فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
18

الأقنعة وفنون الأداء التقليدية في تركيا

العدد 18 - عادات وتقاليد
الأقنعة وفنون الأداء التقليدية في تركيا
كاتب من تركيا

ترجمة : فراس الشاعر

تُعَرّف المجموعة الإثنية كمجموعة من الناس، يجمعهم الدين واللغة والجنسية والمنطقة الجغرافية التي عاشوا فيها في الماضي، وتربطهم معايير وقيم ثقافية موحدة، وتراث لأساطير مشتركة1.

 

وحسب علم الاجتماع، تمتاز الجماعة الإثنية عن غيرها امتيازا جليا،  وينبغي رصد الاختلافات بينها وبين الجماعات الأخرى ضمن المنظور التاريخي في جميع ميادين الحياة والثقافة المرتبطة بالمجتمع. ومن بين المعايير المستخدمة للتمييز بين الجماعات الإثنية يبرز بشكل رئيسي احتفالات المواليد، وطقوس الوفيات، والوضع الاجتماعي لأفراد الأسرة، وتقنيات الحياكة التقليدية، وتقاليد تربية الحيوانات، والأدوات المستخدمة في المنزل.

وتأتي الأقنعة في مقدمة المكونات التي تستخدم لإجراء البحوث على الهوية الإثنية والثقافية، وفي تداول الإرث الثقافي المعنوي للمجموعة جيلاً بعد جيل. وقد أسست بلدية كوناك، عام 2011، متحفا للأقنعة في أزمير، ويعرض المتحف، إضافة إلى الأقنعة والأزياء التي تستخدم في فنون الأداء في الأناضول، نماذج عديدة من الأقنعة من جميع أنحاء العالم.

كذلك يقوم المتحف بجمع الأقنعة والأزياء المستخدمة في العروض التقليدية لكالو غاغان من منطقة الأناضول الشرقية، ويأخذ على عاتقه استقصاء الأقنعة المستخدمة في المسرحيات والطقوس في مناطق أخرى من الأناضول، وتصنيفها وتقييمها وتدوين المعلومات الخاصة بها.

يوجد في تركيا ثلاثون مجموعة إثنية مختلفة، يتألف معظمها من الأتراك والمسلمين2. وبالرغم من التعدد الثقافي في تركيا، التي تعتبر حلقة وصل بين قارتي آسيا وأوروبا، ظل التكامل الثقافي قائماً فيها لآلاف السنين. وقد خضعت أرض الأناضول عبر التاريخ  لتأثير الحضارات السومرية، والآشورية، والحثية، واليونانية، والفارسية، والرومانية، والبيزنطية، والمغولية، والتركية، على التوالي، كما أنها خضعت لتأثير موجات عديدة من الهجرة، مما أدى إلى وجود ثقافات متعددة جداً في أرض الأناضول. ومع زيادة التراكم الثقافي، والتنوع في أساليب الحياة، تعاظمت القيم والمعتقدات، وبدأت المجموعات الإثنية المختلفة بتفسير الطقوس، التي انبثقت من مصدر واحد، وترميزها وفقاً لتقاليدها الخاصة،  فتم التخلص من المعتقدات البدائية، أو تغير شكلها ووظيفتها كي تتجرد من أبعادها الوثنية، ثم استعيض عن الشعائر الدينية في العصور القديمة بمسرحيات رمزية تصور الحياة اليومية وتحتوي على  نفس العناصر البصرية التي كانت موجودة في الشعائر الدينية السابقة.

1. فنون الأداء التقليدية:

تعتبر الطائفة الشامانية، التي ازدهرت  قبل ظهور الإسلام، أحد أصول فنون الأداء في تركيا؛ وبما أن الشامانية ولدت في آسيا الوسطى3، فقد صبغت الثقافة التركية عموما بطقوسها وتراثها، كما أن تأثيرها على الأتراك كان كبيراً. ووفقاً لمعتقداتهم، فإنه من الممكن للشامان أن يصلوا إلى العالم السفلي دون أن يصابوا بأذى، وذلك بفضل القوة الروحية للأقنعة التي يستخدمونها4. وتتألف طقوس الشامان من الموسيقى، والرقص، والمحاكاة، والاستغراق في الحالة لحد الدخول في حالة الغياب؛ تستخدم الطبول والصنجات في  الموسيقى، ليس فقط للإيقاع ولكن لطرد الأرواح الشريرة، والرقص في طقوسهم عبارة عن دوران مستمر، إلى أن يبلغ الراقص حالة من الغياب تمنحه قوة خارقة، ويلتمس الشامان العون والمساعدة عن طريق محاكاة الحيوانات المقدسة لتحقيق حالة وجودية لاهوتية5.

