فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
24

العولمة .. والخصوصية الثقافية

العدد 24 - آفاق
العولمة ..  والخصوصية الثقافية
كاتب من لبنان

تعدّ العولمة من التحوّلات الكبرى في التاريخ، وممّا لا ريب فيه أنّ نتائجها ومؤثّراتها وفاعليتها قد طالت كلّ وجوه الحياة البشرية. فهي ليست اقتصادية أو تجارية حصرّا، إنها بالقدر نفسه تقنية، وسياسية، وثقافية، وإيديولوجية، لها قيمها ومعاييرها ومخطّطاتها. وهي تقوم بعمليات اختراق واسعة النطاق لكلّ البنى التاريخية والقومية والجغرافية والديموغرافية والاجتماعية والفكرية في العالم أجمع.

وتتبع طريقة عملاقة في إعادة التخريف على مستوى كوكبنا. وتتحرك في اتجاه توليد حقائقها اليومية بقوّة تناسب قوّة الدفع الاقتصادي والتسارع التقني والعلمي والإعلامي(1).
وتضع موضع البحث والتساؤل كلّ المعطيات التقليدية والأفكار الموروثة، والأنظمة الرمزية. وتثير جملة غير محدّدة من المفارقات والإشكاليات، وتشكّل شموليتها ومؤثّراتها وتداعياتها، بالنسبة إلى المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع، مجالاً رحبًا وملحًا للتبصّر، وللتأمّل مجددًا، وبطريقة أخرى، في جدلية الوجود الإنساني برمّته، وفي معنى الحياة والمصير، والأسس البنائية للحضارة والعلاقات بين البشر، والصراع بين النزعة المادية والروح المثالية.

ولا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى أنّ العولمة لا تُفرض قسرًا، فهي تلجأ لتحتلّ مركز التفكير الإنساني، بوصفه نسقًا ذا أبعاد ثقافية، إلى أساليب تثقيفية ناعمة. ولهذا يطلق الباحثون عليها تسمية «القوة الناعمة»، أو «الفاشية الجديدة التي تضع على وجهها ابتسامة».

أمّا الفئة الأكثر تعرّضًا لتيارات العولمة، وهدفًا لها، من خلال التعليم، والإعلام، واستخدام الكومبيوتر، وشبكة الإنترنت، فهم الشباب، لأنّهم بدافع الظهور بمظهر المعاصرة والحداثة، الفئة الأكثر تأثًّرا بأيّة تغيّرات حديثة العهد، والأشدّ ميلاً إلى استهلاك الثقافة المستحدثة والمصاحبة للعولمة، ولأنّهم عماد المجتمع في حاضره ومستقبله.

بعد مرور عقود عدّة على الانتشار التدريجي للعولمة في كافة أنحاء العالم، لا بدّ لنا من التفكّر في مفهومها، وزيادة مدى الوعي بظواهرها وتأثيراتها، لتكوين وجهة نظر موضوعية تجاهها، ولاستيعاب قوّة متغيّراتها، واختيار الوسائل الأساسية لمواجهة تحدّياتها، لنعرف تمامًا ما يجري في العالم، لندرك أين نحن منه، ونحدّد موقعنا الفعلي على خريطته، خصوصًا وأنّ المنطقة العربية، التي تحتلّ مكانة حيوية في العالم، بسبب ثرواتها النفطية وإمكاناتها البشرية، تعدّ من أبرز استراتيجيات الأطراف التي ستصيبها تحوّلات واسعة النطاق، في إطار العولمة الجديدة.

