فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
13

المشافهة والتدوين: الثابت والمتغير

العدد 13 - آفاق
المشافهة والتدوين: الثابت والمتغير
كاتبة من تونس

مثلت ثنائية المشافهة والتدوين مبحثا هاما في معظم الحضارات والثقافات وظل السؤال المطروح دوما هو ما دوافع الانتقال من ثقافة أساسها الارتجال والتشافه إلى ثقافة عمادها التوثيق والتدوين والكتابة؟ما الذي أحوج إلى هذه النقلة؟وكيف تمت عملية التدوين في مختلف مجالات الثقافة الإنسانية عموما والثقافة العربية الإسلامية على وجه خاص؟ماهي شروط التدوين ودوافعه؟كل تدوين هو اختياروإذا كان كذلك فعلى أي أساس يكون هذا الاختيار؟هل هناك اتفاق حاصل على أن كل ما دون هو بالأساس قد بلغ من الجودة والاعتراف بفضله ما جعله يحظى بهذه المزية؟ ما الذي دعا إلى تدوين أعمال دون أخرى ومؤلفات بعينها؟ متى بدأ تدوين التراث العربي الإسلامي؟وما الفرق بين الكتابة والشفاهة والتدوين؟

 

إن مسألة الشفاهية من المسائل الهامة في المعرفة المعاصرة تناولتها دراسات مختلفة وبحوث متنوعة لتحديد أهميتها والبحث في الأسباب التي اقتضت ظهورها، بحوث تنوعت بتنوع مجال البحث فيها من الأدبية إلى التاريخ إلى علم الاجتماع والأنثروبولوجياوعلم اللغة وغيرها..

(باديس،2005).

ولاغرابة في ذلك فالمسألة مرتبطة ارتباطا وثيقا بمختلف هذه الميادين ذلك أنها تردها جميعا إلى مرحلة من مراحل المجتمع الإنساني حيث مثلت الشفاهية ركنا أساسيا إن لم تكن القناة الوحيدة للتواصل وتحقيق النشاط الثقافي والفني والفكري باعتبارها أداة في المعرفة ووسيلة في الحفاظ عليها ونقلها من جيل إلى جيل.لكن الشفاهية قد ارتبطت دوما بمقابل اختلف الدارسون في تحديد العلاقة بينهما أهو امتداد لها أم نقض بديل أو صورة ثانية عنها.هذا الجانب الموازي هو ما يصطلح على تسميته الكتابة وهو مفهوم له بدوره إشكالياته وقضاياه التي تناولها بعمق أهل الاختصاص.

ورغم اختلاف الدراسات بشأن هذا الزوج حسب اختلاف وجهات النظر ومجال الاختصاص إلا أن الاتفاق حاصل على أننا لا نكاد نذكر الشفاهية إلا والكتابة ماثلة في الأذهان فحضور أحدهما يستدعي حضور الآخر تصريحا أو تلميحا نطقا أو تصورا ذكرا أو توقعا وقد غدا هذا الزوج من المشهورات في الأزواج المسيطرة على مناهج التصنيف في التاريخ والعلوم والآداب شأن زوجي:شعر/نثر وثقافة/طبيعةوعقل/نقل وغيرها من الأزواج التي يستحيل الخوض في طرف من أطرافها منفصلا عن الطرف الثاني.

وهذا المشغل ليس مقتصرا على ثقافة دون ثقافة وإنما هو بالأساس مشغل إنساني يهم الفكر الغربي والعربي على حد سواء.تناوله الفلاسفة وعلماء الاجتماع واللغويون وعلماء النفس ودارسو الأدب والانثروبولوجيون وغيرهم.وهذه العناية الفائقة من مختصين مختلفين قد أثرت في هذا المبحث وأغنته وسلطت عليه أضواء من زوايا مختلفة.إلا أن العديد من الدراسات قد انزلقت إلى الأحكام المعيارية في تناولها زوج الشفاهية والكتابية وانزلقت بالتالي إلى المفاضلة والانتصارلطرف على طرف ويمكن هنا أن نستدعي الجدل القائم حول نصوص الإلياذة والأوديسة لهوميروس منذ القديم وقد أشار إلى ذلك أو نج بإسهاب عندما تحدث عن الجدل القائم بشأن هذا المبدع وأشار إلى أن تدوين أعماله لم تتم إلا بعد فترة طويلة ولا يمكن إلا أن تكون إبداع شعب بأكمله ورأى «أو نج» أن «روبرت وود» كان أول باحث اعتقد أن هومروس لم يكن كتابيا وأن قوة الذاكرة هي التي مكنته من إنتاج هذا الشعر(انظرو.ج.أونج:الشفاهية والكتابية ترجمة د.حسن البنا، عالم المعرفة عدد182).وسواء أرجعت جمالية هذه القصائد إلى شفاهيتها أم إلى كتابيتها فإنه من المستحيل جهل دور الكتابة باعتبارها حاملا على الأقل وفاعليتها في هذه القصائد في الحالة التي وصلت فيها إلينا.لقد حاول كالام calameأن يقف على صعوبة التمييز بين ما هو شفوي وما هو مكتوب في نص لم يصل إلينا إلا كتابة فرغم محاولة الوقوف على بعض الظواهر المرتبطة بالشفوية فيها فإن هذه القصائد اليونانية القديمة لم تصل إلينا ولم نتمكن من التمييز بين الكتابي والشفوي فيها إلا بعد ظهور الأبجدية الفينيقية وبالتالي بعد أن أسلمت الأشعار زمامها إلى الكتابة.(Calame، 1983).

ولئن حاول ولتر.ج.أو نج أن يحدد خصائص النص الشفوي وأهم مميزاته ومآخذه وإيجابيات الكتابة وسلبياتها اعتمادا على مواقف مختلفة لأدباء قد تختلف آراؤهم أو تتباين إلا أنه كثيرا ما عقد الصلة بين الشفاهية القديمة والشفاهية الجديدة(وسائل الإعلام)والكتابة القديمة (الخط)والكتابة الجديدة(الحاسوب)فرأى أن الاعتراض على الحاسوب اليوم هو نفسه اعتراض أفلاطون قديما على الكتابة وفي الرسالة السابعة ضد الكتابة قال أفلاطون على لسان سقراط «إن الكتابة غير إنسانية تدعي أنها تؤسس خارج العقل ما لايمكن في الواقع أن يكون إلا داخله.ذلك أن الكتابة شيء نتاج مصنوع (...)تدمر الذاكرة تضعف العقل (...)»واليوم يخشى الآباء من حاسبات الجيب التي تزود التلاميذ بمصدر خارجي لما ينبغي أن يكون مصدرا داخليا...فهي تضعف العقل وترفع عنه حب العمل الذي يحافظ على قوته (...)والكتابة لا يمكن أن تدافع عن نفسها على نحو ما يمكن للكلمة المنطوقة.فالكلام والفكر الحقيقيان يوجدان دائما في سياق الأخذ والعطاء بين أشخاص حقيقيين.أما الكتابة فسلبية تحيا في عالم غير حقيقي(...)وهذا ينطبق على الحواسيب أيضا.»(باديس,2005 ص 64)

ولئن حاولت العديد من الدراسات الغربية التأريخ لظهور أول نص شفوي في حضارتها فإنا نتساءل بدورنا عن أول نص شفوي قد عرفته الحضارة العربية الإسلامية وعن كيفية وصوله إلينا ومختلف العوامل التي ساهمت في بروزه ووصوله إلينا.

