فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
14

ألعاب وتسالي الأطفال في العيون الطبيعية في البحرين

العدد 14 - عادات وتقاليد
ألعاب وتسالي الأطفال في العيون الطبيعية في البحرين
كاتب من البحرين

اشتهرت البحرين قديماً بوجود عدد كبير من العيون الطبيعية البرية منها والبحرية والذي ارتبط بالازدهار الحضاري الذي عاشته هذه البلاد بمياهها العذبة, حيث كانت هذه المياه سبباً رئيسياً لاستقرار السكان الأوائل فيها, وقد استمر الإنسان القديم الذي عاش على هذه الأرض ردحاً من الزمان في تلبية الجزء الأعظم من احتياجاته المائية معتمداً بصورة أساسية على مياه العيون منذ البدايات الأولى لاستقراره على جزر البحرين.

 

ويبدو أنه كان للعيون في جزر البحرين مكانة خاصة منذ قديم الزمان حيث تشير المكتشفات الأثرية للمواقع التي تعود لفترة دلمون لبناء المعابد بالقرب من عيون طبيعية كمعابد باربار ومعبد الدراز وكذلك عين أبو زيدان حيث يعتقد بوجود معبد بني عليها وقد استخدم شعب تلك الحقبة مياه هذه العيون في الاغتسال والتبرك ولتطهير أجسامهم لاعتقادهم بقدسية مياهها1.

 وعلى مدى مئات السنين اشتهرت البحرين بالعيون الطبيعية وبقيت تلك العيون ميزة تميزها وظاهرة لكل زائر يزورها وقد ذكر الإدريسي (1099م – 1165م) بعض عيون البحرين وذلك في كتابه «نزهة المشتاق» عند ما وصف «أوال» (أي البحرين), يقول الإدريسي:

 

«وفيها عيون ماء كثيرة ومياهها عذبة منها عين تسمى عين بو زيدان ومنها عين مريلغة ومنها عين عذاري وكلها في وسط البلد وفي هذه العيون مياه كثيرة نابعة مترعة دفاعة تطحن عليها الأرحاء فالعين المسماة عين عذاري فيها عجب لمبصرها وذلك أنها عين كبيرة قدراً مستديرة الفم في عرض ستين شبراً والماء يخرج منها وعمقها يشف على خمسين قامة وقد وزن المهندسون وحذاق العلماء علو فمها فوجدوه مساوياً لسطح البحر وعامة أهل البلاد التي في هذه الجهة يزعمون أنها متصلة بالبحر ولا اختلاف بينهم في ذلك وهذا غلط ومحال لا يشك فيه لأن العين ماؤها حلو عذب لذيذ شهي بارد وماء البحر حار زعاق ولو كانت كما زعموا لكان ماؤها ملحاً كماء البحر».

بقيت تلك العيون الطبيعية تتدفق حتى بداية العقد الثالث من القرن العشرين بعدها بدأت عملية سحب المياه بواسطة الآبار التي بدأت تحفر بصورة جنونية حتى تسببت تلك الآبار بإضعاف تدفق المياه من تلك العيون وكذلك تسببت بتلوث مياهها بمياه البحر وما هي إلا عقود حتى اختفت تلك العيون الطبيعية بعد أن جفت وردمت.

لم تكن تلك العيون مجرد مصدر مائي يسقى به الزرع بل إن هذه العيون ارتبطت بأنواع مختلفة من المعارف والثقافات التي خلدت لنا في العديد من أشكال الموروثات الشعبية وسنتناول هنا جزءا من تلك الثقافة التي عاشت في ذاكرة العديد من أفراد الجيل السابق وهي تتمثل في الألعاب وطرق التسالي لأطفال تلك الحقبة القديمة في العيون الطبيعية والبيئات التي ارتبطت بها.

 

الألعاب والتسالي التي ارتبطت بالعيون وما حولها:

ارتبطت العيون الطبيعية في البحرين والبيئات التي حولها بمجموعة من الألعاب والتسالي التي كان يمارسها الأطفال قديماً وبقيت حتى عهد قريب قرابة الثمانينات من القرن المنصرم. ويمكننا أن نقسم تلك الألعاب والتسالي إلى قسمين رئيسيين:

1 – الألعاب التي تمارس في العيون الطبيعية.