أولاً: هل العولمة قدر محتوم؟
تثير العولمة في حقيقة الأمر مفارقات جوهرية، واحتمالات مصيرية، وأسئلة كثيرة، وتولّد هواجس مستقبلية يحتار المرء كيف يتعاطى معها ويستدركها. فإذا كانت العولمة نتيجة للثورات العلمية والتكنولوجية المتلاحقة، أو حصيلة لتحوّلات كبرى في التاريخ، هل يمكن اعتبارها ظاهرة موضوعية شاملة، أو تيارًا جارفًا، أو مسيرة حتمية للبشرية، أو قدرًا كاسحًا لا مفرّ منه، ولا يمكن ردّه أو إبطاله برغبة ذاتية؟ ولهذا يستخدم بعض الباحثين للتعبير عن هذه الوضعية الحتمية للعولمة الألفاظ التي تدلّ على نفوذها الطاغي والسيادي، وحالة السلبية والضعف والتبعية التي عليها الكتلة الغالبة من الناس، فيقال على سبيل المثال: العولمة تغزو، تكتسح، تجتاح، تخترق العالم، أو أنها تسحق، تطمس، تدمّر، تلغي، تنفي الآخر. ومن التعابير المتداولة في هذا السياق يقال: «محدلة العولمة»، أو «مسلخ العولمة»، أو «فخّ العولمة»، أو «العولمة آلة غسل دماغ»، أو «دكتاتورية السوق والعولمة» (2).
أو بالمقابل هلّ بالإمكان مقاومة العولمة، أو العمل على تعديلها، أو تحويلها، أو استيعابها، أو تحدّيها؟
تتباين التيارات الفكرية والمواقف السياسية في نظرتها إلى العولمة، وفي ردّها على هذه الأسئلة:

1 – وجهات النظر المؤيدة للعولمة:
يعتبر المتحمّسون للعولمة أنّ هذه الظاهرة العالمية متغيّر مستقل، لا شأن للمجتمعات المحلية بتوجيهها أو الوقوف في وجهها، لأنّ ضروريات قيامها، وما أنجز في شأنها لا يمكن الرجوع عنه، أو تجاهله وإهماله، أو العودة به إلى حيث أتى، والمجتمع متغيّر تابع، ما عليه إلا إجراء التكيّف اللازم مع تحوّلاتها، لأنّها سمة العصر الحالي الذي نعيش فيه، واتجاه المستقبل إلى زمن غير معلوم، «وهي من قبيل الحتميات الاقتصادية والتكنولوجية الشبيهة بالأحداث الطبيعية التي لا يمكن الوقوف في وجهها» (3).وليس أمام الدول التي تبغي التقدّم إلاّ اللحاق بها وتقبّل تحدّياتها، وإلاّ ستتأخر، ومن يعترض مسيرة التاريخ سيخسر في نهاية المطاف.
ويؤكّد المتحمسون للعولمة، أنّ هذه الظاهرة الراهنة شاملة وسريعة، وواسعة النطاق، «وغدت تفرض قواعدها على الجميع من دون أن تترك لهم حرّية الاختيار، وشموليتها نابعة من سعيها إلى تسليع كلّ شيء» (4).ويصوغ رافعو رايتها شعارات طموحة ومثالية، ويدعون إلى التعامل معها دون قلق أو تردّد، لأنّها «تحمل مفاتيح المستقبل الأكثر إشراقًا للجميع»، ويصاحبها التقدّم، فهي تصبو إلى التعميم الكوني للتنمية، وشيوع المعرفة، والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة، وتشجيع الاختراعات، وتسهم في توطيد الديموقراطية، وزيادة التضامن والتواصل بين المجتمعات، وتعزّز الارتباط بين الدول من خلال عمليات التجارة الحرّة والأسواق المفتوحة، والمرونة في انتقال الأشخاص والسلع ورؤوس الأموال وتقنيات الإنتاج والمعلومات، وتتيح قيام مجتمع أرضي يدعم قيمًا مشتركة تحمل مضامين إنسانية ارتقائية. ويمكن لأيّ سياسة تبغي تنشيط العلم والتقنيات وتطوير الكفاءة الإنتاجية، أن تخلق فرص عمل جديدة، تسهم في تحسين مستوى الحياة، وزيادة النمو الاقتصادي.

