فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
10

مهن وحرف سادت ثم اندثرت في مجتمع البحرين قديما

العدد 10 - ثقافة مادية
مهن وحرف سادت ثم اندثرت في مجتمع البحرين قديما
كاتب من البحرين

هناك العديد من المهن والحرف والصناعات الشعبية التي سادت في مجتمع البحرين في الماضي القريب واليوم قد اندثرت، وما هذه الأمثلة التي نسوقها في هذه المشاهدات مرتبة ترتيبا أبجديا إلا دليلا واضحا على ديناميكية وحيوية المجتمع البحريني عبر التاريخ، ونزوعه دائماً للنمو والتطوير، وتغيير أشكال وأنماط من الحياة الاقتصادية سعيا إلى الأفضل دائماً، وإن كان على حساب أولئك البسطاء من المهنيين والحرفيين والصُّنَّاع، إلا أنهم سيظلون في سفر تاريخ الوطن الاجتماعي والاقتصادي أنجماً ساطعة، فما قدموه من أجله ليس بالقليل، فقد قدموا زهرة شبابهم بل أعمارهم جُلِّها في حركة البناء والنهضة التي نعيشها ونتنعم بها نحن أبناء هذا الجيل والأجيال اللاحقة.

بائعة الباجلا

في الماضي القريب كنا نرى في اكثر من حي من أحياء البحرين، امرأة تفترش الأرض في ظل أحد المباني في ركن من إحدى البرايح1 وأمامها قدر كبيرمغطى بالخيش2 ليحتفظ بالحرارة أكبر قدر ممكن، تعرض سلعة يطلبها الغني قبل الفقير ألا وهي الباجلا او الباقلا او الباجلة وهي الحبة الكبيرة من الفول تقوم بطبخها طوال الليل في قدر كبيريرتكزعلى ثلاث حجرات كبيرة بنفس الحجم تقريبا، تثبت فوق تنّور يحفر له قليلا في الأرض، تستخدم فيه الأخشاب كوقود، ثم يظل القدر على الجمر طول الليل حتى الصباح الباكر، ليقوم أحد الأشخاص بمساعدتها في حمله وسط جفير أو زنبيل كبيرإلى المكان المناسب لعرض السلعة بالحي. وعادة ما تضيف إليه مادة الشنان3 التي تقوم بزعمهم بتسريع نضوج الباجلا وإعطائه نكهة خاصة. ويتقاطرعليها أهل الحي صغارا وكبارا للحصول على حصتهم منه للإفطارعليه مع الخبز. وكانت تبيعه أيضا على المارة في صحون صغيرة مصنوعة من الحديد مطلية بالمينا أما المشترون فيجلبون معهم آنيتهم ويكون حجمها حسب الكمية التي يريدونها.

بائع الكاز

والكاز او القاز بلفظ الكاف او القاف كالجيم المصرية هو ما يعرف به الكيروسين محليا منذ أن وصل إلى البحرين وانتشر استعماله كمادة للوقود والإضاءة بتزويد الأسرجة 4والفنارة5 والدوافير6. وأول بئر نفط اكتشف في منطقة الخليج العربي كان في عبدان بعربستان او الأهواز في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي. وكان أهل البحرين كغيرهم من سكان الخليج العربي يستوردون الكاز من هناك بالسفن التقليدية الشراعية في براميل خاصة ثم يتم توزيعه على باعة الكاز ليقوموا بدورهم بالطواف بين الأحياء في القرى والمدن لبيعه على الأهالي. وكان بائع الكاز عادة ما يستخدم عربة خاصة تحمل صهريجا صغيرا او برميلا كبيرا مسجى عليها، يجرّها حمار، ويخرج الكاز بواسطة صنبور صغير بأسفل خلف الصهريج يصب منه بمقدار الطلب، وكان المعيار هو الغلن والغلن أربعة لترات. وكان أغلب الناس حتى الفقراء منهم لا يستغني عن الكاز كوقود وإضاءة. ويحفظ الأهالي الكاز في البيوت بتنكة كبيرة أو برميل لها او له أداة خاصة من الحديد لسحب الكاز من داخله إلى الأعلى تسمى صرقرق (أو محكان السحب). وكان هناك محكان آخرهو القمع لصب الكاز في الأسرجة والفنارة. وهناك بائعو كاز أكثر تواضعا يقومون بجرّ عربة أمامهم تسمى محليا (الجاري) يسير على عجلتين يزود البيوت بالكاز حسب ترتيب خاص يتفق عليه مع أصحاب تلك البيوت.

وفي عام 1932 تم اكتشاف النفط في البحرين فسهل ذلك على المواطنين كثيرا، وأنشئت محطات التزوّد بالبنزين والكيروسين واستمر بائعو الكاز على حالهم حتى أواخر الستينات من القرن الماضي. حيث انقطع رزقهم، وخاصة بعد تزويد البيوت بالكهرباء وانتشار استخدام الأفران الحديثة التي تعمل بالغاز الطبيعي.

البقّال

والبقّال في المصطلح البحريني هو بائع الخضار وحيث أن البحرين كانت في الماضي موزعة في الغالب بين بيئتين متجاورتين هما البيئة البحرية والبيئة الزراعية، وكانتا متداخلتين. ولقد أفرزت البيئة الزراعية هذه المهنة، مهنة البقّال وقد اشتهر هذا قديما بحماره ذي المرحلتين وهما سلتان كبيرتان تصنعان من سعف النخيل، تثبتان بعدة7 الحمار كل مرحلة على جانب يضع فيهما البقّال سلعته التي تلقى رواجا بين أهل المدينة. والبقّال قد يكون أحد متضمني النخيل في الماضي وذلك أن يعقد عقدا مع صاحب الأرض الزراعية الأصلي يدفع له بموجبه مبلغا من المال سنويا، على أن يعمل البقّال مع أفراد أسرته او عماله على استصلاح الأرض والاستفادة من ريع بيع ثمار الزرع كالرطب واللوز البحريني والكنار أي النبق والرمان والتين وأنواع الرياحين كالمشموم والرازقي والياسمين والورد المحمدي، والجتّ وهو البرسيم كما كان يبيع بعض منتجات الألبان كالكشت وهو الجبنة البلدية واللبن وغيرها كالدجاج والبيض والبلابل وأنواع الطيور، ليغطي مبلغ العقد اولا وليربح بعض المال ثانيا ليؤمن العيش الملائم له ولأسرته.