2 – التسلية بالقرب من البيئات المرتبطة بالعيون الطبيعية.

أولاً: الألعاب التي تمارس في العيون:

أشهر ما مارسه الأطفال في العيون الطبيعية في البحرين هي السباحة, وتعتبر السباحة لعبة في حد ذاتها لكننا نقصد هنا بالألعاب التي تمارس في العيون أي تلك الألعاب التي تمارس أثناء عملية سباحة الأطفال في العين, وهناك عدد من هذه الألعاب, وفي الحقيقة أن هذه الألعاب تعتبر جزءا من الألعاب المائية وهي تلك الألعاب التي تلعب في العيون الطبيعية والبحر على حد سواء. أما الاختلاف بين العيون الطبيعية والبحر فهو أن البحر أوسع من حيث المساحة وهو أشمل بالنسبة لعدد الألعاب وتنوعها فيمكن لعب ألعاب مختلفة عما تلعب في العيون الطبيعية ويمكن أيضاً أن تلعب بعض الألعاب التي تلعب في البحر في العيون الطبيعية بعد تحويرها لتكون ملائمة للعيون حتى أن لعبة سباق القوارب تم تحويرها ولعبت في عين عذاري في الخمسينيات من القرن المنصرم. ومن الألعاب التي كان الأطفال يمارسونها في العيون الطبيعية في البحرين قديماً: السباحة وسباق السباحة والقفز داخل العين ولعبة المناسمة ولعبة «چوچلان الما» (أي كوكلان الماء) ولعبة «ديچ ودياية» (أي ديك ودجاجة). وسنشرح هنا بشيء من التفصيل الألعاب الثلاثة الأخيرة.

 

 –1 المناسمة:

تسمى اللعبة المناسمة أو المناسمة في الغطس2. ولفظ «مناسمة» مشتق من كلمة «نسم» وهي الريح التي تخرج من الجوف, وعند العامة  أي شيء مليء بالهواء مثل الكرة أو البالون عندما يبدأ بتسريب الهواء يقال عنه «انسم» فيقال «كرة أتنسم» أي تخرج الهواء. وعندما تستعار اللفظة للإنسان أو الحيوان فإن لفظة «التنسم» تعني «التنفس», فيقال «فلان يتنسم» أي أنهم يقصدون قولهم «فلان يتنفس», وأمسك نسمه أي توقف عن التنفس. فلعبة «المناسمة» يقصد بها لعبة التنفس أما شرح اللعبة فإن الأطفال داخل العين يغطسون تحت سطح الماء ومن يبقى أكبر مدة تحت الماء يصبح هو الفائز.

 –2 لعبة ديچ وادياية (ديك ودجاجة):

ومن أسمائها في البحرين أيضاً ادياية تلحق الديچ (دجاجة تلحق بالديك)3. أما اسمها المشهور فهو ديچ وادياية وهي تعرف بهذا الاسم في البحرين والكويت4 وشرق الجزيرة العربية ودولة الإمارات العربية المتحدة5. تبدأ هذه اللعبة بأن يضرب كل لاعب من اللاعبين سطح ماء العين بإصبعه الوسطى كل على حدة, فإن أحدثت الضربة صوتا قويا أو أخرجت كمية ماء أكبر أصبح الشخص الذي ضرب الماء بإصبعه «ديك» أما في حال أصدرت الضربة صوتا أقل وأخرجت كمية أقل من الماء أصبح الشخص الذي ضرب الماء «دجاجة», وبهذه الصور تصبح هناك فرقتان فرقة الديوك وفرقة الدجاج وتقوم حينها الدجاج بمطاردة الديوك. وأحياناً يتم اختيار شخص واحد ليكون الدجاجة ويلاحق الآخرين.