وقد يرى الكثيرون أنّ عصر العولمة هو عصر الانفتاح، والتفاعل الإيجابي بين الحضارات، لا عصر الانغلاق والانعزال، لا سيّما وأنّ التأثير الناتج عن إيجابياته ليس أحادي الجانب، وإنّما مجموعة من الأبعاد المادية والفكرية والثقافية التي تتّسم بالحيوية، والتفاعلية، والمقدرة على اجتياز الحدود المكانية والزمانية بمنظورات جديدة، «فكلّ شيء صار موجودًا في كلّ مكان»(5).

2 – وجهات النظر المعارضة للعولمة:
بالمقابل هناك حركات وتيارات فكرية كثيرة مناهضة للعولمة، وفي كلّ مكان، وهي تدعو إلى مقاومة تداعياتها، ورفض التفاعل معها. وتعمل جاهدة على التشكيك بحتميتها وشموليتها، وعلى التشهير بعدم كفايتها وأخطارها المحتملة. إذ ليس هناك من مبرّر للاعتقاد بأنّ دور الدول القومية قد اضمحل، ولا تزال أمام الشعوب مجالات كبيرة لتحقيق أهداف وطنية تخدم مصالحها. إنّ ما يكتب عن الآثار الإيجابية المحتملة للعولمة يتداخل فيه الوهم بالحقيقة، والمبالغة بالواقعية، والأمل بالخيبة. فلقد تبدّت للعالم النامي نتائجها المريرة عن سراب وإحباطات، واكتشف الناس «خرافة العولمة العادلة»، وأساطير الليبرالية الجديدة، والوعد الكاذب بالتنمية الشاملة، وتأمين العمل للجميع، وحماية الفقراء، والعناية باليد العاملة.

لقد اتخذت العولمة، في أبسط معانيها، طابع سيطرة الأقوى على حساب الأضعف، وعدم التوزيع المتساوي لفرصها وثمراتها. فقد حقّقت صالح الدول الغنية المدعومة باقتصاد صناعي متطوّر، وبتقدّم علمي وتقني متين، على حساب الدول النامية. فتزايدت في العالم الفجوة بين الشمال الغني والجنوب الفقير. وقد يحوّل هذا التزايد العالم الثالث إلى «مستودع كبير لفقراء هذا الكوكب».
والملفت أن أبواب العولمة قد أفسحت في المجال أمام أيديولوجيا الرأسمالية الجشعة للسيطرة على العالم، والعمل على استنزاف ثروات الأرض، وتخريب البيئة الطبيعية، وانتهاك شرعة حقوق الإنسان ومبادئ الأمم المتّحدة. لذلك يتّجه بعض المفكرين إلى نعت قادتها السياسيين بـ«هوس السرقة»، ووصف شركاتها العملاقة بـ»جنّة الاختلاس»(6).
على هذا الأساس من الجشع والاستلاب الاقتصادي فإن النظام الدولي السائد مرشح لمواجهة صعوبات سياسية كثيرة، وتفجير أزمات اقتصادية ومالية خطيرة. وقد يكون السبب في تصعيد دوافع التوترات الاجتماعية في العالم، وازدياد موجات العنف والتعصّب الديني أو القومي بين الشعوب.

كما أن الوضعية الراهنة لا تعني أن تطوّرات دولية أخرى لن تحصل في العقود المقبلة، ربما تُغيّر كثيرًا مما يعتبره البعض آثارًا نهائية للعولمة. إن انتصار الرأسمالية المعولمة لا يعني أبدًا «نهاية الأيديولوجيا»، أو «نهاية التاريخ» التي تحدّث عنها فوكوياما في عام 1989. ذلك أنّ العالم على جانب كبير من التغيّر والتنوّع، وهو ينطوي على وقائع وافرة أكثر مما ينطوي على واقع وحيد. فهل يوجد معنى مضبوط بشكل نهائي لا يحتاج أبدًا إلى إعادة نظر؟

