فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
9

العتابا: مقاربات نقدية، وملامح دلالية

العدد 9 - أدب شعبي
العتابا:  مقاربات نقدية، وملامح دلالية
كاتب من سوريا

العتابا : فنّ شعري غنائي، يؤدّى قولاً وغناءً بشكل إفرادي على آلة الرّبابة، وهو أحد أهم أشكال الشعر الشعبي، والتراث الغنائي، إلى جانب النايل، والسويحلي، والميجنا، والموليا وغيرها، اشتُقَّ اسمها من معاتبة الدّهر لما ينزل بالناس من المصائب والمصاعب، ويعود تاريخ العتابا إلى نهاية القرن الثامن عشر أيام الحكم العثماني للوطن العربي، حيث اشتهر الشاعر عبد الله الفاضل من عنزة في بادية الشام، وله قصّة درامية مشهورة، ولم ترد أيّة أخبار عن عتابا سابقة له، ومن بعده عرف الشعراء مثل: وافي، وواوي العجل. وكثر شعراء العتابا بعد انتشارها الواسع، واشتهرت بها قبيلة الجبور العربية. وأهل وادي الفرات.والساحل السوري، وقيل إنها نشأت بين الفئات الاجتماعية التي عانت من الاضطهاد، والقهر، والظلم.

وبيت العتابا مسمّط على أربعة أقسام ثلاثة منها على سجْع واحد في أعاريضها بخلاف القافية التي تأتي في عروض القسم الرّابع، وكثيراً ما يتكرر فيه الحشو وقد نظمت العتابا على شاكلة قول الشيخ عبد الغني النابلسي:

ويحك ِيا نفسي احرصي 

على ارتياد المخلّص ِ

وطاوعي واخلصي

واستمعي النصح واعي (1)

فكانت العروض في بيته على ثلاثة أسجاع (احرصي، المخلِص، اخلصي) أما القافية (اعي) فمختلفة عن العروض والضرب في البيت(2) كما تختلف من بيت لآخر، ومن شروط العتابا وجود الجناس في العروض المتشابهة في اللفظ والمختلفة في  المعنى. من مثل : 

أدور لهم غربي بلاد تونس

وبلـكـي (3) بظلهم  يا قلب (4)تونس

استويت بنارهم يا خوي تونس

دليلي واستوى خمس الحشا 

فأتت  معاني الأسجاع  الأولى (اسم مدينة) والثانية (تأنس) والثالثة (حتى احترق)

كما تحتوي العتابا الطباق حيث إيراد المعاني المتضادة بالقرب من بعضها بعضا ومثاله:

هلي والعاطلة ماهم وليفين

كرام وسبَّوا الخايب وليفين

فكان الطباق في الشطر الأول بمعنى(الألفة) أما في الشطر الثاني فتعني(الفاين لفظ عامي: الشرير) وفي قول آخر ورد الطباق بشكل أكثر وضوحا فقال الشاعر:

يمن عنده ذلول شداد تارود

الولف عجل على الخلان تارود

فكان الطباق في الشطر الأول (كي أصل) أما الثاني (لأعود) تكرار الحشو (التناص)

تكرّر حشو المقطع الأول في كثير من أبيات العتابا ففي مطلع يقول شاعرها  تارة :

هلي بالدار خلوني وشالو (5)

 وخلوني جعود ابّطن شالو (6)

وفي مطلع آخر يتكرر حشو صدر البيت فيقول:

هلي بالدار خلوني رميماي (7)هلي بالدار خلوني بس آني (8)هلي بالدار خلوني وشلهم (9) وفي حشو متكرر آخر يقول : هلي شالوا بليل وما اعلموني (10)-هلي شالوا بليل وما دعوني (11)-هلي شالوا بليل وما هدوني (12) وتكررت مفردة (هلي) كمطلع عام لأبيات الفخر وكذلك الأمر بالنسبة لعتابا (الهواويات) كما تسمّى أيّ الغزل والتشبيب فكرّر الشاعر حشو أبياته  ومنها على سبيل المثال :أمس مريت عل ناهي بدلة (13)-أمس مريت عل ناهي بحيلة (14)

وفي أبيات أخرى تكرّرت المطالع في الحشو الكامل مثل:

ترف حسِّن نواظيرك

خطم ريم الحمادة– ريامِ عل شرايع.