عندما يبلغ أحد أفراد الشامان حقيقة الوجود، يتطهر من كل الأفكار الدنيوية، وبالتالي تبدأ الأرض بالدوران حوله من تلك اللحظة. وقد أقيمت طقوس مماثلة كثيرة في العديد من الثقافات المختلفة في العصور القديمة، وما زالت المسرحيات التي تحفل بهذه الطقوس موجودة حتى يومنا هذا، فالأقنعة التي تمثل الشيطان والمستخدمة للإله شيفا في الديانة الهندوسية كانت تستخدم لنفس الغرض في العصور القديمة6.

لقد كان القرويون، الذين يعايشون الحياة الريفية بكل تقلباتها وطقوسها وشعائرها، يؤدون المسرحيات التقليدية، والفقرات الدرامية، باستثمار الموروث اللفظي من أجل إثراء المناسبات، وإضفاء جو من البهجة والمرح، وذلك في أوقات الأفراح والأعياد، وليالي الشتاء الطويلة، ووقت الحصاد، ووقت الانقلاب الصيفي أو الشتوي. وقد وصف و. ب. بوراتاف7 هذه المسرحيات التي تعنى بالطقوس وبالمظاهر الدنيوية، بالعبارة التالية: «إن هذه المسرحيات لا تخدم أغراض الترفيه  فحسب، فعلى الرغم من أنها تتسم بالصفة المؤقتة، وأنها نتاج الخيال، لا يمكن أن نعزلها عن سياق الحياة اليومية للمجتمع، وعن تحديات وآلام وأفراح أفراده، أو عن مآثرهم، وكفاحهم، وما ينتجون ويستهلكون، وعن كل طقوسهم بشكل عام، إنهم، في كلمة موجزة، يمتزجون مع واقع حياتهم اليومية، وبالتالي لا يمكن فهم وتفسير هذا الفن الدرامي إلا من خلال الدراسة المتعمقة لمختلف جوانب حياة مجتمعهم».

في الأناضول، حيث تؤطر حياة الريف وتربية الحيوانات وسائل العيش، يجتمع الشباب وكبار السن  لتأليف وتمثيل المسرحيات، أما عن مكان العرض، فيتم اختياره، في الأغلب، من ضمن قاعات كبيرة، أو في الساحات العامة، ويستخدم الفحم، والرمل، وسخام المداخن، ومساحيق الأصباغ، والدقيق، والعجين، للمكياج، ويتم صناعة اللحي والشوارب الاصطناعية من شعر الماعز، أو صوف الحملان.

لأداء أدوارهم، قد يلجأ الممثلون لارتداء ملابس نسائية، نظراً لأن معظم من يمثل في المسرحية على الأغلب من الرجال، وأبرز الشخصيات في المسرحيات، هي الرجل الأمرد، والعربي، والعروس، والمهرج، والحطاب، والمختار، والإبل والماعز، والقائد، وهيكتور” الذي يرمز للبطل الخارق”، والفتاة، والرجل العجوز، والزوج، والخادم، الخ.

ترتكز المسرحيات الدرامية التقليدية في الأناضول على ثلاثة مواضيع رئيسة هي: الموت، والبعث بعد الموت، وخطف العروس، وتصور قيم الخصوبة والتكاثر عبر رموز متعددة.  وإذ تشكل ثنائية الحياة والموت دورة حتمية لجميع الموائل الطبيعية، تتبنى المسرحيات التقليدية إبراز هذه الثنائية ورموزها في تشكلات عديدة ، مثل موت الطبيعة في الشتاء، وانبعاثها  في الربيع، وما تناولته أساطير الحضارات القديمة بكل رموزها وشخصياتها، كأساطير أوزيريس، تموز، أتيس، أدونيس، وديونيسوس. 

لأن موضوعات المسرحيات التراثية متشابهة جداً، فقد قمت بتصنيفها في هذا البحث تبعاً لمواسم عرضها؛ وهي على الأغلب، عشية رأس السنة الميلادية، الربيع، وقت الحصاد، الزفاف، والألعاب التي تؤدى في المهرجانات.

 1.1. مسرحيات عشية رأس السنة:

1. 1. 1.  كالو جاجان، كووس جيلين:

مسرحية كالو جاجان، أو كووس جلين8،  مسرحية معروفة لدى الأتراك، والأكراد والأذربيجانيين في الأناضول الشرقية، ولا تمثل المسرحية الاحتفاء بالعام الجديد وتوديع العام الماضي فحسب، وإنما هي دعوة للحظ السعيد والوفرة والعطاء، وهي تجسيد الكثير من التقاليد. كووس جيلين مسرحية تراثية تسهم إسهاماً بارزاً في نقل آلاف السنين من الإرث الثقافي لعصرنا، وشخوصها البارزة هي الرجل العجوز غير الملتحي، العروس، والرسول، والناس الذين يتحملون مسؤولية حمايتهم من التدخل الخارجي، أما موضوعها، فيمكن تلخيصه  في خطف العروس، إلى جانب إبراز طقوس الحصاد للحصول على الوفرة، واحتفاءً بقيم التعاون.