ولعل فكرة بروز الشفوي من جديد لم يشر إليها أونج وحده وإنما عالجها باحثون غيره كزومتور الذي اعتبر أن شفوية اليوم هي شفوية وسائل الإعلام وهي في الحقيقة لا تختلف عن الشفوية القديمة إلا من جهة بعض كيفياتها.فقد عادت لهذه الشفاهية حسب رأيه سلطة كانت فقدتها تقريبا  وهو يرى أن الوسائل التقنية تجعل سلطة الشفوي تكبر أو تنقص بحسب ذلك.

ويتوسع في ضبط خصائص الشفوية الجديدة شفوية الآلات والتقنيات المتطورة ووسائل الاتصال المختلفة ويقف على جملة من الملاحظات الهامة:

- أن الصوت الذي يأتينا عبر وسائل الاتصال لم يعد مرتبطا بشخص معين وأن تردده وتكراره يفقده صلته بشخص معين.

- أن المسافة بين نقطة إنتاج القول ونقطة استهلاكه توسعت تبعا لاختفاء المتكلم وبقاء صدى صوته الثابت أو تبقى عنه صورة نشاهدها على شاشة التلفزة أو على شاشة السينما.

- غياب صورة المستمع وتحولها إلى صورة مجردة أو صورة إحصائية عند تسجيل الرسالة الموجهة إليه رغم أنه لا بد أن يكون حاضرا عند التقاطها.كذلك فإن الرسالة تصنع وتبعث وتسوق وتشترى هي هي في أماكن مختلفة إلا أننا لا نستطيع مع ذلك لمس تلك الرسالة.وتبقى علاقتنا بها علاقة مسالك الحس التي نلتقطها بواسطتها:السمع أو العين إن تعلق الأمر بالتلفزة أو السينما.

 

ويرى أن البشرية قد مرت بثلاث انقطاعات كبرى:

- الانقطاع الكبير الأول هو ظهور الكتابة.

- الانقطاع الكبير الثاني وهو ربما أقل ظهورا من الانقطاع الأول هو الانتقال من المخطوط إلى المطبوع.

- انتشار الوسائل السمعية البصرية أساسا.(باديس,2005ص.ص68ـ69).

ومن هنا نتبين صعوبة تحديد الشفوي من ناحية والمكتوب من ناحية أخرى فالأكيد أن في كل عصر يتعايش أناس ينتمون إلى الشفوية وآخرون إلى الكتابة وتساءل العديد من الباحثين عن مفهوم الكتابة بدوره؟هل أن التوقيعات الملكية والأقنعة الإفريقية والأوشام المختلفة وكل ما يحشر في قائمات الرموز والإشارات الاجتماعية هي كتابة؟

وقد ذهب زومتور إلى إمكانية اعتماد تصنيفية جديدة للشفوية:

- شفوية صافية بسيطة مباشرة لا صلة لها بالكتابة ويعني بهذه الكلمةكل نظام رمزي مرئي وقع تركيبه على نحو مضبوط وتمكن ترجمته إلى اللغة.

- شفوية تعايش الكتابة ويمكنها تبعا لتلك المعايشة أن تتصرف بطريقتين :إما على أنها شفوية مختلفة عندما يبقى تأثير الكتابة فيها جزئيا أو متأخرا وإما على أنها شفوية من درجة ثانية تعيد انبناءها انطلاقا من الكتابة في وسط تسيطر فيه هذه على قيم الصوت في الاستعمال والتخيل.

- شفوية واستطها آلات وتقنيات ويعني أنها مؤجلة في الزمان والمكان.

ويرى زومتور أنه من الصعب تحديد الشفوية الخالصة«ففي الوضع الأمثل تصلح تعريفا لحضارة الصوت الحي حيث تقوم هذه بدور الطاقة المؤسسة والحيوية الدافعة تحافظ على قيم الكلام وتبدع أشكالا من الخطاب من شأنها أن تحافظ على اللحمة الاجتماعية وأخلاق الجماعة.وهذه الوظيفة تخترق التاريخ لأنها تقع بمعزل عن التغيرات التي تحدث في البنى الاجتماعية السياسية أو منظومة الأخلاق ومراتب الحساسية»(بول زومتور ص.36)

وعندما نعود إلى النصوص المؤسسة للثقافة العربية الإسلامية نعود إلى نصوص وصلتنا مدونة مكتوبة وأكيد أن نصوص هذه الثقافة قد واجهت ما واجهته نصوص الآداب الأخرى يشهد بذلك ما عرفه ماسمي بعصر التدوين عندنا من مسائل في ضبط النصوص ضبطا محكما وتحقيق نسبتها إلى أصحابها ومعرفة الموضوع منها والصحيح ويكفي هنا أن نذكر تدوين النص القرآني  وماصاحبه من جدل لمكانة هذا النص المقدس وخصوصيته في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية.كذلك نذكر ما أثاره ناقد كابن سلام الجمحي في طبقات الشعراء من أسئلة تتعلق بتحقيق الشعر ونسبته نسبة صحيحة رغم ما هناك من وضع وانتحال وهي مسائل لها علاقة مباشرة بما أشرنا إليه وكذلك ما جمعه علماء القرن الأول والثاني في مختلف صنوف المعرفة .

فعندما نعود إلى النصوص المؤسسة للثقافة العربية الإسلامية نعود إلى نصوص وصلتنا مدونة مكتوبة ولكننا نعرف أنها كانت في الأصل شفوية نخص بالذكر منها نصوص الشعروإذا بنا نواجه المشاكل التي يواجهها كل دارس قديم يحاول من خلال المكتوب إعادة بناء مقامات المشافهة.وهو أمر عزيز المنال إن لم نتوسل بمنهج لما ينضبط في ما نقدر في الثقافة العربية وربما كان الانخراط في سلك المهتمين بالآداب الكلاسيكية ومحاولة الاطلاع على ما وصلت إليه المباحث عندهم مما قد يعيننا على بناء مسلك يمكننا من إعادة صياغة ما يظن أنه ذهب وانقرض.