وكنا قديما نرى البقّال على حماره يرفع شمسيته فوق رأسه ليتقي حر الشمس وهو يطوف في الطرقات والأزقة يصدح بألفاظ وعبارات ينغمها كأن يقول رازقي يا رازقي أو كشت ولبن أو رويد وبقل أو ورد محمدي ومشموم،  خلالوه يا خلالوه وهكذا. وكثيرا ما كانت ربات البيوت قديما تتفق معه على تمويل البيت بحاجتهن من تلك الخضار والرياحين أو الرطب في موسمه يوميا او أسبوعيا وكان يتفنن بعرضه في أحسن صورة في سلة خاصة تسمى المخرفة8 ويغطيه بورق اللوز البحريني وقد يجمله باللوز والتين. وقد استخدم بعض البقّالين عربات تجرّها الحمير كما اضطر البعض منهم عندما تقدم به العمر إلى تأجير أحد الدكاكين وسط الأحياء الشعبية أو فرشة بسوق الخضار والفواكه بالمدينة.

البنّاي

وهنا قلبت الهمزة ياء للتخفيف فهو البنّاء الذي يمتهن حرفة البناء، وقد انقرضت تلك الحرفة التي عمل بها الكثير من أبناء البحرين في الماضي وقد اشتهر البعض منهم إلى جانب خبرته كبناء، في عمل النقوش والزخارف الجصية. وهناك الآن حي باكمله ما يزال يحتفظ باسم تلك الحرفة وهو فريق9 البناني (البنائين). وقد تعامل بنّاء الأمس مع مواد متوفرة في البيئة المحلية كالحجارة البحرية و البرية والجص والنّورة، وهما نوعان من الجبس الطبيعي بعد أن يحرق، وجذوع النخيل إلى جانب مواد يتم استيرادها من الخارج كالباسجيل10 والدنجل11 والمنقرور12 . وكان بنّاء الأمس يعتمد اعتمادا كبيرا على فطنته وخبرته وحسن تدبيره في تقدير المسافات والارتفاعات مستعينا بأدواته البسيطة، وأهمها البلد (وهي قطعة من الحديد ثقيلة متصلة بخيط قوي) والخيط والقوني (وهو قبان الماء). ومن أدواته أيضا السخين والليّان والخبط والقفشة13 . ويعتمد البنّاء قديما على الطبخة وهي عملية خلط الجص بالماء بنسب منضبطة ويتم استعمال الخلطة على وجه السرعة قبل أن تبرد او تجف فتكون بذلك أكثر فعالية في ربط ورص السافات او طبقات البناء بحجارتها وجذوعها أو حين عمل الملاط السطحي الخارجي للبناء.

وكان البناء في السابق يقدرعمله ويحرص عليه كل الحرص فيبدأ العمل منذ الصباح الباكر ولا ينهي عمله إلا عند الغروب. وكان يعمل غالبا بالأجر اليومي وأحيانا قطوعة أي مقاولة يتحمل فيها البناء دفع أجور معاونيه وعماله بينما يلتزم صاحب البيت بتوفير جميع مواد البناء في الغالب.

التنّاك

التنّاك هو من يعمل بالتنك والتنك هو الصفيح او رقائق معدن الحديد الذي عرف لديهم بـ (الكينكو Chainco). ومن المعروف أن التنّاك في الأصل كان صفّارا يستخدم رقائق الصفر حتى انقطع وصول النحاس أيام الحربين العالميتين الاولى ثم الثانية مما اضطر الصفّار الى استخدام ما توفر في بيئته من صفيح البراميل والصفائح المعدنية لعمل الكثير من مستلزمات الحياة اليومية في البيت البحريني القديم، ثم استمر بعد ذلك في هذا النوع الجديد من الصناعة مطورا إنتاجه ومبتدعا حتى يلبي احتياجات المجتمع المتجددة.

وقد صنع التنّاك في الماضي الصناديق والبراميل والمدافئ والأحواض وبعض أدوات الطهي والصواني وخاصة تلك التي تستخدم في عرض الحلوى البحرينية الشهيرة وهي ذاتها التي استخدمتها النساء في غسل الملابس وتسمى الطشت وجمعها طشوت كما صنع التنّاك المحكان الخاص بالكيروسين او الكاز.

وفي مراحل لاحقة من تاريخ هذه الحرفة صنع التنّاك الصواني الخاصة بمكيفات الهواء  وخزانات المياه وغيرها من متطلبات الحياة المعاصرة.

الحجّامة

وتقلب الجيم ياء فتصبح حيامة وهي بائعة متجولة تطوف الأحياء على قدميها حاملة على ظهرها بقشة كبيرة تضم كل بضاعتها وتكون عادة كل ما يلزم النساء  وربات البيوت من أدوات الخياطة والزينة منها الإبر والخيوط والمقاصة ومفردها مقصّ والأقمشة والعطور والأصباغ كالحناء والدورم وهو لحاء بعض أنواع الاشجار المدارية تقوم النساء بعلكها فيصبغ الشفايف صبغة طبيعية تميل إلى الإحمرار وبعض الأدوية البسيطة، كما تعرض بعض مستلزمات الرجال كأدوات الحلاقة كالأمواس والفرشاة وبعض أنواع الصابون. وعادة ما تصدح بصوت عال بلهجة عربية محلية مكسّرة فهن يأتين من أجناس غير عربية من الأقطار المجاورة. وهن في البحرين أكثر منهن في بلدان الخليج العربية الأخرى فالبحرين كما عرفت منذ القدم بلد الانفتاح وقبول الآخر وبلد يشد لها الرحال في طلب الرزق.