ثانيًا: أثر العولمة على الحياة الثقافية
تشكّل الثقافة مفهومًا واصطلاحًا وبمعناها الواسع «جماع السمات الممّيزة للأمة، من مادية وروحية وفكرية وفنّية ووجدانية، وتشمل مجموعة المعارف والقيم والأخلاق وطرائق التفكير، والإبداع الجمالي والفني والمعرفي والتقني وسبل السلوك والتعبير، ونمط الحياة، كما تشمل تطلّعات الإنسان للمثل العليا، ومحاولاته إعادة النظر في منجزاته، والبحث الدائم عن مدلولات جديدة لحياته وقيمه ومستقبله، وإبداع كلّ ما يتفوق به على ذاته» (7).

يبدو في ضوء ما تقدم أنّ الثقافة تشمل «كلّ ما أنتجه الفكر البشري من أشياء مادية أو فكرية (معنوية)»: العناصر المادية تعني ما انتجه الإنسان ويمكن معرفته بالحواس، أمّا العناصر المعنوية فتشمل أنماط السلوك والمعايير الاجتماعية والقيم والأعراف والتقاليد. ومن خصائص العناصر الثقافية أنّها مكتسبة انتقالية، تراكمية، وتكاملية، وتتّصف بالعمومية والثبات والاستمرار. فالثقافة على العموم، تشكّل فكرنا وتحكم سلوكنا. ولكلّ مجتمع ثقافته المحلية أو الوطنية أو القومية، التي تشكّل المعبّر الأصيل عن خصوصيته أو هويّته، وتعدّ نتاجًا طبيعيًا لخليط مميّز أسهمت في تكوينه عوامل جغرافية، وتاريخية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية، ودينية، عايشها ذلك المجتمع على مرّ الزمن. وتشكّل الثقافة الشعبية جانبًا مهمًا من تلك الخصوصية، لأنّها أشدّ اتصالاً بحياة الناس، وأوفى تمثيلاً لحال الأمة.

الملفت على هذا الصعيد أن العولمة قد تجاوزت مجال الاقتصاد والتجارة، وأصبحت تحتلّ مركز التفكير الإنساني، وهي تسعى إلى فرض ثقافة عالمية واحدة تسود كافة أنحاء العالم، وتؤدّي إلى إزالة تلك الثقافات الوطنية، وتطمس تنوّعها الحضاري، وتلغي خصوصيتها المجتمعية المحّلية أو القومية. ومن الأفكار المتداولة في هذا السياق أنّ الانتشار المتواصل والمبرمج، وعلى نطاق عالمي، لأنماط معيّنة من التفكير والسلوك، ومن أشكال الاستهلاك والترفيه والتسلية، بواسطة وسائل الإعلام والاتصال العابرة للحدود والأزمنة، سوف يقود إلى تدعيم مرتكزات «حضارة عالمية واحدة»، أو «قرية كونية متشابهة»(8)،تحمل طابع «العولمة الثقافية»، وتخضع «لمخطّط كوني مشترك للحداثة»، وتتمحور أنظمة العيش في أرجائها حول محاكاة النموذج السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمسلكي للغرب، وتتبع قيمه ومعاييره وتوجّهاته الحياتية، باعتباره يمثّل «ثقافة فائقة»، أي الثقافة الأكثر تقدّمًا وتميّزًا، وبالتالي الثقافة الأصلح والتي تناسب كلّ النّاس(9).إنّ ثمّة جهودا خارقة تبذل لإلحاق البشرية كلّها بركب حضارة معيّنة. لذلك يتّجه العديد من المفكّرين إلى وصف العولمة بـ»حضارة التنميط»، وبـ»العنصرية الثقافية المتغطرسة»(10).