أو كان التكرار في الكلمة الأولى أو جملة صغيرة مثل :

أتخطى- حلالي- يناهي  - خديده ورد – ثلاث ريمات – حلو الطول. وهكذا

وفي مقاربة أولية لدراسة هذا التناص في الحشو أو معرفة أسبابه نعتقد أن أغلب أبيات العتابا مجهولة المصدر وكثير من الأبيات تم تأليفها ونسبها إلى شعراء العتابا المشهورين أو صيغت على نمط أبياتهم لإضفاء بعض المصداقية عليها أو هكذا راق لقائليها رؤية الأبيات ،ويعتقد أن بعضهم لا يحفظ العتابا كما هي فنظمها كيف شاء فكانت هذه الإضافات من قبيل المحسنات البديعية، حيث يروق لشاعر رؤية بيت ليس من نظمه على صيغة مختلفة فعدّه النقاد من التناص وربما نسبوه إلى السرقات الشعرية. أما ظاهرة تكرار المطالع فمعروفة في الشعر العربي ومثاله قول الخنساء :

وإن َّصخرا ً لمولانا وسيدنا

وإنَّ صخرا ً إذا نشتو لنحّار ُ

وإن َّصخرا ً لتأتم ّ الهداة به

كأنه علم في رأسه نار ُ(15)

ولأنَّ أغلب مفردات العتابا هي من الألفاظ المتعارف عليها والدارجة، فكان تكرارها في الأبيات لدى شاعر بعينه أو شعراء مختلفين أمرا محتماً، فهناك ظاهرة اشتراك اللفظ المتعارف في الشعر العربي مما يعد سرقة ولكنّ ابن رشيق لم يعدّه منها كقول عنترة:

وخيل قد دلفت لها بخيل

عليها الأسد تهتصر اهتصارا

وقول عمرو بن معد يكرب :

وخيل قد دلفت لها بخيل

تحية بينهم ضرب وجمع

وقول  الخنساء:

وخيل قد دلفت لها بخيل

 فدارت بين كبشيها رحاها  (16)

كما أن ظاهرة الالتقاط معروفة في البيت الشعري كقول يزيد بن الطثرية:

إذا ما رآني مقبلا ًغضّ طرفه

كأنّ شعاع الشمس دوني يقابلهُ

قد أوّله التقاطا وتلفيقا من بيت جميل بثينة:

إذا ما رآني طالعا من ثنية

يقولون من هذا وقد عرفوني

كذلك الأمر بالنسبة للعتابا فقال بعضهم :

أنا منسى وداد الونسوني (17)

وآني ما جوز عنهم وإن نسوني

فأخذه أخر ثم أعاد تركيبه فقال :

أنا منسى وداد الخل ونسى

وما لي غيرهم بالحي ّ ونسا

وقال بعضهم :

أنا ما خون بالصاحب ومل بيه(18)

 واغفر كبار زلاتو ومل بيه(19) 

فأول شاعر آخر بيته  تلفيقا والتقاطا منه فقال:

 أنا ما خون بالصاحب وغر بيه(20)                    

ولا أحط بخمايلهم وغربيه(21)

ومن سمات العتابا نجد أنها أبيات متجانسة لكنها - شأن القصيدة الجاهلية - لا تشكل وحدة القصيدة –وإن صحَّ القول – فإنه لا يوجد شيء اسمه قصيدة عتابا فالمعروف هو بيت أو أبيات العتابا وإن تكررت الألفاظ الدالة على الموضوع لكنها من قبيل الإرداف في القول والتكرار أو الاستزادة والاطراد، ذلك لفقدان قصائد العتابا كاملة بعد نظمها ولم يبقَ منها غير أبيات متفرقات مما يحفظه بعضهم ،وعدم الالتفات إلى تدوينها باعتبار العتابا فنا  غنائيا كان بعض ممن يسميهم الناس (الشعار) يستعملونها للارتزاق ولم تحظ بقيمة أدبية لدى أهل الأرياف والبوادي فظلت حالها حال فنون الغناء الأخرى بعهدة ذاكرة أولئك فضاع معظمها ،أما ألفاظها فسهلة ومباشرة امتازت بالتصريح وهذا تعبير عن الصدق في الشعور، والجمال في الأسلوب والقوة في العاطفة، واستفاد شاعر العتابا من خاصية الاشتغال بالألفاظ فحمّل بيته متضادات ومترادفات وتورية وتضمينا.