 1.1.2 احتفالات منتصف الشتاء:

في أرضروم، تؤدى مسرحية بعنوان منتصف الشتاء، ولا تختلف موضوعاتها عن المسرحيات التقليدية الأخرى حيث إنها تتمحور حول خطف العروس، والموت، والقيامة، وهي رموز تجسد جدلية الطبيعة9، وفي النهاية ينتج عن كل هذه الأحداث الاقتران، والتكاثر، وهو ما تفرضه قوة الطبيعة على الجنس البشري كي يتناسل ويتكاثر ويمتد، ويعمر الكون. وتظهر جدلية الطبيعة في ثنائية الموت والانبعاث، يجسد الموت والأحداث المرتبطة به فقدان سبل العيش وانعدام النماء والخصوبة في كل عام... ثم تعود فتنبعث الحياة من جديد. ولقد اشتملت الأساطير المصرية القديمة على نماذج من هذه الفكرة،  فمهما أجدبت الأرض، يظل اتحاد إله القمح، أوزوريس، مع الأرض كفيل بأن يعيد لها الخصب والنماء، وفي بلاد ما بين النهرين يتوحد الإله تموز مع عشتار، فتورق الأشجار، وتخضر النباتات، وعندما يفترقان يتوقف الخصب والنماء، وهناك أيضا أسطورة الإله أتيس وكيبيلي، آلهة الخصب والنماء، تلك الأسطورة التي تجسد موت الإله أتيس، ثم انبعاثه في الربيع.

 1.1.3 كركنكولس:

كركنكولس، اسم يطلق على الشياطين التي تخرج من باطن الأرض، في وقت في السنة يكون فيها أطول ليلة وأقصر نهار، بقصد التعرض للبشر وإيذائهم، ونجد أن هذه التسمية منتشرة في مدينة طرابزون وبعض مناطق الأناضول. ويعتقد أن الكلمة مشتقة من الكلمة الإغريقية  Καλλικάντζαρος كليكنتزاروس10، وهناك مسميات أخرى لذات الشخصيات الشريرة، في التراث البلغاري، مثلا، نجد  «كراكندوجل» أو «كوكري»، وفي الأساطير التركية شخصية «إيرك هان» ، الذي يرتدي ملابس سوداء، وهو رمز الشر المقدس في فنون الأويغور القديمة، ويظهر دائماً وهو على حصان أسود، وله بنية قوية رغم كبر سنه11، وفي الأساطير اليونانية تسعى كائنات كليكنتزاروس لقطع جذور الأشجار من داخل الأرض، حتى تقع على الأرض.

وغالبا ما تصور شخصيات كليكنتزاروس، أو ما يقابلها في الإرث الإنساني عموما، كمخلوقات لها أطراف حيوانات، ولها شعر يغطي أجسادها بالكامل، والإغريق القدامى يصورونها بأرجل وأسنان الخنزير، وهناك كائنات مشابهة لدى التشوفاش، تدعى لديهم  اركوري، وفي الفلبين هناك الكبريي،  وفي الحكايا اليابانية رجل الوصمة، ويلعب جبل آي  في تركستان، و ما يعرف بفوسسكا مانوس في صربيا، نفس الدور.

يُصَوَّر كركنكولس كرجل يرتدي فراء الدب، ويحمل عصا في يد واحدة، وأجراس حول خصره، ويظهر وجهه باللون الأسود. وترمز العصا لعضو الرجل، وذلك لتجسيد فكرة إحياء الطبيعة مع فورة الربيع، وذلك استمراراً لاحتفالات ديونيسوس القديمة.

وفقاً للثقافة الرومانية القديمة، فإن الأطفال الذين يولدون في الأيام الأخيرة من كانون الأول (ديسمبر)، خلال فترة الاحتفالات التي تقام  للإله زحل، إله الزرع، يصبحون من مخلوقات كليكنتزاروس، وقد اعتاد الناس على تعليق الثوم فوق منازلهم كي يمنعوا تحول الأطفال المذكورين إلى تلك الكائنات الشريرة، وفي بلغاريا، اعتاد الراقصون من الرجال على ارتداء جلود الحيوانات، وأقنعة وجوه الحيوانات، وحمل عصي في أيديهم، وتعليق أجراس كبيرة الحجم، كالتي تعلق على الماشية، حول أيديهم ورقابهم لتجسيد شخصيات كوكاري، التي ما هي إلا وجه آخر لكائنات كركنكولس.