ما هي أبرز مظاهر تلك العولمة التي تحمل سلوكيات اجتماعية، أو نماذج ثقافية دخيلة على المجتمعات المحلّية؟ وما أهمّية تداعيات تلك المظاهر على مكوّنات الشخصية الوطنية وثقافتها؟ وكيف تبرز في الواقع الحيّ؟

1 – العولمة الاستهلاكية:
تعمل العولمة، بوسائلها الإعلامية والإعلانية التعبوية، «على تسليع كلّ شيء». وتدفع الجماعات إلى «العيش ككائنات استهلاكية»، أي إلى تغليب ثقافة الاستهلاك وقيمها، على حساب قيم أخرى تشكّل الخصائص الممّيزة للوجود البشري الأصيل.

2 – السيطرة على أذواق الناس:
تتجلّى هذه السيطرة التي أصبحت على جانب كبير من الشدّة في ما يلي من الظواهر:
أ – انتشار النمط الأميركي في المأكولات والمشروبات والمعلّبات، من خلال سلاسل مطاعم الوجبات السريعة، وتعميم عادات الشراب والمرطبات الغازية.
ب – سيادة النمط الأميركي في الملبس، وتتمثّل هذه السيادة في ملابس «الجينز» والـ»تي-شرت»، أو في ارتداء القمصان التي تحمل حروفًا أو كلمات أو رموزًا أو صورًا أجنبية. وينحو هذا النمط من الملبس نحو إلغاء شخصية الفرد.
ج – انتشار الموسيقى الأميركية، ويتبدّى هذا الانتشار في أبسط مظاهره وأخطرها في نوع الموسيقى الإيقاعية الصاخبة، مثل موسيقى البوب، والراب...
د – طغيان النمط الأميركي في مجال اللهو والتسلية وبرامج الترفيه والإثارة.
هـ - إعطاء الإعلام صفة التسطيح والترفيه الاستهلاكي.
و – التركيز في مجال السينما والتلفزيون على أفلام العنف وصناعة الأوهام.
ز – نشر نماذج من العادات الغربية في الزواج والأفراح وغيرها من ألوان وفنون وأنشطة الحياة المختلفة.

3 – أمّا التأثير الجوهري للعولمة فهو:
 التغيير الذي يحدث على صعيد الفكر، والقيم، والأخلاق، والتنشئة، والعادات الاجتماعية، والاتجاهات السلوكية، من خلال تعميم هيمنة ثقافية مستلبة وهجينة(11).
ومن مظاهر هذا التأثير:
أ – تعاظم الانكفاء على الحياة الداخلية والفردانية، وتهميش القيم التي تحمل طابع التعاون، والعطاء والتضحية، لتحلّ محلها القيم المادية والفردية ونزعة الاستغلال والانتفاع، والاهتمام بالمظاهر على حساب الجوهر.
ب – تعميم مشاعر الاستسلام والدونية والتبعية لدى الشعوب التي تعيش في ظلّ أنظمة مهزومة ومرتهنة.
ج – الدعوة إلى تحرير الرغبات الإنسانية من كلّ ضوابط، لاستهلاك ما يشبع احتياجات الإنسان الغريزية.
د – انتشار ظواهر التفسّخ الأخلاقي والتفكك الأسري، والاتجاه نحو تحدّي العائلة والتمرّد عليها. وكثيرًا ما تتعلّق هذه الظواهر بانحلال في علاقات الفرد بالبيئة الاجتماعية.
هـ - الترويج لعادات أو «لصرعات» غريبة وخطرة في مجال المعتقدات والعبادات والشعائر الطقوسية، والأنظمة الرمزية.
و – اختفاء الوطنية كقيمة في السلوك، أو في علاقات الفرد بالأرض والبيئة الطبيعية.
ز – تهميش تراث الشعوب ووصفه بالجمود، والتخلّف. لا شكّ أنّ التراث الذي يحمل روح الثقافة الوطنية التقليدية على محكّ صراع كبير مع ركاب العولمة، وهناك مخاوف من أن يتقلّص أو يتلاشى.
ح – الترويج للشخصية التسويقية، إلى حدّ الرغبة في تسويق الذات كسلعة،(12) وحيث يرى الإنسان أنّه غريب عن نفسه وكأنّه قد نزع عن ذاته.
ط – مقاربة الآداب والفنون من زاوية التسلية والإثارة.
ي – السعي إلى تحقيق الوحدة اللّغوية، فقد أضحت اللّغة الإنكليزية بلهجتها الأميركية لغة حضارة العولمة.
ك – نشر روحية العجز والارتهان والعبثية في جميع أصقاع الأرض، ممّا يجعل الوجود الإنساني في حالة إخفاق وازدواجية قاسية، وفي حالة حصار مستمرّة.
إن المحصلة النهائية لهذا التأثير على أنماط عيش الشعوب سوف تؤدي، في نظر المعارضين للعولمة، إلى الاغتراب الثقافي، والاستلاب الاجتماعي والعقلي، أي إلى تحوّلات جذرية في بناء القيم، بحيث تصبح الثقافة الشعبية تنهل أسباب وجودها، وشخصيتها وهويّتها من مصادر غير وطنية، أي من مصادر غربية تعمل على تجيير التاريخ لخدمة أيديولوجيتها ومصالحها السياسية، ومن ثمّ الاقتصادية. ومما لا ريب فيه أنّ مثل هذه المحصلة سوف تسهم في إلغاء خصوصية الهويّة الثقافية للشعوب وتضعف إبداعيتها الذاتية وتوازنها الحياتي. وقد تُحدث في بنيتها الحضارية أشكالاً من التدمير الخلقي والنفسي، بحيث أنّ الخصائص المميّزة للوجود البشري تنحو نحو الاختفاء.