فالدراسات الأدبية ولاسيما تلك التي تهتم بالنصوص التي يجمعها المقام الشفوي في حاجة من وجهة نظرنا إلى تجريب هذا المسلك في المبحث أي مسلك الشفاهية والكتابية مما وقع إنجازه في النظر والتطبيق من قبل من ذكرنا من المختصين في الآداب القديمة لاسيما أن بعض المهتمين بالثقافة العربية من المستشرقين ممن لهم علم بالدراسات الكلاسيكية قد بدؤوا يجربون المنهج على الشعر القديم وتمكنوا من إعادة طرح قضايا قديمة طرحا جديدا لا يخلو من إغراء.فما أنجزه جيمس مونرو ومايكل زويتلر ومن بعدهما يورسلاف وسوزان ستيكيفيتش وأطلقوا عليه نظرية الصياغة وطبقوه على نصوص من الشعر الجاهلي يعتبر في جانب من جوانبه مهما لقضايا الانتحال والأخذ والسرقة على الأقل لإبراز أن إعادة بعض الصيغ والمركبات المكونة للشعر القديم من قصيدة إلى أخرى لا يعني بالضرورة المداخلة بين النصوص في ذهن الرواة أو انتحالها وإنما هو من آثار الشفوية وحاجة الشاعر المنشد إلى مواقف ومعتمدات يقتضيها المقام الشفوي وهذه المعتمدات تكون بمثابة اللازمة التي لا تتغير من شاعر إلى شاعر وأنها من ضرورات القول وإنشاد النص في الجمهور.ولهذا نحتاج إلى بناء منهجية لدراسة الشفوي لاتقتصر على الجرح والتعديل للتثبت من صحة الأحاديث وإنما تعيننا على تصنيف النصوص وبناء المقامات الضائعة وتوضيح المسالك إلى فهم العلاقات العديدة القائمة بين حالتين من حالات النص:حالته الشفوية وحالته عندما يتحول إلى كتابة.

ويترتب عن كل هذا أن الكتابة مواضعة طارئة استنبطها الإنسان لتصوير اللغة أي للخروج بها من خطيتها الزمانية إلى الفضاء والمساحة بجعل الزمان مكانا  بشرط أن تكون تلك الكتابة تصويرا أمينا ما أمكن لما يأتيه الإنسان لفظا.

فالكتابة تحول من خطية زمنية إلى مسافة وفضاء أي من ظواهر تدرك بالسمع إلى ظواهر تقرأ بالبصر ومما يؤكد ما نذهب إليه ما عبر عنه المهتمون بدراسة اللغة من وجوه الحرج والضيق من عدم قدرة الكتابة على تصوير ما يكون باللفظ تصويرا كاملا لأن جهاز الأصوات والحركات المصطلح عليه ليس له القدرة على تمثيل كل ما يطرأ على النطق من تغيير من جيل إلى جيل أو من قطر إلى قطر في اللسان الواحد.

وهذا الأمر ينطبق بشكل بارز على الحكاية الشعبية باعتبارها من أهم ما يمثل المقام الشفوي ولا شك أن ما يصلنا منها مكتوبا يغيب جوانب عدة لا تستقيم نصا مشافها إلا به.فمن المهم الوعي بالتحولات التي تطرأ على الجهاز التمثيلي عندما نتحول من وضعية المشافهة ومشهد إنتاج المعنى عندما تكون الأطراف حاضرة يتلقى أحدها عن الآخر بطريقة مباشرة ويتحسس المعاني والمقاصد من مكونات المشهد برمته بما فيه من عناصر مقالية وعناصر مقامية وعناصر مشهدية تتجاوز المقام في مفهومه الضيق.ماذا يحدث عندما تتحول هذه اللعبة ويصبح المتكلم كاتبا؟ والمتلقي قارئا؟ والكلام كتلة من العلامات مواتا لا تنطق إلا إذا استنطقناها على حد عبارة الجاحظ ؟ويغيب المشهد وتغيب جميع العناصر المساعدة على إنتاج المعنى والفوز به؟كيف يعوض النص هذا الغياب ويسد هذه الثلمة ويتسلل إلى القارىء بوسائل أخرى تبني في ذهنه المشهد وتحول الغياب حضورا؟فالتدوين من هذه الناحية تسجيل للحظة الراهنة حتى يمكنها أن تخترق الزمان محافظة على ما فيها من حيوية واختزال لما في المشهد من حركة ونشاط في رموز ثابتة تحرص ما أمكنها على أن تكون أمينة للواقع وهو رغم ما يحيط بها من حرص على الأمانة أثرى وأعمق وأدق تفاصيل.

مثلت الحكاية الشعبية لبنة أساسية من تراثنا الشعبي عامة، هذا التراث الذي يعد نتاجا للتراكم الثقافي والفكري المتواصل والمستمروهو يعكس بجلاء خبرات الشعوب الطويلة في الحياة منذ ما قبل التاريخ وحتى وقتنا الحاضر وقد تضمن هذا التراث مختلف الفنون والآداب الشعبية كالحكايات والسير الشعبية والأشعار والقيم والأزياء والتقاليد والأعراف السائدة التي تعبرعن مضامين الحياة الإنسانية المختلفة وأنماطها المتنوعة ولا شك أن الأدب الشعبي يمثل صورة دقيقة لواقع حياة الشعوب بما سعى إلى تصويره من عادات وتقاليد وعقائد وفنون تعكس نفسية تلك الشعوب وفكرهم وتسعى ما استطاعت إلى تشكيل هوية الإنسان وتحديد ملامح شخصيته في حقبة ما من تاريخ البشرية.

