فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
1

أبو السعود الجارحي - صانع الفخار وسلطان المتصوفين

العدد 1 - أدب شعبي
أبو السعود الجارحي - صانع الفخار وسلطان المتصوفين
كاتب من مصر

** كانت المرة الأولى التي أسمع فيها عن سيدي "أبو السعود الجارحي" حين حكى لي صديقي عن صانع الفخار الذي ضاق به الحال فظهرت أولى كراماته ثم صار ملء السمع والأبصار، فقررت أن أبدأ في صباح اليوم التالي رحلة البحث عن سيرة هذا الشيخ فإذا بي أمام "مغارة على بابا" مليئة بقصص وحكايات وتواريخ وأساطير.. تبدا بالناس الطيبين وتنتهي بالأمراء والسلاطين، ذكره الشعرانى في كتابه "الطبقات الكبرى". وذكره ابن إياس في "بدائع الزهور".. كما كتب عنه جمال الغيطاني في رواية "الزينى بركات". وكتب عنه الدكتور عماد أبو غازي في كتابه "طومان باي.. السلطان الشهيد"**.

نشأت فى بيت به ضريحان.. أحدهما لعمى "الشيخ القرنى" (ابن عم والدى) أحد الأقطاب المعروفين بأسوان وصعيد مصر، والثانى لخالتى "الشيخة سعيدة" (أخت والدتى).. وكان الضريحان فى كل يوم هما قبلة المهمومين والمكروبين والمريدين. وكان من الطقوس المقدسة لكل عريس وعروس مقبلين على الزواج أن يقوما بزيارة الضريح وقراءة الفاتحة حتى تحل بهما البركة ويتم لهما الأمر على خير، وكان هذا المكان وأنا صغير هو النافذة التى أعرف منها خبايا العالم من حولى: من جاءت تشتكى زوجها.. ومن جاءت تطلب الرزق بالولد.. ومن جاء يطلب الشفاء من المرض.. أو تفريج هم ألم به، وكنت أقضى أحب أوقاتى داخل المقام بجوار التابوت الأخضر، أشم رائحة العطور والبخور.. وأشعل شمعة وأظل أراقبها وهى تذوب قطرة قطرة حتى تتساوى بالأرض.

لذلك حين سمعت عن سيدى "بو السعود الجارحى" قررت أن أستعيد اكتشافى لهذا العالم، وخرجت من منطقة الهرم حيث أسكن لأستقل "الباص" المتجه إلى السيدة عيشة بمنطقة مصر القديمة، وطلبت من السائق أن ينزلنى فى أقرب مكان أذهب منه للشيخ أبو السعود، فضحك قائلا: "إنت حتنزل قدامه بالظبط"، وبعد اجتيازنا لشارع الهرم.. وكوبرى عباس.. ومنطقة المنيل.. ونفق وميدان المللك الصالح، توقف السائق يمينا أمام مسجد متوسط المساحة يقع على الشارع الرئيسى وقال: "هو دا الشيخ أبو السعود"، لأكتشف أننى مررت به عشرات المرات من قبل دون أن أنتبه له، وكنت قبل رحلة البحث الميدانى هذه قد قمت برحلة بحث من خلال الكتب والمراجع لأعرف شيئا عن الرجل قبل زيارته:

هو الشيخ العارف بالله أبو السعود الجارحى، من مشاهير الصوفية بمصر خلال القرن العاشر الهجرى، ينتهى نسبه إلى سيدنا الحسين رضى الله عنه، وهو من أفضل تلامذة الشيخ شهاب الدين المرحومى، توفى رحمه الله فى حدود عام 930هـ، ودفن بزاويته بكوم الجارح بالقرب من جامع عمرو بن العاص فى السرداب الذى كان يعتكف فيه، وهو من جملة المشايخ الذين أخذ عنهم القطب الشهير سيدى "عبد الوهاب الشعرانى".

تبدو مساحة المسجد من الخارج متوسطة لكنك عند الدخول ستبدو لك صغيرة لأنها مقسومة إلى نصفين، أولهما مخصص للصلاة.. والثانى به الضريح، وأول ما تدخل ستجد على يمينك لوحة كبيرة مؤطرة ببرواز ذهبى اللون مكتوب بداخلها بخط اليد تعريف بالشيخ وسيرته وطباعه وتلامذته فيه ما يلى:

سيدى أبو السعود الجارحى رضى الله تبارك وتعالى عنه "عالم من علماء أهل البيت الكرام، وعلم من أعلام الشريعة الإسلامية الغراء، وقطب من أقطاب التصوف الأعلام، ينتهى نسبه إلى سيدنا ومولانا الإمام الحسين رضى الله عنه، وهو من الأولياء العارفين، حظى من الله تعالى بالفراسة والقبول التام عند الخاص والعام فى الهداية وشفاء الأسقام، وهو طبيب ربانى يرى بنور الله سبحانه وتعالى، ويتحقق فيه قول النبى صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه يرى بنور الله".