 -3 چوچلان الما:

تسمى هذه اللعبة چوچلان الما (كوكلان الماء) وفي شرق الجزيرة العربية تسمى اكريريض الما (قريريض الماء)6. ولفظة «چوچلان» تعني الشيء الذي يسبب حك الجسم, وهي مشتقة من «الأچلة» أو «الأكله» وتعني بالعامية «الحكه», وكذلك لفظة اكريريض لها نفس المعنى تقريباً وهي تصغير كراض وهي مشتقة من القرض أو القرص وتعني الذي يقوم بالقرص. وقد اشتق اسم اللعبة من اسم حشرة أو خنفساء تعيش في العيون الطبيعية تقوم بقرص من يسبح في العيون وذلك لأن أرجلها الخلفية تحتوي على أشواك طويلة تستخدمها في القرص, وهي تسمى عند العامة چوچلان الما أو اكريريض الما, وهي تنتمي لعائلة خنافس الماء (Hydrophilidae), والنوع الأكثر شيوعاً ويتواجد بصورة حصرية في الكويت وشرق الجزيرة العربية والبحرين هوHydrophilus aculeatus) 7).

أما وصف اللعبة فيتم ربط عيني أحد الأفراد وذلك بإجراء القرعة ثم يبدأ بالبحث عن الأفراد الآخرين ويحاول أن يلمس أحدهم, فإن لمس أحدهم تصبح القرعة على الملموس. وأثناء هذه اللعبة تغنى أهزوجة «چوچلان الما» وذلك عندما يخرج الأطفال من العين ويتركون الشخص الذي وقعت عليه القرعة في الماء. وكلمات تلك الأهزوجة تتباين بعض الشيء8 إلا أنها تعطي نفس المعنى وهي كالتالي:

 

الچوچلان اللي9

في الما في الما في الما في الما

طول الليل يسري يسري يسري يسري

على حصير بصريبصري بصري بصري

واللي في الما يعمىيعمى يعمى يعمى

وهذه الأهزوجة ليست حصرية على لعبة بعينها وإنما تغنى لكل من يبقى داخل العين وكأنهم شبهوه بتلك الخنفساء التي تبقى دائماً داخل العيون الطبيعية.

ثانياً: التسلية بالقرب من العيون:

في الماضي عندما يذهب الأطفال للعيون الطبيعية لم تكن العين الطبيعية هي المكان الوحيد الذي يلعب فيه الأطفال بل هناك أيضاً الأماكن المحيطة بالعين وهي أنظمة بيئية تدعم عدداً من الكائنات الحية, تلك الكائنات الحية مثلت مصدرا للهو الأطفال والاستمتاع مع تلك الكائنات أو بها, إذاً لا بد لنا هنا أن نتطرق لتلك البيئات الخاصة وبعدها نتطرق للكائنات الموجودة وطرق استمتاع الأطفال باللهو بها.

البيئات المرتبطة بالعيون:

يمكننا أن نقسم البيئات التي ارتبطت بالعيون الطبيعية إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي: السيبان والمنجيات وبيئة نبات القصب. وكل هذه الأقسام ناتجة من نظام الري القديم في مملكة البحرين, فالسيبان ومفردها ساب هي الساقية وجمعها سواق وهي قنوات تحفر في الأرض وتخرج من العين أو تلك القنوات التي تتفرع من القناة التي تخرج من العين لتروي الزرع. أما المنجيات فهي جمع منجى وهو مجرى مائي يحمل الماء الزائد من الأرض الزراعية ويتجه باتجاه البحر, وقد سمي بالمنجى لأنه ينجي الأرض من الغرق, والبعض يطلق عليه مسمى «ساب» من باب التعميم فالاسم ساب يعمم على الساقية والمنجى وبهذه الصورة تصبح لفظة ساب بمعنى قناة محفورة في الأرض يمر فيها الماء.

ولا يمكننا الحديث عن المنجيات دون أن نذكر النبات الذي غالباً ما ينمو على جوانب تلك المنجيات ألا وهو نبات القصب. وفي بعض المناطق المحاذية للمنجى وبالخصوص المنطقة القريبة من البحر التي يصب فيها يتكون جسم كبير من الماء العذب المختلط ببعض مياه البحر مكونين بيئة مثالية لنبات القصب الذي يكون بيئة خاصة تعرف باسم بيئة نبات القصب.