ومن هنا نتبين أن الفن الشعبي عموما يعد من أهم التيارات في التراث ولكن تعريفه قد شكل بدوره إشكالية لدى الباحثين فمنهم من جعله مرادفا للفلكلور ومنهم من ميزه عن الفن العامي  وقد حاول البعض إيجاد نقاط ثابتة على ضوئها يتم تعريف الأدب الشعبي كأن نقول إن مؤلفه مجهول وأنه قيل مشافهة بين جمهور من المتلقين وقد حاول العديد من الباحثين اعتماد التعريفات الواردة في المعاجم الألمانية التي ترى«أن الحكاية الشعبية هي الخبر الذي يتصل بحديث قديم ينتقل عن طريق الرواية الشفاهية من جيل إلى آخر وهي خلق حر للخيال الشعبي ينسج حول حوادث مهمة وشخوص وأحداث تاريخية»أو ما ورد في المعاجم الانقليزية:«أنها حكاية يصدقها الشعب بوصفها حقيقة وهي تتطور مع العصور وتتداولها شفويا كما أنها تختص بالحوادث التاريخية الصرفة أوالأبطال الذين يصنعون التاريخ.»فالحكاية الشعبية بهذا التعريف لها صلة بالمجتمع وأحداثه المهمة وهي معتقدات الشعوب وثقافتهم وعاداتهم وهي كشف عن هموم تلك الشعوب وتعود إلى أزمان سحيقة ولا يمكن للمرء أن يتصور شعبا بلا ذاكرة وبلا حكايات شعبية وإن اختلفت مكانة هذه الحكايات بتطور الأزمنة واختلاف الهموم والمشاغل في كل عصر وبكل قطر.وقد حاول العديد من الدارسين العرب تعريف الحكاية الشعبية وسعوا في مواطن عدة إلى التمييز بينها وبين مجالات عدة قد تتقاطع معها أو تتشابه في نقاط عدة كالخرافة مثلا أو الأسطورة فرأوا أنه كثيرا ما يغلب مفهوم الخوارق في الخرافة فتحتوي على عناصر غير واقعية كالعجيب والغريب والخارق للعادة بينما تخف هذه الخوارق في الحكاية الشعبية لأنها أقرب إلى السيرة التاريخية مع اعتمادها أحداثا واقعية بينما الأسطورة فتعود إلى الديانات المبكرة التي تسعى إلى تفسير العالم فتتكلم عادة عن الآلهة وأنصافهم وأبنائهم وهذا مايكسبها نوعا من القداسة تبلغ به العالمية وتدخل في مجال علمي رحب هو الميثولوجيا الذي يسعى إلى البحث في علاقة الإنسان بالطبيعة وبما وراء الطبيعة.

ومن ثم فالحكاية الشعبية تحاول نسج أثر فني انطلاقا من وقائع تاريخية حقيقية إلا أنها تقوم على جملة من المقومات التي تميزها وتكسبها طرافتها فبالإضافة إلى أنها لكاتب مجهول إلا أن للراوي دورا مهما فله القدرة على الإضافة والحذف حسب ما تمليه عليه ذاكرته وما يراه في عيون السامعين من انتباه واشتياق لما يلقي عليهم.وهي إضافة إلى ذلك مرآة للعصر تكشف أفكارأمة ما وعاداتها وقد يصيبها بعض التغيير تماشيا مع متغيرات العصر وحتى تحافظ على بقائها فلا يتهددها الموت والبلى أو النسيان والجمود.وهي بذلك متحولة متنقلة لا تكاد تستقر في مكان واحد تتحول وتنتقل بانتقال الراوي وهي غالبا ما تدور حول أشخاص ابتدعهم الخيال أوأشخاص تاريخيين صاحبتهم هالة من التقدير أو الإكبار.فهدفها أخلاقي يرمي إلى تأصيل القيم في المجتمع وتثبيت العادات الطيبة وإيجاد الحلول للمآزق والقضايا الخطيرة المستعصية لتجاوز الأزمات.ولغتها عامية أو فصيحة ولكنها لا تخلو من سحر البلاغة والصور المجازية والخيالية الساحرة لشد السامع وتيسير حفظها حتى يتناقلها جيل بعد جيل ولذلك تروج عند العامة والخاصة على حد سواء لما تتميز به من تشويق وسحر في اللغة وسلاسة في العبارة وتتميز الحكاية الشعبية بالحرية وبالإطلاق لذلك نجد تشابها في المحتوى بين ثقافات عدة وشعوب مختلفة فالقيم متشابهة لكن التصرف ممكن في الأطر الزمانية والمكانية وأسماء الشخوص والأحداث الثانوية الجانبية مما يجعلها صالحة لكل الأزمنة والأمكنة ومما يكسب الراوي حرية بموتها تموت الحكاية وتتحجرخاصة إذا ظلت متنافية مع عقائد الشعب وإيديولوجيته.وتذهب لمياء باعشن إلى أن«الحكاية الشعبية تنصرف إلى أدب العامية التقليدي الشفهي مجهول المؤلف أو ما يسمى بالأدب الفولكلوري المتداول باللغة العامية والدافع الأساسي وراء تجميعها وتدوينها في أشكالها اللغوية المستعملة في حينها هو المحافظة على هذه التحف النادرة كشواهد عيان على حقبة تاريخية معينة تتحدث بلسانها وتنقل أحاسيسها وأفكارها وتقاليدهابلغتها المتميزة ويرى محللو الروايات الشعبية أن بناءها اللغوي هو مفتاح لحقائق نفسية عميقة وعلامة ثراء معرفي غزير ومؤشر لأنماط فكرية معمقة تميزت بها أمة معينة تظهر جميعها بطريقة عفوية في البناء الروائي الداخلي لذا يرى المحللون أن التسجيل الوصفي والذي يحافظ على الصيغة الشفاهية في حالتها الأصلية يجب أن يتبع في عملية إحياء النصوص التراثية كما ويرفضون بشدة التسجيل الكتابي والذي يحافظ على البنية التركيبية للحكاية تبعا للقاعدة الكتابية المتفق عليها مما قد يطمس المعالم المتفردة للنص النقي»(عربيات أغسطس 2000).

إن هذا الشاهد على طوله مهم جدا للتأكيد على ما يمكن أن يصيب نصا إبداعيا مشافها به من تبدل وتغيرإذا تحول إلى نص مدون مكتوب فرغم أهمية التدوين للحفاظ على هذه النصوص وتجنيبها التلاشي والضياع إلا أنه قد يصيبها أيضا بحذف كثير وتغير إرادي ولا إرادي حينا آخر مما قد يطمس هويتها الحقيقية ويفقدها الكثير مما يؤسس لمكوناتها وجماليتها.