وعادة ما  تدعوها ربات البيوت للدخول إلى دهليز المنزل ويقمن بمعاينة ما لديها من بضاعة ويخترن ما يرغبن في شرائه لهن ولأفراد الأسرة ثم يساومنها على السعر، وعادة ما تنتهي المساومة بموافقة الحيامة على السعر المطلوب، وتخرج من هذا البيت الى بيت آخر راضية بما رزقت به سائر اليوم. وعندما يتقدم بهن العمر يفترشن ممرات الأسواق العامة ويحاولن تفادي مراقبي البلدية كي لا يتعرضن للمساءلة ودفع الرسوم.

الحصّاية والحصّايون

وتُتخَذ الجالبوت وهي نوع من انواع القوارب التقليدية حصَّاية في العادة،. وتمتاز الجالبوت التي (تُوشَر) أي تُبنى في الأصل حصاية، بكبر حجم خنّها أو وسطها أو بطنها، ويستخدمها عدد من الرجال في مهنة كانت معروفة قديماً تعرف بـ (قص الحصى) أي قطع الحجارة من قاع البحر بالمياه الضحلة أو حين يكون البحر في حالة الجزر ثم نقلها إلى الساحل لاستخدامها في بناء البيوت الحجرية.  كما تنقل الحصّاية أيضاً مواد البناء الأخرى كـ (الرمل البحري) و(الفُرُوش) و(الحشو) و(الصُّبَّان).

واستخدمت الحجارة البحرية الكبيرة في بناء القواعد والجدران بينما استُخدِم الحشو وهي الحجارة البحرية الصغيرة كحشو بين سافات أو طبقات الجدران ومن ذلك أخذت تسميتها بـ (الحشو وهو كل ما يحشى به)، كما تستخدم في رصف وتسوية الأسطح والأرضيات.  وبالرمل فرشت قديماً (الأحواش ومفردها حوش) وهي أفنية المنازل واستعمل بعد ذلك كـ (مونة) بعد خلطه بمادة الأسمنت المستوردة من الخارج.  أما (الفروش) وهي ألواح أو شرائح عريضة رقيقة نسبياً من الحجارة البحرية استخدمت قديما لبناء الجدران غير السميكة وخاصة بين الأعمدة وفي بناء ما كان يعرف بـ (الوارش) وهو جدار السطح بالطابق العلوي من البيت، وتبنى فيه فتحات الهواء التي عرفت باسم (البادكَير) ينزل منها النسيم العليل في فصل الصيف ليلاً لينعش النائمين على السطح.  ويتخذ من الفروش شواهد قبور منذ زمن بعيد في البحرين وما يزال كذلك لطهارته فهو طاهر مجلوب من طهور وهو ماء البحر وقد ورد عنه ذلك في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال (هو الطهور ماؤه الحِلُّ ميتته). واستُخدم الصبّان (وهي القواقع البحرية الصغيرة الناعمة جدا) في الأحواش وأفنية المساجد لغرض النظافة أولاً ولدوره في تلطيف مناخ المكان فتعمل الشمس نهاراً على تبخيرها مما يؤدي إلى تلطيف المحيط داخل المنازل والمساجد. 

ويستخدم الحصّايون في حرفتهم هذه عدداً من الأدوات أهمها قضيب حديدي طويل وسميك وقوي جداً له نهايتان إحداهما مدببة تُستعمل لعمل ثقب بوسط كتلة الحجر والأخرى عريضة حادة تستخدم لعمل شرخ في الكتلة الحجرية ثم زحزحة أجزائها ورفعها من مكانها، ويسمى هذا القضيب العتلة ويعرف محلياً بـ (الهيب). وهناك (الجلَّة) وتلفظ بالجيم المصرية المضمومة واللام المشبعة وهي عبارة عن قذيفة مدفع قديم أو كرة ثقيلة جداً من الحديد تشبه قلّة ألعاب القوى هذه الأيام إلا أن الفرق كبير في الوزن، وكان الحصّايون يسقطونها على كتل الحجر البحري لتفتيته إلى قطع ملائمة يسهل رفعها إلى (خنّ) الحصّاية.  ويقوم الحصّايون بنقل كمية متعارفاً عليها تسمى (يُوْش) أو (تريب Trip) ويتم تجميعها في أكوام بساحات كبيرة قرب الساحل معروضة للبيع. وتنقل بعد ذلك من هذه الساحات إلى البيوت أو مواقع البناء على عربات تجرّها الحمير. 

الحمّالي

هذه هي اللفظة التي عرف بها الحمّال عند أهل البحرين والخليج قديما وكانت مهنة رائجة في الماضي، فالبحرين مجتمع تجاري متطور يعجّ بالحركة، وخاصة في الموانئ الرئيسية بالمنامة والمحرق وفي الأسواق العامة. وكان على من يريد أن يمتهن هذه المهنة أن يخرج له تصريحا أو رخصة من البلدية يتم تجديدها سنويا بمبلغ زهيد من المال كما كان عليه أن يراجع البلدية في حال رغبته في السفر أو ترك المهنة.

