فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
2

منزلة الثقافة الشعبية في الأوساط العربية

العدد 2 - آفاق
منزلة الثقافة الشعبية في الأوساط العربية
كاتبة من تونس

 

رغم الجهود التي بذلت في الدفاع عن الثقافة الشعبية والفولكلور والسعي إلى رد الاعتبار إليها وقد قام بذلك علماء أجلاء نكتفي بذكر عبد الحميد يونس منهم في كتابه المشهور”دفاعا عن الفلكلور”وقد واصل بعده بعض تلاميذه هذه الجهود التي تسعى إلى إحلال الثقافة الشعبية المنزلة التي تستحقها ،فإن الواقع يؤكد أنها ثقافة غير معترف بها رسميا يكفي في ذلك أن نشير إلى غيابها في المؤسسات الر سمية القائمة على التعليم في مستوياته جميعها.بما في ذلك التعليم العالي.ولا يتوقف الأمر بإقصائها من برامج التعليم فقط وإنما يصل الأمر إلى تهميشها في مستوى البحوث العلمية التي تنجز في الجامعات ،فإنك متى رجعت إلى فهارس الأطروحات في الجامعات العربية وجدت حظها ضئيلا بل ربما منعدما في بعضها.وذلك رغم قبولها في بعض الأوساط والمجتمعات والمجالس متى لم تتعد الإلقاء الشفوي .والدول التي حاولت وزارات الثقافة فيها أن تجمع المتون التي تمثل تلك الثقافة قليلة وما جمع منها لم يحظ بما هو جدير به من الاهتمام من حيث دقة التوثيق وتعدد الحوامل للاستفادة منها.

فكل هذه الجهود إذن لم تغير من نظرة المجتمع والثقافة العالمة إلى ما يسمى بالثقافة الشعبية أوالفولكلورأو التراث والفكر الشفوي عموما.

فكثيرا ما نظر الدارسون إلى كل ما هو شفوي غيرمدون على أنه مرتجل واعتباطي ويفتقد إلى الموضوعية والدقة العلمية وظلت هذه الأحكام تلاحق الشفوي في مختلف مجالاته من أدب أو شعر أوحكاية أو أمثال تتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل وتلوكها الألسن كل لحظة.ولئن عدت ثقافة حية تخاطب جوانب الحياة فينا وتعبر عن أصدق مشاعر الانسان وأحاسيسه يستعذب السامع بمختلف مستوياته الاستماع إليها وتشده بما فيها من صدق المشاعر ونبل الأحاسيس إلا أنها ظلت إلى زمن غير بعيد ثقافة العامة أو الشعب البسيط لا تتجاوزالأحياء البسيطة لكل البلدان ولا يمكنها بأي حال من الأحوال أن ترتقي إلى مصاف العلوم المكتوبة والآداب المدونة الراقية التي يتناقلها العلماء والباحثون وطلاب المعاهد والجامعات في كل بلاد الدنيا.من هنا يأتي السؤال الجوهري: كيف لنا أن نستمتع بسماع هذا الراوية ونسحر بما يلقي هذا الشاعر ولا تعترف الأوساط العالمة والمؤسسات الأكاديمية بهما وفي الآن ذاته قد نلقي بالكثير من الآثار المدونة المكتوبة بالفصحى في رفوف نائية لا تصلها الأيدي ولا يكترث لوجودها هناك أي طالب؟ أليس من متناقضات الأمور أن نستمتع بفن شعبي ما فيما بيننا وبين أنفسنا ونطرب له في بعض المجالس ثم نكتفي بالحكم عليه أمام الناس بأنه شعبي بسيط وشفوي لايرقى إلى أشكال الثقافة العالمة؟ لماذا ظلت الثقافة في حضارتنا إلى عهد غير بعيد مرتبطة بالفصيح والنخبة المتعلمة الأكاديمية منفصلة عن الشعب وكأن الشعب لايمكن أن يخلق ثقافة بمواصفات مغايرة ولكنها تظل في نظر الكثيرين ثقافة شعبيةلاتستجيب لمواصفات الجودة والإبداع والفنية؟لماذا كان ينبغي أن ننتظر طويلا حتى تتطور الدراسات الانثروبولوجية والفلسفية لتعيد الاعتبارلكل فئات المجتمع وتحاول دراسة كل أثر من الآثار الانسانية التي بها تتحقق هوية المجتمع وتتأسس عراقة الشعوب وتتميز وتحقق ذاتها في اختلافها وتميزها عن غيرها؟ماهي المعايير التي ينبغي أن نحتكم إليها لنحكم على أثر ما أنه جيد أورديء؟ هل يكفي وصف نص بأنه شفوي أو عامي أو باللغة الدارجة لقوم من الأقوام لنحكم عليه بالدونية ونصرف النظر عنه ؟