فهدف التدوين هو بالأساس لإنقاذ هذا التراث من الضياع وخاصة فيما يتعلق بالحكايات التي لم تعد متداولة والذاكرة مهددة بالنسيان والانقراض ومن أهم شروط عملية التدوين حرصها على عدم التغيير امتثالا لمبدإ الحق الذاتي للحكاية الذي حرص عليه عالم الفولكلور «اندرسون»موضحا أن «صلابة القوانين الشكلية للحكاية وضيق إطارها هو سر بقائها وقوتها»ويقول وارد ward H. في مقال له مهم نشره في الخمسينيات أن الحضارة الإنسانية ليست ظاهرة مادية بل هي أشكال الأشياء التي يحملها الأفراد في عقولهم من نماذج للإدراك والتواصل مع العالم المادي.ومن الأمور المهمة التي استنبطتها الأبحاث العلمية المعاصرة لمعالجة النصوص القصصية الشعبية هو أن المحافظة على الصيغ الشفاهية الأصلية يساعد على تحديد معالم شخصية الراوي الذي هو فرد من نفس المجتمع ودراسة مصادر ملكته الروائية التي تمكنه من التحكم في الأداة اللغوية لملاءمة أمزجة السامعين وشد اهتمامهم كما تمكنه من إرسال الكلام وتقمص أدوار الشخوص وإتقان لهجاتهم المحلية ومن سرد الأحداث في تواليها التسلسلي وتنقيحها بالأشعار والأمثلة المناسبة للاستدلال والاستشهاد.وقد اعتنى المركز الفولكلوري الأمريكي بذلك وأقام مهرجانا سنويا يدعو إليه أصحاب هذه الملكة الفريدة لتحليل الطبقات الواعية واللاواعية لعقولهم حتى تنقل فنونهم السردية إلى أجيال لاحقة.وبما أن التركيبات الشفهية في الحكاية الشعبية هي شكل من أشكال التعبير الأدبي مصاغ بطريقة فنية خاصة فإنها تفتح مجالات واسعة لدراسات مقارنة شيقة بين حكايات الشعوب.»فالبنية الحدثية للحكايات متشابهة في كل الحضارات ولها أصل ثابت في كل المجتمعات إلا أن المساهمات والإضافات المحلية في كل فترة زمنية لا تتضح معالمها إلا من خلال الصيغة الأصلية للنص النقي.»ولتحديد هوية كل قطر على حدة وكل منطقة في علاقتها بالعالم العربي والعالم مطلقا ومن أجل تأصيل هوية كل شعب فينبغي  «بعث هذه الحكايات من مرقدها في شكلها الخام حتى يتم اعتمادها كمصدرأصلي مهم من مصادر دراسة أي منطقة».وللجمهور المتلقي دور أساسي في إعادة إحياء الحكاية واستمراريتها فهو يتم وظيفة الراوي بالمشاركة الإيجابية ويعمد إلى تحليل النصوص واختيار القصص الذي يؤثر فيه ويعجبه وهذا الدور المهم يساعده على تبنيه والاضطلاع به الراوي الذي يتمتع بقدرات جمة لا بد من توفرها حتى يقدر على شد الجمهور وسحرهم وحملهم على حفظ الحكايات وإعادة صياغتها وروايتها بدورهم.ولا يكتفي الراوي بنبرة الصوت لشد السامع وإنما هو يستعمل كل مهاراته وقدراته النطقية والجسمية على حد سواء.فلوضع الجسم وملامح الوجه وتعبيراته ونبرة الصوت  وغيرها من المغريات التي تشد السامع وتجعل تأثير النص المشافه به أقوى وأشد تأثيرا.ولئن افتقدت هذه الطرق اليوم في عصرنا الحاضر فإن البحث المتواصل اليوم من قبل الدارسين والباحثين عن الشفاهية المفقودة أو الشفاهية الجديدة في أشكالها المتنوعة من وسائل الاتصال الحديثة ومختلف الألعاب الألكترونية التي تسحر الأطفال فإن الثابت أن أثر حكاية في نفس طفل يسردها عليه أبوه أوأمه أوجدته أعمق أثرا وأشد ترسيخا للقيم والمبادىء من أي لعبة ينكفئ عليها طفل صامتا منعزلا بعيدا عن روح الجماعة التي حاولت الحكايات ترسيخها بالتأكيد على ما ينبغي للطفل أن يتحلى به ويتبناه حين يكبروما عليه نبذه وتجنبه مما يلحق الضرر بالمجتمع وبالإنسانية مطلقا.ولعل هذا يمثل أهم درس أخلاقي يمكن للحكاية الشعبية أن تقدمه للأجيال الصاعدة فإضافة إلى التماسك الأسري الذي يشعر به الطفل حين تلقى عليه حكاية من أحد أفراد عائلته المقربين فإنه يشعر بالأمان في محيطه ويشعر أنه منسجم مع المجموعة وأن مبادئه هي نفسها مبادىء العامة التي تشد المجتمع ككل وتحقق توازنه واستمراريته.وخروج الحكاية الشعبية عن دورها الأول والأساسي جعلها اليوم وهي تصلنا مدونة وقد افتقرت إلى أهم مكوناتها نصا من الدرجة الثانية لأنها صارت حبيسة التوثيق مقيدة لا تعيش الحرية التي تعودت عليها سابقا.وفي مقال مهم لمعجب العدواني يؤكد الكاتب على أهمية الكتابة في إكساب الحكاية الشفوية خصائص جديدة ويرى في مقال له يحمل عنوان «الحكاية الشعبية وسطوة المفاهيم النقدية»:«أن مفهوم التناصية وهو مفهوم تشعبت عنه مصطلحات لها إسهام في الكشف بطريقة عملية تهدف إلى تجاوز القراءات التقليدية للحكاية والسماح للمتلقي  بالتفاعل معها عبر إنتاج عدد من القراءات التي تمكن من إثراء النص في إطاراعتماد النص ومتلقيه على هدم وإعادة بناء النصوص السابقة والمعاصرة.وتسهم هذه الآلية في إنتاج المعنى بحرية دلالية أكثر إذ يمكن استثمار ما أطلق عليه (وظيفة التداخل النصي) حيث تعرف جوليا كريستيفا هذه الوظيفة بأنها الوظيفة التناصية التي تقرأ»مجسدة»في كل مستويات بنية النص ...فالتأويل النقدي للحكاية يمنحنا الإحساس بإعادة إنتاج المعنى الذي لا يفترض خلوه من أصالته في الحاضر.إن المسافة الزمنية التي تفصلنا عن الماضي ليست فاصلا ميتا بل هي تحويل إبداعي للمعنى وهو ما أطلق عليه بول ريكور التراثية حين يرى أن الماضي يضعنا موضع سؤال قبل أن نضعه نحن موضع سؤال.وفي هذا الصراع وإثارة الأسئلة لمحاولة التعرف على المعنى يتناوب النص والقارىء بين الألفة والغرابة.تحمل الحكاية الشعبية كما ترى نبيلة إبراهيم من الرموز الإشارية ما يمكن أن يستوعب حركة الفرد والمجتمع أولنقل حركة الفرد في إطار الحركة الدينامية للمجتمع.»»وتبدو أهمية هذا المطلب نابعة أولا من أهمية الحكاية الشعبية نفسها إذ يتوضح دورها الفاعل في الإفصاح عن مكونات لاواعية في حياة الشعوب كما أن لها وجهها المتلألئ الذي يغري وسيظل مغريا للمتلقي ببناء محاولات جادة تسعى إلى استنطاقها وإلقاء الضوء عليها حين يؤدي ذلك إلى الكشف عن مستوياتها الدلالية العميقة التي توشك أن تكون مخبوءة في ثنايا الحكي فتبدو الحكاية كنزا لا يرمي الوصول إليه إلا القليل.لكن تظل للتدوين والكتابة دوما بعض الاحترازات من ذلك مثلا :«أن التحويل الآلي من الصورة الشفاهيةالمجازية في الموروث الشعبي إلى دائرة المكتوب لأن النص الحكائي الشعبي شكل لغوي لشكل سابق عليه وهو النص الذي يحقق في عمليته هذه تداخل النصوص وتشابكها وترجع أهمية النص المدون أنه يفسح المجال للمقارنة بينه وبين النصوص الشفاهية الأخرى من جانب والنصوص المدونة من الجانب الآخر.