 وخاطبت العتابا المرأة بصيغة المذكر تارة وبصيغة الجمع تارة أخرى .

فأخفت العتابا المؤنث خلف ألفاظها لما اتسمت به من الحشمة والعفة والتحبب، قال الشاعر:

مشط شعره بعود البجس ولفاي(22)

وسلاني حروف الميم والفاي

عشرتنا شبيه الشمس والفاي(23)

تغيب وما حدا يالي حدا

كما يستهجن شاعر العتابا ألفاظ الفحش،والتعابير المباشرة والفجّة، والقبح ،والمجون.    

أما مخاطبة المؤنث بصيغة الجمع فهي -كما هو معلوم – للتفخيم  قال الشاعر :

حلفت لكم بحرف الميم واللام

وهواكم بي ضمير حشاي ولام (24)

كما وظف شاعر العتابا مفردات البادية وثقافتها في تشبيبه كالهجن والغزلان ومفردات الصيد فيصوّر فتيات الحيّ بالغزلان الهاربة من الصيّاد ويقول:                              

خذن مني لذيذ النوم هَجّن

يتبارن والجعود سماط هِجن

يريمات بذاك الحزم هَجّن

من الكانوص دجّن عل فلاة

وتكرر هذا المشهد بكثرة العتابا من مثل: يهل ريم الخطم – يكانوص الظبي- كنصت الصيد. 

أما عن لغة العتابا فهي خليط بين الفصحى والعاميّة وهي أقرب منها إلى الفصحى وذلك لأنها لغة البدو ونكاد نجزم بأنها فصحى إلا أنها اعتراها بعض التسهيل ،والتحريف، وإسقاط حركات الإعراب واستبدلت الحركات بأحرف، ودمجت  بعض الكلمات ببعضها بعضاً، وأغفلت كتابة اللام الشمسية والأحرف المشددة ،فهي تكتب كما تلفظ شأن الكتابة العروضية وهناك لفظ الجيم المصرية، والكاف المفخمة ،لكنها في جذرها اللغوي فصيحة رسمت بصورة مختلفة قليلا   لضرورة الجرْس الموسيقي والوزن فهي تنظم على البحر الوافر.وتمتاز العتابا بالواقعية، والبلاغة التي تجلت: بإيجاز اللفظ، وتركيزه، وبإصابة المعنى، ودقته، وبُعد المغزى، وتحقيق غاية الوصول، والانتهاء، ومطابقة الكلام لمقتضى الحال، أمّا بناء العتابا فيرتكز على حكاية واقعية ترتبط بالسيَر ومعاناة تنجم عن الفراق والحب والحزن فتفيض نفس الشاعر بجملة من المشاعر الإنسانية ،التي يعبّرعنها بالعتابا، ونادرا ما تنظم العتابا بقصد النظم كما هو الحال في الشعر عادة.

الفرق بين ضروب العتابا :

1- الأبوذية:  كثير من الناس لا يفرق بين العتابا والأبوذية وذلك لاشتراكهما في الشكل فهما على نفس التسميط والوزن (البحر الوافر)  وربما كان لهذا الخلط مبرراته حيث فسّر بعضهم معنى الأبوذية من (أبو– أذية) أي صاحب الأذية فعدّوها عتابا الحزن التي يقولها من  وقعت عليه الأذية ،وهي فن نشأ لأول مرة في العراق ومنه عرفته مناطق الفرات والجزيرة السورية، أما الاختلاف ففي أغراض كل منهما  وحسب. لكن الفرق هو اختصاص الأبوذية بالألغاز والأحاجي وتتطلب هذه الألغاز حلا ًأوردّا ً يتطابق معها تماما في الجناس أوالطباق وفي الحشو والعروض مع اعتبار ورود كلمة الحل محل كلمة السؤال التي تكون عادة مثل (أسيلك أو شنهو) وهكذا. كما تختلف في القافية التي عادة ما تكون في الأبوذية ياء وهاء، بينما تختلف في العتابا .