إنها جملة من القضايا طرحها باحثون من مختلف أنحاء العالم سعيا منهم إلى إعادة الاعتبار إلى كل ما هو إنساني صادر عن الناس وظل حيا إلى أيامنا هذه رغم أنه لايستجيب ربما كليا للمعايير الأكاديمية الدقيقة والمناهج التعليمية الصارمة التي تصنف العلوم إلى خاصة وعامة.

وقد كان هذا المبحث من المباحث التي شغلت علماء الانثروبولوجية وعلماء الأدب واللسانيات فقد حاول كل منهم أن يعالج القضية من زاوية معينة تحاول درس الأثر ومعرفة الأسباب التي جعلته يصل إلى يومنا هذا وتتناقله الأجيال. وكان السؤال الجوهري:

هل يمكن أن يبلغ الشفوي المنقول عن العامة والناس العاديين درجة من الجودة تخول له الخلود والاستمرار إلى يومنا هذا؟

لقد شغل هذا المبحث الثقافات الانسانية المختلفة.فأشعار هوميروس وملحمة الإلياذة والأوديسة شغلت اليونانيين قديما وجعلتهم في حيرة متواصلة:

هل هذا النص الرائع شفوي أو مكتوب ؟

وهل يمكن لأثر شفوي أن يكون بهذه الجودة والإتقان ؟

هذه الأسئلة لم  تبتعد كثيرا عن دارسي الشعر الجاهلي الذي لا يختلف اثنان في قيمته وجودته وتردد كثيرا في أوساط النقاد أنه شعر كان يروى ويتناقل ويحفظ وأن الصورة التي وصلتنا عنه اليوم هي حتما صور قدأصابها تغيير كثير نتيجة الروايات المختلفة والتدوين ولكن الثابت دوما أنها أشعار  جميلة بلغت درجة من الروعة والفنية جعلتها تنتزع الاعتراف بها انتزاعا من أفواه النقاد والشعراء ومختلف المتلقين.1

ولو عدنا إلى مصطلحي “شفوي”و“مكتوب”لتبين البون الشاسع في الحقل الدلالي بين المجالين فكثيرا ماارتبط الشفوي في أذهان الناس بكل ما هو مرتجل لا تفكير عميق يصحبه متسرع يفتقر إلى الروية والاتزان والتعقل ولذلك كثيرا ما يمثل خطورة لمتعاطيه لأنه لايحتمل التصحيح والمراجعة كما هو الشأن في المدون المكتوب والموثق المحقق.

وقد كان للشفوي أنصار يدافعون عنه ويحاولون حمايته من هيمنة المكتوب ورأوا فيه صدقا وارتجالا طبيعيا حميميا يفتقر إليه المكتوب المحنط البارد الذي لاروح فيه ولا مشاعر وأحاسيس.

ولئن كان الموقف من الشعبي لا يخص الحضارة الاسلامية وإنما هو موقف اتخذته معظم الحضارات تقريبا وحاولت تفسيره فإنه لا شك أن لموقف حضارتنا العربية الاسلامية بدورها أسباب وراء نبذها للثقافة الشعبية وإقصائها لدورها في بناء الفكر والمعرفة والعلوم الأساسية.