وقد أصدرت بلدية المنامة إعلانا بهذا الخصوص في عام 1938 لتنظيم هذه المهنة. والحمّالي إما أن يعتمد على عضلاته وقوته الشخصية لحمل الأشياء أو أن يتخذ عربة يجرّها أمامه أو خلفه تسمى الجاري أو عربة يجرّها حمار وأحيانا يكون الحمار بمفرده دون العربة. وقد كان الحمّالون بالعشرات منهم من يعمل بمينائي المنامة والمحرق لتنزيل البضائع أو تحميلها على السفن والقوارب الراسية أو نقلها إلى المخازن والمحلات التجارية بالأسواق. كما كان الأشخاص يكتارونهم14 لحمل أمتعتهم من السوق إلى البيت أو لحمل الأغراض أو الأثاث من بيت إلى بيت آخر في حال الحوال أو التحول وهو الانتقال من مسكن الى آخر. وكثيرا ما كان أصحاب الجواري (جمع جاري) والعربات يحملون بعض الركاب إلى اماكن سكناهم البعيدة، وخاصة من كبار السن والنساء والأطفال.

زري عتيق

الزّري هو خيوط الذهب والفضة التي تستخدم في تطريز الملابس والعباءات النسائية والبشوت الرجالية في المجتمع البحريني القديم بالمدن الرئيسية على وجه الخصوص،  فمما لا شك فيه فإن أهل المدن كانوا أفضل حال من غيرهم. وكان الكثير من النساء والبنات الصغيرات يستخدمن ملابس مطرزة ولو بقدر يسير من التطريز، كالبخنق وهو ما تلبسه الفتاة منذ الصغر حتى البلوغ والدرّاعة والثوب بأنواعه وخاصة النشل أو الهاشمي. كما أن عددا من العائلات بالمدن وخاصة المحرق، كانت تمتهن حرفة (الكورار) وهي تطريز الملابس بخيوط الزّري. لذلك ظهرت في تلك الايام حرفة يمتهنها بعض الرجال من الساحل الشرقي للخليج العربي ألا وهو البحث عن ذلك الزري العتيق المستغنى عنه، يشترونه بمبادلته ببعض الأواني الصينية والمعدنية الرخيصة، ليتم بعد ذلك بيعه بواسطتهم لوكلاء يقومون بدورهم بيبعه لأرباب صناعة الذهب ليحوّلوه بعد ذلك إلى خيوط ذهب وفضة جديدة، تأتي من بعد الى السوق المحلية، لتباع على محترفي حرفة الكورار بأسعار مرتفعة. وكانوا يضعون مبادلاتهم في جاري عربة مستطيلة تسير على عجلتين أو ثلاث عجلات يجرونها أمامهم بعناية فائقة حتى لا تتعرض للكسر. ثم تحوّل هذا الجوّال لجمع الأواني النحاسية والمعدنية القديمة ومبادلتها بالجديد من الأواني الصينية كالصحون والأباريق والفناجين والكؤوس وغيرها.

العبرة والعبّار

(العَبرة) سفينة صغيرة الحجم نسبياً تُتَّخذ عادة من نوع (الجالبوت أو الهوري) تستخدم لنقل الركاب والأمتعة والماشية والبضائع بين جزيرتي المحرق والمنامة وبين المنامة وجزيرة سترة وجزيرة النبيه صالح التي كانت مشهورة باسم (الجزيرة) هكذا، وغيرهما من سواحل المحرق الشرقية من جهة فريج البنعلي وفريج الضاعن وساحل عراد الغربي وذلك قبل تشييد الجسور. و(العبَّار) هو ربّان هذه العبرة أو السفينة ومدبِّرها نظير أجر زهيد، ويستعمل في تسييرها الشراع أو المجداف، وأحياناً كثيرة (الخطْرة) وهي عبارة عن عصا طويلة قوية من نوع القصب القوي المستورد من الهند، والعبّار مسؤول عن سلامة ركابه وأمتعتهم ودوابهم، فكان حريصاً على ألا يُحَمِّل (عبرته) فوق طاقتها.  ولم تكن توجد في العبرة كراسي للجلوس عليها كما قد يتصور البعض، بل كان ركابها يجلسون على الفنِّة (فنة صدر) وهي سطح المقدمة و(فنة تُفَر) أي سطح المؤخرة و(الصُوْر) بالوسط وهو لوح عريض سميك يصل بين جانبي العبرة ويثبت فيه الصاري و(البطاين) وتصنع أو تنسج من جريد النخل والحبال في (الخِن) أي بطن العبرة، فيزدحم الركاب فيها وهم الذين يطلق عليهم في هذه الحالة بـ (العِبرِيِّة) ومفردها (العبريّ) وهو مستخدم (العبرة)، يزدحمون في هذه الأماكن بالعبرة في وقت الذروة.

وكان الكثير من عائلات المحرق ينتقل إلى مصيف عراد هرباً من حر الصيف الشديد بالمدينة وكانت عراد آنذاك تعجّ بالحركة، وخاصة قرب العين في جهتها الشمالية الغربية.  وكان هناك أيضاً بعض عيون البساتين القريبة التي استخدمها المصطافون كموارد للمياه وكأمكنة للاستجمام والسباحة إلى جانب مياه بحر ساحلها البديع.  وكانت حركة العبرات لا تكاد تهدأ من شروق الشمس إلى وقت الغروب.

وأما وصول أهل المحرق إلى جزيرة النبيه صالح أو (الجزيرة) فكان لماما ولا يكون إلا لنذر، وكانوا يَكْتَرُون عدداً من العبرات أو إحدى السفن الكبيرة كالجالبوت أو الشوعي أو البانوش، ويمضون هناك يوماً كاملاً بين ربوع الجزيرة يتمتعون بجوها ومناظرها وعيونها، ويزورون بعض مواقعها المقصودة.

