فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
17

التراث الثقافي لقرية « شّماخ » في جنوب الأردن

العدد 17 - ثقافة مادية
التراث الثقافي لقرية « شّماخ » في جنوب الأردن
كاتب من الأردن
كاتب من الأردن

  إن التراث بمعناه الواسع هو ذلك الكل المتراكم، عبر السنين السالفة، من معرفة وعقيدة وفن وأخلاق وقانون وعُرف، بالإضافة إلى كل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بصفته عضوا في مجتمع معين، وبالتالي هو حضارة شعب من الشعوب أو منطقة من المناطق في مرحلة زمنية معينة.

   لقد سعت جامعة الحسين بن طلال، عبر صندوق البحث العلمي فيها، إلى دراسة  وتوثيق تراث القرية الأردنية لما لذلك من أهمية تاريخية واجتماعية على الصعيد الوطني، فقد دعمت المشاريع البحثية المختلفة ومنها هذا البحث الذي يتناول الملامح الحضارية والتاريخية في قرية شماخ، وخاصة خلال الحقبة الزمنية الممتدة من مطلع القرن التاسع عشر وحتى ثمانينيات القرن الماضي، وقد تم في جامعة الحسين بن طلال تبني هذا المشروع ( مشروع توثيق القرى التراثية في محافظة معان)، منذ أن كان فكرة في الأذهان إلى أن برز إلى حيز الوجود، وهو يشكل ثلاثة عناصر أساسية: أولها الدراسة التاريخية للاستقرار السكاني في هذه المنطقة المعروفة بخصبها، وبغزارة عيونها وطيب هوائها وهذا الاستقرار يشير إلى الظاهرة التي شهدها الأردن تمثلت بتحول العشائر من حياة البداوة والتنقل والترحال إلى حياة الاستقرار والتحضّر وبممارسة الزراعة والفلاحة.

أما العنصر الثاني فيتمثل في استخدام الصورة الفوتوغرافية لمنطقة الدراسة، والتي وُفِّقت في عرض الواقع المتكامل للجوانب البيئية والطبيعية والعمرانية و الاجتماعية، أما العنصر الثالث فيتمثل في مجموعة الرسومات المعمارية لمقاطع المباني المختلفة، حيث توضح نوع الخلطات الطينية المستخدمة في البناء إلى جانب ملاحظة الجوانب الوظيفية لمختلف أجزاء البيت الواحد.

وتسعى جامعة الحسين بن طلال، من وراء دعمها إلى مشروع توثيق القرى التراثية في محافظة معان، إلى إظهار عناصر الاستمرار والأصالة في التراث المعماري في المدينة والقرية الأردنية من أجل حمايتها وإدامتها، وبذلك نعاود النظر في المقولة الحالية " حضارة في طريق الزوال"، بإعادة هذه الحضارة إلى مكانها في الذاكرة الوطنية والعالمية، بتوثيق هذا التراث وتأهيله والتواصل معه تاريخياً وذلك ينسحب أيضاً مع غيره من المواقع الأخرى، حيث أصبح الاهتمام بالتراث في صميم رسالة المؤسسات الثقافية و البيئية المحلية والإقليمية والدولية، على اعتبار أن التراث الحضاري هو سجل علاقة الانسان بالعالم القديم والانجازات والاكتشافات الماضية، وقد تأكد لهذه المؤسسات أن هنالك أخطاراً تهدد هذه الأيام قسماً كبيراً من هذا التراث في البلدان النامية لأسباب عديدة منها التحديث والتأمين، كما أن معدل فقدان هذا التراث آخذ في الازدياد.

 

أهداف ومنهجية الدراسة:

يهدف هذا البحث إلى إعداد المسوح التراثية لتحديد المناطق المميزة تاريخياً ومعمارياً في محافظة معان، وبالتحديد قرية شماخ, وكيفية الحفاظ على المباني القديمة ذات العلاقة بتاريخ الحضارة الأردنية وتحديد استعمالاتها ومواقعها وزيادة الوعي السكاني بأهمية التراث المعماري الأردني كعنصر أساسي في كتابة تاريخ الأردن السياسي والحضاري، والاستفادة منها في إتاحة المجال أمام استثمار هذه الأبنية في دعم التنمية الاقتصادية والسياحتين الداخلية والخارجية.