وقد عرف الحكام والوزراء منزلته وقدره، واعترفوا بعلمه وفضله، فكانوا يسعون لزيارته، ويتمنى الواحد منهم لو يحظى بخدمته.. حتى لقد عمل بعضهم مع العمال فى عمارة زاويته "مسجده"، فكانوا يحملون الطوب ومواد البناء. كان رضى الله تعالى عنه مشهودا له بالمجاهدات.

شخصيته

كان يميل إلى الوحدة ويجد الأنس فى الله تعالى وحده، ذكروا أنه كان ينزل فى سرب تحت الأرض من أول ليلة فى رمضان فلا يخرج منه إلا بعد العيد بستة أيام، وذلك بوضوء واحد، ودون أن يقدم أحد من الناس له أى طعام، وذكروا أنه كان يستعين بقليل من الماء.

وكان رضى الله تعالى عنه يقول: ليس لى أصحاب.. ويفسر رغبته فى العزلة بقوله: "عملت شيخا فى مصر لى سبع وثلاثون ما جاءنى أحد قط يطلب الطريق إلى الله أو يسأل عن شىء يقربه إلى الله، وإنما يقول: أستاذى ظلمنى، زوجتى تناكدنى، جاريتى هربت، جارى يؤذين، شريكى خاننى، ويقول رضى الله تعالى عنه: "فكان ذلك سببا فى رغبتى فى الوحدة وما كان لى خيرة إلا فيها".

كراماته

قال عنه سيدى عبد الوهاب الشعرانى إنه: كثير المجاهدات ولم يبلغنا عن غيره ما بلغنا عنه فى عصره من مجاهدات، وما رأيت أسرع كشفا منه، وحصل لى منه دعوات وجدت بركتها، واشتهر بالكرامات حتى إنه كان يكتب الكراريس العديدة فى ظلام الليل كما يكتب فى ضوء النهار بدون فرق.

ومقامه من المقامات المباركة الفسيحة يزوره الكثير من المرضى يطلبون من الله تعالى الشفاء ببركة هذا الولى الصالح العابد فيتفضل المولى جل شأنه عليهم بالشفاء إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

مدرسته

كان له العديد من التلامذة الذين تلقوا عنه العديد من علوم الشرع الإسلامى الحنيف، كانوا يسعون إليه وكان ينصحهم بالاستقامة والإيمان والإقبال على الله تعالى، وكان ينصح الشباب منهم بالصوم علاجا لشهوات النفس.. قال له أحدهم يوما: "يا سيدى رأيت صبية فراحت لها نفسى".. فقال له الشيخ: "صم تنفك عنك الشهوة".

والتقى يوما بأحد الفقهاء من رجال الأزهر الشريف فقال له: "متى تصير هاء الفقير راء".. أى متى يصبح الفقيه هو الفقير.. يعنى متى يصبح العالم مراقبا الله تعالى فى نفسه من الباطن قبل الظاهر.

وكان يضرب المثل لتلامذته فى التواضع حين يقول فى أدب جم وحياء واضح صريح مخاطبا رب العزة جل شأنه:

يظن الناس بى خيرا وإنى..

لشر الناس إن لم تعفو عنى

انتقل رضى الله تعالى عنه إلى جوار مولاه سنة 930 هجرية فى مقامه هذا تاركا من خلفه الذكرى الطيبة والسيرة العطرة، رضى الله عن سيدى أبى السعود غاية الرضا، وصلى الله على سيدنا محمد النبى الأمى الحبيب العالى القدر العظيم الجاه وعلى آله وصحبه أجمعين".

