتألف من الأجزاء التي تدخل في تركيبه وفي عناصر جزئية لا حصر لعددها، تؤدي دورها في عملية التساند بين جميع الأجزاء التي تدخل في تركيب البناء الكلي32.

اتخذ «دور كايم» موقفا رافضا للتفسيرات العضوية التي قال بها أنصار الاتجاه العضوي من أمثال «هربرت سبنسر»، مستبعدا إمكانية تفسير الظواهر الاجتماعية من خلال مفهوم المماثلة العضوية. وكان «دور كايم» يسعى إلى تحرير الظواهر الاجتماعية من محتوياتها النفسية وإلى تجريدها من أصولها البيولوجية، بالتركيز على دراسة تلك الظواهر من وجهة نظر اجتماعية صرفة في حدود علم الاجتماع فقط. يرى «دور كايم» أن الظاهرة الاجتماعية يجب أن تتمتع باستقلالها بوصفها ظاهرة قائمة بذاتها، أي إن لها وجودَها المستقل عن الظواهر البيولوجية، ولا يمكنها أن تتأثر إلا اجتماعيا، ولا تُفسَّر إلا على أسس اجتماعية فقط. وفي كتاب (تقسيم العمل) استخدم «دور كايم» الوظيفة بمعنيين: أولا- بالإشارة إلى نسق من الحركات الحيوية اللازمة لحياة الكائن العضوي، وثانيا- بالإشارة إلى العلاقة التي تربط بين تلك الحركات الحيوية وحاجات الكائن العضوي (وظيفة التنفس، والهضم على سبيل المثال). كما استخدم «دور كايم» مفهوم الدور مرادفا لمفهوم الوظيفة؛ لأنه حين يتحدث عن وظيفة الدين- مثلا- فإنه يشير إلى الدور الذي يقوم به الدين في الحياة الاجتماعية. وكان «دور كايم» يوصي تلاميذه دوما بقوله: إذا كنت ترغب في دراسة ظاهرة اجتماعية، فعليك أن تصل إلى السبب الذي أدى إلى الوظيفة التي تقوم بها هذه الظاهرة33.

أما العالم الشهير «مالينوفسكي» (1884-1942م) فقد رأى أن الاحتياجات الأساسية للإنسان، سواء البيولوجية أو الاجتماعية أو النفسية، فهي احتياجات متشابهة، لكن كل مجتمع- وفقا لثقافته- يُلبي تلك الاحتياجات أو يكبتها بأسلوب معين، من أجل تحقيق التوازن بين احتياجات الجماعة ووظائفها وبالتالي حاجات المجتمع كله ووظائفه، واحتياجات الأفراد ووظائفهم. كما أن «رادكليف براون»34 رأى أيضا أن كل ثقافة وكل مجتمع يشكلان معا كيانا متسقا متحدا، يتكون من أجزاء رئيسية (مركزية) وفرعية (تحتية)، بحيث إن كل جزء منها له وظيفة الحفاظ على بقية الأجزاء لأجل سلامته هو تحديدا، أي إن الهدف هو الحفاظ على الكيان الأكبر. فإذا لحق ضرر ما بجزء من الأجزاء، فلا بد أن تتحرك بقية الأجزاء كلها لكي تعدل نفسها في الشكل والمضمون والأسلوب، أي تعدل الوظيفة. وفي عصرنا الحالي فإن معظم علماء الأنثروبولوجيا يمكن عدهم وظيفيين بهذا المعنى الذي قدمه «رادكليف براون»، على الرغم من أن «براون» لم يهتم بدراسة التغيير الاجتماعي أو بتفسيره35.

ثانياً. الوظيفية والتحليل الحكائي:
أنثروبولوجيا الممكنات السردية والتحليل الدلالي للقص:
يهتم التحليل الوظيفي بالاستثمارات البنيوية في مجال النص، خصوصا الشكل القصصي الحكائي؛ وهنا يقترح الشكلانيون الروس، خصوصًا «توماشوفسكي»، هذا المسلك المنهجي من التحليل، كما اقترحه «بروب» سابقا، ثم تطور هذا التحليل خلال الستينيات والسبعينيات، وأتاح المجال لعدد من النظريات الجديدة التي تهدف إلى إبراز كُليات القَصّ.

تتراوح هذه النظريات- عمومًا- بين التمييز بين التجليات الإشارية للقصص وبناها العميقة التي لا تُبالي بجوهر التجليات الإشارية (الخطاب الشفاهي، والمتواليات السينمائية، والإيماءات). وأيضا التمييز بين البنية الواقعية للسرد الحكائي (الحكاية الأسطورية) ونظام الخطاب السارد (أو نظام المسند إليه)، وليس ضروريا أن يكون متسلسلا تاريخيا. ولأجل النفاذ إلى البنية العميقة للقصة فلا بد من الصعود من الخطاب إلى التاريخ، ومن سرد القصة إلى القصة المسرودة. في الوقت نفسه، فإن الحقل الذي يتجه إليه تحليل الكليات القصصية هو أوسع من الميدان المخصص ليكون أدبيا. وبذلك تندمج نظرية «جريماس» السردية في خضم علم الدلالة العام. بينما يدخل التحليل الذي اقترحه «بريمون» في إطار أنثروبولوجيا الممكنات السردية36.

وهنا يمكننا جمع قواعد القَصّ من حيث الأهمية النسبية للبُعدين الدلالي والنحوي في نقاط محددة، أبرزها37:
التحليلات ربما تكون- عموما- ذات هيمنة دلالية، مثل نظرية «ليفي شتراوس» عن الأساطير، التي تقترح جَعْلَ الوظائف التركيبية الموزعة على طول النص ذات تعارضات استبدالية، من المفترض أن تتناسب مع أنساق من التعارضات الدلالية الأساسية للكون الأسطوري .. إلخ. فـــ «شتراوس» يَصعد من التحليل الوظيفي تجاه التحليل الاستبدالي، ومن هنا كانت خصومته مع «بروب»؛ فـــ «شتراوس» يرى أن التسلسل التاريخي للأحداث يذوب- دائما- في بنية سِجلية غير زمنية. وهذا الحضور المُعطَى للعلاقات الاستبدالية يفسر الانتباه القليل الممنوح لبنى النصوص السردية بكل دقة.