 للدب مكانة بارزة في  نظام الأتراك العقائدي القديم، فوفقا  للشامانين،  فإن الدب يمثل إله الغابات، لذلك يتملك الشامانيين الخوف عندما ينطقون كلمة الدب، وخاصة عندما يكونون في الغابات، ويلجؤون لقول أباي أو بابا كنوع من التهذيب اللفظي12.

يُعتقد أن كائنات كركنكولس تدخل المنازل من مداخنها، وتخمد النار الموقدة في المدافئ، لأنها ترمز إلى رفاه الأسرة الاجتماعي. وهنا يجدر بنا أن نناقش أمرين هامين، الأول هو أنه في كثير من المناطق، بما في ذلك الأناضول، يستعمل الرماد والسخام الأسود المتبقي من النار والمدخنة لصبغ الوجه، دلالة على أصل الحياة ومصدر الوفرة، وعادة تعليق السلال على المداخن، في أوقات معينة من السنة، للعودة بها مليئة بالطعام، أو إعطاء الطعام بنفس الطريقة (عن طريق السلال)، ترتبط بذات الاعتقاد. والأمر الثاني هو أن شخصية “بابا نويل” (سانتا كلوز)، وشخصية العربي في التراث التركي، هما تكيفان متأخران لشخصيات كركنكولس، مع اختلاف التأصيل والهدف. وقد أخذت شخصية “بابا نويل” (سانتا كلوز) اسمها من القديس نيكولاس، رئيس أساقفة “ميرا”، الذي عاش في الأناضول في القرن الرابع الميلادي والذي كان معروفاً بكرمه ورعايته للفقراء.

 1.2 مسرحيات الربيع:

1.2.1  مسرحية الجمل:

يقام هذا النوع من المسرحيات عادة في شهري فبراير ومارس، وهو الوقت الذي تلد فيه الخراف حملانها، ويعود للأرض خصبها، وتزداد وفرة وعطاء الطبيعة13. تبرز، من بين شخصيات هذه المسرحيات، شخصية الرجل المتنكر بثياب النساء، وشخصية الراوي، والرجل العجوز، وقد تختلف الشخصيات من منطقة إلى أخرى.

يصنع رأس الجمل في المسرحية بوضع سلّم أمام الممثلين، تعلق عليه الأجراس، ثم تسد الفجوات بواسطة أغطية، كالسجاد مثلاً، ويوضع السرج في الوسط، ويتجول الراوي بين البيوت على دق الطبول وعزف الأبواق، إذ يعرض هذا النوع من المسرحيات أمام أبواب البيوت. ويحاول جمهور المتفرجين خطف العرائس في المسرحية، فينالوا عقابهم بالضحك عليهم، والسخرية منهم، وتقليدهم، وإجبارهم على تقديم الطعام،  ثم تمنح الهدايا التي يتم جمعها لفقراء القرية، أو تعد الأطباق المختلفة وتقدم للجميع.

 1.2.2 مسرحيات الجد:

يحتفل الناس في مدينة إيلاظي باليوم المائة من فترة خصوبة الكبش عبر الاحتفالات والمسرحيات، ومن هذه المسرحيات مسرحية الجَد14، أو الرجل العجوز، ومن شخوص هذه المسرحية شخصية الراعي العجوز، وزوجتيه، والمختار. وكما نرى في مسرحيات سايا، هناك العديد من المواضيع التقليدية، مثل خطف العروس، والموت، والبعث.

 1.2.3 مسرحية Fattik :

تتعدد مواضيع المسرحية، من إحياء الطبيعة وتجددها إلى إنعاش آمال الناس بالمستقبل المرتبط بهذا التجدد. والمسرحية عبارة عن طقوس احتفالية تؤدى وسط الجمهور في أسكالي في مدينة أرضروم، عادة في النصف الثاني من شهر فبراير، من أجل مواكبة عودة الخصوبة إلى الطبيعة15. يتجمع الناس أمام منزل يحددونه سلفاً ويبدؤون بتأدية الرقصات، وتبدأ شخصيات المسرحية بالتجول وتأدية الرقصات الشعبية من حين إلى آخر، ومن بين الشخصيات: الجمل (رجل يضع قناعاً على شكل جمل)، والعروس التي تركب على الجمل، تليها عروس أخرى، والدب (رجل يضع قناعاً على شكل دب)، والموظف، وجامعو الضرائب، ثم يبدأ هؤلاء جميعاً بإغاظة واستثارة الجمهور. وتعتبر مسرحية الرجل الجمل التي تؤدى في توقات في قرية Turhal - Ulutepe، مشابهة لهذه المسرحية من حيث الشخوص كالجمل، والعرائس، والناس الراغبين بشراء الجمل، والرجل الذي يريد خطف العرائس، الخ