بعد أن تنتهى من قراءة اللوحة ستجد إلى جوارها مدخلا يفضى بك إلى النصف الثانى المسجد، ستجد به مساحة محاطة بستائر خضراء مخصصة للنساء عند الزيارة، يوجد بعدها فى نهاية المسجد باب يفضى إلى المقام مكتوب عليه:

لأبى السعود الجارحى توجهوا

تقضى حوائجكم بإذن الله

فبحق من أعطاه سرا باهرا

برحابه نلنا المنى والله

ما أمه المجروح عند ضريحه

إلا شفى حتما بحول الله

أول ما تدخل تستقبلك الرائحة الذكية التى تملأ كل مقامات الأولياء، بعدها صندوق النذور الكبير محاط بسلسلة حديدية إلى جوار ضريح سيدى أبو السعود المميز بزخارفه الإسلامية ولونه النحاسى وبداخله التابوت الأخضر، يتوسط المقام هذه المساحة الصغيرة تعلوه قبة عالية، وستجد إلى يمينك مقاما خشبيا أصغر من مقام سيدى أبو السعود تعلوه مجموعة قباب صغيرة، وعليه لوحة بيضاء مكتوب عليها بخط اليد "هذا مقام السيدة حبيبة زوجة سيدى أبو السعود"

شيخ الستات

كنت قبل بداية هذه الرحلة قد اتصلت بصديقى وجارى عم أحمد حسب النبى، وهو من مواليد وعشاق مصر القديمة ولايزال منزل أسرته باقيا حتى اليوم ويتردد عليه باستمرار، اتصلت لأسأله عن سيدى أبو السعود. وأول ما سمع الاسم ضحك طويلا ثم قال: قصدك الشيخ أبو السعود بتاع الستات؟، شوف يا سيدى أنا من مواليد هذه المنطقة، ومصر القديمة بأكملها من عشاق الأولياء وتمتلئ بمقاماتهم وأضرحتهم ومساجدهم، والشيخ أبو السعود من بينهم له شهرته الخاصة، ويمكنك أن تتأكد من هذا إذا ذهبت فى يوم الثلاثاء بالتحديد ووقفت أمام مسجد السيدة زينب أو مسجد الإمام الحسين، ستجد عربات كارو واقفة وعليها صبية ينادون: "اللى رايح الشيخ أبو السعود بتاع الستات.. أبو السعود بتاع الستات"، ويوم الثلاثاء بالتحديد هو يوم زيارته الأسبوعية التى يتجمع فيها محبوه عند الضريح، أما حكاية "بتاع الستات" فلأن معظم من يقصدونه من النساء..

طلبا للإنجاب أو حل المشكلات، ويقصده عدد من الرجال طبعا لكن جمهوره من النساء أكثر بكثير.

حين تذكرت كلام عم أحمد حسب النبى خرجت لأتحدث مع خادم المسجد واسمه الشيخ خالد وكان يجلس على كرسى على عتبة باب المسجد ومسك مصحفا فى يده، حين اقتربت منه ترك القراءة وانتبه لى فقلت له: أنا أول مرة أزور الشيخ وعايز الستات"، فقال لى: الشيخ أبو السعود من أولياء الله.. أعرف حكايته.. وحكاية "شيخ من الأشراف نسل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام.. صاحب كرامات.. وهو بتاع كل الناس مش الستات بس.. وأشهر حاجة عنه إنه كان طبيب المبالى.. يداوى الناس ربانى ويشفى أى مرض.. وكل اللى يزوره يخف بإذن الله.

* استحضرت فى هذا المقام ما كتبه الروائى خيرى عبد الجواد عن أبو السعود

الجارحى فى مقالة له بعنوان "الشيخ البعيد" حيث يقول: علاقتى بالمشايخ والأولياء قديمة منذ أن كنت طفلا، كانت أمى تصحبنى إليهم يوم الثلاثاء من كل أسبوع، أول الزيارات تبدأ بالسيدة زينب، ومن هناك كانت العربة الكارو تأخذ الزوار إلى الحسين، ثم آخر المزارات أبو السعود الجارحى والذى كانت زيارته يوم الثلاثاء فقط، حيث كانت تقام حلقات الزار فى البيوت التى حول المقام، ذات مرة نزلت إحدى هذه الحلقات، كنت صغيرا وقتها، وكانت لدى قطة ألعب بها لما خربشتنى، وبحركة لا إرادية أمسكت بالقطة الصغيرة وطوحتها فى الهواء فنزلت على الأرض بلا حراك، جاءت أمى على صوت الارتطام ورأت القطة على الأرض تلهث والدم يخرج من أنفها وفمها فضربتنى وأحضرت بعض الماء رشته على القطة، سمعت أنا وأمى صوتا آتيا من الجسد المسجى بلا حراك يشبه طشة الملوخية أعقبه دخان كثيف وكأن القطة تحترق ثم همدت حركتها تماما وماتت. فى الأيام التالية على موتها، بدأ يزورنى فى نومى رجل بلا ملامح، ما يميزه طاقية كان يرتديها على رأسه تخفي ملامحه، كان يضغط على رقبتى بيدين قويتين حتى أختنق وأرفس الهواء بساقى وذراعى، ولا ينقذنى من هذا الموت سوى استيقاظى وصراخى مناديا على أمى لتخلصنى من أبى طاقية كما أطلقت عليه.