التحليلات الدلالية النحوية تحاول اشتقاق القصة انطلاقا من بنية استبدالية مقترحة، بوصفها أساسا منطقيا. وتمثل هذه الحالة نظرية العامل لــ «جريماس»: فإذا كان التحليل عند «شتراوس» يصعد من العلاقات التركيبية إلى العلاقات الاستبدالية، فإن نظرية «جريماس» تزعم أنها تشتق العلاقات الأولى من العلاقات الثانية؛ حيث ينطلق «جريماس» من بنية استبدالية أوّلية للمعنى- وهو المرجع الإشاري الذي يقترب من النموذج غير الزمني عند «شتراوس»- ويدرس الانتشار التركيبي الذي تحكمه. وفيما بعد، طوّر «جريماس» مقارباته لأجل السماح بالمرور من العبارة السردية البسيطة إلى المتواليات، أو إلى المتتاليات الأدائية؛ حيث يرى أنه لا بد من التمييز بين عبارات صيغية من مثل (يريد بيير أن يسافر)، وعبارات وصفية (يسافر بيير)، وعبارات إسنادية (بيير طيب). كما يكون هناك تمييز بين مسندات سكونية تقدم معلومات عن الحالات، ومسندات دينامية تقدم معلومات عن الإجراءات التي تتعلق بالعوامل. ويُقدَّمُ كذلك مفهوم (الأشياء القيمية) التي تعد رهان القصة .. إلخ.

هناك محاولات في التحليل الوظيفي، أهمها التحليلات النحوية الدلالية، مثل (قواعد القصة) لـــ «تودوروف»، و(منطق الممكنات السردية) لـــ «بريمون»، و(النحو السردي) لـــ «ت. بافيل». فــ «تودوروف»- مثلا- ينطلق من النموذج الجُملي، ويرى أن قواعد السرد تمتلك ثلاث فئاتٍ أوّلية: اسم العلم، والصفة، والفعل. وكان هذا النموذج هو نموذج «توماشوفسكي» الذي يطابق بين دراسة الحوافز وتحليل البنية الجُملية؛ حيث تمتلك كل جملة حافزها الخاص؛ وهي النواة الصغرى للمادة الموضوعية المدمجة سببيا على مستوى الحكاية. أما الاسم فيتناسب مع العامل الذي يمكن أن يكون فاعلا أو موضوعا. والصفة والفعل يتناسبان مع المسند؛ حيث يتنبأ الفعل بالعمل، وتتنبأ الصفة بالموصوف، وهذا يعني التنبؤ بعنصر سكوني. وتستطيع المسانيد السردية- بالمعنى الدقيق، التي هي الأفعال- أن تقدم نفسها بصيغ كثيرة: الصيغة الدالة، وصيغتا الإرادة (الاختيار والإجبار)، وصيغتان للفرضية (الصيغة الشرطية والصيغة التنبؤية). وكل صيغة من هذه الصيغ تتناسب مع أوضاع معينة؛ فالإجباري يتناسب مع التعبير عن طلب غير شخصي، والاختياري يتناسب مع أعمال ترغب فيها الشخصية .. إلخ، وهكذا تتولّد القصة من ربط قولين أساسيين على الأقل، بحيث يكون الربط إما منطقيًّا أو زمانيًّا أو مكانيًّا.

وإذا كان تحليل «تودوروف» تركيبيا- كما هو واضح- فإنه لا يُنكر التحليل الاستبدالي الإضافي، ويقترح في مصنفه (التحويلات السردية) توليف التحليل النحوي والاستبدالي في وصف هذه الفئة الأصولية من القواعد السردية، التي أطلق عليها (التحويل الاستدلالي).

وعموما، فإن «جريماس» ينطلق من الدلالة العامة، بينما ينطلق «تودوروف» من البنية اللسانية المحايثة، و«بريمون» و«بافل» يموضعان التحليل في إطار منطق الأفعال السردية، لكنهم جميعا يدورون في فلك «وظيفية بروب». فـــ «بافل»- مثلا- يدرس البنية السردية في ميدان المأساة، منطلقا من نظرية «بروب»، لكنه يعيد صياغتها في إطار نظرية للإبداع السردي مستوحاة من تصورات اللسانيات التحويلية، مُقِيمًا وصفا بنيويا على شكل أشجار ممثِّلة للمكونات السردية؛ حيث ترتبط عُقد هذه الأشجار بفئات دلالية سردية عامة (الوضع البدئي، والانتهاك، والنقص، والتأويل، والخاتمة). وتستطيع الشخصيات في مجرى هذه العقد أن تُغير الميدان، من خلال تغيير التحالف مثلا.. إلخ38.
أخيرا، يجب التمييز بين هذا التحليل الوظيفي للقصة والتحليل التأويلي الذي اقترحه «بول ريكور» في كتابه (زمن وقصة)؛ حيث إن الفئات المركزية لدراسة «ريكور» هي المُحاكاة واستعمال العُقدة، وهما فئتان يحلل بواسطتهما الغائية السردية التي تقود بناء القصة. ومما يُعاب على نظرية «بريمون»- كذلك- أنها تصل إلى إلغاء التسلسل التاريخي، وتجد نفسها- فجأة- إزاء استحالة بيان الديناميكية التي تؤسس القصة بوصفها بنية إجمالية تصنع المعنى، وتقطيع القصة إلى سيرورات ومتواليات يستلزم حضور ديناميكية زمنية، على نحو يكون فيه مفهوم العقدة غيرَ ضروري من وجهة نظر التحليل الوظيفي. وفائدة نظرية «ريكور» تكمن في أنها تقدم توليفا مكونا من مختلف مناهج التحليل الشكلية، وكذلك في الإطار العام الذي اقترحته، من حيث تأويل الوظيفة الوجودية للقصة39. وقد أفاض النقاد في تحليل كل هذه المسائل، أردتُ فقط أن أوضح أبرز ما يخص هذا التحليل المهم من أطروحات.

تأويل المعنى في إطار الخطاب اللساني والثقافي العام:
اولاً. النظرية الكلية («كواين»، «رورتي»، وأبرز جهود فهم الواقع):
- تمتد جذور النظرية الكلية Holism عميقا في الفلسفة، وتدخل- تقريبا- في كل اتجاه معرفي ممكن ضمن أطر المعالجات العلمية للظواهر الوجودية وتفسيرها. تتناول النظرية الكلية أو الشاملة قضايا الحقيقة والمعنى والتفسير تناوُلا كُليًّا في إطار السياق العام لكل حالة. ويميل إلى تلك النظرية الفيلسوف «كواين» W.V.Quine، وغيره من فلاسفة النظريات الثقافية والأدبية، الذين يشتغلون بالتراث التأويلي بصورة عامة، بداية من «شلايرماخر» (1772-1829م)، وانتهاء بهايدجر وجادامير40.