بالمقابل فإن «العولمة الثقافية»، في نظر بعض المفكرين، «ليست أكثر من قشرة رقيقة تغطّي أو تخفي التنوّع الكبير في الثقافات التي تشكّلت وترسّخت على مرّ التاريخ، وجميعها يوجد تحت تلك القشرة على نحو ما».(13) إنّ المجتمعات، في كلّ مكان، وعلى الرغم من الضغوط القويّة للحضارة الغربية، لديها مشكلة مع العولمة، وتتخذ إزاء مؤثّراتها مواقف متشنّجة تتّسم بالحذر والتمرّد والممانعة والشّك، ولا ترى في مظاهرها سوى شكلاً من أشكال السيطرة الأميركية على سائر الثقافات، وعدوانًا رمزيًا على حضارات الشعوب وتراثها وتقاليدها وثقافتها الشعبية، لا سيّما وأنّ الغرب، من وجهة نظر ماكس فيبر، ليس مثالاً جذابًا، أو بالأحرى لا يمثّل النموذج المثالي، لأنّ الأسس البنائية لمعالمه قد لا تتمشّى والأسس البنائية لبعض الحضارات، ومنها حضارة الشرق القائمة على أسس وثوابت تاريخية متينة. فالأفكار الغربية عن الفردية، والليبرالية، والديموقراطية، والعلمانية، ليس لها جاذبية كبيرة في الثقافات الإسلامية والكونفوشيوسية، واليابانية، والهندية.
لذلك فإن العولمة الثقافية ستكون عاجزة عن تحقيق أغراضها، وإلغاء التميّز وتنوّعه في العالم، إو إزالة السمات الجوهرية في البنية الثقافية الأصلية والعريقة للأمم، لما لتلك السمات من عمق في كينونتها يصعب الوصول إلى أغوارها وتغييرها. خصوصًا وأنّ الجماعات البشرية، بدافع حبّ البقاء والاستمرار وإثبات الذات، ترفض استلاب أي جزء من موروثاتها. وتسعى، بشتّى الوسائل، للمحافظة على تميّزها. والعديد منها يواجه العولمة بصحوة، أو بعودة إلى المزيد من البحث عن عناصر أصالته في جذوره التاريخية أو التراثية، أو الإتنية أو الدينية. إنّنا نشهد، في كلّ مكان، استنادًا إلى الوقائع، تمسّكًا للشعوب بخصوصيتها وثوابتها الثقافية، كمصدر لتوكيد هويّتها، وإعطاء معنى أو شرعية زمنية لوجودها، ويعدّ هذا التمسّك المعلم الأكثر إثارة أو لفتًا لكلّ الذين يسافرون أو يقرأون.
ويرى المراقبون أن استخدام آليات العولمة، المتمثّلة في تكنولوجيا الاتصال والإعلان، قد ساعد، أحيانًا كثيرة، على نشر الثقافة القومية للمجتمعات وتعزيزها، وأفسح في المجال للتعرّف أيضًا إلى تراثها ومعالم فولكلورها، ممّا أعطى وجهًا عالميًا للثقافات.