دارت بي مى على الأطباء حتى داخت، اقترح عليها البعض أن تذهب إلى أبى السعود الجارحى صاحب السر الباتع والكرامات المعروفة، الطريق إلى أبى الكرامات صاعدة حتى سفح الجبل، مقامه يقع فوق ربوة عالية، حوله كانت النساء يفترشن الحصير ويجلسن وقد وضعن أرجلهن تحتهن، باعة الفول النابت والخبز المقدد، والشاى يملأون المكان، اشترت لى أمى كوز ماء مالحا، الماء نزح من بئر جنب المقام، قيل إنه نبع من تحت أقدام الشيخ حين جاء إلى هذا المكان الموحش فشرب منه وتوضا وأقام بجانبه، فهو وصفة مجربة، كانت تناولنى كوز الماء المالح الصدئ لأشرب منه جرعات، ما تبقى من الماء تمسح به وجهى وشعر رأسى، ثم ترش الباقى فى وجهى، كانت تجلسنى على الحصير بجانب باعة الفول النابت وتطلب طبقين ورغيفين ونبدأ فى الأكل، قبلها كانت تدخلنى المقام وتدور بى من حوله وتجعلنى أمسح بيدى على سياج النحاس الناعم الرطب والذى يسيج مقام الشيخ الجليل، لا تظهر منه سوى عمامة وضعت أعلى السياج، عمامة خضراء يفوح منها العطر كما يفوح من أربعة أركان المقام، وضوء أخضر يسرى فى المكان لا أعرف مصدره، لكنه كان يشعرنى بالراحة والسكينة وبعض الرهبة، كانت تخرج البك الأسود الصغير من صدرها وتفتحه، تتناول بعض القروش القليلة التى تملكها تفرقها على محاسيب الشيخ الذين يملأون المكان.

صانع الفخار

*صناعة الفخار هى مهنة سيدى أبو السعود الجارحى، وهى المهنة التى شهدت أولى كراماته، وهى الحكاية التى دفعتنى دفعا إلى رحلة البحث هذه، تقول الرواية: يحكى أنه فى أحد الأيام كان الشيخ أبو السعود الجارحى منهمكا فى العمل، لكنه قبل أن ينتهى من إحدى القلل اكتشف أن الزيت نضب، وأن القلة سوف تجف من دون أن تأخذ شكلها النهائى وبذلك يضيع كل مجهوده فى إنجازها، بكى الشيخ أبو السعود بدموع غزيرة بللت كفيه، وسالت على القلة فلانت فى يديه.. لحظتها اكتشف أنه يمكن أن يستخدم الماء فى إعطاء القلل آخر ملامحها، وقد أعطى القلة فى يده من دون أن يدرى بعضا من ملامح الأنثى التى تكور بطنها فى شهور حملها الأولى، ومن يومها صار شكل القلة القناوى مختلفا عن غيره من القلل التى تصنع فى باقى مدن مصر.

*هذه الرواية جعلتى أتحدث مع الفنان الكبير محمد مندور الخزاف المعروف وابن هذه المنطقة، وحين سألته عن "أبو السعود الجارحى" قال:

أبو السعود الجارحى فعلا فخرانى أصيل، لكن حكاية اكتشافه لاستخدام الماء بدلا من الزيت نوع من المبالغة ونسج الأساطير حول الرجل، فهو حديث العهد فى مسيرة صناعة الفخار، لأن صناعة الفخار والخزف موجودة فى مصر من أيام الفراعنة، ومعروف أن أصل صناعة الفخار طين وماء وكان نهر النيل بطميه ومائه هو السبب الرئيسى فى هذه الصناعة، وقد جاء ارتباط النساء بهذا الشيخ لأنه فخرانى وجمهور هذه الحرفة من النساء اللاتى يأتين لشراء القلل والأوانى الفخارية، وعقلية الناس البسطاء خاصة السيدات تسعى لنسج الحكايات والأساطير واعتبارها نوعا من الكرامات، وأذكر أننى عندما كنت صغيرا فى سن الثالثة عشرة، كنا نصنع القلل ونذهب لنتكسب بها فى يوم زيارة الشيخ أبو السعود كل ثلاثاء، وكنا نصنع "الإبريق المسحور" وهو إبريق معروف لكل الفخرانية يتم عمله بطريقة معينة ليست سرا ويعرفها عدد من الفخارين المهرة.. وهو إبريق به فتحة من أسفل يوضع من خلالها الماء في الإبريق.. ثم يوضع على قاعدته بشكل طبيعي فلا يسقط الماء منه.. واعتبرت النساء هذا الأمر نوعا من الكرامات، وقد ارتبط سوق الفخارين بموعد زيارته فى يوم الثلاثاء وفيه تجد كل انواع الفخار. فصنعت ذات مرة إبريقا مسحورا وعرضته فى السوق على إحدى السيدات الريفيات فاعتقدت انه إناء سيدى أبو السعود فاشترته منى على الفور ووضعته على الأرض أمامى وأخذت تخطو عليه سبع مرات لكى  تنجب.

مع الزينى بركات

*من صناعة الفخار والأساطير إلى التاريخ الذى لعب فيه الشيخ أبو السعود الجارحى دورا حقيقيا وقد ذكر الروائي الكبير جمال الغيظانى جزدا من هذا الدور فى روايته الشهيرة "الزينى بركات" التى تحولت إلى مسلسل تليفزيونى ناجح يحمل نفس الاسم، وتوضح لنا الرواية كيف أضفى الشيخ أبو السعود الجارحى على ولاية الزينى بركات قبس المشروعية الدينية وأسبغ عليه نفحات زكية من رضاه وبيعته واعترافه به محتسبا أمينا وعادلا والتأكيد لمريديه مدى استحقاقه لهذا المنصب؛ لأن الزينى رفضه أمام السلطان بكل إباء وترفع وامتناع، فلولا هذا الولى الصالح الذى فرض عليه قبول هذه المهمة لما استجاب الزينى لطلب السلطان. وفى الأزهر أمام جمع غفير من المصلين والناس أعلن بركات بن موسى أمام الشيخ أبو السعود منظوره للحسبة والمهام المنوطة به. وإنه عازم على الإكثار من البصاصين لإقامة العدل والنهى عن المنكر والضرب على أيدى المارقين من المحتكرين والمطففين والغشاشين من التجار.

وعندما كان جيش السلطان الغورى يذوق مرارة الهزيمة فى معركة مرج دابق بانتصار جيش سليم العثمانى بسبب خيانة الأمراء وجيش المماليك له، نجد الشيخ أبا السعود الجارحى العارف بالله يدعو الزينى بركات بعد أن زاد ظلمه وجبروته ليذيقه الشتائم وألعن السباب منهيا ذلك بحجزه قصد التشهير به بين الناس للتخلص منه: "وعندما دخل إليه أجلسه بين يديه، مال الزينى عليه، لكن الشيخ لم يراع هذا، ونثر فى وجهه، يا كلب.. لماذا تظلم المسلمين؟ لماذا تنهب أموالهم، وتقول كلاما تنسبه إلى. أبدى الزينى دهشة حاول الانصراف لكن الشيخ قام، نادى أحد مريديه "درويش اسمه فرج" وأمر بخلع عباءة الزينى عنه، تجمع حوله الدراويش أحاطوا به، أمر الشيخ فضرب رأس الزينى بالنعال حتى كاد يهلك، ثم أمر بشك الزينى فى الحديد، ثم أرسل إلى الأمير "علان" وأعلمه أن هذا الكلب يؤذى المسلمين، وفى الحال طلع الأمير "علان الدوادار" إلى نائب السلطنة الأمير طومان باى وأيقظه وأخبره بما جرى.. فقال ليفعل الشيخ أبو السعود ما يبدو له، وحتى ساعة كتابة هذا يقول مقدم بصاصى القاهرة ما زال الزينى بركات بن موسى محتجزا عند الشيخ بو السعود.