تؤكد هذه النظرية أنه من المستحيل تعيين معاني النصوص أو تفسير المعتقدات المختلفة إلا ضمن إطار أوسع أو سياق شامل من البيئة الخاصة بالعبارة أو الملفوظ أو القول المفرد. وتتباين الآراء حول المدى الدقيق لهذا الأفق التأويلي وكيفية تحديده، أو إذا كان يوجد- من حيث المبدأ- أي حدود للخلفية التي يلزم الإحاطة بها بالنسبة لأي معلومة معينة. لا تهتم المدرسة الفلسفية التحليلية الأنجلو أمريكية بتحديد أي سياق كلي للمعرفة المطروحة، ويتبنى أصحابها الاتجاه البراجماتي (النفعي). بينما يسير الأوروبيون على نهج «هايدجر» في البحث عن الأبنية العميقة في سيرورات التأويل؛ حيث ذهب «هايدجر» إلى أن تاريخ الميتافيزيقا الغربية منذ «أفلاطون» حتى «هوسرل» كان مشتملا على خطأ ما، ظهر عندما حاد التفكير بعيدا عن الحقيقة Aletheia بوصفها كَشْفًا للواقع الذي نظفر به من خلال اللغة41. وسعى «هايدجر» إلى معرفة بديلة لأجل تحليل بناء الحقيقة ومضمونها من خلال نظريات مختلفة عن التصور والمعرفة ومثول الصور الذهنية في الوعي الإنساني. ومن خلال ذلك، رأى «هايدجر» أنه لا يمكن إعادة الفلسفة إلى الطريق الذي يُفضي بها إلى الحقيقة الأولية الجديرة بالتصديق إلا من خلال التغلب على هذا الميراث الميتافيزيقي الغربي المشؤوم، بواسطة تعزيز روح التحدي الفكري المتسم بالقدرة على تفهُّم ما يُعرض على الفكر من تصورات متصلة باللغة بعد تأويلها وفقا للنظرية الكلية. وكان تلميذه «جادامير» هو الأقرب إلى متابعته في هذا السبيل المُفضي إلى فهم أعمق وأشمل لما يُسمى بــــ «دائرة التأويل»، التي تعني الحوار المستمر بين الماضي والحاضر؛ بحيث تقوم من خلاله المعاني والقيم المستمدة من التراث بالتحكم في التفسير، أو التحكم فيما لهذا التفسير من أفق محدد سلفا. ولذلك فقد وجّه «هابرماس» وغيره من النقاد المعارضين لجادامير ولهايدجر تهمة النزعة المحافظة اللانقدية42.

هذه التهمة ترتبط بما حدث في الفلسفة الغربية ونظرية التأويل والتفسير من تحول فكري قائم على تصورات النزعة الكلية، بما يمثل دعما قويا لمختلف أشكال النسبية الثقافية فيما تذهب إليه من تصورات43. فإذا كانت قيمة التعبيرات المختلفة- وفقا لأطروحات علم الاجتماع المعرفي والثقافي- سواء في صورة كلام منطوق أو نصوص مكتوبة، تتوقف على درجة صدقها، فإن هذه الرابطة بين قيمة التعبيرات وصدقها تُعد دالة من دوال دَور هذه التعبيرات في إطار التعبيرات التي يُعتقد في صدقها في أي وقت معين. وإذا لم يكن لهذه التعبيرات معنى مفهوم إلا من خلال تأويلها في ضوء الإطار العام للمعتقدات التي يؤمن بها الناس في مجتمع ما ضمن ثقافة ما، فإنه يترتب على ذلك كله أنه لا يمكن نقد التعبيرات والمعتقدات إلا في ضوء الأسس التقييمية التي أرساها الإجماع الثقافي داخل مجتمع ما. ومن هنا يرى الفيلسوف «ريتشارد رورتي» Rorty ضرورة طرح كل هذه الجدليات حول التعمق الوجودي في الميتافيزيقا الغربية، وحول فكرة الحقيقة بوصفها كيانا Dasein حقيقيًّا كاشفًا للواقع كما عند «هايدجر»، من ثم نتبنى وجهة نظره البراجماتية- أي «هايدجر»- عن اللغة الإنسانية بوصفها طريقة من طرق الحياة العملية، التي لا تتطلب مِنّا أيَّ أسس أخرى لتبريرها، أو لتبرير دعمها دعمًا إبستمولوجيًّا. والخلاصة في كل ذلك أنه لا سبيل لتفسير معنى أي تعبير أو نص عن طريق التحليل اللساني الدلالي فقط، كما هو الحال في فلسفة اللغة عند «فريجه» و«رَسِل»44.

قام الفيلسوف الإنجليزي الإمبريقي «ديفيد هيوم»- في إطار ذلك- بالفصل بين حقائق العقل truths of reason ومسائل الواقع matters of fact، وهو ما تبناه بعد ذلك «برتراند رسل» و«رودولف كارناب» والمناطقة الوضعيون. وكان الجامع المشترك لمختلف الرؤى القول بأن العبارات المختلفة (وهي الأحكام الذهنية أو الأقوال المتصفة بالخَبَرية، أي بقبولها لمعيار الصدق والكذب) تمثل الوحدات التي يتكون منها الخطاب المفهوم، وهذه الوحدات يمكن تحليلها بهدف الكشف عن معمارها الرئيس؛ أي تركيبها اللساني-الدلالي45.

- تفترض الفلسفة التحليلية على ضوء ما تقدم أن46:
1. العبارة تكتسب معناها لما تحويه من شروط الصدق.
2. هذه الشروط يمكن تعريفها وتحديدها من خلال الأجزاء المختلفة التي تتكون منها العبارة. لكن «كواين» فنّد هذا الطرح في مقالته بعنوان: «مسلّمتان من المسلّمات الإمبريقية»، مهاجما هذا البرنامج التحليلي برمته، خصوصا بصيغته التي عُرض بها في كتاب «كارناب» الشهير: «التركيب المنطقي للعالم». فــ «كواين» يرى أن هذا البرنامج قد صادف عددا كبيرا من المشكلات المستعصية على الحل، وأبرز هذه المعضلات- بصورة جوهرية- الإخفاق الشامل في تقديم التبرير اللازم لتسويغ ما يسلم به من تفرقة بين العبارات ذات الطابع التحليلي والأخرى ذات الطابع التركيبي، أو التفرقة بين حقائق العقل المنطقية ومسائل الواقع الإمبريقية47.