ولقد قامت العبرات بدور كبير في تشييد الجسر الأول بين المحرق والمنامة الذي افتتح رسمياً عام 1941.  ويحدثنا بعض الرواة أن عدداً كبيراً من تلك العبرات قد تحوّل طمعاً في الأجر المجزي للعمل في نقل الحجارة البحرية من محاجر قلْعِها لتصفّ في خط ردم الجسر من منطقة رأس رمان من جهة المنامة ومن غرب السوق من جهة المحرق، وكأنها كانت بذلك تخلّد ذكرى دورها الخطير في الحياة اليومية لمجتمع البحرين القديم بدور أخير تسهم فيه ببناء صرح حيوي هام ما نزال نستفيد منه على مدار الساعة ألا وهو جسر الشيخ حمد، الذي كان افتتاحه ضربة قاصمة لها ولدورها، وإنْ تحوّل البعض منها بعد ذلك للعمل على نقل العبرية بين المحرق وعراد وبالعكس فإن ذلك لم يكن يكفي أو يجدي لأن حجم العمل بين المحرق والمنامة كان أكبر وأكثر ربحاً، كما أن مكانة عراد كمصيف لأهالي المحرق أخذت تتراجع شيئاً فشيئاً لاستخدام وسائل الراحة الحديثة في البيوت كالكهرباء وأنابيب وخزانات المياه والمراوح والمكيفات وغيرها.  

وحتى بعد اندثار هذه الحرفة وبعد كل هذه السنين من زوالها ما يزال أهل البحرين يستعملون عِباراتها المتوارَثة، فإذا أراد أحدهم الذهاب إلى المنامة العاصمة قال لصاحبه (باعْبُر للمنامة) أي (سأذهب إلى المنامة)،  وبالعكس إن كان من أهل المنامة ويريد المحرق.  وكذلك العاملون في النقل العام والخاص وسائقو سيارات التاكسي(الأجرة) يسمون الراكب معهم (عِبري) والركاب (عِبريّة).  فما أظن أن أهل البحرين سينسون يوما تلك الكلمات المعبّرة عن تلك الحرفة القديمة فهي تجري على ألسنتهم على الدوام جيلا بعد جيل .

العكافة

وتلفظ بفتح العين وتشديد الكاف الفارسية المفتوحة وكسر الفاء او فتحها والكلمة مأخوذة من اصلها باللهجة البحرينية وهو الفعل (عكّف) ومعناه قام بتصفيف الشعر وكانت تلك مهنة، تخصص فيها عدد من النساء من ذوات الخبرة الطويلة حتى إنهن كن يعرفن بالإسم فلانة العكافة وتطلب هذه المرأة في مناسبات العرس من خطبة وملكة بالكاف الفارسية أي عقد القران أوليلة العرس، وتكون تلك ليلتها هي أيضا إذ تقوم بجهد كبير لتصفيف شعر العروس على طريقة الحبوش وهذه الطريقة تحتاج إلى وقت طويل وتحتاج إلى مهارات معينة، ومن المعروف قديما أن من صفات الجمال عند الفتاة طول شعرها حتى قيل في أشعارهم:

يالهيل بالهيله يالهيل بالهيله

يا من شعر راسها يسحب للذيله

نادوا العكافة اتعكف الزينة

في اظلام الليله15.

وكانت العكافة تستخدم الكثير من الأطياب والعطور كالزباد والعنبر ودهن العود والمخلّط والورد والرياحين لتطييب شعر العروس ثم تجمله بالهامة او الكبكب (تلفظ الكاف بالجيم المصرية) فوق الرأس وهو نوع مشهور من القطع الذهبية تشبه سرطان البحر، وهناك قطع صغيرة أخرى تسمى المشموم تتدلى من خصلات الشعر،  أو أطراف الحبوش وهي خصلات الشعر التي تجدل في ظفائر صغيرة كثيرة تنزل على كتف وأرداف العروس ليلة زواجها.

وعادة ما تكون العكافة خضّابة أو حنّاية وهي المرأة التي تقوم بوضع وتزيين يدي العروس ورجليها بالحناء. وقد تحوّل اليوم هذا العمل برمته إلى صالونات الحلاقة النسائية التي انتشرت في البلاد شرقا وغربا.

السقاية

لا يمكن أبداً أن يتصور أبناء الجيل الحالي المعاناة التي عاشها جيل الآباء والأجداد بالأمس القريب لتوفير الماء العذب في منازلهم،  إذ يقف أحدهم اليوم أمام صنبور الماء في حمّام نظيف يبرق كالبلَّور، ينهمر الماء بين أصابعه إن شاء بارداً أو إن شاء ساخناً، ولم يفكر ولو للحظة ماذا سيفعل لو انقطع هذا الماء عنه ساعة من نهار أو ليل. 

كانت السقاية في الماضي مهنة الكثير من الناس وقد احتالوا بوسائل شتى لنقل الماء من العيون والآبـار وقبلها (الكواكب) وتلفظ بالكاف الفارسية،والكوكب هو نبع ماء في قاع البحر، لتصل إلى بيوت المدن والقرى في البحرين ليستخدمها الناس في المطابخ للطهي وفي (القِطِيع) أي الحمَّام ويسمى كذلك لأنه يقتطع من الحجرة عادة، وفي الأدب أو الكِنِيف (وهما لفظتان عربيتان فصيحتان لشيء واحد هو المرحاض) وذلك للطهارة والاستنجاء والغسل، ولتوضع في الأواني الفخارية المخصصة للشرب كـ (الحِب، والجِحَلِة، «لِيْحَلة» والبكَ والغرشة وغيرها) فمنهم من حمل الماء على رأسه في آنية فخَّار أو علق برأسه حبل (قربة أو جِربة) تتخذ من جلد الماعز حاملاً إياها على ظهره، ومنهم من حمل عدداً من تلك (القرب) على جمل، ومنهم من نقلها على ظهر حمار، ومنهم من نقل صفيحتين كبيرتين من التنك بواسطة عمود يرتكز على كتفه وهو ما كان يعرف بـ (الكندر)، ومنهم من وضع الماء في (درام عود) أي برميل كبير على (جاري) عربة يجرها حمار قوي البنية.  وإن كان البعض يحمل (القرب) في بَلَم أو قارب صغير إلى (الكوكب) في المنطقة البحرية ليملأها بالماء العذب ثم ينقلها بعد ذلك إلى الساحل ليوزعها على زبائنه أو يوصلها إلى بيوتهم بالمدينة.