 

الثقافة المرتبطة بنظام الري القديم:

نظام الري القديم المعتمد على السيبان ارتبط قديماً بثقافة معينة وتعدى لما هو أكثر من ذلك فقد ارتبط بتكوين نظم بيئية تدعم كائنات حية معينة حيث تكثر بها الغيلمة (سلحفاة المياه العذبة) والضفادع وأسماك صغيرة كالحراسين وعدد من الحشرات ويرقات الحشرات التي تعيش في الماء, كذلك تتواجد في هذه البيئة عدد من أنواع الطيور. باختصار أدى وجود العيون الطبيعية وقنوات الري المرتبطة بها وبيئة نبات القصب الناتجة عن المنجيات لتكوين نظم بيئية متميزة. في الوقت الراهن, تم ردم كل العيون الطبيعية في مملكة البحرين ماعدا بعض الآبار الارتوازية المستخدمة في الري والتي تكون نظم بيئية محدودة ومتدهورة بحيث يصعب أن تدعم وجود كائنات حية.

وقد أدى زوال نظم الري القديمة أو تدهور المتبقي منها لزوال تلك النظم البيئية المرتبطة بها, وباختفاء تلك النظم أصبحت الكائنات الحية المتواجدة بها في عداد الكائنات المنقرضة من مملكة البحرين وبالخصوص الغيلمة.

طرق التسالي حول العين:

كانت العيون الطبيعية وما حولها من نظم بيئية من المناطق التي لا يمل الأطفال من اللعب فيها حيث تشمل العديد من التسالي كالسباحة في العين وجمع الرطب المتساقط من النخيل أو جمع «الحبمبو» أو «الحبابو» وهو الرطب الأخضر في بداية تكوينه حيث يجمع المتساقط منه وتشك الحبيبات مع بعضها في خيط ويعمل منها عقد يلبس حول العنق ثم تبدأ الأطفال بأكلها. ومن طرق التسالي اللعب بالكائنات الحية المتواجدة في العيون والسيبان وحول المنجيات وداخل المنجيات كصيد الضفادع والحراسين والغيلمة وغيرها, وسنتناول في هذه الدراسة مثالين فقط وهما الأكثر شهرة والأكثر بقاءً في الذاكرة الشعبية وهما اليعسوب والغيلمة, وتعتبر الغيلمة الكائن الحي المرتبط بالعيون الطبيعية الأكثر توغلاً في الثقافة الشعبية في البحرين.

 

اليعسوب:

تعرف هذه الحشرات في البحرين باسم «سيسبان» و«أبو بشير» أو «بو بشير» والبعض يسمي الكبير منها «غزال» والاسم الأشهر في الخليج العربي هو «أبو بشير» وقد عرفت بهذا الاسم لأن الناس يتفاءلون بظهورها ويعتقدون إنها تجلب لهم بشارة حسنة, ويرجح البعض أن حقيقة التبشير هو تزامن ظهور هذه الحشرة في الجو مع أوائل موسم الربيع عندما تصبح الريح شمالية ولعل تسميته أبو بشير مأخوذة من أنها تُبشر بالربيع. أما الإسم «غزال» فهو من أسماء اليعسوب التي وردت في كتب اللغة وهو اختصار الاسم «غزال شعبان» الذي ورد في معجم لسان العرب على أنه نوع من الجراد واليعاسيب10.

وقد بقيت هذه الحشرات في ذاكرة العديد من الأفراد من الجيل القديم فقد ارتبطت بالعديد من القصص. فعندما تظهر هذه الحشرات في موسمها المعين تبدأ تحلق فوق مياه المنجى لتقتنص يرقات الحشرات الأخرى, ولها نوع مميز من الطيران والرشاقة الذي جعل العامة تلقبها بطائرة «الهلوكبتر» وقد كان الأطفال في الماضي يطاردونه ليصطادوه للعب به وذلك بعد أن يقوموا بربطه بخيط رفيع ليطير اليعسوب بعدها وهو تحت سيطرتهم.