لقد أثر «كواين»- بلا شك- في أطروحة «كون» عن بنية الثورات العلمية؛ حيث مثلت هذه الثورات تجسيدا فكريا متماسكا للمضامين البعيدة لأفكار «كواين» في مجالي فلسفة العلوم وتاريخ العلم. كما يُلاحظ- كذلك- أن هناك علاقة ما بين رأي «كواين» الخاص بدعم اتجاه تفسير العبارات والنصوص بالاعتماد بصورة كلية على السياق العام الشامل والمحيط (النزعة الكلية في تفسير المعنى)، وفكرة «ميشيل فوكو» التي ترى أن الحقيقة لا تعدو أن تكون محصِّلة للأوضاع المتبدلة باستمرار عبر حقب التاريخ المختلفة، وهي الحقيقة التي تؤثر في (نظام الأشياء)، المتولِّد من خلال انتقالها من حال إلى آخر، ويتحقق هذا النظام من خلال الاتفاق الاجتماعي عليه، عُرفيًّا وثقافيًّا48.

- لقد تطورت نظرية كلية المعنى نتيجة لرد فعل قوي مضاد للنظريات التي تبنت الاتجاه المنطقي الدلالي، وهي النظريات التي تتناول العبارة أو القضية (أي القول المحتمل للكذب أو للصدق في ذاته) بمعزل عن السياقات المحيطة بها، وترى أن هذه العبارة أو القضية هي موضوعها الأساسي الذي ينبغي عليها أن تحلله. وكان هذا الاتجاه على رأس القطيعة المعرفية مع الفلسفة الذرية المنطقية التي أيدها «رسل» زمنا معينا، وهي الفلسفة التي طبقها- بصورة مختلفة قليلا وبنزعة اختزالية أقل صراحة- أصحاب النزعة المنطقية الإمبريقية، مثل «كارناب» و«تارسكي». ولذلك يرى «كواين» أنه من اللغو الحديث عن جزء لغوي وجزء فعلي من أجزاء الحقيقة الموجودة في أي عبارة مفردة، فهذا خطأ وقعت فيه النزعة المنطقية الإمبريقية، ووقع فيه «كانط» و«هيوم» وغيرهما، لأنهم فكروا في التفرقة بين الأحكام التحليلية والتركيبية، أو التفرقة بين حقائق العقل ومسائل الواقع. ويرى «كواين» أن العلم يعتمد اعتمادا مزدوجا على كل من اللغة والتجربة. إن نظرية «كواين» عن المعرفة والحقيقة القائمة على النظرة الكلية إلى السياق، وعلى نزعة النسبية الثقافية، هي التي فتحت الطريق أمام التقارب الحالي المعروف بين بعض المذاهب الفكرية ما بعد التحليلية، والمذاهب الفكرية الأوروبية من ناحية أخرى، على الرغم من وجود بعض التوترات الواضحة والمستمرة بينهم49.

ثانيا. «ميخائيل باختين» وأطروحة تحليل الحوار ضمن الخطاب الثقافي العام:
تمثل هذه الأطروحة «علم التحاور» أحد المفاهيم الأساسية التي استخدمها عالم اللغة والناقد الروسي «ميخائيل باختين» (1895-1975) في إطار نظريته حول اللغة الإنسانية والخطاب الثقافي عموما، وهي النظرية التي مثّلت نقدا مبكرا- في ذلك الوقت- لنظرية العالم السويسري «دي سوسير» (1857-1913م)، التي لم تعترف بالتطور التاريخي للغة، ولا بتأثر أي لسان من الألسن بالتغيرات الحضارية والاجتماعية، بما مثّل- أيضا- رافدا من الروافد التي اعتمدت عليها المدرسة البنيوية المتأخرة في ستينيات القرن العشرين، وكانت مقدمة لنظرية الخطاب، التي طورها مفكرو ما بعد البنيوية، ومنهم- على جهة التحديد- الفرنسيون في سبعينيات القرن العشرين50.

طرح «باختين» تصوره حول أنموذج التطور التاريخي للغة في كتابه «الماركسية وفلسفة اللغة»، وقد نشره تحت اسم مستعار «فولوشينوف» عام 1929م، واقترح فيه أن التعبيرات اللغوية (المفردات المعجمية والعبارات والجُمل .. إلخ)51، تتشابك- بصورة دائمة- في صورة حوار لفظي أيديولوجي، تشترك- من خلاله- في عملية التوزيع غير المتكافئ للسلطة الاجتماعية، مما يجعلها أسيرة الاندفاع العام داخل المجتمع نحو الصورة الأوسع، المتمثلة في الخطاب الرسمي الأوحد والرأي الأوحد.

هذا الطرح أدى إلى مواجهة «باختين» للسلطة الحاكمة- آنذاك- ممثَّلة في «ستالين»، لأن «باختين» يقدم مقاربة جوهرية عن علم التحاور، مركزها القاعدة الحوارية الكامنة في تركيب اللغة ووجودها، بما يمثل نقدا ضمنيا لمسيرة الحكم وقتها- من جهة- ومن جهة أخرى، يمثل هذا التوجه خروجا كبيرا- كما رأوا- على أحد المبادئ الأساسية للماركسية؛ وهو مبدأ الأصل الطبقي لكل الظواهر الاجتماعية، ما أدى إلى عزل «باختين» ومطاردته بشتى الصور.

واصل «باختين» تطوير مفهوم علم التحاور والحواريات اللغوية؛ فألف كتابه (الخيال الحواري) عام 1934، وقد صدر عام 1941، وتُرجم بالولايات المتحدة- لاحقا- عام 1981، وصدر عن دار نشر جامعة تكساس، بأوستين. ورأى «باختين» بهذا الكتاب أن الخطاب يعيش على الحدود الممتدة بين سياقه الخاص، وسياق آخر مغاير له وغريب عنه. كما رأى أن الأدب الروائي (الرواية بوصفها جِنسا أدبيًّا)- من خلال النَّظر الفاحص- هو النوع الأدبي الذي يمكنه استغلال مثل هذا التفاعل المزدوج للخطاب (أو الحياة المزدوجة للخطاب)؛ بمعنى التنبه إلى التنافس الآني الحادث بين أكثر من سياقين أو خطابين، لكل منهما سياقُه الخاص؛ فقال مثلا إن «دستويفسكي»- بصفة خاصة- هو الكاتب الروائي الذي أبدع الرواية البوليفينية (المتعددة الأصوات)؛ حيث تتعدد زوايا الرؤية، ويتفاعل ويتنافس أكثر من سياق واحد، من حيث تستطيع الشخصيات الروائية- التي يُبدعها المؤلف- أن تقف إلى جانبه وتتبنى موقفه، أو تختلف معه، أو تتمرد عليه، كما قال «باختين» عن شخصيات روايات «دستويفسكي» والعلاقات الكثيرة القائمة بينها. وقد نجد أمثلة لمثل ذلك في روايات «محفوظ» و«إدوارد الخراط» .. إلخ52.