وكان (للسقاي) أي السقاء في الماضي القريب شأن وأي شأن في الحياة العامة، بل إن ربّ البيت أو ربّته غالباً ما كانا يكرمان السقاي أو السقاية وهي المرأة التي تمتهن هذه المهنة بإطعامه أو إطعامها بعض التمر والقهوة للتودد إليه أو إليها حتى لا ينشغل أو تنشغل بغيرهم من الأسر ويتركهم ذلك النهار بلا ماء يسد حاجتهم أو يفي بمتطلبات معيشتهم الضرورية.  وكان بعض ربّات أو أرباب البيوت يتفق مع السقاي بأن يعد حساباً دقيقاً لعدد المرات التي يجلب فيها الماء إلى البيت، وذلك بأن يتفقا على جريدة نخل خضراء يقوم السقاي بعمل (فرض) أو قطع بسيط كالثُلمة فيها كلما سكب قربته أو جاء بـ (تْرِيْب) ماء و(التريب) من الكلمات الإنجليزية التي استُعمِلت في اللهجة البحرينية، وأصلها (Trip) وتعني رحلة. وهي هنا بمعنى النوبة أو المرة وبهذه الطريقة يثبت عدد المرات التي نقل فيها الماء من العين إلى البيت فيحفظ بذلك حقه.  وفي نهاية اليوم أو الأسبوع يقوم ربّ البيت بِعَدِّ تلك الفروض أو الثلمات، ويدفع إليه أجرته بموجبها.

وحتى يومنا هذا ما نزال نسمع من أبناء الجيل الماضي عبارة ساخرة تقول (ما جاب السقاي ماي!) أي ألم يجلب االسقاء ماء هذا اليوم! للدلالة على الحرص والبخل في صرف الماء لطالبه.  كما يدلّ على حرص الأوّلين على الاقتصاد في الماء حين يتأخر عنهم السقاي أو حين يمرض أو يتعطل عن عمله يوما ما لسبب من الأسباب، فكنتَ ترى الناس حينها في جلبة وحيرة من أمرهم، فمنهم من يقوم وأهله وأولاده بنقل ما يحتاجون إليه من ماء من أقرب بئر أو عين ماء وكانت كثيرة في البحرين آنذاك، أو يستعين بالغير في حالة عجزه، ومنهم من يستغلّ مياه البحر وكانت شواطئه بالأمس قريبة من المنازل وخاصة للغسل والاستحمام وقضاء الحاجة.

ومنذ أوائل العشرينات درجت حكومة البحرين على حفر وبناء عدد من العيون والحمامات والمراحيض العامة على سواحل البحر وخاصة في مدن البحرين الهامة كالمحرق والمنامة، وكان الناس (يروّون) أي يسقون منها ما يحتاجون إليه من الماء إلى بيوتهم بل اتخذوا منها حمامات شعبية، وكان للنساء نصيب منها، بل إن جميع عيون الخمسينات من هذا القرن كانت من قسمين .. قسم للرجال وقسم أخر للنساء.  وكأني أنظر إلى بعض هذه العيون .. فلقد كانت صنابيرها دائمة الجريان لا تتوقف وتنهمر على مدار الساعة .. يعُبُّ منها القاصي والداني، حتى أننا كنا نرى ركاب السفن العابرة من بلدان الخليج الأخرى يملأون منها فناطيس سـفنهم (وهي خزانات خشبية كبيرة تسد شقوقها بالفتيل والقار، صنعت خصيصا لهذا الغرض توضع بخن او بطن السفن) للرحلات الطويلة بين البحرين وبلدانهم أو بين البحرين ووجهاتهم. وكانت مياهها باردة صيفاً دافئة شتاء حتى كنا نرى البخار يتصاعد منها ولا تكاد تخلو من رواد، وتلك لعمري من نعم المولى عزّ وجلّ العظيمة على أهل البحرين.

وكان بعض السقائين في الماضي يعملون في البناء، يجلبون الماء لغرض عمل (طبخات البناء) وهي خلطات الجص أو النورة أي الجبس.  وكان البعض الآخر منهم (يروّي) أي ينقل الماء إلى الخبازين والمقاهي الشعبية وبعض دكاكين السوق.  وهناك طائفة منهم يجوبون البلاد يصيحون بأعلى صوت (ماي .. ماي) بحثاً عن الزبائن.  كما أنه في مواسم الغوص تظهر الجالبوت (الرَّاوية) وهي سفينة مخصصة لنقل الماء العذب إلى سفن الغوص والتجارة في عرض البحر بالأجرة.

هكذا كان الطلب على الماء في بلد الماء‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ فقد كانت البحرين بفضل الله تسبح في بحر الخليج العربي على بحر آخر من المياه العذبة تشققت ونبعت طبيعيا على مستوى سطح البحر وتلك هي أرض البحرين لتسقي أهلها الماء العذب الفرات، ولولا حرفة السقاية قديماً لصعبت حياة بعض الأهالي بل ربما تأزمت عند بعضهم الآخر.  وعلى الرغم من أن البحرين هي بلد العيون والينابيع العذبة إلا أنها كانت في حاجة إلى من يوصل مياهها العذبة إلى المنازل والأسواق. 

وكان في مدينة المنامة سوق قل نظيرها في الأقطار الأخرى القريبة والبعيدة كانت تعرف بـ(سوق الماي أو سوق الحنينية)، وهي السوق التي تقف فيها طوابير الحمير أعزكم الله محملة بقِرب المياه العذبة والتي كانت تنقل منذ الفجر الباكر من عين الحنينية الشهيرة بمنطقة الرفاع بوسط جزيرة البحرين إلى سوق المنامة، قاطعة ما يزيد على الثلاثين كيلومتراً سفراً يتجاوز الأربع ساعات أحياناً لازدياد الطلب عليها لعذوبتها.