إن أغلب الحكايات الشعبية التي استجابت لغاية التدوين أو القراءة النقدية قد أثبتت تغييرا يتضح جليا في عتباتها الأولى كالعناوين أو البعد عن المقدمات المتداولة.

أما الإشكال الثاني فهو ينتمي إلى أزمة السياق ,فالقراءة التأويلية لحكاية واحدة واجتثاثها من سياقها الشفاهي الضارب في العتاقة الذي نمت فيه لن يساعدنا على التمكن من سبر الأنساق المحيطة بالحكاية الشعبية نفسها.

إن نقل الحكاية من سياق إلى آخر ومن دائرة إلى أخرى سيلحق بها بعض التدمير حين يبدأ التأثير على نوياتها النصية المتداولة في قانونها الشفاهي.في ضوء غياب الأرضية الصالحة للنقل والرواية أو لنقل غياب الأرضية المتصلة بالسياقات الثقافية والاجتماعية وغير ذلك ويزيد غياب تلك السياقات بمرور النص الشفاهي بلحظتي انتهاك متتاليتين تتصل الأولى بلحظة التدوين الأولية وتتصل الثانية بلحظة التلقي النقدي الكتابي المرتبط أصلا بإعادة تدوين جديدة وخلق آفاق أخرى للحكاية»(الجمهورية عدد14880أغسطس 2010.)

ولا يمكننا تجاهل الجهود الجبارة لكتابنا العرب وباحثينا في محاولتهم إنقاذ هذا التراث والحفاظ عليه وإحيائه من جديد فلا يمكنا تجاهل جهود باحثين  أمثال عبد الحميد يونس ونبيلة ابراهيم وفؤاد حسنين والجوهري و علي عبد الله خليفة ولمياء باعشن وغيرهم كثيرممن حاول كل بطريقته وأسلوبه والموقع الذي يحتله أن يحمي هذا الموروث ويعتني به ويتعهده بالجمع والدراسة والتحليل.

وقد توسلت الدراسات الحديثة في بحثها في الحكايات الشعبية بمناهج عديدة ومختلفة تراوحت من المنهج الوظيفي الذي ركزعلى تتبع وظيفة الحكاية إلى المنهج الثيمي الذي يهدف أساسا إلى التمييز بين مختلف الأجناس الأدبية في الأدب الشعبي ومن أهم من عني بهذا المنهج الأخوان غريم ومنها المنهج المورفولوجي وممثلها الأساسي فلادمير بروب( Vladimir prop)وقد انطلق في دراسته لمجموعة من الحكايات الروسية العجيبة مركزا على دلائلها الخاصة(Signes )وقد حاول إيجازها في جملة من النقاط الرئيسية أهمها تتبع العناصر الثابتة في الحكاية وهي الوظائف التي تقوم بها كل الشخصيات ثانوية كانت أو أساسية.والتأكيد على أن هذه الوظائف لها عدد محدود وليست مطلقة.وتتابع هذه الوظائف يكاد يكون نفسه في جل الحكايات المـــــدروسة.والتــأكيـد على أن جميع الحكايات الشعبية تنتمي من حيث بنيتها إلى نمط واحد ورأى بروب أن الشخصيات في الحكاية سبعة:الشريرـ الواهب ـالمساعدــ الأميرةــ الباعث ــ البطل ــ البطل الزائف.وقد حدد بروب الوظائف التي تقوم بها الشخصيات في الحكاية الشعبية في إحدى وثلاثين وظيفة ,وقد عرف الحكاية الشعبية بقوله:»إنها متتالية من الوظائف تبدأ بالإساءة أو الشعور بالنقص وتنتهي بالزواج أو بأي وظيفة تمكن من حل العقدة وينبه بروب إلى أن الحكاية الشعبية ليست دائما بسيطة.فقد تتشابك المتتاليات وتتعدد.

أما المنهج الموالي فهو الميثولوجي ويقوم أساسا على اعتبار أن الحكايات ميراث من الماضي المشترك للشعوب الهندوأوروبية وأن هذه الحكايات هي بقايا أساطير لا يمكن فهمها إلا من خلال التفسير الصحيح لهذه الأساطير.والمنهج التالي هو المنهج الانثروبولوجي وقد اعتمد هذا المنهج على المقارنة في دراسة الحكايات في أقطار مختلفة ومحاولة الوقوف على التشابه بين الحكايات.ويمثل هذا المنهج كلود لفيستروس.(C. levis strauss)والمنهج الأخير هو المنهج النفسي ويقوم على اعتبار جميع الحكايات وقصص الخوارق تعبيرا عن العقل الباطني وتفريغا للرغبات المكبوتةعند الانسان.وهناك توجهان في هذا المنهج مدرسة يونج وتستعين باللاوعي الجماعي في دراستها ومدرسة فرويد التي تفسر الحكاية من خلال التجربة الجنسية»(انظر مقال الحكاية الشعبية لرافع يحيى موقع غوغل قسم مقالات تاريخ التحديث 16ـ6ـ2008).

وقد اعتنى الدارسون ضمن مختلف المناهج المتبعة بكيفية سيرورة الحكاية واستمراريتها وتداولها على الأفواه من جيل لآخر أو من كتاب لآخر فرأى فولتيير أندرسون مثلا أن قوانين ثلاثة تحكم انتقال الحكاية من الشفوي إلى المكتوب أو من راو إلى آخر.