 

فما هي أهم هذه الأسباب؟

لا شك أن لهذه النظرة الدونية للثقافة الشعبية ولهذا الموقف العدائي منها أحيانا أسبابا عديدة:

السبب الأول: تاريخي لا تختص به الأوساط العربية وقد يكون آتيا من عهود بعيدة نظمت المجتمعات الاسلامية في سلم تراتبي يجمعه مفهوما الخاصة والعامة.وإذا عدنا إلى المؤلفات التاريخية القديمة وإلى مقدمة ابن خلدون منها على وجه الخصوص انتبهنا إلى جمهرة المعاني التي تغلف كل مفهوم من هذين المفهومين ويتأكد لدينا أن كل ما له صلة بالعامة ساقط في الاعتبار مغرق إلى حد التشبع في ما هو سلبي.

واتصل بهذا التصنيف الاجتماعي جملة من التصنيفات الفرعية التي    ساهمت في حشر الثقافة الشعبية في دائرة دونية ومعان سلبية.وفي  مواطن مختلفة من المقدمة يشير ابن خلدون إلى هذا الرأي ويتخذه قاعدة من قواعد العمران البشري وسمة من السمات البارزة في النوع الانساني ،على أساس منه رتب أمهات الصنائع ولم يخل حديثه عنها من الألفاظ والعبارات التي تؤكد هذا التراتب الذي تحدثنا عنه .ونكتفي مثالا على ذلك بالفصل الثالث والعشرين وعنوانه :“في الإشارة إلى أمهات الصنائع ”.

يقول :إعلم أن الصنائع في النوع الإنساني كثيرة لكثرة الأعمال المتداولة في العمران فهي بحيث تشذ عن الحصر ولا يأخذها العد إلا أن منها  ما هو ضروري في العمران أو شريف بالموضع فنخصها بالذكر ونترك ما سواها.فأما الضروري  فالفلاحة والبناء والخياطة والنجارة والحياكة. وأما الشريفة بالموضع فالتوليد والكتابة والوراقة والغناء والطب فأما التوليد فإنها ضرورية في العمران وعامة البلوى إذ بها تحصل حياة المولود وتتم غالبا وموضوعها مع ذلك المولودون وأمهاتهم وأما الطب فهو حفظ الصحة للإنسان ودفع المرض عنه ويتفرع عن علم الطبيعة وموضوعه مع ذلك بدن الانسان. وأما الكتابة وما يتبعها من الوراقة فهي حافظة على الانسان حاجته ومقيدة لها عن النسيان ومبلغة ضمائر النفس إلى البعيد الغائب ومخلدة نتائج الأفكار والعلوم في الصحف رافعة رتب الوجود للمعاني وأما الغناء فهو نسب الأصوات ومظهر جمالها للأسماع وكل هذه الصنائع الثلاث داع إلى مخالطة الملوك الأعاظم في خلواتهم ومجالس أنسهم فلها بذلك شرف ليس لغيرها وما سوى ذلك من الصنائع فممتهنة في الغالب2.

وقد سبق لنا في دراسة أنجزناها عن مفهوم البيان في النظرية البيانية العربية 3 أن وضحنا الأبعاد السياسية التي ساهمت في جعله أصلا جامعا ومصدر سلطة في مجتمع تداخلت فيه الأعراق وتجاورت الثقافات وتعددت الأصول.فكان لابد من أن تكون السيطرة على اللغة والقدرة على التحكم فيها مرجع القوة والسؤدد ومردهما.فلم يكن بالإمكان للعرب وقد دخلت تحت سيطرتهم شعوب ربما فاقتهم حضارة إلا أن يولوا البيان العناية التي ذكرنا وأن يعلقوا الغلبة والقهر باللسان وبالقلم قبل أن يعلقوها بالسيف والمال.