مع طومان باى

وقد بلغت مكانة الشيخ أبو السعود وسطوته إلى حد التدخل فى تعيين سلطان مصر حين قتل السلطان قنصوه الغورى ورفض طومان باى تولى السلطنة.. يقول الشعرانى فى كتاب "الطبقات الكبرى":

"فإنه حينما رجعت فلول الجيش المصرى بعد هزيمة السلطان الشركسى قنصوه الغورى فى مرج دابق وبعد استشهاده وقع إجماع الأمراء على سلطنة طومان با وكان نائب غيبة.. فامتنع عن قبولها وأصر الأمراء على توليته وهو يمتنع.

ثم ركب هو والأمير "علان" وجماعة من الأمراء وتوجهوا إلى كوم الجارح، خارج القاهرة، عند الشيخ "أبو السعود الجارحى" فلما جلسوا بين يديه عرض الأمراء عليه الأمر وذكروا تمنع طومان باى عن السلطنة، فأبدى طومان باى عذره واحتج بأن خزائن بيت المال خاوية على عروشها، وأنه لا يقبل السلطنة إلا إذا تعهد الجنود والأمراء بأن لا يطالبوه بنفقة، وأن الجميع رهن إشارته، ولا يخونوه ولا يعصونه إذا استعد للحرب بمناسبة زحف العثمانيين على البلاد، ولما تراضى الجميع بين يدى الشيخ أحضر لهم مصحفا شريفا فأقسموا عليه بما تراضوا عليه وتواصوا به، ثم جرت بعد ذلك رسوم التولية كالمعتاد.. وهكذا تدخل الأولياء الصالحون فى تنصيب سلطان البلاد للمرة الأولى فى مصر.

وكان الشيخ أبو السعود صاحب منزلة كبيرة لدى السلطان طومان باى حتى إنه عندما قام بمبارزة القائد المملوكي الخائن قانبردى الغزالي الذي حارب فى صف العثمانيين، دارت الدائرة عليه ووقع من فوق حصانه، وهم السلطان طومان باى بقتله، إلا أنه استعطفه وأقسم عليه قائلا: "إني سألتك بالله تعالى، وتوسلت إليك برسول الله وبسر شيخك سيدي أبى السعود الجارحى أن تجعلني عتيقك في هذا اليوم".. فعفا عنه السلطان من فوره وبلا تردد، إذ أقسم عليه بشيخه أبى السعود الجارحى.

واقعة تدخل الشيخ أبو السعود فى تولية السلطان طومان باى ذكرها أيضا الدكتور عماد أبو غازي أستاذ الوثائق بجامعة القاهرة في كتابه "طومان باى.. السلطان الشهيد".. وهو يؤكد على مكانة الشيخ قائلا:

هذه الواقعة صحيحة وغيرها الكثير مما يؤكد على علو منزلة الشيخ، فقد كان أهم متصوف في وقته في القاهرة، وكان صاحب سطوة على الناس، وكان يعزل من القواد من لا يعجبه وقد عزل بالفعل الزينى بركات كما ذكر جمال الغيطانى فى روايته، وكان السلطان طومان باى يثق فيه جدا وكان الشيخ المفضل لديه.

أبو السعود الشاعر

يبدو أن الشيخ أبو السعود لم يترك مجالا إلا وكان له فيه باع، فمن خلال بحثى على شبكة المعلومات "الإنترنت" وجدت من يتحدثون عنه شاعرا وينسبون له عددا من القصائد منها هذه الأبيات الشهيرة:

يا من هواه أعزه وأذلنى

                      كيف السبيل إلى وصالك دلنى

واصلتنى حتى ملكت حشاشتى

                     ورجعت من بعد الوصال هجرتنى

أنت الذى حلفتنى وحلفت لى

                      وحلفت أنك لا تخون فخنتنى

وحلفت أنك لا تميل مع الهوى

                      أين اليمين وأين ما عاهدتنى

فلأقعدن على الطريق وأشتكى

                     وأقول مظلوم وأنت ظلمتنى

ولأدعين عليك فى غسق الدجى

                        يبليك ربى مثلما أبليتنى

 

** إلى هنا انتهت رحلتى مع الشيخ "أبو السعود الجارحى".. لكننى أدين له بأنه أعادنى إلى البحث فى ميدان أحبه وشغلتنى الصحافة عنه لزمن، كما أنه فتح لى بابا واسعا للبحث فى سيرة الأولياء والمتصوفين الذين يعيشون فى رحاب مصر القديمة ونمر عليهم كل يوم مرور الكرام وقررت بفضله أن أبدأ معهم رحلة المعرفة من جديد **

أعداد المجلة