 

الغيلمة:

ارتبطت الغيلمة أو سلحفاة المياه العذبة بالعديد من جوانب التراث الشعبي في مملكة البحرين فقد ارتبطت بالعيون الطبيعية القديمة والتي ردمت أو جفت ولم يعد لها أثر يذكر, وقد ارتبطت أيضا بأهازيج ترقيص الأطفال وخاصة تلك التي تغنى للطفل أثناء تنظيفه وتحميمه في الماء كذلك ارتبطت الغيلمة بأسطورة غريبة كان الجيل القديم يرعب بها الأطفال لكي لا يؤذوا الغيلمة ويتركوها بسلام, وبذلك نلاحظ أن الغيلمة ارتبطت في ذاكرة شعب مملكة البحرين بالتراث البيئي وأهازيج الأطفال والأساطير وقصص الجن وكل هذا الكم من التراث لم يوثق كتابياً غير النزر البسيط منه في بعض القصص التي يتم تناقلها في المنتديات الحوارية على شبكة الانترنت لكنها لم توثق بصورة علمية وكتابية وعليه فغالبية المعلومات في هذه الدراسة هي معلومات قمت بجمعها مباشرة أو عن طريق وسطاء من كبار السن.

 

الغيلم والغيلمة وشيء من اللغة:

الغيلمة عند العامة في البحرين هي سلحفاة المياه العذبة وتعرف في المعاجم العربية الحديثة باسم «الرق» والجمع رقوق وتسمى بالإنجليزية Terrapin وتسمى بلغة العلم Clemmys caspica11, وهي سلحفاة صغيرة تعيش في العيون الطبيعية والسيبان والمنجيات وبيئة نبات القصب وقد يصل طول صدفتها إلى قرابة 18 سم, أما السلحفاة البحرية فتسمى محلياً في البحرين «حَمَسة» وتنطق أيضاً «حْمِسَه» وهي تعرف في المعاجم العربية الحديثة باسم «اللجأة». ويرجع الفضل في تحقيق الأسماء العربية السابقة أي اللجأة والرق للفريق أمين معلوف وذلك في كتابه «معجم الحيوان» الذي صدر في طبعته الأولى عام 1908م, وقد وردت الأسماء المحلية أي الغيلمة والحمسة في معاجم اللغة القديمة كلسان العرب إلا أن معلوف أخطأ في تحقيقها ربما لأنه لم يعلم بأن هذه الأسماء لا زالت تستخدم في بعض الدول, فقد حقق معلوف الأسماء «غيلمة» و«حمسة» بعكس ما هي عند العامة في البحرين فقد جاء في معجمه «لجأة وغيلم سلحفاة بحرية»12, وذكر معلوف أيضا في معجمه من أسماء سلاحف المياه العذبة الرق والحمسة والأبس13.

وقد وردت اللجأة في اللغة بمعنى السلحفاة البحرية ولم ترد الغيلم فيما أعلم بهذا المعنى, بينما ورد في «لسان العرب»: «الأبس ذكر السلاحف, قال: وهو الرق والغيلم»14, لا حظ أن رواية «لسان العرب» واضحة أن الأبس والغيلم والرق بمعنى واحد أي أن الغيلم من أسماء سلحفاة المياه العذبة أي كما زعمت العامة في البحرين. وقد جاء في «لسان العرب» أيضاً: «الحَمَسة دابة من دواب البحر وقيل هي السلحفاة»15, أي أن الحمسة تعيش في البحر وليس في المياه العذبة, وهذا يعني أن رواية «لسان العرب» تنطبق مع قول العامة في البحرين أيضاً ولا تنطبق مع قول معلوف, ربما يكون معلوف قد اعتمد على روايات أخرى غير التي ذكرت في «لسان العرب» لكننا لم نعثر على روايات ترجح قول معلوف وعليه نرجح صحة الروايات التي تتفق مع أقوال العامة فكل رواية تعزز الأخرى بينما في حال وجدت روايات متناقضة فستلغي كل رواية الأخرى.

واستنتج أمين معلوف مما حققه من روايات أنه تم تسمية السلاحف البحرية في المعاجم الحديثة باسم «اللجأة», وتسمية سلاحف المياه العذبة باسم «الرق», وهي أسماء عربية وردت في المعاجم القديمة بهذا المعنى ولا خلاف عليها, أما فيما يخص الأسماء «غيلمة» و«حمسة» فإنها إن ذكرت في الكتب الحديثة فإنها تذكر باعتبارها أسماء عامية محلية إلا أنها أسماء عربية وردت في المعاجم اللغوية القديمة.