وقد ذكر ابن خلدون هذا المعنى بوضوح في الفصل الذي أشرنا إليه عن لغة أهل الأمصار وهو فصل استغل في الدراسات استغلالاً واسعاً لأهميته وعمق ما فيه من فكر ثاقب وفهم دقيق لمجريات التاريخ .يقول :“إعلم أن لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة أو الجيل الغالبين عليها أو المختطين لها ولذلك كانت لغات أهل الأمصار الاسلامية كلها بالمشرق والمغرب لهذا العهد عربية وإن كان اللسان العربي المضري قد فسدت ملكته وتغير إعرابه والسبب في ذلك ما وقع للدولة الاسلامية من الغلب على الأمم والدين والملة صورة للوجود وللملك وكلها مواد له والصورة مقدمة على المادة والدين إنما يستفاد من الشريعة وهي بلسان العرب لما أن النبي صلى الله عليه وسلم عربي فوجب هجر ما سوى اللسان  العربي من الألسن في جميع ممالكها واعتبر ذلك في نهي عمررضي الله عنه عن بطانة الأعاجم وقال إنها خب أي مكر وخديعة”4.

 وواضح في هذا النص طغيان مفهوم الأمة والجماعة والائتلاف على الفكر الخلدوني الذي يتحرك، لا شك، من مقولات كانت سائدة في عصره تربط السيطرة والغلبة وانتشارالدين بإقصاء الأقليات والتقليل من شأنها بل وضرورة الاحتياط منها وهي جميعها مدعوة إلى اعتناق الدين وتعلم حامله وترك ما عدا ذلك مما نشؤواعليه من أساليب في العيش وألسنة يتفاهمون بها. ومن السهل أن ندرك الاختلاف الكبير بين هذه الطريقة في التفكير وما تزخر به العصور الحديثة من ضرورة احترام الثقافات وحواملها والمحافظة عليها بغية إدماجها في مجموعة تغنيها وتفتح أمامها مسالك الإبداع المتأتية من التنوع الخلاق.5 فقد اتصلت بالخاصة مفهوم النخبة في كل المعاني. فهي الطبقة التي بيدها الحل والعقد في كل شيء.وهي الطبقة التي لها السيطرة بما توفر لها من معرفة وعلم وبما هي قادرة عليه من نحت معالم الثقافة العالمة التي بها يحكمون التصرف في شؤون الأدب واللغة والعلم وما إليها.

ولم تكتف هذه الطبقة بتفوقها الاجتماعي فأكدته أيضا بتفوقها في المعرفة واللغة. فمنها يأتي كل إنتاج فكري وإليها يؤول كل عمل فكري.

ولا شك أن هذه الحظوة الاجتماعية والفكرية لا تتم إلا بالتمكن من لغة المعرفة والعلم وهي اللغة العربية الفصيحة التي كانت من أدوات السيطرة المهمة لأن تعلمها والتمكن من أسرارها لا يتم إلا للمنتمين إلى هذه الطبقة بحكم أنها الوحيدة التي كان في مقدورها أن تتعلم وأن تقوم على إنتاج الثقافة التي تخدم سلطتها وتؤكد تفوقها.

ولعل هذا السبب التاريخي يعود إلى تصور قديم يفصل بين الكائن المفكر (homosapien)والكائن العام(homofaber) والظروف والعوامل التاريخية والميتافيزيقا القديمة بصفة عامة التي وضعت الانسان المفكر في درجة أعلى من الانسان العامل لجلالة الفكر وأهميته والمنزلة التي يحظى بها في الفلسفة القديمة.

ومن الأسباب اللافتة أيضا هو أن ظروفا تاريخية مهمة متعددة ربطت بين الطبقة الخاصة والفكر والطبقة العامة والعمل بالجوارح والعمل بصفة عامة أي الصنائع التي لا تحتاج إلى إعمال الفكر.

والنتيجة الحتمية لكل هذا هو أن كل شيء شريف ومهم لا يأتي إلا من الطبقة الخاصة التي تمتلك الفكر وبالتالي تمتلك أداة المعرفة.واستقر الرأي على أن الطبقة العامة أو الطبقة العاملة هي طبقة مقصاة من دائرة الفكر والعلم والمعرفة.

والنتيجة الثانية  لهذا التصور هي أن تصورهم للعلم بهذا النحو وتصورهم للمعرفة وتصورهم للثقافة قد ارتبط بهذه القسمة الثنائية التي تقوم على التفاوت والتراتب والفضل.