مثال الأبوذية

شنهو(25) اللي يونّ دومه بلا روح

وشنهو الهبّت رياحه بلا روح

وشنهو اليرهب العالم بلا روح

مخوّف أهل السما وأهل الوطية

الحل:

الهوا يللي يون دومه بلا روح

 الورد الهبّت رياحه بلا روح

الصراط اليرهب العالم بلا روح

مخوّف أهل السما وأهل الوطية

مثال آخر :

شنهو اللي على المخلوق داره

وشنهو المايعيش بغير داره

وشنهو الهجر أهله وعاف داره

وشنهو الماينام بلا تجيه (26)

الحل :

القمر اللي على المخلوق داره

لسمك يالما يعيش بغير داره

الزراف الهجر أهله وعاف داره

الفيل الما ينام بلا تجيه

2- الموليا :  تنظم الموليا على شاكلة العتابا والأبوذية تماما حيث ينقسم البيت إلى أربع أشطر تتحد الثلاثة الأولى منها بالعروض لكن القافية في الشطر الرابع عادة ما تكون ياء مشددة مفتوحة وألف طويلة، أو هاء، ووجه الاختلاف في الوزن حيث تنظم الموليا ،على البحر البسيط ولأبيات الموليا لازمة تسمى الرّدة تتكرّر بعد كل بضعة أبيات والموليا أساس الموال الذي نشأ بعدها لكنه يختلف بعدد شطراته إذ هي سبعة في الموال على خلاف العتابا. أما عن تسمية الموليا فيتجه الظن أنها اشتقت اسمها من غناء موالي البرامكة إثر نكبتهم على يد الرشيد إذ يبدأ غناؤهم بكلمة يامولاي 

نموذج الموليا :

لاكتب ودزّ بالورق لليذكروني

دمع البيابي جرى ومشاطف عيوني

وان كان يا ريمتي لسه ترقبيني

عيني تهلّ الدمع عل خاطرو بيا

مكتوب منك لفى عامين ما شفته

أم الهباري اربعة عل راس شاطفته

يمشي بجنب الترف صديت وعرفته             

والوجه ياضي عليّ بعد عشويه

الردّة : الله يا بو زلف عيني يا ومليا            

عجوز تطرد هوى وتقول انا بنيه (27)

أمّا العتابا فليس لها لازمة ،لكن مفردة العروض تقوم مقام اللازمة ،حيث يروق لجليس الشاعر ترديدها خلفه مع تنهيدة تنم عن تفهّمه معناها كلما مرّ عليها ثم يقوم عدد من الحاضرين باستذكار وتدارس أسجاع العروض التي سمعوها وربما تحولت إلى مبارزة وسجال بينهم أيهم يفسرها.

كما تختلف العتابا عن الحداء وإن نظم الحداء على شاكلتها في تقسيم الشطرات وتشابه العروض ووجوه  الاختلاف كثيرة فمنها الوزن، والأغراض، فالحداء رجز يختص  بحضّ الإبل على المسير، وفي وقت لاحق جعلت أغراضه للحماسة ويقال فرديا ويردد جماعيا .ومن مثاله :

طاف الخيالان فهاجا سقما

خيال تكنى وخيال تكتما

قامت تريك رهبة أن تصرما

 ساقا بخنداة وكعبا أدرما(28)

ملامح الطلل في أدب العتابا :

امتازت عتابا الحزن والفراق( الفراقيات) بالوقوف على الأطلال شأنها شأن الشعر الجاهلي،مع فارق أن شاعر العتابا لم يبدأ بالأطلال بل ضمّن أبياته مشاهد طللية ،فوقف على رؤوس الجبال، والتلال، ومشارف المضارب، وتحسّر على مضارب وديار الأهل الخاوية ،وتذكر محبوبته، وعبّر عن حزنه، وألمه ،فقال:

ركيت براس كوكب وين اهلنا

أدور بالمنازل وين اهلنا

يهل جرف المجابل وين اهلنا

غدو عني وعنك كالسراب

يقول: وقفت على قمة جبل كوكب- وهو جبل صغير شرقي الحسكة -  أدور عن منازل أهلي، فأسأل الجرف المقابل لمكان نزلهم، فهم غدوا عني وعنك أيها الجرف كالسراب 

كما قال:

ركيت براس كوكب ودعوني

غريب بكل ديره ودعوني

جديت وصاب راس الودّ عيني

 عِمت وما شفت ظعن الحباب (29)

يقول: وقفت على قمة جبل كوكب وقد أودعني أهلي هنا غريبا في كل ديره أتخيلهم  يسلمون عليّ. فتعثرت وقد أصاب رأس وتد خيمتهم عيني فعميت ولم أرَ ضعن أحبابي.

إن الحزن والطلل من سمات العتابا، ويكادان يكونان شرطين لازمين من شروطها ،ذلك لكونها التعبير الصادق عن ظروف القهر والحرمان وكثرة الترحال التي عانى منها البدوي في الصحراء العربية ولا سيما أثناء الفترة العثمانية وحكم الاستبداد، فكان الشوق إلى الحبيب ترميزا ودلالة إلى أيام الرفاه، والاستقرار، والازدهار، والرخاء، والمشهد الآخر في توصيف الملامح الطللية في العتابا لعله يعود إلى مظاهر الحزن في التراث الغنائي الفراتي ولا سيما أن حوض الفرات منبع فنّ العتابا، فتجسّد الحزن الفراتي التاريخي في أبياتها عامّة وفي مشاهدها  الطللية بشكل خاص، ثم لا نجد في دلالة المحبوبة أية ملامح عشقية كما هو الحال في عتابا (الهواويات) لغياب الإسهاب في الوصف والاكتفاء بالتذكر والحسرة فهي إلى جانب الناقة والجرف والسهل والمنازل والمرابع تشكل مفرداته الطللية، مما يدل على أن  شاعر العتابا لا يتغزل بامرأة بعينها ويصفها وانه يجسد توقه إلى الديار والأهل بشخصية الحبيبة التي أطلق عليها نعوتا مختلفة مبتعدا عن التشخيص والتسمية وأكثر من عمومية التعابير الدالة مثل – ترف –ريم الحمادة –المربوع مدلل- الولف – الزين –أبو خدّ –أبو عين وسيعة –وهكذا  فأغلبها نعوت ذكورية، يريد منها تورية المرأة خلف هذه الألفاظ الحشيمة فجعلها غير مباشرة أو فجّة .كما جاءت مخاطبة المرأة بصيغة الغائب كترميز عن الحياة الماضية ومن أمثلتها:  طلع يرثع  بخلخاله  يخالي ـ عينه عين باز وعين غبيت 

إن المشهد الطللي يكتظ بأسماء حيوانات البادية كالبوم والذئب والجمل وغيرها . 

أنا والذيب والبومة على حد ّ

سوا وهموم دلالي على حدّ

رماني الدهر ما دحج على حد

وعاتبت الزمان على الجرى

يقول:  أنا والذئب والبومة بحدود بعضنا أمّا هموم قلبي فهي محمولة على جمل

 أما عن المكان ودلالته في المشهد الطللي في العتابا فهو لإضفاء المصداقية على هذا المشهد فنجد أماكن حقيقية مثل جبل كوكب – بلاد تونس – حمص وحماة – حوران - الجوف  وغيرها.لكنه في بعض الأحيان لجأ إلى ذكر أماكن غير محددة ومفاهيم جغرافية عائمة مثل: عليتين – طفة علو – مطوّر عالي، وهذا التعويم ينم عن لهاث دؤوب لدى الشاعر في المبالغة في بحثه عن أحبته، فاختار أمكنة غير محددة لأنه يبحث عنهم في كل مكان. ترتبط الأطلال بفكرة الصراع في الوجود وقد عبّر شاعر العتابا عن هذا الصراع وتمثل حالة صراع الشاعر عبد الله الفاضل مع المرض النموذج عن هذه الحالة حيث يقول:

أدور لهم كفا حوران والمات

على هجن بهدّيات ولمات

كثير جروح بالدلال ولمات

 وعين عل طبيب وعل دوا 

وتكثر الصور المعبّرة في المشهد الطللي في العتابا من الرياح والمياه والأعاصير كرموز للإفناء والتدمير والتخريب لمضارب الأهل إلى الناعورة وصوتها الحزين الذي يزيد الشاعر حزنا وتذكرا.

أنا لكابل الناعور لو حنّ

أزيده بالدمع يا جواد لو حن ّ

 ورمزية بكاء الشاعر هي تقلب الأحوال في هذه الحياة، وهو سيظل يبكي رغم عدم جدوى البكاء فهو الصوت المسموع والفعل المؤثر أمام صروف الدهر التي لا يقوى على مجابهتها إلا بالبكاء .

أحباب كوطروا عني  ورا جبال

تعبت وآني بغيبتهم ورِج بال

آني لبكي على الفرقا  ورا جبال

العلو وسال من دمعي سحاب 

وعبّر الشاعر عن بكائه الطللي بمختلف العبارات مثل: جرى دمعي –دموعي فوق صحن الخد –بكت عيني – جريب اسمع بكاهم والنحو باي- لو يسمع  بكاي البوم ما ناح –وهكذا 

 لقد  وظف شاعر العتابا الدهر في مشهده الطللي كرمز للإفناء والتفريق، فجعله خصما لدودا يكيل عليه سيول اتهاماته ويحمّله أسباب شقائه، وجعله سببا لفراق الأحبة والخلان، فقال:

ركيت براس عاليتين وهليت

كثير دموع عل وجنات هليت

عسى يشهر لفراقك لا كان هليت

غثيث وبيك فارقنا الحباب

وتكرّرت مثل هذه التعبيرات عن مخاصمة شاعر العتابا للدهر مثل: حسافة يا دهر شتميل وتعيل ــ حسافة يازمان الشوم حطبايحسافة العمر ضاعت سنينه.

ومفردة حسافة في لسان العرب تعني: أضمر له العداء، وغضب ورجع بحسيفة نفسه أي: لم يقض حاجته، فهي تعبير عن اللوم والسخط والندم والخسارة. ومما يغيض الشاعر أكثر هو انقلاب الأحوال وتغيرها ،فمالت الدنيا بالكرام وأدبرت عنهم في حين أقبلت على من لا يراهم يستحقون المكانة, فالزمان قد بدّل بعطاءاته لمن لا يستحقها ويقارن الحالة كمثل العقاب الذي يخلف الحرّ. 

يدار العز بيك ِالدهر بدّل

 وراحوا اليحطون الهيل بالدّل

زمان الشوم  بالنفلين بدّل

شواهين تكفاهم عكاب

وفي مقارنة أكثر وضوحا عن تبدّل الأحوال التي يقال عنها لكل زمن دولة ورجال فيقول:

حسافة يا دهر شتميل وتعيل

وحسباتك تفتّ الكبد وتعيل

تشيّد للعفون قصور وتعيل  

 وتنزل بالملوك أهل الصخا

فجعله دهرا ميالا معتديا غير عادل يمرض المرء من محاولة تفهم معادلة موازناته وحساباته. 

وهو يتمنى محاججة هذا الدهر ودعوته إلى ما يعرف بالطلبة عند ( أهل المعرفة) وهم قضاة البادية فيقول في حجته أمام القاضي:

سبع سنين حاربني زماني

وشفا بي عدوي من زماني

علوا انك تحاججني يا زماني

 تشوف شلك عليّ من الطلاب

وأكثر شاعر العتابا من عبارات معاتبة الدهر في حشو أبياته مثل :

أشوفك يا زماني صادّ عني – أشوف الدهر بانيلو عليّ دار –زماني أطلق ضواريه –صروف الدهر عادني –قطع بي زماني – حاربني زماني- زماني مثل حدّ السيف ماضي –زمان الشوم شيبني.

