فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
8

«المحنـــية» مـــزار مــن أصل إفريقي في مدينة القيروان - تونس

العدد 8 - عادات وتقاليد
«المحنـــية» مـــزار  مــن أصل إفريقي  في مدينة القيروان  - تونس
كاتب من تونس

إن الدراسات السابقة المتعلقة بإفريقيا الشمالية أظهرت أن السكان المحليين أو البربر غائبون أو سلبيون من حيث مسا همتهم الحضارية في تاريخ الربوع الإفريقية. لكن منذ السنوات الأخيرة بدأت الأبحاث تُبرز مشاركتهم في تاريخ شمال إفريقيا وكذلك المتوسط و أضحت إضافتهم تُثمن يوما بعد يوم. هذه المقاربة التي تُبين مشاركتهم الفعلية انطلقت منذ بضع سنوات وهي تتدعم بفضل قراءة جديدة للمعطيات المتوفرة وبفضل ما تُقدمه المكتشفات الجديدة(1).المعلم الأثري الذي سأقدمه يُبين تواصل عادات محلية قبل إسلامية في الثقافة المعاصرة في مدينة القيروان(2) ويُصوّر بذلك أحد أشكال مساهمة المحليين الأفارقة في صياغة تاريخ وثقافة هذه المنطقة.

1 - انتشار طقوس الخصوبة وتأصلها

إن دراستي للفخار النذري(3) المخصص في جزء منه لإحياء طقوس الخصوبة جعلتني أهتم بالممارسات الدينية لدى العديد من الحضارات والثقافات و بذلك اكتشفت انتشار طقوس الخصوبة(4) وكذلك قِدمها و تنوّعها إلى جانب تواصل عدة ممارسات وكذلك أدوات لها علاقة بهذه الطقوس في كامل المتوسط على الأقل(5).ومما يزيد  من تأكيد أهمية هذه الطقوس أن أقدم الأعمال الفنية التي وصلتنا تُظهر لنا أن الخصوبة قد احتلت مكانة لا يُستهان بها لدى الكائن البشري. نظرا لعلاقتها بفكرة الإنجاب فان الخصوبة مرتبطة دون شك بغريزة البقاء لدى بني البشر. إلى جانب ذلك فان الخصوبة مرتبطة بفكرة البركة. إنّ عقيدة البربر خاصة لدى الريفيين(6) منحت هذه الفكرة بُعدا كونيا تقريبا فهم يعتبرونها تُؤمّن الحماية وتساهم في الخصوبة البشرية و الطبيعية و الحيوانية بذلك فهي تمنح الأمن والثقة وذلك ما يُفسر تواصلها المذهل عبر الأزمنة.

2 - تواصل عادات البربر رغم انتشار الإسلام

اليوم رغم انتشار الإسلام في البلاد التونسية مما يجعلنا نعتقد انقراض طقوس لها علاقة بالخصوبة لأنها تُعد ضربا من الوثنية و تُعتبر ممنوعة في المنظومة الرسمية فإنه في مدينة القيروان التي تُعد معقلا للإسلام في بلاد المغرب لفت انتباهي مكان تُمارس فيه طقوس لها علاقة وطيدة بالخصوبة (الشكل2). لقد ساد الاعتقاد الخاطئ لمدة طويلة أن مدينة القيروان خالية من أي وجود سابق للمسلمين وقد ساهمت المصادر العربية كثيرا في صياغة هذا الرأي بالترويج لفكرة تأسيس هذه المدينة من عدم. يعتبر أصحاب هذا الرأي أن تسمية القيروان من أصل فارسي و هي تعني محطة القوافل.(7)ليس من شك في أن هذه التسمية تؤكد الدور العسكري المركزي لهذه المدينة في الحضور الإسلامي في بلاد المغرب(8) لكن المعطيات العلمية وبالخصوص منها الأثرية بدأت تضرب هذا التصور بالكشف يوما بعد يوم عن الماضي القبل إسلامي لمدينة القيروان أو على الأقل عن الطابع المزدوج لثقافة بلاد المغرب الإسلامي. فهذا المعلم الذي له علاقة بطقوس الخصوبة القبل إسلامية يساهم في الكشف عن الهوية الثقافية الفعلية لمدينة القيروان وجهتها.