وبطبيعة الحال النتيجة الثالثة هو أن الثقافة لا يمكن أن تنتج إلا في صلة بالفكر والنخبة المتعلمة وقد استخلص ابن خلدون كل هذه المعاني ورتبها في أبواب يبدو فيها الفرق واضحا بين ما هو إنتاج فكري يقوم على  تنمية الملكات الطبيعية وترويضها وجعلها قادرة على إنتاج المعرفة وطبقة العامة التي يقوم عملها على الصنائع اليدوية ولا يعترف لها بفضل في هذا الإنتاج الذي تحدثنا عنه.

 

الثقافة الشعبية والثقافة العالمة

وحيث ارتبط الفكر بالمعرفة والتعلم وفي وضع تاريخي عرفته اللغة العربية هو وضع الازدواجية أي الفرق بين اللغة الرسمية واللغة اليومية الدارجة التي يقضي بها الناس شؤونهم اليومية ،ظهر مفهومان أساسيان هما مفهوم الثقافة العالمة الرسمية ومفهوم الثقافة الشعبية غير الرسمية التي تحملها اللغة الدارجة ولا يتجاوز فعلها الحاجات الطارئة اليومية التي يسدون بها ما يحتاجون إليه في قضاء شؤونهم.

وفي حالة هذه الازدواجية تصبح اللغة العربية الفصحى هي اللغة الجامعة في حين تشير اللغات الدارجة إلى التنوع والاختلاف.

ومن ثم كانت الفصحى لغة التعلم ولغة الثقافة ولغة الفكر أي اللغة الحاملة للثقافة “الحق”مع تهميش كل ما هو من إنتاج المخيال الشعبي الذي لا يرتبط بمقررات الفكر ويصنع أخيلة وتصورات ليست بالضرورة منسجمة مع مقتضيات الفكر وثقافته.

وهذا التصور للثقافة قد أدى إلى وجود بنية ثنائية في أطرافها تنويع يمكن إيجازه في ما يلي :

 

ثقافة عالمة               ثقافة شعبية

ثقافة فكر                ثقافة تهيؤات ومخيال

ثقافة رسمية           ثقافة غير رسمية

ثقافة مركز             ثقافة الهامش

 

وكرست هذه الوضعية جملة من الأفكار التي نرى أنها السبب في بناء هذه التراتبية.وتم انطلاقا منها الإقرار بأن الإنتاج الفكري الحقيقي لا يكون إلا بالفصحى.

ثم لا ينبغي أن ننسى سببا جوهريا لهذا الاعتبار وهو أن الفصحى هي لغة الجمع والائتلاف ولغة التراث الذي نحرص على بنائه والحفاظ عليه.

ثم إن اللغة العربية الفصيحة ارتبطت تاريخيا بالنصوص الأصول المؤسسة للاعتقاد وفي طليعتها القرآن.فتحولت إلى لغة رسمية بالمعنيين ،باعتبارها لغة طبقة وباعتبارها لغة طقوس مما زاد من سطوة المتعلمين إذ أصبحوا يجمعون بين العلم الدنيوي والعلم الآخروي.

ولا شك أن لارتباط الفصحى بالعقيدة أهمية قصوى في المنزلة التي تحتلها عند الناس.فلا شك أن اللغة العربية قد استفادت استفادة كبيرة من هذه الصلة بل ربما كانت تندثر كبقية اللغات القديمة لولا هذه الصلة الدينية التي قامت بدور مهم في المحافظة عليها واستمرارها.

يقول عبد الرحمان بن خلدون في فصل “في لغات أهل الأمصار” تأكيدا لهذا المعنى :“ولما تملك العجم من الديلم والسلجوقية بعدهم بالمشرق وزناتة والبربربالمغرب وصار لهم الملك والاستيلاء على جميع الممالك الاسلامية  فسد اللسان العربي لذلك وكاد يذهب لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسنةاللذين بهما حفظ الدين وسار ذلك مرجحا لبقاء اللغة العربية المضرية من الشعر والكلام إلا قليلا بالأمصار”6  مما يدل هذا على أننا نعرف في بعض البلدان الاسلامية التي لا تتكلم العربية أن الطقوس تتم بهذه اللغة ويحمل الناس أنفسهم على التحصيل على الحد الأدنى باللغة العربية الفصيحة التي تسمح لهم بأداء طقوسهم (حفظ السورللصلاة.الأدعية.الحج...) ومنهم من يؤدي ذلك أحيانا دون أن يفهم تمام الفهم ما يقول.