 1.3 مسرحيات الحصاد:

1.3.1. مسرحية زيارة سايا:

سايا هو الإسم الذي يطلق على الشخص البسيط، كالراعي أو الدرويش، وهو يزور جميع أصحاب القطعان، في الوقت الذي تولد فيه الحملان ليجمع الهدايا منهم. مهرجان سايا عبارة عن مسرحية تؤدى عادة في أيام وأمسيات معينة من السنة، يرافقها عزف الموسيقى، وزيارة البيوت، وجمع الطعام، ومن ثم تقديمه للناس ليأكلوه مجتمعين. وتعرف مسرحيات زيارة سايا بأسماء أخرى منها الذئب، رنين الجرس، Davar Ozu ، و Tore Devsirme، و Devsirme Derme. وترتبط المسرحية أيضاً بتزاوج الأغنام16، حيث يحتفل القرويون في قريتي Sivas  وSarkisla  بتزاوج الأغنام في النصف الأول من شهر نوفمبر17. وعلى الرغم من أن هذه المسرحيات تؤدى بطرائق مختلفة، يبقى غرضها هو الأمل في قضاء السنة الجديدة القادمة بالوفرة والخصوبة.

تُصبغ الأكباش في هذه الاحتفالات بألوان مختلفة، وتوضع طفلة صغيرة وليدة على ظهر الكبش، أملا في أن يكون الحَمَل الوليد أنثى، ويتوجه القرويون بالدعاء أن تلد الأغنام الكثير من الحملان.

1.3.2الثَوْران:

نجد احتفالات الجمل والثورين في الأماكن الزراعية، كاحتفالات نهاية الموسم، لإسدال الستار على أعمال الحصاد، وفي المسرحية التي تقدم في منطقتي كيركلاريلي وأيدين18، يُربط نير في رقبة الثورين، ويُشدّ على ظهرهما قطعة من الخشب، ثم يقتادهما ممثل يؤدي شخصية العربي، ويسير أمام الجميع رجل عجوز ينثر القمح أو الشعير، من جعبة يحملها على ظهره، على الأرض ، ويحاول “العربي” ضرب المشاهدين من خلال حشرهم أولاً في النير، وتنتهي المسرحية عندما يغادر العربي والثوران المكان.

 1.3.3 مسرحية الرجل الميت:

وجد المؤرخون أن مسرحية الرجل الميت كانت تقام في القرى التابعة لمقاطعتي هاسيلار وديفيلي، في إقليم قيصري، في الأعراس التي كانت تقام بعد انتهاء موسم الحصاد19. و المسرحية عن عائلة تظن أن أحد أفرادها قد فارق الحياة، بينما هو في الحقيقة تعرض لنوبة قلبية... يأتي الأطباء ويعالجونه، ثم تتعرض فتاتان للخطف من قبل اثنين من المتفرجين، فتتتبع الكلاب أثرهما حتى يُعثر عليهما، وتقدَّم كل أحداث المسرحية عن طريق الاحتفال والترفيه الجماعي والتفاعلي.

 1.3.4    مسرحية الغزال:

في هذه المسرحية، والتي تقام في منطقة توقات20، يتنكر الممثل في زي غزال ويضع قرني غزال على رأسه، ومرآتين مستديرتين على عينيه، ويبدأ بتأدية بعض الرقصات، ثم لا يلبث أن يستلقي على الأرض ممثلاً دور الميت، ثم يظهر وكأن الساحر ردّه حياً. يستدعي التوحد بين الغزال والمرآة، التي تمثل الشمس، أساطير الشمس عند الحثيين.

1.4 مسرحيات الاحتفالات والمناسبات:

1.4.1. مسرحية تولو تاباك:

يقدم الحرفيون في باليكسير هذا العرض في الأعياد الوطنية، والأعراس، والمهرجانات، والاحتفالات21، حيث تقوم مجموعة من 10 أشخاص على الأقل بارتداء جلود الخراف والماعز، ووضع القبعات الجلدية، وحمل مغطاة بالجلد، ثم يعلقون على أعناقهم أجراس الأبقار الكبيرة، ويهاجمون الجمهور، ويقوم قاض بامتطاء حمار بالمقلوب، أمام الجمهور، ويبدأ برش الماء على الذين لا يدفعون أُعطية، مستخدماً طرف العصا الملفوف بالجلد. وقد أطلق على المسرحية اسم “تاباك”، أي دباغة الجلود، لأن حرفيي صناعة الجلود (الدباغين) هم أول من قدمها، وكانوا يصنعون أقنعتهم  التي يرتدونها في المسرحية من الجلد.