الغيلمة وأغاني المهد:

تتجاوب الأم مع طفلها في كل الأوقات، فهي تغني له أثناء ترقيصه أو إطعامه ليجد في الطعام لذة فلا يعزف عنه شأنه شأن معظم الصغار, أو عند تنظيفه وتحميمه فتتخذ الأم من الغناء وسيلة للتفاعل مع طفلها وتجعله يحس بالمتعة أثناء الاستحمام, وقد ارتبطت صورة الغيلمة في مخيلات الأمهات قديماً فنلاحظ أنهن قد شبهن أطفالهن بالغيلمة فنسمع النساء قديماً يسبحن أطفالهن وهن يرددن16:

أتسبحي في البمبوع17 يا غيلمه

الله رزكني ملكاش18 رب السما

عيشي واربيش19 أبخير وامنعمه

عسى الحسوده زرين20 فيها العمى

وهناك أهزوجة أخرى بها نفس المعاني والتشبيهات ولكن بكلمات أخرى21:

اسبحي في البمبوع  يا غيلمه

وخذي براد البمبوع  يا غيلمه

صاب من صابش22  يا غيلمه

قشرع أفادش23  يا غيلمة

اسبحي وخذي طور  يا غيلمة

وكلي راس الحاكول24   يا غيلمة

 

اصطياد «الغيلمة»:

كان الأطفال قديماً يصطادون «الغيلمة» ليتسلوا بها, فقد كانت بعض العيون العذبة في مملكة البحرين قديماً تعج بأعداد كبيرة من الغيلمة ولم يكن الأطفال يتورعون من إيذائها حتى أن بعض الأطفال كانوا يخرجون بعض هذه السلاحف خارج العين ويقومون بتكسير أصدافها بحجارة على صخرة وقد كان كبار السن يحذرون هؤلاء الأطفال ويأمرونهم بالتوقف عن إيذاء السلاحف وذلك خوفاً عليهم من «الحوبة».

«الحوبة» وانتقام الغيلمة:

الحوبة هي مصطلح خليجي تعني «لعنة الحق الضائع» أو «العاقبة الأخلاقية» أي أنه إذا ظلم شخص شخصاً آخر ولم ينصفه فانه إذا ما أصيب بقدر معين أو انتكاسة ما نقول عنه (حوبة فلان), ويبدو أن هذا المصطلح ليس حصرياً على الخليج العربي ففي الديانة البوذية عندهم معتقد قريب من «الحوبة» يسمونه «الكارما» karma وهو بنفس معنى الحوبة تماماً.

 

ويبدو أن الأجيال القديمة قد طورت طريقة لتحمي بها الغيلمة من سطوة بعض الأطفال التي تؤذيها فابتكرت أسطورة لطيفة تختص بانتقام الغيلمة حيث زعمت العامة أن الغيلمة عندما يتم أذيتها فإنها تتبع من قام بإيذائها للمنزل وتنتظره حتى ينام ثم تنتقم منه وذلك بعضه في مكان حساس, وفي حال قام أحد الأطفال بقتل غيلمة يتم تخويفه بانتقام الغيلمة أو أن يصاب بحوبتها.

ربما يكون سبب تلك الأسطورة هو التخويف لحماية هذه الكائنات أو ربما يكون السبب هو ارتباط الغيلمة بالعيون الطبيعية حيث أن من المعتقدات القديمة في البحرين أن عيون المياه سكن للجن وهناك العديد من القصص عن ذلك, ويعتقد البعض أن الغيلمة من الجن وأن أي شخص يمسها بسوء فإنها تنتقم أو أن ذويها سينتقمون لها إلا إذا تم إرضاء الغيلمة وذلك بتقديم غذاء خاص لها, وعادة ما يسمى غذاء الجن «عذرة», وقد يكون هذا الاسم مشتقا من الاعتذار أي أنه الغذاء الذي يقدم كهدية لطلب المعذرة,  فهذه العذرة تعتبر فدية الغيلمة التي قتلت أو تم إيذاؤها, ومما يروى من القصص أنه بعد أن يتم قتل غيلمة فإنه بعد ساعات ستأتي غيلمة تطالب بالفدية فيقومون بتحضير معجون من التمر ويثبت على ظهر الغيلمة على شكل حلقة ويوضع وسطه زيت وسكر حينها تبدأ الغيلمة بالدوران البطيء كعادتها والاتجاه نحو الطريق التي جاءت منها وهنا أيضاً يجب الحذر فيجب عدم تتبع الغيلمة أو السير خلفها لأنها قد تضر من يتبعها.