كما يهدف البحث إلى مساعدة المجتمع المحلي بالتفكير في استغلال هذه القرية وإعادة تأهيلها بطريقة  تحافظ على الطابع التقليدي فيها من جهة، وتوفير مصدر دخل أو مردود اقتصادي من جهة أخرى، بالإضافة إلى إبراز هذه القرية وغيرها إلى حيز الوجود و الترويج إلى حمايتها، وذلك من خلال نشر هذه الدراسة في مجلد خاص، ومن الناحية الأكاديمية فستوفر هذه الدراسة معلومات هامة تفيد كلا من دارسي هندسة العمارة وتاريخها والآثار والتاريخ الحديث وعلم الانثروبيولوجيا.

يتعرض هذا البحث للعمارة وللمساكن وللنشاطات الحرفية و الأدوات الزراعية للفلاحين الذين كانوا يشكلون النسبة العظمى من سكان الأردن حتى منتصف القرن العشرين، وهو يركز على قرية شماخ الواقعة في المرتفعات الجنوبية من الأردن ما بين الشوبك وسلطة إقليم البتراء، وقد تم الحصول على معظم المعلومات ميدانيا من خلال المقابلات الشخصية والزيارات الميدانية والرسم والتصوير.

مشكلة الدراسة:

تنتشر في محافظة معان الكثير من القرى التراثية، موزعة في مختلف مناطق المحافظة، وقد كانت هذه القرى مأهولة بالسكان خلال القرن التاسع عشر وحتى النصف الأول من القرن العشرين، ولكن بتأثير الحياة الحديثة هُجِرت هذه القرى، ومثال ذلك شماخ، ولم يبذل حتى الآن أي جهد لحماية هذه القرى أو توثيقها قبل فوات الأوان واختفائها من الوجود كلياً، وهذا عائد في الأساس إلى عدم وقوع مثل هذه القرى تحت مسؤولية أي جهة رسمية أو حكومية، فهي من منظــور زمني لا يتجاوز عمرها 250 عام، وبالتالي فهي لا تخضع إلى قانون الآثار العامة رقم 23 لسنة 2002 مادة 2  فقرة أ. فهذه القرى ضمن الملكيات الخاصة وهي مهددة في أي لحظة إلى التعرض للدمار أو الإزالة الكاملة لاستغلال موقعها لأغراض الحياة اليومية الحديثة.

الجغرافيا والطبوغرافيا لشماخ:

بحكم موقعها بين صحراء  الجزيرة العربية إلى الشرق والصدع السوري الفلسطيني إلى الغرب، تتواجد شماخ في جبال الشراه، حيث تجثم شماخ على سفح جبل يبعد حوالي 4كم إلى الجنوب الغربي من قلعة الشوبك التاريخية وحوالي 18كم إلى الشمال من مدينة البتراء الأثرية (الخريطة:1)، وكانت هذه القرية مشيدة على سطح ذي موقع حصين يبلغ متوسط ارتفاعه 1000م (شكل:2/3) وهذه هي حالة معظم القرى التقليدية، حيث كان ينبغي إتقاء خطر غارات البدو, و كانت تتمتع بالحماية من الجهات الأربعة بفعل الجبال المحيطة وكان بمقدور السكان مراقبة المداخل بفضل موقعهم المرتفع في أعلى المرتفعات المتجهة إلى وادي عربة.

تقع جبال الشراه بين هضبة شرق الأردن المرتفعة  ومنخفض وادي عربة جنوب البحر الميت, حيث تتخللها أحياناً الوديان العميقة المتجهة إلى الغرب أو الشمال الغربي. وقد أدت الهزات الأرضية الناتجة عن حركات الطبقات التكتونية إلى إنهيار وادي الأردن والبحر الميت والى ارتفاع هضبة شرق الأردن نحو الغرب (جبال آدوم)، وغالباً ما تتطابق هذه الوديان مع التصدعات الجيولوجية، وتتشكل الطبقات الجيولوجية من الصخور المترسبة مع تواجد محلي لنتوءات  من البازلت، فشماخ مشيدة على طبقة كلسية تعود إلى العصر السنوبانيان والتي يبلغ سمكها 120م, ويبدو أن المنطقة كانت مغطاة بالبحر في الزمن الجيولوجي الأول من خلال انتشار المستحاثات في الموقع
 ( شكل: 4).