لكن هذه الوضعية أيضا كانت سببا من الأسباب الرئيسية في عدم الاعتراف بكل ما ينتج بالدارجة وربما في الفكرة التي ترى أن الإنتاج بالدارجة خلو من كل فن وإبداع.واعتبرت الثقافة الشعبية عموما ثقافة مخيال لا تضبطه حدود العقل وثقافة تهويم وإسرائيليات وكل مالا يستطيع العقل السيطرة عليه.

وهذه النظرة في ما نقدر هي التي غرست في لا وعي الجمهور الأعظم أن الثقافة الشعبية وحاملها (اللغة الدارجة)غير قادرة على إنتاج قضايا العقول والأدب الحق وكل ما هو شريف وجليل .ومن أدلة ذلك الحاسمة ما نلاحظه في أوساطنا العربية من:

- عزوف المؤسسات الرسمية بصفة تكاد تكون قطعية عن الاهتمام بهذه الثقافة . وقد وصل الأمر إلى أن كثيرا من مؤسسات البحث ترفض أن تكون هذه الثقافة موضوع بحث إلا في القليل النادر.

- الزهد في الأدب الشعبي واعتباره أدبا من درجة ثانية بل منهم من لا يعترف له بالقيمة الأدبية لأنها قيمة أدبية لا ترشح عن المعرفة والتعلم.

- استياء كثير من الأوساط من اهتمام بعض المؤسسات ووسائل الإعلام بهذا الشعر واعتبار ذلك صورة من صور التراجع والانحطاط.

- ذهاب كثير ممن يدعون بالمثقفين وهم يفسرون أسباب تراجع اللغة الفصحى إلى أن المسؤول عن ذلك هو التعايش بين الفصحى والعامية.

 

فهل الأمر في حقيقته على هذا النحو وبهذه الخطورة؟

إن التطورات الحادثة في المعارف والبحوث التي تناولت الثقافات على اختلافها وتنوعها ولا سيما تلك التي كانت على علاقة بعلم الإناسة والأنثروبولوجيا ساهمت مساهمة كبيرة في تغيير النظرة إلى الثقافة بوجه عام وإلى الثقافات المعزولة التي لا يتجاوز عدد المنتمين إليها المئات أحيانا.وأهم تغيير أدخلته هذه الدراسات سواء في المدرسة الفرنسية أوفي غيرها من المدارس تحويل زاوية النظر بهدم التراتبية القديمة التي كانت ترتب الثقافات مراتب متفاوتة وفق ما لمعتنقيها من قوة عددية وقوة اقتصادية وسيطرة على الحياة السياسية والحراك التاريخي بأن حولت المسار من بنية عمودية تقول بالمزية  والسؤدد والتفوق إلى بنية أفقية تركز على الوظيفة التي تؤديها تلك الثقافة بالنسبة إلى المجموعة التي تعتنقها.وإن كانت الوظيفة قاسما مشتركا أعظم بين الثقافات بحيث يصعب أن نتصور نظاما ثقافيا أونسقا ثقافيا خاليا من الوظيفة.بل بالعكس إن هذه الدراسات أكدت أن كل منظومة ثقافية مهما كانت بساطتها منظومة مبنية بناء محكما وفق علاقات ضبطتها كثير من هذه الدراسات وكشفت عن دلالاتها.وبالتالي فهي أنساق مليئة بالمعنى وتسد من جهة الوظيفة الحاجات التي ينتظرها منها معتنقوها.