الصيد الجائر للغيلمة:

بالرغم من كل التحذيرات والتهويلات وأساطير الجن إلا أن الأطفال وعلى مدى أجيال كانوا يصطادون الغيلمة ليلعبوا معها والبعض يؤذيها, ومع مرور الزمن وتقلص بيئات الغيلمة أخذ بعض الأطفال يصطادون الغيلمة ليبيعوها  لأطفال آخرين وبهذه الصورة تحولت عملية صيد الغيلمة لتجارة مربحة, ومع ازدياد الطلب عليها بدأ الأطفال يصطادون أعدادا كبيرة منها وذلك بغرض بيعها في الأسواق, وكان أحد «سيبان» عذاري25 حتى الثمانينات من القرن المنصرم ينتج كميات كبيرة من هذه السلاحف الصغيرة فيروي لنا شاهد عيان أنه وفي خلال ساعة واحدة تمكن الأطفال من صيد خمسين «غيلمة».

وقد كان هذا الصيد الجائر وبداية تدهور العيون الطبيعية وجفاف السيبان والمنجيات هي الأسباب التي أدت لإعلان انقراض «الغيلمة» البحرينية من البحرين.  إن هذه الغيلمة عاشت على جزر البحرين مئات السنين منعزلة عن العالم الخارجي فكونت مجموعة من الصفات الخاصة التي جعلتها نوعاً مميزاً من سلاحف المياه العذبة, فهي لا تهاجر ولا تتكاثر خارج حدود هذه الجزيرة. وقد كان لجفاف عين عذاري الأثر الأكبر في انقراض هذه السلحفاة.

بقايا مصائد صيد الغيلمة:

 عند زيارة المنجيات المهجورة أو ما تبقى من آثارها (هذا إن كانت مازالت موجودة) يمكنك العثور على أدوات شبكية مختلفة كانت تستخدم في صيد السلاحف الصغيرة, منها ما هو عبارة عن شبك حديدي مستطيل الشكل (60 سم X 40 سم) وبه فتحات طولية كانت تستخدم لغلق جزء من المنجى أو الساب بحيث يسمح الشبك بمرور الماء فقط وإيقاف السلاحف وبهذه الطريقة يتم عزل مجموعة من السلاحف واصطيادها باليد.

وقد استخدمت قطع مختلفة من «الشباك» المعدنية لسد المجرى تارة, و تارة أخرى كمصيدة يدوية, ومن الأدوات المتطورة بعض الشيء نوع آخر هو عبارة عن آلة مكونة من صندوق مصنوع من شبك حديدي وله مقبض خشبي طويل.

الخاتمة

كانت تلك طائفة بسيطة من الألعاب والتسالي التي مارسها أطفال الأجيال السابقة سواء داخل العيون الطبيعية أو البيئات المحيطة وسواء لعبوا مع بعضهم البعض أو مع الكائنات الحية التي تعيش في تلك البيئات. ومن بين الكائنات الحية التي تعيش في بيئة العيون الطبيعية وما حولها, كما لا حظنا, فقد لعبت الغيلمة دوراً مهماً في تسالي الأطفال وارتبطت بالعديد من جوانب التراث الشعبي في مملكة البحرين ولذا تناولنا موضوعها بصورة مفصلة.

 

المراجع والهوامش

1 – Insoll (2005), A Dilmun temple in Bilad al-Qadim, Bahrain: a preliminary indication?. Arabian Archaeology and Epigraphy, 16: 79-81

2 - الناصري, محمد علي. «من تراث شعب البحرين», 1990م ص 174 , والعريفي, راشد. «الألعاب الشعبية», 1979م, لعبة رقم 53.