 

طرق الاتصال وحركة المرور للقرية (منذ القرن التاسع عشر وحتى مطلع القرن العشرين):

حتى نهاية القرن التاسع عشر, كان المحور الشمالي –الجنوب أردني الكبير "طريق الملوك " القديم الذي كان مستخدما منذ العصور الكلاسيكية، غير مريح بسبب تعدد الوديان التي كان يتعين عبورها، وبما أن شماخ تقع بالقرب من طريق الملوك  فقد كان السكان كثيري التنقل من أجل رعي قطعانهم والتجارة وشراء حاجياتهم من معان أو فلسطين أو سوريا وكانت هذه الرحلات طويلة ومضنية.

وقد وصل خط سكة الحديد الواصل بين دمشق والمدينة المنورة إلى معان عام 1904. وأصبح بمقدور القرويين التردد بشكل أكبر على سوريا حيث كانوا يعودون محملين بالأقمشة والجلود(شكل :5) والسكر والقهوة والشاي, والتي كانوا يجلبونها سابقاً من فلسطين.

كما تم افتتاح سوق آخر في معان التي كانت محطة لمغادرة الحجاج إلى مكة المكرمة، وكان السكان يترددون هناك لبيع منتجاتهم للحجاج والبدو.

 

الظروف المناخية:

يتميز المناخ بأنه من نوع مناخ البحر الأبيض المتوسط، وهو يتميز بصيف جاف و حار وشتاء بارد ورطب, مع فترتين انتقاليتين قصيرتين وفي الشتاء تهب الرياح المحملة بالأمطار من الجهة الغربية، وتتوزع مصادر المياه بشكل عشوائي في هذه المنطقة, وهي تشكل مشكلة مستعصية  فقد كانت الأمطار وكذلك الآبار ( شكل: 6) والينابيع السبل الوحيدة للتزوُّد بالمياه من قبل السكان والحيوانات البرية والمنزلية (شكل:7)، وكذلك من أجل الزراعة قبل البدء بإنشاء القنوات (شكل :8 ).

تتراوح معدلات الأمطار السنوية في هذه المنطقة الجبلية بين 100 ملم و200 ملم في منطقة شماخ، ويذهب جزء من هذه المياه هدرا بفعل التبخر. كما يتسرب ما نسبته 5% من هذه المياه داخل الأرض لتتفجّرعلى شكل ينابيع, أو تشكل مخزوناً جوفياً، وتشتهر منطقة شماخ بصفاء نبع الماء الموجود فيها حيث ما زال الكثير من الزائرين يستعملون مياهها للشرب والطهي .

تتفاوت معدلات هطول الأمطار كثيراً من شهر إلى آخر ومن سنة إلى أخرى. وقد أدت الظواهر المناخية ونتائجها السلبية على المحاصيل الزراعية إلى دفع السكان إلى الهجرة.

 

النباتات الطبيعية:

تقع المنطقة ضمن المناخ البيئي لحوض البحر الأبيض المتوسط المسمى "شبه الجاف البارد "غير الحرجي (Eisawi1985: 45-58)، وهي تقع ضمن إمكانيات الزراعة الجافة، ففترات الجفاف الطويلة من مميزات المناطق الواقعة على حافة الصحراء .

إن المنطقة الواقعة إلى الشرق من الصدع السوري-الفلسطيني  مغطاة جزئياً بنباتات حرجية, وهي من مخلفات الغابة القديمة، ويتشكل الغطاء النباتي من عناصر تعود إلى أصول إيرانية –تورونيه وصحراوية عربية (Zohary1973: 99)، علماً بأن منطقة الشوبك سميت بهذا الاسم لكثافة أشجارها وتشابكها.