 1.4.2 الماعز المتجول:

يقام احتفال الماعز المتجول في قرى إزمير قبل مراسم الختان22، حيث يقوم ممثل متنكر في زي العروس، وماعز وضعت عليه الزينة، وحمار يحمل لوحات معدنية تتدلى من سرجه، وتصدر صوتاً عالياً،  إضافة لبعض الحراس، بالتجول في أرجاء الحي، ويقوم القرويون باستثارة الجمهور، ويحاولون خطف العروس أو الماعز، فيقوم الحراس، الذين يرتدون الزي العربي، ويضعون أقنعة على شكل الشياطين، بالتدخل ملوّحين بالعصي التي يحملونها. يبدأ الحفل في ساحة القرية، وينتهي عندما يصل الممثلون والجمهور والصبي الذي سيتم ختانه إلى البيت الذي سيتم ختانه فيه. ويعد الماعز من أهم الحيوانات لدى البدو الرحل، ويحتل مكاناً مرموقاً في الأساطير القديمة. ويظهر من خلال هذه المسرحية امتزاج الطابع الإسلامي، وتقاليد الشامان في العصر الجاهلي، والتقاليد الوثنية، لتشكيل ثقافة متعددة الوجوه.

 1.4.3 مسرحية عربية:

تؤدى هذه المسرحية عادة في الأنضول من قبل القبائل التركمانية من مدينة سيد غازي في أسكيشيهر23، ويظهر في المسرحية ممثل يرتدي ثوباً طويلاً جداً، ويعلق على ظهره مكنسة، ويداه وقدماه مصبوغة بالأسود، وكذلك وجهه، ويردد بصوت مرتفع لازمة يظل يكررها، وهو يتحرك ذهاباً وإياباً، مع إيحاءات بالغضب، وهو يزبد ويرعد، ويلجأ لمهاجمة وتخويف الأطفال والمشاهدين، ويؤدي حركات راقصة متوافقة مع إيقاع الموسيقى. وهذه الشخصية ذاتها، العربي «الذي يتشح بالسواد»، نجدها تؤدى على المسرح في العديد من المسارح الأوروبية، والتي تقدم على أساس أن العربي شخصية مغربية، وهي شخصية مرتبطة بالجن الذي يخرج من النار، بل ويُعتقد بأنه سبب في استحضار العديد من الجن.

 1.4.4 مسرحية الجمل:

تؤدى مسرحية الجمل24في مدينتي أيدين، وكربوزولا، وفي جو صاخب من قرع الطبول والأبواق،  يظل الممثلون الذي يؤدون دور الجمال العربية يطوفون أمام الجمهور لفترة من الوقت، ويحاول الكل لكز الممثلين المتنكرين بزي الجمال، وجعلهم يشعرون بعدم الارتياح، ثم يتم إطلاق مواد متفجرة تحت الجمال، أو إشعال نار مما يجبر بعض الجمال، «الممثلين» على الوقوف، و تبدأ الجمال التي تقف على وجه السرعة بمهاجمة من يحيط بها، وتدخل الأسواق المفتوحة، فتحصل على الهدايا التي يقدمها لها أصحاب المحلات، ثم يأتي الجمل أمام عازفي الأبواق والطبالين، ويلعب دور البطل الأسطوري كوروغلوا زيبك في وتيرة بطيئة، وتنتهي المسرحية.

 1.4.5 مسرحية Elekcioglu:

 تدور المسرحيات التي تصور نهج الطبيعة في كثير من الأحيان  حول الثنائيات، مثل الخير والشر، الجميلة والوحش، الخ، ومسرحية Elekciogluالتي تؤدى في محافظة يوزغات، ما هي إلا مثال نمطي على هذا النوع من المسرحيات25، وتتضاد فيها شخصيتان، هماElekciogl  وKenanoglu ، فنجد  وجه الأول معفراً بالطحين، ويرتدي زياً بالياً، ويضع وسادة على صدره تتدلى منها الأجراس، أما الشخصية الثانية، فتمثل، بكل مزاياها، شخصية هيكتور، فنجده متأنقاً ساحراً..... وجميع أحداث المسرحية تقود لنهاية يقتل فيها Elekcioglu بسبب الغيرة.