بذلك يكون الطابع الحواري الكامن في الإبداع اللغوي للأدب قائما على انفتاح بنية الخطاب المغلقة، بحيث يحدث التفاعل مع خطاب آخر غريب عنها، أو خطاب آخر خاضع للخطاب المسيطِر، من ثم تتزعزع سلطة الخطاب السائد، وتنشأ الدعوة إلى مراجعته وإيجاد أصوات أخرى إلى جانبه. ويرى «باختين» أن هذا الأمر يمكن أن يتحقق بواسطة أساليب بلاغية مختلفة، من مثل المضاهاة والمحاكاة الساخرة parody والتهكم وفنون «الكاريكاتور».

كما ضرب أمثلة تاريخية على ذلك، ورأى أن أفضل من قام بمثل هذه الأساليب هو الروائي والطبيب الفرنسي «فرانسوا رابليه» Rabelais، من عصر النهضة، الذي تهكّم- في رواياته الرمزية المشهورة- على سلطة «لويس الرابع عشر»- الملك الشمس- وسَخِرَ من سعيه إلى تصوير نفسه في صورة ملك العالم والحاكم بالنيابة عن الله، وذلك من خلال استعمال الرمز في الشخصيات الأسطورية (الخرافية) (حياة «جارجانتوا» و«بانتاجرويل» La vie de Gargantua et de Pantagruel)؛ وهي عبارة عن سلسلة روايات خماسية، كتبها «رابليه» في القرن السادس عشر53.

وأوضح «باختين» أن «رابليه»- في هذه الروايات الشهيرة- قد أطلق عالم الجسد والحواس من السجن الأزلي، بواسطة موتيفات الضحك المتهكم على عالم الرسميات الكئيب. وقد أدى طرح «باختين» هذا إلى استحداثه لمفهوم آخر هو (الكرنفالية أو الاحتفالية)؛ حيث يزداد تفكيك البنى التقليدية الجامدة للغة وللمجتمع وهدمها وإعادة صياغتها. ورأى في هذا المفهوم الجديد أن استخدام العنصر التهكمي الشعبي وتقنيات السخرية عند الكُتاب الكبار تمتزج- دائما- بالنشاط الجماعي المعبر عن الرأي الشعبي في المؤسسات والأوضاع المرفوضة، والسعي الجماعي لإسقاطها. واهتم- لأجل كل ذلك- بتداخل وجهات النظر والمواقف ومختلف اللغات في الحوارات، التي تشكلت منها هذه الكرنفالات Carnivals أو (الاحتفاليات الشعبية)54. بما عبر- في رأيه- عن التوجه الديمقراطي الأصيل للفنون بمختلف صورها وأشكالها.

خلاصة وخاتمة:
- أبرزت الدراسة أهم جوانب التداخل البيني للأنثروبولوجيا والثقافة في الخطاب الإنساني عموما.
- ألمحت المباحث المختلفة إلى جهود كثيرين من الإناسيين وعلماء اللسانيات والاجتماع والنقاد في معالجة ظاهرة الخطاب والثقافة.
- بيّنت المناقشات المختلفة التي طرحناها الدور البارز للباحثين القدامى والمحدثين في تسليط الضوء على الظاهرة اللسانية في علاقتها ببلورة مختلف المفاهيم الاجتماعية والتاريخية والثقافية.. إلخ.
- استطعنا من خلال تحليل بعض النماذج والأطروحات الثقافية المتنوعة بلورة مقاربة بينية لتداخل الخطابات العلمية والفلسفية المختلفة، واستيضاح دورها في تشكيل العقل الحديث والبناء الفكري للإنسان.
- قدمت الدراسة نموذجا مُهمًّا للتحليل الوظيفي والسرد الحكائي، بوصفه أحد أبرز عناصر بناء التفكير، حتى إن القرآن الكريم قد استعان بأسلوب السرد والقصة في تشكيل أبنية ذهنية شديدة التداخل والتأثير عند المتلقي، عربيًّا كان أو أجنبيًّا. وقد وقفنا من خلال هذا التحليل على أبرز البنود الرئيسة المشاركة في تكوين الوجه الثقافي الاجتماعي، من خلال الدور المركزي للسانيات وتحليل علاقة الرمز بالواقع .. إلخ.
- انتهت الدراسة ببيان أبرز محطات معالجة التداخل الاختصاصي للفلسفة واللسانيات والخطاب الثقافي، من خلال عرض بعض نماذج التمثيل عند الفلاسفة التحليليين وعلماء التأويل والنقاد الاجتماعيين .. إلخ. وهي المعالجات التي لا يمكن بأي حال إغفال أهميتها في التأثير على أسس البناء الفكري والثقافي ضمن سيرورات البحث البيني المعاصر.

 