فليست العبرة إذن في سطوة ثقافة وانتشارها وإنما العبرة في أن تقوم بالدور الذي جعلت لتقوم به.تتساوى في ذلك الثقافات السائدة المنتشرة والثقافات التي تعتنقها قبائل منعزلة في الأدغال الكثيفة التي يصعب الوصول إليها.

وعن هذه الطريقة في النظر روجت هذه الدراسات مفهوما يعتبر من أهم المفاهيم في العصور الحديثة وهو مفهوم الاختلاف.وهو في جوهره ينبني على هذا الذي كنا نتحدث عنه من كفاية النظام الثقافي للاستجابة إلى متطلبات الذين يروج بينهم ويعيشون في كنف متصوراته ورموزه .ومن مقتضيات الاختلاف الإقلاع عن التمييز بين الثقافات والاكتفاء في دراستها بالوظائف التي تؤديها.

ومن مقتضياته أيضا العزوف عن فكرة الثقافة المرجع التي على أساسها نـقـوّم الأنظمة الثقافية الموجودة. ومن مقتضياته أخيرا هجران علاقة الشبه التي تبني التراتبية إلى علاقة الجوار التي تنظر إلى مختلف الثقافات على أنها ثقافات متجاورة لا فضل لإحداها على الأخرى إلا بما هي قادرة على تأديته من أدوار ووظائف.

هكذا كان الاختلاف إقرارا باستقلال الشيء عن متصوراتناوعن أقيستنا و نظام التقويم السائد لدينا بحيث لا فضل لثقافة على ثقافة إلا بسد الحاجة وملء العوالم التي يجب أن تملأها.

ولا شك أن هذا النوع من البحث وهذا التمسك بالاختلاف والتنوع باعتبارهما عنصرين خلاقين يغنيان تجربة الانسان ويزيدهما عمقا واكتنازا كان حاسما في إحلال ثقافة الأقليات المحل اللائق بها والدفاع عن ضرورة المحافظة عليها باعتبارها عنصرا أساسيا في توازن الكيان وتناسق علاقة الإنسان بمحيطه بعيدا عن كل توظيف سياسي القصد منه إحراج المجموعات المؤتلفة بإثارة الدفين من النوازع والنعرات .وهو أمرلا علاقة له بما قامت به الدراسات الأنثروبولوجية من جهد في سبيل الإقناع بأن الإنسان هو الإنسان مهما شطت الديار وقربت المنازل.

ولا شك أن هذا لم يكن بدون أن تترتب عليه نتائج تهم العلاقة بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية .فلقد بدأت هذه الأفكار تكتسح الأسوار الصلبة التي أقيمت بين هاتين الثقافتين ودبت الخلخلة في الحدود اليابسة والصلبة التي أوهمت قرون من سيادة الثقافة العالمة وثقافة النخبة بأنها من طبيعة الأمور .ذلك أن هذا النوع من الدرس بدأ يراجع كل المفاهيم التي أفرزتها الميتافيزيقا القديمة والتي مهدت السبيل لسيطرة ثقافة الخاصة وثقافة النخب المتعلمة.

بالإضافة إلى هذه الأبحاث فقد قامت أبحاث عديدة في مواطن مختلفة بدراسة المخيال والأبنية الرمزية التي تعمر فضاء الانسان.

وأكدت أن هذه الثقافات المهمشة المقصاة ثقافات بعيدة الطموح كثيرة التحول وهي التي تبني بدرجة أساسية ذلك المخيال وتلك الأنظمة الرمزية بما في ذلك من ينتسبون إلى الثقافة العالمة التي تكتسب في المؤسسات الرسمية.

فالمخيال وما يبنيه من نماذج عليا مخيال واحد في كلياته عند المجموعة الواحدة سواء انتسبت إلى هذه الثقافة أو تلك.

بل إن الأبحاث الجارية اليوم تؤكد سيطرة هذا المخيال وجريانه في كل ما يقوم به حامله .وأن تأثير ذلك في الثقافة الرسمية تأثير بـيـّـن لا يمكن نكرانه.