 وبعد حين يستسلم المعاتب إذ لا فائدة من هذه المخاصمة مع الليالي فيقول:

ظعنهم شال حين الكاصرينا

كوونا على ضلوع الكاصرينا

جِدَت بيَّ الليالي وكاصرينا  

نعاسنها على مرّ وجفا

فهو يدعو إلى معايشة هذه الليالي على مضض رغم  كبوتها وغدرها ومرارة عيشها وجفائها،ويمتثل لها وهذه دعوة للتحمّل والصبر على ضيم الليالي حيث لا يمكن مجافاة الدهر الذي نحيا به،حيث اللاجدوى من مجافاة غير متكافئة مع الدهر الذي لا تؤمن صروفه,وقالت العرب: من عتب على الدهر طالت معتبته.لكن شاعر العتابا وضع التصورات الكافية والكفيلة بمجابهة الحالة التي هو فيها من الحزن والفراق والمكابدة فقال:

قلبني زماني كيف مار راد 

وحاكيته بكل اللغو ماردّ

مالي غير بحر الصّبر مارد

ومن الله ما نقطع رجا

إذا هو الصبر واللجوء إلى الله تعالى لمجابهة الحالة النفسية التي يعيشها الشاعر مما  يوجد المعادل النفسي الذي يحطم الماضي ويهيّىء لحياة جديدة أكثر سعادة .

جاء في الحديث:

لا تسبوا  الدهر فإن الله هو الدهر.  

-  إنَّ هذه المقاربة النقدية التي حاولنا بها ولوج عالم العتابا لهي مقاربة أولية من شأنها إثارة اهتمام النقاد بأدبنا الشعبي والتشجيع على دراسته وتحليله ومنحه الفرصة ليأخذ حقه من القيمة الثقافية، وينعتق من نظرة الازدراء والتجاهل والاستصغار من قبل النخب الثقافية والأدبية والدارسين لفنون الأدب والنقاد، وحتى وسائل الإعلام، والمؤسسات الثقافية والبحثية، كونه يكشف عن ثقافة الشعب وتاريخه وحياته الاجتماعية بما تمثله من قيم وتجارب يتوجب اكتشافها،ومعرفة ماهيتها.

 

المراجع

1-المفصل في العروض والقافية وفنون الشعر – عدنان حقي دار الرشيد دمشق 2000-

2- العروض الكلمة الأخيرة من صدر البيت الشعري أما الضرب فالكلمة الاخيرة من عجزه وما بقي حشو البيت

3- ( المرجع السابق ) -  ch-كـ : تلفظ   بلكي : ربما) أيمنا وردت g – ق :في كلمة قلب  تلفظ جيم مصرية.

 4- تركوه قطعاً

 5 - شلال

6- طريح الفراش

7- ما لهم علي

8- ما أخبروني

9- لم ينادوني

01- لم يدلوني

11- بدون تكليف -

21- وهو مزدان بالحلي

31- مصطلحات نقدية من التراث الادبي العربي محمد عزام وزارة الثقافة دمشق    1995ص154-

41- المرجع السابق ص296-

51-  الذين آنسوني

61- أملّ منه

71- لي أمل به

81- أغشه

91- غبار

02- حبيبي

12- الظل

22- قيّح

32- أي شىء هو

42- مجلة التراث الشعبي –  بغداد -  وزارة الثقافة   1980-

52- من التراث الشعبي الفراتي – مختارات من أعمال الباحث عبد القادر عياش ج1وزارة الثقافة دمشق 2007

62- صرم : قطع ـ  أدرم : استواء الكعب مع الساق تاريخ بغداد -حمد بن علي أبو بكر الخطيب البغدادي  - دار الكتب العلمية بيروت

62- ديوان العتابا صالح السيد أبو جناة – مطبعة الترقي دمشق 1966 -

72- اسم طائر

82- غدر بي

92- عن أبي هريرة في مسند أحمد ورقمه 

أعداد المجلة