ومن مميزات هذا المناخ، أي المناخ القاري، أنه يتمثل بفروقات شاسعة في درجات الحرارة وقلة معدلات الأمطار، وينعكس ذلك على الغطاء النباتي بفصلي سبات في حياة النباتات. (Zohary1973: 87).

ويوجد العديد من أصناف النبات في منطقة جبال الشراه وخاصة ذات الطبيعة التي تميل إلى الصنف الإيراني-التوروني (Zohary1973: 309)، فهناك العرعر والبلوط والبطم والسرو والصنوبر والزيتون (شكل9) والرمان (شكل:10)، أما الأصناف التي تستخدم كخشب للبناء في شماخ فالمفضل منها هو العرعر والسرو اللذان اختفيا تقريبا من الغطاء النباتي, والعرعر هو الصنف المفضل في عملية البناء.

 

 المصادر الطبيعية الحيوانية:

في القرن التاسع عشر كان الغزال شديد التردد على السهول المرتفعة إضافة  للماعز البري والخنزير البري وبعض الفهود والضباع والثعالب والحمام والحجل والعديد من أنواع الزواحف (شكل : 11 ), وقد انقرضت معظم هذه الأصناف تقريبا بفعل الإنسان أو بفعل التغيُّرات التي طرأت على الغطاء النباتي، وخلال بعض الفصول الشتوية تغامر الذئاب بالاقتراب حتى من مشارف المنطقة.

 

الملامح المعمارية للقرية الأردنية:

 إن أحد أهداف هذا البحث، هو تسليط بعض الضوء على القرية الأردنية باعتبارها الأساس في فهم البيئة الاجتماعية والثقافية والفكرية التي تميِّز المجتمعات المحلية في الأردن، وعلى اعتبار أنها المرجع الرئيسي للنمط المعماري المعاصر في الأردن.

ومما يزيد الأمر أهمية أن القرية الأردنية تعرضت خلال العقود الأربعة الماضية إلى تغيرات جذرية في تركيبتها الاجتماعية والاقتصادية والسكانية التي انعكست بوضوح على التصميم المعماري  للقرية، وهذه التغيرات كانت نتيجة طبيعية لزيادة معدلات الهجرة إلى المدن لما فيها من فرص للعمل وقدرة على توفير مستوى ونمط معيشي متميز، وساعد في ذلك زيادة القدرة على الحركة والتنقل وسهولة الاتصالات بين أنحاء البلاد، وانفتاح المجتمعات المحلية على المجتمعات العالمية من خلال وسائل الاتصال المختلفة، فكانت النتيجة المباشرة لهذه التغيُّرات تراجع الاعتماد على الزراعة والرعي كأساس للاقتصاد المحلي في القرية فكان لا بد أن يتبع ذلك تغيُّرات في التركيبة الفكرية والنمط المعيشي اللذين انعكسا على النمط العمراني للقرية الأردنية، فأخذت القرية التقليدية تختفي وتندثر بسرعة نتيجة هجرة سكانها إلى المدينة.

ومن هنا تأتي أهمية هذا العمل التوثيقي والتحليلي الذي يعتبر سجلاً مادياً لتاريخنا العمراني ولتراثنا في البناء وطريقة العيش. فإن كان التغيير والتطوير في أنماط الحياة وأشكالها ظاهرة طبيعية وصعبة في المجتمعات النامية، فإن انقطاع الصلة مع الجذور أمر بالغ الخطورة على هذه المجتمعات، ولهذا تكتسب عمليات التوثيق المكتوبة والمرسومة أهمية خاصة في مجتمعنا الذي يشهد تغيرات سريعة، إن هذه الوثائق هي مرجع مهم ويساعد إلى حد كبير في زيادة الوعي بقيمة تراثنا وإنجازاتنا، وفي سبيل تحقيق التوازن الهام بين التطور والمحافظة على التراث.