وإذا نظرنا في المنجزات الثقافية هنا وهناك وجدنا نظاما في التصوير وفي رؤية الأشياء واحدا.وإن هو اختلف من جهة إلى جهة  فعلى قدر ما يرشح من ذاكرة اللغة . وهو أمر ليس هاما بالدرجة التي تسمح لنا بأن نفصل بين الثقافتين وأن ندعي أن لكل منهما موارد مختلفة .

فكل ثقافة تؤدي الدور المنوط بعهدتها.الثقافة العالمة والرسمية لها وظائف تقوم بها من أهمها المحافظة على الجمع والائتلاف ووحدة الانتماء إلى التراث والأمة وكل ما له علاقة بالمنجز الثقافي للحضارة العربية الاسلامية الذي وصلنا في صيغته الرسمية.

ولكن الثقافة الشعبية تقوم بأدوار هامة في حياة العرب المسلمين .فتحافظ هي أيضا على انتمائهم إلى تلك الثقافة وتلك الأصول وإن كانوا لا يعرفون العربية الفصيحة .فانتماؤهم ليس مرتبطا بمستوى اللغة.والحكمة تقتضي أن نفهم الوظائف المختلفة لكل مستوى من هذه المستويات وهي وظائف تتكامل ولا تتعارض والإقلاع عن ثنائية :الفكرـ اليد لأن في اللغة الدارجة أيضا أدبا رفيعا وخيالا خصبا وإن كانت بغير اللغة العربية الرسمية.

وهكذا تكون هذه البحوث قد ساهمت في رفع الحواجز والعوائق التي ساهمت في الإقصاء والتهميش وتنزيل الثقافة الشعبية في منزلة دنيا وسلب تلك الثقافة كل قيمة إلى درجة عدم الاعتراف بها.

وعليه فلا بد من مراجعة مواقفنا من هذه الثنائية مراجعة أساسية باعتبار ما غيرته الدراسات التي لم تكتف بهذا الفصل المبني على عوامل تاريخية وربما عقائدية لا تصمد أمام المراجعة والنقد.

وإن شئنا قلنا إن هذه المراجعة أصبحت متحتمة بحكم التحولات العميقة التي حدثت في الفلسفة الحديثة والعمل النقدي الهائل الذي بموجبه راجعت الميتافيزيقا القديمة التي بنتها الفلسفات الكلاسيكية انطلاقا من الفلسفة اليونانية.

فكل تغير في النظرية الفلسفية ورؤية العالم وتأويل ظواهره وأشيائه يدعونا إلى إعادة النظر في المسلمات التي انتهت إلينا بناء على أصولها المعرفية.

 

الهوامش

1 -انظر:كتابنا بلاغة المنطوق وبلاغة المكتوب ،دراسة في تحول الخطاب البلاغي من القرن الثالث إلى القرن الخامس للهجرة.مركز النشر الجامعي ،تونس 2005.

2 - ابن خلدون :المقدمة ،منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات،بيروت ،ص.405ــ406.

3 - انظر عملنا في نطاق شهادة الكفاءة في البحث وعنوانه :تصور العرب لعلاقة اللفظ بالمعنى وأثره في فهمهم للمجاز.بحث مودع بقسم الرسائل بكلية الآداب بمنوبة.تونس.

4 - ابن خلدون: المقدمة ص.379.

5 -  من أهم الوثائق التي برزت فيها الدعوة على التنوع والاختلاف باعتبارهما عنصرين إيجابيين يساعدان على فتح مسالك الإبداع أمام الإنسانية هو التقرير المشهور الذي أعدته لجنة بتكليف من الأمم المتحدة ترأسها الأمين العام السابق دي كويلار وضمت علماء مرموقين  نذكر منهم كلود لفي ستروس ،عالم الإناسة المشهور وبريقوجين عالم الفيزياء المشهور.وترجمه المجلس الأعلى للثقافة في نطاق المشروع القومي للترجمة تحت عنوان:”التنوع البشري الخلاق”ط.1997.

6 -  ابن خلدون :المقدمة ،الفصل الثاني والعشرون في لغات أهل الأمصار،ص.379.

أعداد المجلة