فالحضارات غير الغربية تحاول أن تصبح حديثة من دون أن تكون غربية أو مرتهنة، أو أن يطغى عليها ما تحصل عليه من العولمة (اليابان نجحت ربما)(14).
وإذا كانت المجتمعات النامية تريد التحديث، أو التجديد، أو الانخراط في مدارج العصر، فهي تعمل على أن يكون ذلك على طريقتها، وانطلاقًا من ثوابتها الثقافية ومدارها الحضاري، وليس على طريقة الأيديولوجيات الغربية. وهذا لا يعني أبدًا الرغبة في مواجهة الغرب، أو الأخذ بمقولة صدام الحضارات التي بشّر بها هنتغتون.

إنّ التفاعل الإيجابي بين ثقافات العالم، على أساس مبادئ الانفتاح، والحوار، وتقبّل التنوّع، يشكّل مصدر قوّة وازدهار للمجتمعات والأمم، ولا يضعف أصالتها، ولا يؤثر بحال على كيانها الثقافي بل يسهم في إثراء الحضارة الإنسانية. ولا بدّ أن نقرّ، من وجهة نظر أنتروبولوجية بوجود ثقافات تتكامل ولا تتصارع، ويشكّل التنوّع الذي تتجلّى به الأصل الذي يصنع غناها(15).فالعقل والعلم، كما كتب جيلبير دوران، لا يربطان الناس إلاّ بالأشياء، ولكن ما يربط الناس، فيما بينهم، وعلى المستوى المتواضع من السعادة والهموم اليومية للجنس البشري، هو ذلك المعرض الخيالي الذي تبنيه مملكة الصور، ويضمّ كلّ فروع الثقافات، ويجمع فنونها وأنظمتها الرمزية ومواضيعها الشعرية ومجازاتها وأساطيرها وأيقوناتها وتماثيلها وأحلامها. ويلتزم امتلاك طموح إقامة لوحة مركبّة من مخاوف النوع البشري وآماله. وذلك بهدف أن يعرف كلّ فرد نفسه فيها ويؤكّدها. وقد يكون ذلك المعرّض المعمّم العامل الرئيسي لإقامة الإخاء بين الثقافات، ولإعادة بناء توازن إنساني مسكوني حقيقي(16).

ثالثًا: الإبداع وعلائية الخصوصية الثقافية
ليس أمام الدّول النامية، للإسهام في بناء هذا التوازن الإنساني، والنهوض بمجتمعاتها، وإيجاد مكانة لها، تتناسب مع مكّوناتها الثقافية، على الساحة العالمية، إلاّ الانفتاح على معطيات العصر، والتكيّف المناسب مع التغييرات المتواصلة الناجمة عن التحديث. وهي تحتاج إلى مقاربة تلك التغييرات في إطار من الوعي الثقافي، والروح الناقدة، واليقظة إزاء العالم، للتصدّي: أولاً، وبشكل عملي وعقلاني للتأثيرات السلبية للعولمة، أو للحدّ من إشكالياتها وهيمنتها، كي لا تتسرّب العناصر الزائفة إلى عموميات الثقافة أو خصوصياتها، وللسعي ثانيًا إلى تطوير عاداتها المعرفية، والمسلكية، وأنظمتها الفكرية، لتطهيرها من عوامل التخلف، لتحلّ محلّها عناصر جديدة تتماشى مع التقدّم والترقّي، والتحصيل العلمي والتقني، والإبداعات الثقافية والحضارية(17).