ومن خلال دراسة قرية شماخ جنوب الأردن يمكن استنتاج  بعض الخصائص الرئيسية التي تميزت بها القرية الأردنية، والتي تظهر خصائصها قدرة العمارة المحلية على التجاوب مع المعطيات البيئية للمكان ويمكن إجمال هذه الخصائص كما يلي: -

 

اختيار الموقع:

تميزت هذه القرى بحكمة القرار الأساسي في اختيار البقعة المحددة من الأرض للاستقرار عليها وبناء القرية فوقها. هذا الاختيار كانت تحكمه ضرورات منطقية تتلائم  مع الطبيعة الجغرافية والمعيشية. فالقرى الأردنية بنيت بمعظمها قريبة من مصادر المياه التي كانت بغالبيتها ينابيع ماء جوفية أو وديان منحدرة تجري فيها المياه، وقد بنيت معظم القرى على أطراف الأرض الصالحة للزراعة أو الرعي بحيث يسهل الوصول إليها، وكانت معظم القرى مبنية على سفوح الجبال أو على قمم التلال المنخفضة حيث تتحقق ظروف أمثل للدفاع عن القرية وحمايتها، وحيث أفضل درجة من التوازن ما بين الهواء النقي الصحي وبين القدرة على احتمال الظروف الطبيعية القاسية خصوصاً في فصل الشتاء ( شكل: 12 ).

 

 البناء:

يعتمد الطابع المعماري التقليدي، (جدران من الحجارة , وسقف مستوٍ يرتكز على أقواس داخلية)، على البيئة المحيطة والموارد التي تتيحها هذه البيئة، أما المواد المستخدمة في البناء من قبل القرويين فهي:  (الحجارة والرمل والخشب والقصب) يشار في كل واحدة منها إلى مصدرها واِشكال استعمالها وأحياناً إلى طرق تحويلها من حالتها الأولية إلى الشكل القابل للاستخدام.

 لتقوية أسطح البيوت المكونة من الطين والتبن من خلال حجرة دائرية الشكل ليتم تحريكها على الأسطح ( شكل 3)، تعتبر الحجارة الكلسية العنصر الرئيسي وهي متواجدة بكثرة في نفس الموقع وعلى مقربة من القرية : على المنحدر الجبلي وفي الوديان.وتستخدم الحجارة في بناء الجدران والأقواس ( شكل : 12 )  وكافة الهياكل المبنية الداخلية أو الخارجية في المنازل، كما يتم استخدام التراب بكثرة، حيث يتم جلبه من المناطق القريبة من موقع البناء ثم يتم بعد ذلك خلطه بالتبن ومن ثم فرشه على السطح لجعله مقاوماً للمياه، ولدى وضعه على الجدران الداخلية والخارجية يسمح هذا المزيج بطليه بالجبس أو الدهان.

يعتبر الخشب عنصراً هاماً في البناء، وهو يُحدَد وفقاً لأحجامه أو سعة المساحات الداخلية للمبنى، وترتكز الأعمدة الخشبية على الجدران والأقواس، وتبلغ أطوالها ما معدله متران ونصف المتر، وهذه هي أيضاً المسافة التي تفصل بين القائمين، وبعض عتبات الأبواب تكون من الخشب، ويأتي الخشب من الجبال أو الوديان المحيطة وهو بشكل عام مادة نادرة يتم جمعها بشكل دائم .

وعندما يتهدم منزل ما، يسارع أصحابه القدامى أو أقاربهم لجمع العناصر الخشبية ويكدسونها في منازلهم لإعادة استخدامها كمواد بناء أو كحطب، أما الأصناف المستخدمة للبناء فهي بشكل خاص السرو والصنوبر والبلوط والعرعر و يوضع القصب بشكل عمودي على أعمدة السقف وعندما يتم شدها بقوة  فإنها تسند طبقات السقف الأخرى وتمنع التراب من التسرب داخل المنزل (شكل : 13)، أما جدران الكوة الثابتة
 ( شكل: 14 أ) فإن أسقفها تصنع هي أيضاً من القصب ويتواجد القصب بشكل رئيسي في الوديان مع وجود الأقواس التي تستخدم في البيوت ( شكل14 ب ).

التكوين العرقي والنمط الاجتماعي:

جاء التكوين العمراني للقرية الأردنية انعكاساً صادقاً للخصائص الاجتماعية والأنماط المعيشية لسكانها ويستطيع الباحث أن يقرأ بوضوح تلك الخصائص في التفاصيل المعمارية للبيوت (شكل: 15 ).