3 - مزار يسمى «المحنية»

هذا المعلم يتخذ شكل طاقة ملاصقة لمسجد الأنصاري أو الأنصار الواقع في الجنوب الغربي من سور مدينة القيروان غير بعيد عن الباب الجديد (الشكل3). تقول الرواية إن هذا المسجد هو أول المساجد بالقيروان و من المتفق تأريخه لسنة 47 هجرية التي توافق سنتي 667-668 ميلادية. تفيد المصادر أن مؤسس المسجد هو صحابي ميسور من المدينة المنورة و قد مات شهيدا في القيروان ودُفن في الساحة الملاصقة للمسجد. تُسمى هذه الطاقة المْحِنِيّة وهي في شكل فُتحة نصف دائرية تُناهز نصف متر مُهيأة وسط حائط يُطوق فضاء مخصصا لدفن الفاتحين الأوائل. هذه الطاقة مُزوقة بآثار أيد(9) مُلطخة بالحناء(10) (الشكل 4). حتى وقت قريب كانت هذه الطاقة تحتوي على شمعات مُوقدة وقع تعويضها بمصباح كهربائي. إن تفرد هذا المعلم واستمرارية الممارسة التي تدور به تشد الانتباه في أرض مُسلمة حيث يُفترض أن هذه الطقوس التي ينهى عنها الإسلام قد انقرضت. للأسف النصوص العربية لا تُفيدنا في شيء إذا أردنا استغلالها في معرفة طبيعة هذا المعلم. إلى جانب ذلك فان الشكل الراهن لهذه الطاقة لا يبدو قديما جدا. لذلك فمن الناحية الأثرية ليس هناك أي عنصر يفيد بأقدمية هذه الطاقة لكن الرواية الشفوية تقول إن هذه الطاقة هي الأخيرة التي بقيت من بين أُخريات كانت موجودة في الحائط الذي يُطوّق الفضاء الجنائزي المُلاصق للمسجد. من الملاحظ أن وجود طاقات مُتشابهة سائد في المساجد وخاصة في المزارات وهي مُخصصة لمن ماتوا شُهداء وعادة ما تُبنى لهم كذلك أضرحة تُسمى قبة أو زاوية أو مزار(11).   لذلك من المحتمل أن هذه الطاقات كوّنت جُزء من معلم جنائزي بُني تكريما للصحابي الذي بنى هذا المسجد لأوائل الفاتحين المسلمين الذين استشهد عدد كبير منهم و دُفن في الساحة الملاصقة لنفس المسجد. بذلك تكون هذه الطاقة غير سابقة للفترة الإسلامية.