صفّار قدور

ويعرف في الماضي محليا بـ (صفار جدور) والجدر هو القدر وكان الناس في ذلك الزمان يستخدمون القدور المصنوعة من الصفر أو النحاس وكانت سرعان ما تصدأ ويخضرّ لونها حين تصاب بداء الصدأ ويطلب لها الأهالي صفّار الجدور الجوّال، وكنا نراه كثيرا في شهر شعبان من كل عام حين يقترب شهر رمضان المبارك ويستعد الناس له استعدادا خاصا ومن ذلك تصفير القدور فيأتي الصفّار إلى الحي ويتخذ زاوية في إحدى البرايح او في أحد الأزقّة، وينشر أدواته وكيره ويبدأ باستقبال قدور الحي الكبيرة والصغيرة إلى جانب الصواني والأواني والطاسات والصفاري16 وغيرها من الأواني المصنوعة من النحاس ويقوم بتصفيرها أي إزالة اللون الأخضر لون الصدأ عنها وتلميعها ببعض المواد الكيماوية أهمها النشادر. وإذا كان القدر كبيرا وجدته يضع قدميه في وسطه واقفا مستخدما قطعة من الخيش تحتهما بينما هو يهتزّ يمنة ويسرة حتى ينظف القدر من الداخل. وكنا قديما نسمعه وهو يطوف على الأحياء مناديا صفار جدور صفار جدور، وكان ذلك هو موسمه المفضل وكذلك أهالي البحرين في القرى والمدن ومع ذلك فقط عرفت مدينتي المحرق والمنامة أسواقا خاصة بالصفافير لهم فيها محلات خاصة يقومون فيها بممارسة تلك الحرفة حتى غلا سعر الصفر أي النحاس الاصفر وتحوّل الصفارون أومعظمهم إلى التناكة (استخدام التنك رقائق الحديد) وبعد وصول أواني الألمنيوم والبلاستيك إلى الاسواق تراجعت هذه الحرفة ولم يبق منها إلا بعض تراثها كالمثل الشعبي القائل (ضرطة في سوق الصفافير ضايعة) والمقصود أن الأمر مهما كان مسموعا ففي وسط الجلبة والأصوات العالية كطرق الصفافير على الأواني النحاسية لا يمكن لأحد أن يسمع شيئا.

المْصوّت

(بسكون الميم وفتح الصاد وتشديد الواو المكسورة)

لم يكن أمام من أضاع شيئا ذال بال إلا أن يحاول البحث عنه في تلك الأيام الخوالي، لذلك ظهرت مهنة المصوّت وهو شخص جهوري الصوت ينادي بأعلى صوته قائلا  (يا الايواد (الأجواد) يا أهل الفريج جزاكم الله خير أو مرحوم الوالدين يا من لقى هالضالة) ويسميها، وهو يطوف الأحياء بين الطرق وادواعيس ومفردها داعوس وهي الأزقة الضيقة ومفردها زقاق حتى يجد الضالة أو ذلك الشيء المفقود. وكنّا تلك الأيام نسمع عن عدد من المصوّتين من وجد مفقودا غاليا وحصل على جائزة مجزية من أهلها كأن يكون طفلا أو طفلة ضائعة أو ربما سخلة صغيرة أو دجاجة بيّاضة او ديكا صادحا بالأذان كل صباح.

وعرفنا تلك الايام بعض المؤذنين من كان هوالأفضل ممن امتهن تلك المهنة طلبا للثواب من الله. وكان قليل الكلام ولكنه كان ذا صوت قوي ينادي به على المفقود حتى يجده وهو يحاول إيصال صوته الى البعيد قبل القريب.

لقد كانت مهنة نادرة في وقت أحوج ما يكون لها مجتمعنا المتماسك الصغير آنذاك وكانت تؤتي نتائج طيبة في أغلب الاحيان. رحم الله اؤلئك الرجال وجزاهم عن الجميع كل خير.

المْنبّت

(بسكون الميم وفتح النون وتشديد الباء المكسورة)

وهو فلاح يأتي عادة من بعض القرى المجاورة الى أحياء المدينة وكان الكثيرمن بيوتها تتخذ من النخلة ظلا وطعاما ووقودا ومواد أولية لصنع الكثير من الأشياء النافعة وتكون من النخيل المثمرات. وكنت ترى المنبّت يحمل طلع النخيل الفحل او الذكر في جرابه يصيح بأعلى صوته (منبت منبت) ويدعى من قبل أهل البيت إلى داخل الحوش في موسم التلقيح، ويقوم بصعود النخلة بالكرّ وهو حبل قوي له مسند بسيط من الليف يستند إليه بظهره وله شناقة أي إنشوطة يعقدها بعد أن يلفه حول الجذع، ويصعد النخلة مهما كان طولها ويقوم بإصلاح ما ظهر من طلع النخلة الأنثى ويخلله بطلع النخلة الفحل ويربطه بشكل يسمح بانفكاكه بسهولة حين ينمو العذق شيئا فشيئا، فيخرج منه الخلال وهو صغار الرطب ثم يصير بسرا ثم يتحول بسرعة إلى رطب جنيّ منه الأحمر والأصفر والوردي اللون، حتى يصير بعد حين تمرا غنيا بخيراته. ويحصل المنبّت على أجر زهيد مقابل هذه الخدمة الجليلة.  وكانت تلك حرفة اشتغل بها عدد من أهل القرى إلى جانب كونهم مزارعين في مزارعهم وبساتينهم.