ومثال ذلك اعتماد معظم القرى في تكوينها على مبدأ الحوش كعنصر منظم للمباني، والحوش هو الأرض الفضاء غير المغطاة التي تقع أمام البيوت وتجتمع فيه العائلة والعشيرة وهو في الغالب على شكل ساحة كبيرة نسبياً تفتح عليها معظم الملحقات والمساحات الأقل حجماً والتابعة للأسر المختلفة ضمن العائلة الرئيسية. ونرى في بعض القرى أكثر من حوش رئيسي واحد، ويكون السبب في الغالب أن أكثر من عائلة ضمن العشيرة الرئيسية جاءت إلى المكان ذاته أو تواجدت فيه بعد قدوم العائلة الأولى. وهنالك بقايا أدوات طحن وجرش الحبوب التي كانت تستعمل (شكل:16)  مثل الكوارة التي استخدمت لتخزين القمح (شكل17) والكرداش وهو قطعتان خشبيتان لكل واحدة منهما مقبض لليد وفي سطح كل واحدة منهما عدد من الأسنان ويوضع الشعر لتنظيفه من الشوائب.

(شكل 18) والقادم (شكل 19) وهنالك الآلة الموسيقية التي كانت تستخدم وهي  الشبابة (شكل 20) .

وبمرور الزمن تختفي الحدود بين العائلات، نتيجة لتوسع الأحواش والدور حولها، ولكن يبقى دائماً الحوش الرئيسي لكل عائلة مميزاً وتصبح القرية عبارة عن مجموعة من الأحواش المتلاصقة ويستطيع الباحث أن يقرأ ذلك بوضوح عند دراسة الناتج العمراني للقرية ( شكل : 21 )، والأمثلة على هذا الانسجام العمراني مع الواقع السكاني كبيرة ويمكن ملاحظتها على مستوى التفاصيل المعمارية، فانغلاق المباني مثلاً وصغر فتحاتها ونوافذها الخارجية وانفتاحها على أحواشها الداخلية مرجعه إلى الخصوصية والمحافظة، بينما المساحات الكبيرة المخصصة للخزن والتموين داخل المباني واقترابها من أماكن المعيشة هو انعكاس طبيعي لإيقاع الحياة الزراعية وقيمة الغذاء وأهمية تخزينه بها كما أن المساحات الواسعة المخصصة للدواجن والدواب والحلال تظهر لنا مدى اعتماد السكان على هذه الحيوانات وعلى حياة الرعي ذات الجذور البدوية كعنصر مكمل للحياة الزراعية، وعلى هذا الأساس فإن التكوينات والتفاصيل المعمارية هي نتاج طبيعي ومنطقي لحاجات السكان وأنماط حياتهم.

 

الانسجام مع البيئة الطبيعية:

تظهر معظم المباني في القرية على أشكال مكعبة متلاصقة بسيطة التكوين متواضعة الحجم، مما يتيح لها أن تنشأ على الأرض بدون تسويات أو تغيرات كبيرة في الأرض الطبيعية، فتظهر معظم القرى على شكل نسيج عضوي ممتد وكأنها جزء من الأرض الطبيعية لا يكاد المرء يميزها على سفوح الجبال أو قمم التلال، ومعظم هذه المباني تستعمل في بنائها المواد الطبيعية المتوفرة في بيئتها كالحجارة والطين للجدران، وأغصان الأشجار للأسقف وهذا بالتالي يزيد من الشعور بأن هذه القرى جزء من الأرض الطبيعية وليست مفروضة عليها.

وفي مجال الملاءمة المناخية، فإن صغر الفتحات والنوافذ في المباني وارتفاع منسوبها عن الأرض بالإضافة إلى سمك الجدران الحجرية والطينية واستعمال طبقات متعددة من الطين والتبن لتغطية الأسقف الخشبية، كل ذلك أدى إلى زيادة العزل الحراري لهذه المباني صيفاً وشتاءً.