الهوامش

1. للمزيد من التفاصيل، زكي الميلاد: المسألة الثقافية .. من أجل بناء نظرية في الثقافة، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، ط 2، 2010، ص 24 وما بعدها. وانظر أيضا، عبد الرحمن طعمة: البناء الذهني للمفاهيم .. بحث في تكامل علوم اللسان وآليات العرفان، دار كنوز المعرفة، الأردن، 2019، ص 60 وما بعدها.
2. مالك بن نبي: مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، بيروت، 2000، ص 27 وما بعدها.
3. مشكلة الثقافة، المرجع نفسه، ص 28.
4. أحمد أبو زيد: محاضرات في الأنثروبولوجيا الثقافية، دار النهضة العربية، بيروت، 1978، ص 38.
5. محاضرات في الأنثروبولوجيا الثقافية، المرجع نفسه، ص 40.
6. Hobel, E.A: The Nature of Culture, in: Shapiro, H.L (ed): Man, Culture & Society, New York, 1960, P 198.
7. راجع للمزيد من التفاصيل، البناء الذهني للمفاهيم، مرجع سابق، ص 68 وما بعدها. وانظر أيضا الكتاب المهم لفايسجربر (مجتمع اللغة بوصفه موضوعًا للسانيات):
- John Leo Weisgerber: Die Sprachgemeinschaft Als Gegenstand Sprachwissenschaftlicher, Westdeutscher Verlag, 1967.
8. راجع تفاصيل هذه المسألة في الترجمة العربية للكتاب، مارسل موس: بحث في الهبة .. شكل التبادل وعلته في المجتمعات القديمة، ترجمة المولدي الأحمر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2011.
9. للتفاصيل حول "بواس" وأعماله وتاثيره في فلسفة الثقافة:
- Herbert Lewis: "Boas, Darwin, Science and Anthropology", in: Current Anthropology, 42 (3): 381–406, 2001.
10. أندرو إدجار وبيتر سيدجويك: موسوعة النظرية الثقافية، المفاهيم والمصطلحات الأساسية، ترجمة هناء الجوهري، المركز القومي للترجمة، العدد 1357، القاهرة، ط 2، 2014، ص 104.
11. موسوعة النظرية الثقافية، ص 105 وما بعدها.
12. بمعنى دراسة الممارسات العلاجية الشعبية، ودراسة المعتقدات والاتجاهات والاستراتيجيات الخاصة بالصحة والمرض. وهو مصطلح يُستعمل بالتبادل مع مصطلح "الأنثروبولوجيا الطبية"، ويفضله البعض لأنه يتضمن أهمية دراسة المفاهيم والتفسيرات الشعبية الطبية في مجال المرض والصحة.
13. انظر للمزيد من الأمثلة والتحليلات، شارلوت سيمر-سميث: موسوعة علم الإنسان، ترجمة محمد الجوهري (وآخرين)، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط 2، 2008.
14. موسوعة النظرية الثقافية، ص 423 وما بعدها.
15. للتفاصيل، رايموند ويليامز: الثقافة والمجتمع، ترجمة وجيه سمعان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1986، ص 20 وما بعدها.
16. أشرف منصور: نظرية المعرفة بين كانط وهوسرل، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2016، ص 31 وما بعدها.
17. موسوعة النظرية الثقافية، ص ص 425-426.
18. رصد نيوتن خمسة ألوان فقط من ألوان الطيف، وبسبب تأثره بالكيمياء القديمة وبالدلالة السحرية للأعداد أضاف لونين آخرين لأجل أن يصل إلى العدد 7 السحري! وراجع أفكار "توماس كون" في كتابه الأشهر: بنية الثورات العلمية، ترجمة شوقي جلال، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2003.
19. موسوعة النظرية الثقافية، ص 428.
20. سامي خشبة: مصطلحات الفكر الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2006، 2/45.
21. مصطلحات الفكر الحديث، 2/46.
22. للتفاصيل راجع، فريدريك جيمسون: ما بعد الحداثة، المنطق الثفافي للرأسمالية المتأخرة، ترجمة أحمد حسان، مجلة الجراد، مارس، 1994، ص 115 وما بعدها.
23. للمزيد من التفاصيل، موسوعة النظرية الثقافية، ص 332 وما بعدها.
24. جذور هذه النزعة ضاربة في القدم إلى زمن أشعار المصريين القدماء والبابليين واليونانيين، وقصصهم عن البطولة والحب، والملاحم ... إلخ.
25. اهتم "جوتفريد هيردر" Herder (1744-1803م) بالثقافات الشعبية وبالثقافات غير الأوروبية، وعَدّ هذه الثقافات غيرَ ممثلةٍ للأصول البدائية للحضارة الأوروبية، بل هي ثقافات لها شرعيتها الخاصة بها، ولها- كذلك- معاييرها التي تحكم بها على المعنى وعلى التميز. وبينما كان "هيردر" يكتب في رد فعل ضد عقلانية "كانط"، كان "كانط" نفسُه يرتبط بعلاقة معقدة بالرومانسية؛ حيث يُخضع الأخلاق للعقل، بينما نظريته عن المعرفة وعلم الجمال تستهدف الكشف عن حدود المعرفة والعقل، مقيِّدةً- بذلك- نطاق البحث العلمي، من أجل إتاحة مجال للإيمان ... إلخ. راجع للتفاصيل، موسوعة النظرية الثقافية، ص 336.
26. مصطلحات الفكر الحديث، 1/367.
27. انظر للتفاصيل، إيزايا برلين: جذور الرومانتيكية، ترجمة سعود السويدا، جداول للنشر، بيروت، ط 1، 2012، ص 59 وما بعدها.
28. مصطلحات الفكر الحديث، 1/368.
29. هو "فرانسوا ماري آروويه" François-Marie Arouet الشهير بـــ "فولتير" Voltaire (1694- 1778م)، الفيلسوف الفرنسي الساخر الشهير، الذي عاش فيما عُرف بعصر التنوير، وكان من كبار المدافعين عن الحريات المدنية وحرية العقيدة وكرامة الإنسان. وكان غزير الإنتاج والتأليف في مختلف صنوف المعرفة والأدب والفلسفة.
30. مصطلحات الفكر الحديث، 2/386.
31. Heidi Keller (et al) (eds): Between Culture and Biology, Perspectives on Ontogenetic Developments, Cambridge University Press, 2002, P 13, P 57.
32. للمزيد من التفاصيل، لغرس سوهيلة: التغير الاجتماعي، التعريف والخصائص والنظريات، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة عبد الحميد بن باديس- مستغانم، الجزائر، المجلد 5، العدد 1، 2019، ص ص 83-96.
33. للمزيد من التفاصيل راجع، وردة عبد العظيم قنديل: البنيوية وما بعدها بين التأصيل الغربي والتحصيل العربي، رسالة ماجستير، إشراف عبد الخالق العف، الجامعة الإسلامية، غزة، 2010، ص 35 وما بعدها.
34. "ألفريد رادكليف براون" Alfred Radcliffe-Brown (1881-1955م)، هو عالم أنثروبولوجيا إنجليزي، خصص جُل أعماله لدراسة الشعوب غير الصناعية والسكان الأستراليين الأصليين تحديدًا، كما فضل القيام بدراسة مكثفة ودقيقة للعلاقات المجتمعية أو البنية المجتمعية، تأثرًا بالمدرسة الوضعية عند "دور كايم"؛ فرأى- مثل "دور كايم"- أن العلوم الاجتماعية قادرة على إنتاج قوانين ذات صفة جامعة. ورأى كذلك التشابه الكبير بين التطور الطبيعي وتطور المجتمع؛ فالمجتمعات هي كائنات بيولوجية، لكنه رفض كذلك قوانين التطور ... إلخ.