 

المصادر والهوامش

**: جاء في القاموس المحيط تعريف هذه الكلمات الثلاث كالتالي: المِهْنَةُ هي الحِذْقُ بالخِدْمَةِ والعَمَلِ. والحِرْفَةُ هي الطُّعْمَةُ والصِناعَةُ يُرْتَزَقُ منها وكُلُّ ما اشْتَغَلَ الانْسَانُ به وضَرِيَ يُسَمَّى صَنْعَةً وحِرْفَةً لأَنَّهُ يَنْحَرِفُ إليها. والصِّناعةُ هي حِرْفَةُ الصانِعِ وعَمَلُه وهي الصَّنْعَةُ .

 

1: البرايح ومفردها براحة وهي الساحة الكبيرة بين عدد من البيوت والدكاكين في احياء مدن البحرين وقد اشتهر عدد من البرايح ارتبطت بالعائلات الكبيرة الساكنة بتلك الاحياء كبراحة بن غتم وبراحة بن عجلان وبراحة بن خاطر وغيرها.

2: الخيش هو كيس الارز قديما المصنوع من نسيج نبات الجوت التي تشتهر به القارة الهندية وجمهورية بنغلادش على الخصوص.

3: الشنان نباتات برية تنبت في الارض الرملية تجفف وتدق لتستخدم في تحضير بعض المواد والادوية الشعبية، ويضاف إلى الباجلا في حال غليه بالماء ليساعد في طهيه ليكون لينا ناضجا سائعا للآكلين.

4: الاسرجة هي السرايات باللهجة المحلية ومفردها السراي وهي محليا شمعة تتخذ من بعض القناني الزجاجية او من آنية كانت تستورد من الخارج لبعض انواع الزيوت او ربما صنعت محليا في شكل اسطواني لها رأس مخروطي، يوضع بها فتيلة من القطن تتبث بفمها بقطعة من التمر الرديء.

5: الفنارة ومفردها الفنر وهو مصباح الكيروسين المشهور في الكثير من البلدان قبل ظهور الكهرباء مصدره في البحرين غالبا من الهند.

6: الدوافير ومفردها دافور وتسمى محليا الكولة (بالكاف الفارسية) وهو الموقد السويدي المشهورالذي استخدم منذ النصف الاول من القرن الماضي في الطهي بدل التنور في البحرين وفي الكثير من البلدان المحيطة.

7: عدة الحمار هي ما يضعه راكبه فوق ظهر الحمار للجلوس عليه وهي كالسرج للحصان .

8: المخرفة سلة تصنع من عيدان عذوق التمرلليونتها وسهولة تشكيلها وتكون كالصحن العميق المشبّك اي كالشبكة وعادة ما يقوم المزارع بخرف اي جني الرطب فيها لذلك سميت بالمخرفة.

9: كلمة فريق تسمى محليا فريج بالجيم لا بالقاف ويقصد به الحي ويتكون عادة من عدد من الاسر المرتبطة نسبا او قرابة او بالمصالح في التجارة او في الحرفة اوالحماية. وكثيرا ما عرفت احياؤنا بأسماء القبائل او الأسر الكبيرة كفريج البن علي وفريق البن غتم وفريق البن خاطر وفريج البن هندي ..الخ وهناك احياء نسبت إلى الحرف كفريج البناني وفريج الصاغة وفريج الحياك وفريج الحدادة .. الخ .

10: الباسجيل وهو البامبو بعد تشظيته إلى قطع طويلة بعرض اصبعين او ثلاثة وتستخدم في تجميل اسقف الحجرات ويتم صفّه بإسلوب هندسي منظم ويتم تلوينها بالوان زاهية جميلة. ويستورد البامبو من بلدان جنوب شرق آسيا.

11: الدنجل وهو جذوع نوع من الشجر قوي جدا يدوم طويلا يتم استيراده من شرق افريقيا في الغالب.

12: المنقرور وهو نوع من الحصر تصنع من نوع من نباتات مستنقعات الاهوار بحنوب العراق تشبه نبات الاسل واقرب منه إلى البامبو الصغير الذي يشظى إلى اعواد قاسية يتم نسجها في حصر تستخدم في التسقيف في البحرين وغيرها من دول المنطقة.

13: السخين هو المسحاة واللّيّان اناء من الحديد يشبه المقلاة الا انه اعمق والخبط هي نوعان نوع يشبه القفاز مصنوع من المطاط ويستخدم في خلط الجص الحي. والنوع الثاني بدون اصابع ويستخدم في عمل الملاط باليد. والقفشة هي اداة من الحديد لها مقبض يستخدمها البناء في الخلط وفي عمل الملاط الناعم اي المساح في الغالب.

14: يكتارونهم بالكروة اي يؤجرونهم بأجرة يتفق عليها سلفا.

15: هذه اغنية شعبية تغنيها الفرق الشعبية النسائية فيما صار يعرف بالدزة وهي الزفّة او زفة العروس والمعنى العام الهيل بالهيل للجرس الموسيقي ثم يا من شعرها طويل ينزل من رأسها حتى ذيل ثوبها نادوا لها مصففة الشعر ليلا كي تقوم بتصفيف شعرها وتزيينه في ليلة عرسها التي تستمر حتى ظلمة الليل الاخير.

16: الطاسات والصفاري هي من انواع المواعين المصنوعة من النحاس او المعدن الابيض كالالمنيوم. وهي مختلفة في الشكل والحجم والاستعمال.

17: صور هذه المشاهدات من كتاب (البحرين تاريخ وحضارة) من منشورات ادارة التراث وزارة الاعلام بالثمانينات من القرن العشرين. ومن كتاب (اشياء قديمة) للسيد خليل الشنو من منشورلت مؤسسة الايام. ومن كتاب (البحرين من خلال الصور التاريخية من 1869 لغاية1961) للدكتور اندرو ويتكروفت باللغة الانجليزية، الذي نشر بامر من وزارة الاعلام البحرينية في بريطانيا. ومن كتاب النخلة مهرجان التراث (النخلة) من مطبوعات ادارة الآثار والتراث وزارة الاعلام بتسعينيات القرن العشرين.

أعداد المجلة