هذه بعض الخصائص العمرانية للقرية في بلادنا وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على صدق انتماء هذه القرى لأهلها وأرضها، وهي أيضاً تظهر القدرة الإبداعية لأهل هذه القرى الذين تلمسّوا حاجاتهم وشكلوا مبادئهم وبيئتهم من حولهم لتستجيب لها هذه الحاجات فجاءت القرى جميلة متناسقة وعفوية.

وأصبح مفهوم السياحة البيئية Ecotourism واحداً من أكثر مفاهيم التنمية المستدامة نموا ونشاطاً وانتشاراً في العالم، إذ إن هذا المفهوم يحقق تطبيقاً نموذجياً للتكامل ما بين عناصر التنمية المستدامة الثلاث: الاقتصاد والمجتمع والبيئة. فالسياحة البيئية تعتبر نشاطاً اقتصادياً مدراً للدخل والعملة الصعبة بنفس الوقت الذي يخدم فيه المجتمعات المحلية في الموقع السياحي، والتي تلعب دوراً محورياً في تنفيذ هذه المشاريع، كما يتم المحافظة على عناصر البيئة الرئيسة ومنع تلوثها.

ويعتبر هذا النوع من السياحة هاماً جداً للدول النامية لكونه يمثل مصدراً للدخل بالإضافة إلى الحفاظ على البيئة وممارسة التنمية المستدامة، بل إن العديد من الدول النامية باتت تعتمد على السياحة البيئية كمصدر دخل وتنمية رئيسي لها.

وفي الأردن تعتبر السياحة بكافة أنواعها، النشاط الاقتصادي الثالث المدر للدخل, وقد أولتها الدولة والقطاع الخاص اهتماماً كبيراً، ودخل مفهوم السياحة البيئية إلى الأردن في أوائل التسعينيات، ولم يستغرق وقتاً طويلاً في ترسيخ نفسه عنصراً رئيساً في خطط السياحة الوطنية خاصة مع نجاح تجربة محمية ضانا في السياحة البيئية.

كانت المنطقة المعنية، بين الشوبك ووادي موسى، مأهولة بشكل منقطع النظيرعلى مدى فترات كانت تطول أو تقصر، أما الفترات الأكثر تمثيلاً فقد كانت بشكل خاص مرتبطة بالفترة الإسلامية، من خلال الكسر الفخارية المنتشرة في الموقع (شكل 22)، وخاصةً الأسرجة التي تعود إلى القرن الثاني الميلادي شكل ( 23) .

كان تأسيس المواقع الجديدة يتم بشكل خاص على المنحدرات الجبلية الوعرة الواقعة على الحافة الجنوبية الغربية من الهضبة، حيث كانت هذه المنحدرات الوعرة تشكل مناطق الرعي التقليدية التي كان يجوبها البدو وشبه البدو بقطعانهم من الماعز والخراف، فهي مناطق معروفة لهؤلاء السكان جيداً، ويعرفون كذلك الموارد المتاحة فيها للمستوطنين من أجل إنشاء تجمعات يمكن الدفاع عنها، وفي الواقع، ومن أجل أن يستقر البدو ويبدأون بممارسة الزراعة، كان من الضروري تواجد مناخ من السلم أو وجود إمكانية تأمين الحماية، وفي فترات النزاع كان السكان يطورون الجزء الرعوي من نظامهم الاقتصادي، حيث أن الرعي يمنحهم حركة لا يتسم بها النشاط الزراعي.

 لقد حدثت تحولات كثيرة في الأردن منذ أواسط القرن العشرين، وهي تنعكس في الثقافة المادية التقليدية، وهذا يخلق حاجة ماسة للتوثيق، ويمكن الحفاظ على هذه المباني التقليدية وكذلك الأدوات التي تختفي بسرعة من الاستخدام اليومي، من خلال الحصول على المعلومات لدى الجيل الذي ما زال يتذكر صناعته لهذه الأدوات واستخدام هذه المنازل الحديثة من الحجارة.