- قانون التغيير الذاتي ويضطلع بهذه المهمة السامع فيعمد إلى ترسيخ ما يسمع في ذهنه ثم يحاول بعد ذلك صياغة حكاية جديدة تحافظ على المبنى الأساسي وقد يحذف منها ما لا يتلاءم مع المجتمع الذي تتداول فيه.

- قانون التجدد:ويكون ذلك نتيجة نسيان أو خطإ أو قد يكون وراء ذلك دافع مقصود لأسباب فنية أودينية أو سياسية...ويتحكم في مجال التغيير المتلقي ذاته.

- قانون انتشار الحكاية:فالأكيد أن الحكاية قد بدأت في أزمان غابرة قد تصل إلى زمن الكهوف عندما كانوا يجلسون في المساء حول النار ويأكلون ما اصطادوه ويروي كل واحد ما صادفه في يومه ويضفي عليه من خياله الكثير.فالخوف من المجهول ومن الحيوانات الضارية ومن العدو المنافس ومن القوى الطبيعية العاتية  قد مثل مادة خصبة للخيال والوهم مما أضفى على الواقع جوا أسطوريا ولذلك رأى العديد من الباحثين أنه لا يمكن الجزم بأن الحكاية شرقية أو غربية فهي بالأساس إنسانية.فحيث يتجمع الناس تنشأ الحكايات.

أما الحكايات الشعبية المتداولة فبدأت كما هو معروف في الهند من خلال كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة وتطورت عند العرب في المقامات والقصص الشعبي وأصبحت فنا في الغرب أولا في فرنسا من خلال قصص الحيوان التي سردها شعرا لافونتان وقد ذهب عمر محمد الطالب إلى أن :«أحمد شوقي قد تأثر بذلك في قصصه على لسان الحيوان التي نظمها شعرا»(انظرموقع الدكتورعمر الطالب ,قراءة في الحكاية الشعبية والقصص مجهولة المؤلف,حوار أجراه معه,سمير عبد الله الصائغ)وقد اعتبر أن الحكايات تنشأ في مكان ثم تنتقل من بلد إلى آخر بحكم الجيرة أو العلاقات السياسية أوالتجارية أو الاقتصادية أو الحروب»وهو يعتبر أن «الحكاية عالمية موطنها دول عدة تتحول إلى أسلوب يلائم أفكار وعقائد وأديان تلك المناطق فلا عجب أن تنتقل الحكاية الفارسية إلى المغرب عن طريق العرب لأنهم حكموا من الصين إلى المحيط الأطلسي وقد وجدت أثناء تدريسي  في المغرب ...تشابها كبيرا في حكايات مدينة فاس المغربية والحكايات الموصلية ...إذا قرأت قصص الكاتب الروسي جوجول(حكايات من قرية دنكا)تجد شبها كبيرا بين تلك الحكايات والحكايات الموصلية،إنها ليست ترادفا ولا تناصا بل هو ترابط متأثر بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين البلدان أو بالانتقال السكاني كما حدث لبعض القبائل العربية التي انتقلت إلى الشمال الإفريقي وأخذت معها الحكايات وحورتها بما يلائم البيئة»(المرجع السابق).»

ولعل كثرة التقسيمات والمسميات المتعلقة بالحكاية يعود إلى أهمية هذا الجنس من ناحية وسعي الدارسين إلى تدقيق المصطلحات ومحاولات تبويب هذا الموروث الشفوي وتخصيصه بالوقوف على كل ما يميز مصطلحا عن آخر قصد الإثراء والتثبيت رغم صعوبة ذلك.فالحكاية الشعبية والحكاية الخرافية والأسطورة والنادرة والمثل وغيرها تشترك في كونها تخييلا يتغذى من معين ثقافة الجماعة ساعية إلى ترويج كل معتقدات المجتمع وقيمه ومبادئه وأحلامه والحكاية الشعبية بذلك حكي تخيلي نثري لأحداث وأفعال خارقة تتخللها أجناس أخرى ربما كالمثل أوالشعروتلقى إقبالا كبيرا في العالم كله، فقد تكون هذه الحكاية المسلية على لسان الجان أو الحيوان و قد يكون أبطالها شخصيات عادية أو تاريخية لكن العنصر الأصلي في الحكاية واحد والقيم المنشودة ثابتة يتغير شكل البناء وتتفرع من الأسطورة إلى الألغاز والنوادر والقصص والفكاهة لكنها تلتقي في المبادىء العامة والمسارات الكبرى.لذلك فالتمييز بين الأسطورة والحكاية الشعبية على أساس ما يتوفر في الأسطورة من جوانب دينية ليس دقيقا فقد تحتوي الحكاية الشعبية على مواضيع دينية.فالمواضيع بين الخرافة والحكاية تتشابه أيضا ولا تقتصر الخوارق على الخرافة كما رأى البعض والحكاية على الواقع فقد تتداخل الحقيقة مع الخيال والخارق في كل منهما لذلك نفهم هذا الاضطراب الاصطلاحي الذي يشهده مفهوم الحكاية الشعبية وتعدد مصطلحاته ومسمياته كالحكاية الشعبية والخرافية ومنهم من جعل السيرة الشعبية في إطار الحكاية الشعبية وقد يشمل مصطلح الحكاية الشعبية عند البعض جميع أشكال المرويات النثرية التي توارثتها الأجيال سواء كانت شفوية أو مدونة.(انظرفوزي العنتيل ,1983ص.17)

وقد عرفت نبيلة ابراهيم الحكاية الشعبية بقولها :«هي الخبر الذي يتصل بحدث قديم يتنقل عن طريق الرواية الشفوية من جيل لآخر أو هي خلق حر للخيال الشعبي ينسجه حول حوادث مهمة وشخوص ومواقع تاريخية»وهي تميز بين الحكاية الشعبية والحكاية الخرافية فترى أن الحكاية الخرافية لا يمكن ربطها بالمجتمع الشعبي الذي عاشت فيه مما يضع الصعوبات في تحديد تاريخ نشوئها.والحكاية الخرافية هي أيضا نمط روي في جميع بقاع العالم فهو وليد كل المجتمعات وهي تعبير رومانسي عن آمال الشعب»(انظرنبيلة ابراهيم  1981ص.133).