3 – الناصري, 1990م, مرجع سابق ص 174 والعريض والمدني. «من تراث البحرين الشعبي» 1994 م ص 279.

4 – الشملان. «الألعاب الشعبية الكويتية», 1978م ج 1 ص 337.

5 - آل عبد المحسن. «الألعاب الشعبية في دول الخليج العربية» 2003م, ص 360 – 361.

6 - الناصري, 1990م, مرجع سابق ص 174, وآل عبد المحسن 2003م, مرجع سابق ص 458

7 - Walker and Pittaway, Insects of Eastern Arabia, 1987, page 134.

8 – للوقوف على روايات الأهزوجة المتباينة ينظر: العريض والمدني, 1994م, مرجع سابق ص 279, والناصري, 1990م, مرجع سابق ص 183.

9 – اللي: الذي

10 – ابن منظور, لسان العرب: المواد «شعب» و«عين» و«غزل».

11 - Gallagher, The Amphibians and Reptiles of Bahrain, p. 9

12 - معلوف، أمين, معجم الحيوان, ص 222.

13 – معلوف, المرجع السابق ص97.

14 - ابن منظور، لسان العرب, مادة «أبس».

15 - ابن منظور، لسان العرب, مادة «حمس».

16 - الناصري, 1990م, مرجع سابق ص74

17 – البمبوع: الينبوع أو نبع العين.

18 - الله رزكني ملكاش: ليرزقني الله ملاقاتك.

19 – اربيش: أربيك.

20 - زرين: مثنى زر وهو نتوء يخرج فوق جفن العين.

21 – السيد جعفر, معصومة, مجموعة من أهازيج المهد في البحرين, غير منشور.

22 - صاب من صابش: دعاء على من يصيب الغيلمة بأي أدى والمقصود بها أصاب الله من آذاك بأذى مثله.

23 - قشرع أفادش: أفادش أي فؤادك أي قلبك, وقشرع أي قشعر والعامة تقول قشرع وقشعر بدني (أي جسمي) وذلك من شدة الرهبة والفزع وقشعر أو قشرع أفادي (أي قلبي) بمعنى داخل الفزع قلبي.

– 24الحاكول: الحاقول وهو نوع من الأسماك.

– 25عذاري: إحدى أكبر وأشهر العيون القديمة في مملكة البحرين جفت مياهها منذ نهاية التسعينيات من القرن المنصرم بعدها تم تحويلها لعين اصطناعية وأصبحت حالياً العين والحديقة والألعاب المحيطة بها مركزاً سياحياً جذاباً.

المراجع

– 1آل عبد المحسن, عبدالله حسن. الألعاب الشعبية في دول الخليج العربية. مركز التراث الشعبي – الدوحة, الطبعة الأولى 2003م

-  2ابن منظور، لسان العرب. دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان

– 3الشملان, سيف مرزوق. الألعاب الشعبية الكويتية. مطبعة مقهوي, الطبعة الثانية 1978م.

– 4العريض, عبد كريم علي والمدني, صلاح. من تراث البحرين الشعبي. الحكومية لوزارة الاعلام – البحرين, الطبعة الثانية 1994م.

– 5العريفي, راشد, الألعاب الشعبية. سلسلة التراث البحريني رقم 3.  المطبعة الحكومية لوزارة الاعلام – البحرين, الطبعة الأولى 1979م.

– 6الناصري, محمد علي, من تراث شعب البحرين، لم يذكر الناشر, المطبعة الشرقية – البحرين 1990م.

- 7معلوف، أمين معجم الحيوان. دار الرائد العربي، الطبعة الثالثة, 1985 بيروت، لبنان.

– 8مجموعة من أهازيج المهد في البحرين غير منشورة قامت بجمعها الأستاذة معصومة السيد جعفر.

9 – Gallagher, M.D.: The Amphibians and Reptiles of Bahrain, First Edition, 1971, Bahrain.

10 – Insoll, T (2005), A Dilmun temple in Bilad al-Qadim, Bahrain: a preliminary indication? Arabian. Archaeology and Epigraphy, 16: 79-81

11 – Walker, D. H. and Pittaway, A. R. Insects of Eastern Arabia, Macmillan Publishers Ltd., London (1987).

أعداد المجلة