4 - أصول هذا المعلم

من الجائز التساؤل إذا كانت هذه الطاقة قبل إسلامية. السبب في ذلك أن الإسلام في بلاد المغرب لم يمحُ كُليا المعتقدات و الممارسات القبل إسلامية.(12) بالفعل إن الممارسة التي يشهدها هذا المكان المقدس تبدو ذات قرابة كبيرة مع طقوس قبل إسلامية. هذا المعلم مسرح لممارسة تبدو قد اخترقت الزمن فالزُّوار يضعون شمعات مُشتعلة في وسط الطاقة(13) كما يقدمون هبة من الحناء. هذه المادة مرغوب فيها كثيرا لقيمتها الرمزية وعلاقتها خاصة بالخصوبة الأنثوية. حسب ما أفادني به القائم على هذا المعلم فان الزّوار الذين يرتادونه هم من أصناف مختلفة. في المقام الأول نجد النساء الحوامل والفتيات الراغبات في الزواج. يلي ذلك المرضى والمهمومون. كلهم يأتون لتقديم رغباتهم مصحوبين بالشمع وكذلك بالحناء بالنسبة للإناث. الحسم بسرعة في موضوع طبيعة الممارسة التي تدور في هذه الطاقة يُعتبر تسرعا لكن يمكن أن نلاحظ أنها  تحتوي على عناصر طقس له علاقة بالخصوبة و ذلك من خلال النور الذي تمثله الشمعات والهبة التي تمثلها الحناء وأخيرا الأمنية التي يقولها الزائر. في الحقيقة إن طُقوسا مُماثلة توجد في مناطق أخرى من البلاد التونسية. تكفي الإشارة لممارسة طُقسية خاصة بالبنات البالغات في جربة(14) (الشكل 5). من المُحتمل كثيرا أن هذه الممارسة ذات أصل قبل إسلامي. كذلك هناك طقس آخر يُقام في مدينة دڤة القديمة على شرف سيدة تدعى مخولا(15) (الشكل6) ونحن متأكدون من قِدمه بفضل شواهد نقائشية لاتينية. كل هذه الممارسات ذات جذور قبل إسلامية.من الممكن أنها ذات أصول بونية باعتبار أن تأثير هذه الحضارة في النوميديين المستقرين بجهة القيروان شيء وارد جدا خاصة إذا علمنا أن هذه الثقافة انتشرت كثيرا في شمال إفريقيا. إضافة لذلك فإن مدينة سيدي الهاني التي عرفت تأثيرا بونيا كبيرا لا تبعد كثيرا عن مدينة القيروان مما يجعلنا نتوقع تأثيرات متبادلة حتمية(16). كذلك بكل بساطة هذه الطقوس يُمكن أن تكون ذات أصل إفريقي. ففيما يتعلق بمدينة القيروان فان الحضور النوميدي بها مُتأكد من خلال نقيشة ترجع لمطلع القرن الثالث ميلادي(17) كما أن استمرار طقوس قبل إسلامية بعد انتشار الإسلام في بلاد المغرب ليست مسألة مُثيرة للدهشة فالدراسات تُؤكد أكثر فأكثر أنه رغم اعتناق البربر للإسلام فإنهم حافظوا على جُملة من الممارسات الوثنية وقعت أقلمة بعضها مع تعاليم الإسلام في حين ظل البعض الآخر في تناقض صارخ مع تعاليم هذا الدين. هذه الطقوس تتجلى خاصة في المواسم الفلاحية وزيارة الأولياء وفكرة البركة(18).

بفضل أدلة مُماثلة فإن رواية المصادر الأدبية التي تتحدث عن تأسيس مدينة القيروان من طرف عقبة بن نافع وتذكر غياب أي مدينة في الموقع يجب مُراجعتها. إلى جانب ذلك فإن الشواهد حول ماضي القيروان قبل الإسلامي صارت لافتة للانتباه. مجمل هذه الشواهد يستدعي إنجاز خلاصة ستكون لا محالة ثرية. إلى جانب ذلك فان هذا المعلم يدعو لإعادة النظر في ماهية المغرب الإسلامي حيث أن الأفارقة الذين أسلموا احتفظوا بجزء كبير من ثقافتهم رغم اعتناقهم للدين الإسلامي الشيء الذي أعطى مزيجا ثقافيا طريفا بدأت الأبحاث تكشف النقاب عنه.

 

هوامش

(1) نكتفي بذكر أهم الأعمال التي اهتمت بهذه المقاربة . م. لوقلاي . ساتورن الإفريقي. باريس 1961- 1966؛ م. بنابو . المقاومة الإفريقية للرومنة. باريس 1976؛ ج .كامبس. الموسوعة البربرية. أكس-أن-بروفنس 1976 .

(2) الشكل 1: الخريطة السياحيّة للبلاد التونسية تبين موقع مدينة القيروان.

(3) عادل نجيم. دراسة لمجموعة من المباخر و القرانس الفخارية البونية في متحفي قرطاج و باردو. شهادة الدراسات المعمقة. جامعة أكس-أن-بروفنس . جوان 1996؛ عادل نجيم . الفخار النذري الفينيقي و البوني في المتوسط الغربي.  شهادة دكتوراه. جامعة أكس-أن- بروفنس2008.

(4) أ. جامس. أساطير و طقوس الشرق الأدنى القديم. باريس 1960. هذا العمل يبين أقدميه هذه الطقوس منذ ما قبل التاريخ في الشرق و الغرب.

(5)  هذه الأواني تسمى القرانس وهي تُستعمل في طقوس الخصوبة التي تتميز بتواصلها منذ القديم و لقد قمت بجمع عدد منها سأنشره لاحقا.