 1.4.6 مسرحية القاضي:

في مسرحية القاضي، التي تؤدى في  مدينة توقات، طقوس ومضامين تشتمل على اختطاف العروس، ومظاهر الموت والبعث، ضمن إطار من المتعة والتسلية26؛ يتحلق الجمهور حول الممثلين في الشارع، وتدق الطبول تصاحبها أصوات الأبواق، ويحضر الجمهور والممثلون طعاماً، يتجمعون ويتناولونه معاً، ويجلس الممثل الذي يؤدي دور القاضي، يرتدي على وجهه قناعاً مصنوعاً من شعر الماعز، وعلى رأسه عمامة. وعندما تتعرض العرائس للخطف، يتظاهر القاضي بأنه مات، ليعود وكأنه يعود للحياة من جديد. أما أصحاب الأذرع الحمراء، الذين يقع على عاتقهم حماية النساء، فيقومون بتحريك أذرعهم الطويلة ومطاردة الناس، وارتجال إشارات وحركات مضحكة مسلية.

1.4.7 احتفال المطر:

مسرحيات احتفالات المطر، مسرحيات قائمة على الشعائر والطقوس، منتشرة تقريباً في معظم مناطق تركيا، وتؤدى في العادة بعد فترات الجفاف.  

لقد أجرى الباحث التركي إلهان باسجوز بحثاً حول أصول احتفالات المطر، وظاهرة دمية المطر، ويذكر أن كلمة “comce” تعني في اللغة التركية القديمة “الشرغوف” وعروس المطر التي تظهر في احتفالات المطر، وهي عبارة عن دمية اصطناعية ترمز إلى الشرغوف الذي يظهر مع المطر27. وللضفدع مكانة بارزة في الأساطير التركية، ووفقاً للأساطير التركية عندما يبدأ الضفدع بالتحرك، يداهم الفيضان.

 1.4.8 طائر الكركي الأوراسي:

إن مسرحية طائر الكركي الأوراسي مسرحية شائعة في منطقة أرضروم، ونجد فيها إشارات جلية لنظام الطوطم الوثني، وهي أيضاً مسرحية فولكلورية راقصة، وفيها نشاهد زوجا من طيور الكركي، يصفقان بأجنحتهما، ويتغازلان، مما يفضي إلى مشهد تمثيلي لتزاوج الطيور، وفي بعض الأحيان يستبدل طائر الكركي بالدجاج أو بالحمام28.

 1.4.9  رجل بوجهين:

في قرية مانيسا ملدان، في المسرحيات الفولكلورية29، ويقوم الفنان المؤدي بإلصاق دمية في ظهره بنفس حجمه، وبمساعدة الخيوط المربوطة في يدي ورجلي الدمية، من طرف، ويديه ورجليه، من الطرف الآخر، تقوم الدمية بنفس حركاته ، فيظهر وكأن اثنين من الفنانين، يرقصان على المسرح معا، ويقومان بنفس الحركات.

1.4.10  عاشق ومعشوق:

ما زالت هذه الرقصة تقدم في المناطق الوسطى في الأناضول، حيث يُستخدم الجسم البشري قناعاً30، فيتم رسم وجه على الصدر العاري للممثل. ويبدو الرجل وكأنه يقف ويداه مغلقتان خلف رقبته، ويتم رسم الفم على مكان السرة، والعينين على الثندوتين، والطريف أن الوجه المرسوم يمكنه أن يؤدي الكثير من الحركات مع حركة جسم الممثل، فيمكن أن يظهر ضاحكاً أو عابساً، ويمكن للوجه أن يظهر كرأس لوحده باستخدام كيس يغطي رأس الممثل ورقبته، حتى الإبطين.

 الخاتمة:

وختاماً، تزخر تركيا بحياة متعددة، لأنها كانت دائماً، ومازالت، نقطة مرور وتفاعل بين الحضارات، ويمثل تكامل تركيا الثقافي، الذي شكلته عوامل الزمن والجغرافيا منذ آلاف السنين، كل المجموعات الإثنية التي عاشت وتعايشت في إطار المكان والزمان، ولا يمكن لبيئة ثقافية أحادية أن تهيمن في تركيا، لأن الثقافة لا تستمد من مصدر واحد، بل يمكن القول بأن الموروث الثقافي التركي استفاد من ميراث العديد من الثقافات، وتمثلها خير تمثل، مثل الحضارة المصرية القديمة، وحضارة بلاد ما بين النهرين، والحضارات الرومانية واليونانية والبيزنطية، ولا ننسى المسار الحضاري الإنساني الشامل الذي اكتسبته تركيا منذ أن كانت آسيا الوسطى. 