35. Adam Kuper: Anthropology and Anthropologists, The Modern British School, London, Penguin, 1973, Pp 45–46.
36. ناهضة ستار: بنية السرد في القصص الصوفي..الممكنات والوظائف والتقنيات، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، ص 148، ص 154.
37. أوزفالد ديكرو، وجان ماري سشايفر: القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللسان، ترجمة منذر عياشي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2013، ص ص 575-577.
38. للتفاصيل، لخضر العرابي: المدارس النقدية المعاصرة، دار الغرب للنشر والتوزيع، الجزائر، 2007، ص 268 وما بعدها. وانظر أيضا، القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللسان، المرجع السابق، ص 578.
39. للتفاصيل، القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللسان، ص 579. ولـــ "بول ريكور" هنا نص مهم جدا؛ يقول: "إن معنى السرد أو دلالته تنبثق من التفاعل بين عالم النص وعالم القارئ من خلال العملية التأليفية، التي يصبح فيها القارىء أحد المشاركين في فعل السرد، حيث يمنحه القدرة على إعادة الصياغة للحياة". وبدون فهم عالم النص لن يكون لهذه العملية معنى، لأن الحديث عن هذا العالم يعني "التركيز على ملمح ينتمي إلى أي عمل أدبي، يفتح أمامه أفقا لتجربة ممكنة، عالم يمكن أن يُعاش فيه؛ فليس النص بالشيء المغلق على ذاته، بل هو مشروع كون جديد منفصل عن الكون الذي نعيش فيه." ديفيد وورد: الوجود والزمان والسرد (فلسفة بول ريكور)، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، المغرب، 1999، ص 47.
40. صلاح إسماعيل: اللغة والعقل والعلم في الفلسفة المعاصرة، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2018، ص 203 وما بعدها.
41. Jan Woleński: Aletheia in Greek thought until Aristotle, Annals of Pure and Applied Logic (127), 2004, Pp 339–360.
42. موسوعة النظرية الثقافية، ص 502 وما بعدها.
43. للمزيد من التفاصيل والتحليلات المتعمقة، انظر:
- Robert J. Thornton: The Rhetoric of Ethnographic Holism, Cultural Anthropology, 3 (3), August 1988, Pp 285-303.
44. للمزيد من التفاصيل، صلاح إسماعيل: البراجماتية الجديدة، فلسفة ريتشارد رورتي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2013، كلية وجود اللغة، ص 139 وما بعدها؛ وموسوعة النظرية الثقافية، ص 503.
45. موسوعة النظرية الثقافية، ص 504.
46. موسوعة النظرية الثقافية، ص 505 وما بعدها.
47. راجع المزيد حول مسألة الصدق والواقع، صلاح إسماعيل: فلسفة اللغة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2017، ص 211 وما بعدها.
48. للتفاصيل، موسوعة النظرية الثقافية، ص 512 وما بعدها. وانظر للمزيد، اللغة والعقل والعلم، مرجع سابق، ص 203 وما بعدها.
49. يرى "كواين" أن الملاحظة والتجربة لا يمكنهما أن يعكسا لنا الواقع على حقيقته، وهذا راجع لاختلاف أسلوب العمل الإجرائي المرتبط بالزمان وبالمكان؛ فلكل نظرية إطار مفاهيمي نتج عن العلاقات المتداخلة والمتشابكة، ترجع إليه- دوما- النظرية، كما تتحدد من خلال اللغة التي لا تقبل الترجمة إذا انتقلت إلى نسق آخر، وهذا ما يسميه "كواين" بــــ "لا تحديدية الترجمة". للمزيد من التفاصيل، يوسف تيبس: الإبستمولوجيا الطبيعانية عند ويلارد كواين، مجلة رؤى تربوية، العدد 29، 2009، ص ص 57-61.
50. مصطلحات الفكر الحديث، 1/329.
51. عرض "باختين" أهم الاتجاهات الفلسفية اللسانية في القسم الثاني من الفصل الرابع من هذا الكتاب، شارحًا اتجاهين رئيسين في مجال تحديد موضوع فلسفة اللغة: الاتجاه الفلسفي-اللساني الأول أطلق عليه (المثالية الذاتية في اللسانيات)، مُحددًا سمات هذا الاتجاه في النقاط الموالية: 1- اللسان نشاط، وسيرورة بناء إبداعية متواصلة (طاقة فاعلة(. 2- قوانين الإبداع اللغوي في جوهرها هي قوانين فردية-نفسية. 3- الإبداع اللساني إبداع (معقلن) مشابه للإبداع الفني. 4- تبدو اللغة بوصفها نظاما قارًّا (المعجم، والنحو، وعلم الأصوات ... إلخ) مستودعا جامدا مُجردا، جاهزا للإبداع والاستعمال.
- أما الاتجاه الفلسفي-اللساني الثاني فقد أطلق عليه "باختين" اسم (الموضوعاتية المجردة)، وحدد سماته في:
- 1- اللسان نظام ثابت، غير متحرك، من الأشكال اللسانية الخاضعة لمعيار يتسلمه الوعي الفردي- كما هو- بكيفية إجبارية. 2- قوانين اللسان- في جوهرها- هي قوانين لسانية من نوع خاص، تقيم روابط بين الأدلة اللسانية داخل نظام مغلق، وتكتسي بصبغة الموضوعية بالنسبة لكل وعي ذاتي. 3- لا علاقة بين الروابط اللسانية الخاصة والقيم الأيديولوجية (الفنية، والمعرفية ... إلخ). كما لا يوجد أي حافز أيديولوجي في أساس الوقائع اللسانية، وليس بين الكلمة ومعناها علاقة طبيعية ومفهومة بحيث يدركها الوعي، كما لا توجد أي علاقة فنية بينهما. 4- ليست أفعال الكلام الفردية– من وجهة نظر اللسان- سوى انحرافات أو تنويعات عارضة، فهي مجرد تشويهات لصيغ معقدة. لكن أفعال الكلام الفردية هذه هي التي تفسر التحول التاريخي الذي يحدث في صيغ اللسان. والتحول- بهذا الطرح- غير معقول ولا معنى له من وجهة نظر النظام، ولا توجد بين نظام اللسان وتاريخه علاقة ولا وحدة في الحوافز، فهما غريبان عن بعضهما. للتفاصيل:
- ميخائيل باختين: الماركسية وفلسفة اللغة، ترجمة محمد البكري، ويمنى العيد، دار توبقال للنشر، المغرب، ط 1، 1986، ص 80 وما بعدها.
- Mikhaïl Bakhtine: Le Marxisme et la Philosophie du Langage, Essai d’Application de la Méthode Sociologique en Linguistique, Traduit du Russe et Présenté par Marina Yaguello,
- Préface de Roman Jakobson, Minuit, Paris, 1977. P 74. P.134.
52. مصطلحات الفكر الحديث، 1/330. وانظر أيضا، ميخائيل باختين: شعرية دستويفسكي، ترجمة جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، المغرب، ط 1، 1986، ص 176 وما بعدها.
53. للمزيد حول هذه المسألة، ميخائيل باختين: أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة، ترجمة شكير نصر الدين، منشورات دار الجمل، بيروت، ط 1، 2015.
54. أنور المرتجى: ميخائيل باختين الناقد الحواري، زاوية للفن والثقافة، الرباط، المغرب، ط 1، 2009، ص 163 وما بعدها.