(6) أ. فور. مقال بركة. الموسوعة البربرية. صفحة 1136.

(7) فوزي محفوظ. مقال القيروان. الموسوعة البربرية. صفحة 4095 .

(8) تُصور مدينة القيروان في المصادر الإسلامية على أنها مدينة مُحدثة لغايات سياسية دعائية لكن المعطيات الجديدة تُفنّد هذا الرأي كما أن المعطيات الطوبونيمية  تُعارض هذا الرأي . أنظر تسمية القيروان قبل الإسلامية حسب محمد حسين فنطر. من المدينة القديمة إلى المدينة العربية الإسلامية. مجلة الدراسات الفينيقية و البونية وللآثار اللوبية عدد 6. 1991 . صفحة 47. أنظر كذلك بخصوص المعطيات الحضرية و النقائشية لمنطقة ومدينة القيروان القبل إسلامية. أحمد الباهي. مفهوم قمونية في المصادر العربية. الكراسات التونسية عدد 178 . الثلاثي الثالث. 1977. صفحة 13-40. 

(9)  اليد لها دور حماية من العين لدى العرب قبل الإسلام وكذلك لدى العرب في المغرب الإسلامي. أنظر أ.وبار. القاموس الصغير للأساطير العربية و المعتقدات الإسلامية. باريس 1996. مقال العين الخبيثة. صفحة 232 -233. علامة اليد كذلك لها حضور في شمال إفريقيا قبل الإسلام ولها دلالة سحرية. أنظر محمد حسين فنطر. قرطاج مقاربة حضارية. الجزء الثاني. تونس 1994. صفحة 366.

(10) حسب الأساطير الإسلامية فان الحناء مصدرها دموع حواء عندما هبطت من الجنة.أ.وبار. المرجع السابق. مقال دموع.صفحة 218. من ناحية أخرى فان بعض النباتات ذات الخصائص الشفائية إعتُبرت ذات خصائص سحرية كذلك.  الحناء تمثل أحسن هذه الأصناف نظرا للدور الذي لعبته في الطقوس السحرية.انظر.أ. دوتي . السحر والدين في شمال إفريقيا. الجزائر 1908. صفحة 81.  

(11) أ. وبار. المرجع السابق. مقال ولي. صفحة 364. لقد بينتُ أعلاه أن الولاية و الخصوبة مواصفات متداخلة. الولي يمكن أن يكون شخصا ميتا حاملا للبركة وترجى حظوته ليزيد من خصوبة الأشخاص الذين يقصدونه في الغالب.

(12) «اليوم في بلاد المغرب يمكن أن نجد ممارسات دينية سحرية يرجع أصلها للفترة القرطاجية وحتى قبلها». محمد حسين فنطر. المرجع السابق صفحة 365.

 (13) الطقوس التي  يُستعمل فيها القرا نس تجمع بين النور والقربان المقدس. النور يمثله قنديل أو مشعل. هذه الممارسات نجدها لدى اليونانيين والفينيقيين و الرومان و على الأرجح كذلك أن العرب و النوميديين عرفوا هذه الطقوس. بخصوص إستعمال المشاعل في احتفالات الخصوبة انظر.ب. سنتاس. الخزف البوني. صفحة 549. الصورة 46. 

(14) نجد كذلك عند اليهود المستقرين في جزيرة جربة جنوب البلاد  ممارسة تتعلق بالخصوبة فالفتيات الراغبات في الزواج يذهبن لمزار يسمى «معبد الغريبة» و يضعن بيضة في طاقة خاصة لهذا الغرض.

(15).عز الدين باش شاوش. مداخلة حول احتفال شعبي في دڤة. تقارير أكاديمية النقائش. نوفمبر- ديسمبر2000. الجزء الرابع. صفحة 1178.

(16)حول آثار الثقافة الفينيقية في شمال إفريقيا انظر محمد حسين فنطر. المرجع السابق. صفحة 355-376.

(17) احمد الباهي. المرجع السابق.  صفحة 20

(18) ر.باسط -ش. بلاط. مقال البربر. الموسوعة الإسلامية صفحة 1213.

أعداد المجلة