ومن المفترض، في هذا المجال من العناية بالخصوصية الثقافية، وتطويرها من داخلها، الاعتماد، بشكل رئيسي، على العناصر الإيجابية من تراثنا الذي يميّزنا. باعتباره المحور الأساسي للحفاظ على هويّتنا الثقافية. ويكون لهذا الاعتماد الأولوية في التنشئة الاجتماعية والتربوية، «فالمواطنية هي انتماء إلى تراث وطني وتقاليد عيش مشترك»(18). وقد لا تستقيم أحوالها وتعزّز من دون الولاء لهذا الانتماء، والعناية بأسباب ديمومته وتطويره، باعتباره من مقوّمات وحدة الشعب، والإطار المرجعي لقيمه، والمصدر الطبيعي لإلهامه، للدخول من باب الإبداع إلى رحاب العولمة.

خلاصة القول إن عالمنا العربي، على محكّ تحدٍّ كبير، وأمام منعطفات وتحوّلات حرجة، ولا رهان على خصوصية ثقافية متقدّمة، ما لمّ تتوفّر لها مناخات حرّية واستقلالية سيادية، تسهم في التكوين المطّرد لطاقات الإنسان، وتفتيح ملكاته الإبداعية، لتفعيل القوى الإنتاجية للحياة الاجتماعية والإنسانية. الثابت أنّ المماثلة لا تبدع حضورًا مميّزًا، ويبقى المهم: «أن نبني لا أن نتبنّى».

الهوامش

1 - سَيار الجميل: العولمة الجديدة، مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت 1997، ص 15.
2 -  هانس-بيتر مارتين وهارالد شومان: فخ العولمة، ترجمة عدنان عباس علي، عالم المعرفة، ع (238)، ص9.
3 -  المرجع نفسه، ص 10.
4 -  مجموعة من الباحثين: الغرب وبقية العالم، مركز الدراسات الإستراتيجية، بيروت 2000، ص 200.
5 -  هانس-بيتر مارتين: فخ العولمة، ص 41.
6 -  جورج حجّار: العولمة والثورة، بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، بيروت 2000، ص 17.
7 -  المنظمة العربية للتربية والثقافة: الخطّة الشاملة للثقافة العربية، تونس 1990، ص 43.
8 -  هانس-بيتر مارتين وهارالد شومان: فخ العولمة، ص 11.
9 -  مجموعة من الباحثين: الغرب وبقية العالم، ص 28.
10 -  هانس-بيتر وهارالد شومان: فخ العولمة، ص 49. جيلبير دوران: الخيال الرمزي، ترجمة علي المصري، مجد، بيروت 1991.
11 -  عبد الرحيم أبوكريشة: التراث والعولمة، الثقافة الشعبية، العدد الثاني مايو 2000، ج(1)، ص 72.
12 -  أريك فروم: الإنسان بين الجوهر والمظهر، ترجمة سعد زهران، عالم المعرفة، ع(140)، ص 216.
13 -  إيناس حسن علي: العولمة والهوية والشخصية القومية، الثقافة الشعبية، العدد الثاني، ج(2)، أبريل 2002، ص 924.
14 -  مجموعة من الباحثين: الغرب وبقية العالم، ص 29.
15 -  عبد الرحيم أبوكريشة: التراث والعولمة، ص 122.
16 -  جيلبير دوران: الخيال الرمزي، ص 117.
17 -  كمال الدين حسين: التراث الشعبي بين العالمية والعولمة، الثقافة الشعبية، ع(1)، اكتوبر 1998.
18 -  المؤتمر الأوّل للثقافة الشعبية في لبنان: منشورات حلقة الحوار الثقافي، بيروت 1993، ص 8-9.

أعداد المجلة