 

الأكلات الشعبية:

تعتبر مصادر الغذاء متشابهة في مختلف أنحاء العالم، لكن ما يختلف هو طريقة صنع الطعام أو تحضيره، فأهل  شماخ لم يكونوا يشترون المعلبات على الإطلاق، فمعظم حاجاتهم متوافرة، الخضروات والفواكه والحبوب يأخذونها من أراضيهم وبساتينهم، والحليب من ماشيتهم ويصنعون مشتقاته داخل بيوتهم، وكذلك المربّى (التطلي). لذلك نستطيع أن نقول إن الأسرة  في القرية كانت شبه مكتفية ذاتياً بالنسبة للغذاء، لأن جميع المستلزمات الأساسية كانت موجودة على مدار السنة لديها، فالأسرة  في هذه القرية نواة إيجابية لمجتمع يسعى لأن يأكل مما يزرع، لا لمجتمع يتّكل على غيره ليأكل مما لا يزرع.

وكما أن لكل شخص طعاما مميزا أو نوعا يفضله على غيره، فإن لكل شعب أطعمة شعبية يفضّلها وتنسب إليه، ومن الأكلات الشعبية في شماخ الزرب شكل 24 والتي ما زالت تُحضَّر في القرية و المندي شكل 25.

الخلاصة

إن العناصر المختلفة التي عرضناها تدل على نشاط حرفي تم في الغالب هجره من قبل القرويين, ولهذه المخلفات قيمة اثنوغرافية هامة, ولكن يمكن أن يكون لها أيضاً قيمة فنية ومن الضروري إحياء هذا التراث القديم سواء الثابت أو المنقول من خلال خطط التسويق السياحي لهذا الموقع  عن طريق التركيز على السياحة البيئية, فالحرف التقليدية مثلما هو الحال مع المنازل التقليدية, هي شاهد على التاريخ  الأردني  وعلى ماضيه القريب، وبذلك تستحق اهتمام  المختصين والجمهور .ومثلما هو الحال مع المواقع التاريخية الأكثر قدماً, فإنه ينبغي أن تحظى هذه القرى وهذه النشاطات الحرفية بما تستحق من محافظة وترميم لأنها جزء من التراث الأردني. إن الغاية من هذا البحث هو جذب اهتمام الباحثين لبقايا حضارة عاشها أجداد السكان الأردنيين الحاليين وتقديم معلومات ستساعد أي شخص يتجول في قرية تقليدية في جنوب الأردن. إن من أهم الإجراءات التي ينبغي أن تتخذ في سبيل تطبيق القوانين المحلية في حماية التراث وحتى يمكن على ضوئها تطبيق الاتفاقيات الدولية في استعادة الممتلكات الثقافية والاستفادة منها هو تسمية الأثر وتسجيله وتوثيقه, فبدون أن يكون للأثر إسم أو بطاقة هوية, تصعب متابعة المخلفات أو السرقات أو التهريب أو معرفة الأثر والمادة التراثية المفقودة, وتسجيل المادة التراثية في السجل الوطني للتراث الثقافي هو من أقوى الأدلة لتثبيت الحيازة العامة , أو لاستعادة ما نقل بدون حق إلى ملكية أخرى في الداخل أو الخارج , إن إسم الأثر في سجل التراث الوطني هو عنوانه وهو دليل هويته وهو أول خطوة حقيقية في طريق الحفاظ عليه .

وكما يقال لا تاريخ بدون وثائق فإنه من الجائز أن يقال لا وثائق ولا شواهد تاريخية أو تراثية دون توثيق سليم في أرشيف المؤسسة التراثية فمن شأن هذا التوثيق أن يحافظ على التراث الذي هو جزء من التاريخ.

المراجع

Biewers M .

1987        Etade du Village Traditionnel de Aima , ADAJXXXI

                485-508 Amman.

 

1990 L‘Habitat Tradtionnel a’ Aima Approche ethnoarcheolojiqui du’n Village Jordanien These de Doctorat (NR), university lumiere Lyon z.3vols, inetit .

Canaan J.

1932 The Palestinian Arab  house :its Architecture  and Folklore, JPOSXII, 223-247.

 

Eisawi al-D.M .

1985 Vegetation in Jordan, SHAJ.

11, Department of Antiquities, Amman, Jordan, 45-75

Zohary M.1973

Geobotanical  Foundation of the Middle East. Amsterdam:Swts and Zeitlinger

أعداد المجلة