المراجع العربية:

- أحمد أبو زيد: محاضرات في الأنثروبولوجيا الثقافية، دار النهضة العربية، بيروت، ط1، 1978.
- أشرف منصور: نظرية المعرفة بين كانط وهوسرل، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2016.
- أندرو إدجار وبيتر سيدجويك: موسوعة النظرية الثقافية، المفاهيم والمصطلحات الأساسية، ترجمة هناء الجوهري، المركز القومي للترجمة، العدد 1357، القاهرة، ط 2، 2014.
- أنور المرتجى: ميخائيل باختين الناقد الحواري، زاوية للفن والثقافة، الرباط، المغرب، ط 1، 2009.
- أوزفالد ديكرو، وجان ماري سشايفر: القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللسان، ترجمة منذر عياشي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2013.
- إيزايا برلين: جذور الرومانتيكية، ترجمة سعود السويدا، جداول للنشر، بيروت، ط 1، 2012.
- توماس كون: بنية الثورات العلمية، ترجمة شوقي جلال، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2003.
- ديفيد وورد: الوجود والزمان والسرد (فلسفة بول ريكور)، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، المغرب، 1999.
- رايموند ويليامز: الثقافة والمجتمع، ترجمة وجيه سمعان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1986.
- زكي الميلاد: المسألة الثقافية .. من أجل بناء نظرية في الثقافة، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، ط 2، 2010.
- سامي خشبة: مصطلحات الفكر الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2006.
- شارلوت سيمر-سميث: موسوعة علم الإنسان، ترجمة محمد الجوهري (وآخرين)، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط 2، 2008.
- صلاح إسماعيل: البراجماتية الجديدة، فلسفة ريتشارد رورتي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2013.
- صلاح إسماعيل: فلسفة اللغة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2017.
- صلاح إسماعيل: اللغة والعقل والعلم في الفلسفة المعاصرة، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2018.
- عبد الرحمن طعمة: البناء الذهني للمفاهيم .. بحث في تكامل علوم اللسان وآليات العرفان، دار كنوز المعرفة، الأردن، 2019.
- فريدريك جيمسون: ما بعد الحداثة، المنطق الثفافي للرأسمالية المتأخرة، ترجمة أحمد حسان، مجلة الجراد، مارس، 1994.
- لخضر العرابي: المدارس النقدية المعاصرة، دار الغرب للنشر والتوزيع، الجزائر، 2007.
- لغرس سوهيلة: التغير الاجتماعي، التعريف والخصائص والنظريات، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة عبد الحميد بن باديس- مستغانم، الجزائر، المجلد 5، العدد 1، 2019.
- مارسل موس: بحث في الهبة .. شكل التبادل وعلته في المجتمعات القديمة، ترجمة المولدي الأحمر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2011.
- مالك بن نبي: مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، بيروت، 2000.
- ميخائيل باختين: الماركسية وفلسفة اللغة، ترجمة محمد البكري، ويمنى العيد، دار توبقال للنشر، المغرب، ط 1، 1986.
- ميخائيل باختين: شعرية دستويفسكي، ترجمة جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، المغرب، ط 1، 1986.
- ميخائيل باختين: أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة، ترجمة شكير نصر الدين، منشورات دار الجمل، بيروت، ط 1، 2015.
- ناهضة ستار: بنية السرد في القصص الصوفي..الممكنات والوظائف والتقنيات، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003.
- وردة عبد العظيم قنديل: البنيوية وما بعدها بين التأصيل الغربي والتحصيل العربي، رسالة ماجستير، إشراف عبد الخالق العف، الجامعة الإسلامية، غزة، 2010.
- 27. يوسف تيبس: الإبستمولوجيا الطبيعانية عند ويلارد كواين، مجلة رؤى تربوية، العدد 29، 2009.

المراجع الأجنبية:

- Adam Kuper: Anthropology and Anthropologists, The Modern British School, London, Penguin, 1973.
- Heidi Keller (et al) (eds): Between Culture and Biology, Perspectives on Ontogenetic Developments, Cambridge University Press, 2002.
- Herbert Lewis: "Boas, Darwin, Science and Anthropology", in: Current Anthropology, 42 (3): 381–406, 2001.
- Hobel, E.A: The Nature of Culture, in: Shapiro, H.L (ed): Man, Culture & Society, New York, 1960.
- Jan Wole ski: Aletheia in Greek thought until Aristotle, Annals of Pure and Applied Logic (127), 2004.
- John Leo Weisgerber: Die Sprachgemeinschaft Als Gegenstand Sprachwissenschaftlicher, Westdeutscher Verlag, 1967.
- Mikhaïl Bakhtine: Le Marxisme et la Philosophie du Langage, Essai d’Application de la Méthode Sociologique en Linguistique, Traduit du Russe et Présenté par Marina Yaguello, Préface de Roman Jakobson, Minuit, Paris, 1977.
- Robert J. Thornton: The Rhetoric of Ethnographic Holism, Cultural Anthropology, 3 (3), August 1988.

الصور

1. www.freepik.com
2. https://librieparole.it/wp-content/uploads/2020/04/sturmunddrang-1280x720.jpg
3. https://cdn.stylepark.com/manufacturers/g/glas-italia/produkte/sturm-und-drang/sturm-und-drang-3.jpg?mtime=20160909095831&focal=none

أعداد المجلة