وقد تناثرت خيوط الحكايات القصصية وتعددت روايتها جيلا بعد جيل مشافهة أولا ثم دونت  في كتب اللغة والأدب والأخبار وأيام العرب ومنذ فترة مبكرة تم تداول هذه الحكايات وخاصة في القرنين الثالث والرابع لكنها كانت تتداول في منأى عن الثقافة الدينية العالمة التي غيبتها فلم تبق سوى أخبار متناثرة تشير إلى وجودها ،فاندرجت الخرافة مثلا في ذخائر داؤود العناني وأحمد بن أبي طاهر وابن دلان وابن العطار(انظر:عبدالله ابراهيم, 1992 ص.82) وقد لعبت الترجمة كذلك دورا هاما في تعريف الأجيال بحكايات الغير وسعت إلى تقريب زوايا النظر بتغيير ما ينبغي تغييره أو حذف ما لا يتلاءم ومعتقدات بلد أو عادات شعب من الشعوب ولكن التغيير والحذف سعى دوما إلى محاولة الحفاظ على روح الحكاية والمبادىء العامة التي تنشدها كل الحضارات وتشترك فيها الإنسانية جمعاء.

وقد حاول بعض الدارسين تصنيف الحكاية الشعبية فمنهم من رأى أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية:الحكاية الشارحة التي تهدف إلى إقناع القارىء بصفات ما تتحلى بها شخصيات النص أو وصف قوى معينة طبيعة أو خارقة شريرة أوشخصيات شريرة أوخيرة.

ـــ الحكاية الأخلاقية :ويركز فيها الكاتب على إظهار الأبعاد الأخلاقية للشخصيات محاولا إقناع المتلقي بخصاله أو بمساوئه.

ـــ الحكاية الاعتقادية:وهي ما ترويه ألف ليلة وليلة عن الجن والسحرة وأصحاب القوى الساحرة.(انظر,رشدي صالح,ص.ص9ـ11.د.ت)

وقد قسمها آخرون إلى خمسة أنواع :القصص الإخباري والقصص البطولي والقصص الديني والقصص اللغوي والقصص الفلسفي(انظر سليمان موسى,ص.8,1984).

ولعل مرد كل هذه التقسيمات أن معظم ما وصلنا من حكايات من التراث العربي كان عن ألف ليلة وليلة وحي بن يقظان وكليلة ودمنة وبعض الأخبار والنوادر المبثوثة في المقامات وغيرها وقد تكون الأصول نابعة من مصدر معين لكن الأكيد أن الروايات المتعددة والقراءات المختلفة قد ولدت من تلك الأصول موضوعات جديدة ونحن نعلم جميعا أهمية ألف ليلة وليلة في توليد الحكايات المختلفة ودور القصص الواردة على ألسن الحيوانات في شد الأطفال وإيصال الغايات بأيسر السبل وأمتعها.وقد خرجت هذه القصص من الأفواه إلى الكتب أولا ثم من الكتب إلى الشاشات الصغيرة فالكبيرة في دور السينما وغيرها وهي اليوم تتجلى في ألعاب الكمبيوتر والفيديو وغيرها مما عد في نظر العديد من الباحثين شفاهية جديدة تعيد إحياء ما فاتهم من علاقة بطرف مقابل يحكي أويسامر,ولكنها تظل شفاهية منقوصة أو مشوهة بعض الشيء.فالقاص أو الراوي في مقام المشافهة هوالمتحكم في شد الأنظار بقدراته على فهم ما يريد المتلقي سماعه من خلال التلوين في نبرات الصوت وتغيير لموضوع إن شعر بتململ السامع أوإضافة بعض عناصر التشويق التي قد تشد المتلقي من جديد وتحفزه على مواصلة الاستماع والتلهف لمعرفة النهاية وخاصة إن كان هذا المتلقي طفلا في طور التنشئة والتكوين.ولعله لهذا السبب ظل تعريف الشفاهية في كثير من الأحيان يكتنفه الغموض ولم يستقر نهائيا ورأى البعض أن أفضل تعريف له يكون الملفوظ أو المنطوق عن طريق الفم. فقد يدون هذا الملفوظ لكن الأكيد سيتغير ولن يظل هو نفسه مهما سعينا إلى النقل الأمين الصادق.لذلك تظل الناحية السماعية هي الأقرب إلى التعريف الشافي للشفاهي فهو الأدب الشعبي السماعي بالدرجة الأولى.وهذا ما سعت الموسوعات العلمية إلى تقريبه مثل موسوعة انكارتا الرقميةENCARTAالتي عرفت الحكاية الشعبية بأنها مختلف أنماط القول الناقلة للفكر عن طريق اللفظ(الشفوي)أو عن طريق الخط(المكتوب).وهو تعريف عام شامل جامع لكن تعريف الموسوعة الكونية يبدو أكثر دقة وتفصيلا فقد رأى أن الحكاية الشعبية تتحدد بالشفوية والثبات النسبي في بنيتها وأنها تقوم على التخييل.فهذا التعريف يشمل كل أنماط القول من حكي وأسطورة ونادرة وقصائد مغناة وخرافات والحكايات الواردة على لسان الحيوان والتي تنتقل من الفن إلى الأذن من التلفظ إلى السماع.وهي تقوم في بنائها الفني والقصصي على الخيال والخوارق والعجائبي والميثولوجي والمعقول حينا واللامعقول حينا آخر. 

الهوامش

المراجع العربية:

- أونج (ولترج): الشفاهية والكتابة ترجمة د.حسن البنا عز الدين، سلسلة عالم المعرفة العدد 182.

- إبراهيم(عبدالله): السردية العربية، بيروت المركزالثقافي 1992).

- إبراهيم(نبيلة):أشكال التعبــيـر فـــي الأدب الشعبي، دارالمعارف، القاهرة،1981).

- باديس(نور الهدى):بلاغة المنطوق وبلاغة المكتوب، دراسة في تحول الخطاب البلاغي من القرن الثالث إلى القرن الخامس للهجرة،مركز النشر الجامعي تونس،2005).

- باعشن( لمياء):التبات والنبات،حكايات شعبية حجازية ط.2جدة 2008.

- صالح(رشدي):ألف ليلة وليلة،دارمطابع الشعب د.ت.

- موسى(سليمان):القصص المنقول،دار الكتاب اللبناني بيروت،1984).

- العنتيل (فوزي):عالم الحكاية الشعبية،الرياض دار المريخ للطباعة والنشر1983).

المراجع الفرنسية:

Blachère:Introduction au coran; Paris; 1968  ـــــC.Calame :Entre Oralitè et ècriture :Enonciation et ènoncè dans la poèsie grèquearchaique ;Sèmiotica,43(1983) .

Zumthor Paul :Introduction à la poèsie orale; ed .Seuil Paris 1983 .

 

أعداد المجلة