وعلى الرغم من أن تجسيم وتصوير جسم الإنسان، أصبح أمراً محظوراً منذ دخول تركيا في الإسلام، فقد واصلت الاحتفالات والشعائر الدينية أداء طقوس الحضارات الماضية عبر الأشكال المختلفة للدراما، وفي هذه العروض الدرامية التي تخدم غرض الترفيه، تبرز جوانب الحياة الريفية بكل وقائعها وملامحها، مثل الموت، والولادة، والخصوبة.

وترمز هذه الاحتفالات، التي تجري عادة خلال أشهر الشتاء، إلى الموت وإعادة إحياء الطبيعة،  وتجسد الظواهر الطبيعية، عبر ما يقدم فيها من طقوس. وتشترك جميع الطقوس، والحبكات الدرامية والأحداث في كونها تخدم أغراضاً اجتماعية، تسعى لتوحيد الناس في المجتمع وتقديم الإرث الثقافي للأجيال القادمة.

 

الهوامش والمراجع

 

1: Yinger 1980, 21.

2: Önder 1999, 17.

3: Eliade 1964, 5.

4:Maenchen-Helfen 1973, 282

5: And, 2007, 91.

6: Emigh 1996, 37.

7: Boratav 1988, 75.

8: And, 2007, 325.

9: Düzgün 1999, 26

10: Öztürk, 2009, 78.

11: Karakurt, 2011, 86.

12: İnan 1972, 44.

13: Artun 1993, 14.

14: Karadağ 1978, 22.

15: Tekerek 2007, 83.

16: Tekerek 2007, 72.

17: Tekerek 2007, 80.

18: And 2007, 525.

19: And 2007, 200.

20: And 2007, 223.

21: Aydın, 2010, 3.

22: Kınık, 1979, 198.

23: Eskişehir Valiliği’nin internet sitesinden alınmıştır.

24: Uyguç 1998, 37.

25: Tekerek 2007, 78.

26: And 2007, 233.

27: Başgöz 1986, 17.

28: Tekerek 2007, 73.

29: And 2007, 522.

30: And 2007, 523.

- And M. Oyun ve Bügü, Türk Kültüründe Oyun Kavramı, Yapı Kredi Yayınları, İstanbul, 2007.

- Artun E. Cemal Ritüeli ve Balkanlardaki Varyantları, Kültür Bakanlığı Halk Kültürlerini Araştırma ve Geliştirme Genel Müdürlüğü Yayınları, Ankara, 1993.

- Aydın D. Ş. Balıkesir’de Bir Köy Seyirlik Oyunu: Tülü Kabak, 4. Halk Kültürü Araştırmaları Sempozyumu, Antalya, 2010.

- Başgöz I. Çömçe Gelin-Bir Anadolu Yağmur Töreninin Kökeni ve Dağılımı Üzerine Bir Araştırma, Folklor Yazıları, İstanbul, 1986.

- Boratav P. N. 100 Soruda Türk Halk Edebiyatı, İstanbul, 1988.

- Düzgün D. Erzurum Köy Seyirlik Oyunları, T.C. Kültür Bakanlığı Yayınları, Ankara, 1999.

- Durgun C. Karakoncilo Καλικαντζάρουσ Değildir, Turan, 9, 2010.

- Emigh J. Masked performance: The play of self and other in ritual and theatre, Phillidelphia: University of Pennsylvania Press, 1996.

- Eliade M. Shamanism: Archaic Techniques of Ecstasy, London, 1964.

- Inan A. Tarihte ve Günümüzde Şamanizm, Ankara, 1972.

- Karadağ N. Köy Seyirlik Oyunları, Türkiye İş Bankası Yayınları, Ankara 1978.

- Karakurt D. Türk Söylence Sözlüğü, İstanbul, 2011.

- Kınık A. B. Bademler Köyü Folkloru ve Etnografyası, Hacettepe Üniversity, Faculty of Social Sciences, Unpublished Thesis, 1979.

- Maenchen-Helfen O. J. The World of the Huns: Studies in Their History and Culture, Ed. M. Knight, Los Angeles: University of California Press, 1973.

- Önder A. T. Türkiye’nin Etnik Yapısı, Ankara, 1999.

 

- Öztürk Ö. Folklor ve Mitoloji Sözlüğü, Ankara: Phoenix Yayıncılık, 2009.

- Tekerek N. Köy seyirlik oyunları, seyirlik uygulamalarıyla 51 yıllık bir amatör topluluk: Ankara deneme sahnesi, Tiyatro Araştırmaları Dergisi, 24, 67-124, Ankara, 2007.

- Uyguç A. Dünden Bugüne Karpuzlu, Aydın: Güneş Matbaası, 1998.

- Yinger J. M. Ethnicity: source of strength? source of conflict?, New York State University, 1980.

أعداد المجلة