فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
24

صناعة الخزف: سيرة الطين المغربي - مدخل إثنوغرافي

العدد 24 - ثقافة مادية
صناعة الخزف:  سيرة الطين المغربي - مدخل إثنوغرافي
كاتب من المغرب

منذ القدم والإنسان المغربي ينحت إبداعاته أنى شاء مقاوماً، بذلك، الخواء والابتذال والتلف والنسيان وضيق فساحات التواصل مع عوالم الذات حينا، ومصارعا لتحدي الطبيعة وإكراهات اليومي وإحباطات الزمن المر، حيناً آخر، وبحثا عن آفاق لتصريف طاقاته المختزنة أحيانا أخرى، هذه الطاقات التي يتأتى لها أن تتفجر في شكل منجزات ذات طابع إنساني يمتزج فيها صدق الأحاسيس والارتباط بالأرض طينا وهواءً وتجليّاً..



ومع العبور السريع للأزمنة والدهور؛ يأتي النسيان على الكثير من هاته التجليات الإبداعية ويَبقرُ المحو الفيزيقي أخرى، بينما يظل النزر اليسير– لظروف إنسانية واستتيقية غالبا ما تخلقها الصدفة– صامداً، مكابداً، عنيداً، مقاوما كل أشكال النسف ورياح العسف... ولعل من أقدم ما يختزنه زادُ الذاكرة المغربية التراثية نلفي فن صناعة الخزف الذي انتشر بمناطق شتى من البلاد وذاع صيته؛ لينتقل من مناطق إلى أخرى، إما في شكل مشتريات ومبيعات أو عن طريق رحيل الفنانين من مدينة إلى أخرى أو من بادية إلى حاضرة.
وقد اشتهرت به عدة مدن مغربية كفاس ومكناس وسلا وآسفي.. لكن، ولظروف تاريخية وإنسانية، نالت مدينة آسفي النصيب الأكبر من هؤلاء المبدعين الذين استقروا، هناك، في قلب المدينة وشكلوا ورشات عمل تطورت عبر التاريخ، وتوارثت جيلا عن جيل وأبا عن جد... وقد ساعد، على هذا الاستقرار، توافر سبل العمل والمواد الخام، خصوصا، تربة الطين التي تتشكل أغلب الطبقات الأرضية لهضبة عبدة منها، ولعل فكرةَ فنية الخزفيات والفخاريات جاءت عبر مراحل من اختمار الصنعة وإتقانها وتنافس الحرفيين على الجودة، إذ كان التناول بداية عبارة عن حرفة لكسب الرزق وخدمة الناس في توفير حاجياتهم من الأواني والمصنوعات الطينية البسيطة... ثم ما فتئ أن صار العمل الخزفي فنًّا أصيلا يسلب العين ويثير شهيتها وفتنتها... يستدرجها من مجاهل المعمور ذاهلة إلى بازارات آسفي ودكاكينها العتيقة بتل الفخارين..

تل الفخارين:
وقد شكل هذا الفن الحق، من مدينة آسفي، قبلة للزوار والسياح عربا وأجانب... هذه المدينة الأثرية الممتدة أصداؤها عبر شجرة التاريخ العريقة، القابعة في خشوع على الأطلسي تحكي سيرا وأنطولوجيات وميثولوجيات أزمنة وعصور وشعوب.. تقول للعالم: «أنا مازلت هنا رغم الحكايات... رغم التعرية... رغم كل التغيرات الجيوتاريخية... رغم قساوة الطبيعة... فرِحةً كما كنت دائما أستبطن المحكيات وأدونها في صحائف من طين وفخار بأنامل من ذهب ودم وصلصال..»

وقد تناولت عدة كتب ودراسات تاريخ هذا الفن وحياة بعض رواده من «المْعَلْمِيَّةِ» وأصوله ومنابعه الأولى ومحجاته وأسواق ترويجه وتصديره... ولئن كان هذا الفن قد نال حظوة عالمية وذيوعا شعبيا وأصداء ووهجا كونيّين، فإنه مازال يستعمل، في الغالب، أدوات بسيطة تزيد من شعبيته وإقبال الناس عليه واهتمامهم بجمالياته رغم المنافسة والمضايقة التي يتلقاها من طرف المصنوعات الحديدية والزليجية والقرميدية... وقد اشتهرت المنطقة التي يصنع فيها الخزف والفخار منذ القدم بآسفي، بوسم خاص ومستفز للكينونة الإبداعية (تل الفخارين)، حيث تتوفر لدى الحرفيين و«المْعَلْمِيَّةِ»، هناك، أفران ومساحات للإنتاجات المتنوعة ودكاكين وبازارات للتسويق و العرض..

من هذا التل التاريخي العريق تشع رائحة الفن والإبداع شعرا وتشكيلا وفلسفة لتفوح في سماء كل العالم عابرة السهول والجبال والصحارى والبطاحي وتهز أوتار كل العشاق والذواقين على اختلاف أجناسهم وتوجهاتهم وتاريخهم... من هنا تبدأ رحلة الخزفيات نحو عوالم أوربا وباقي الجهات وما لها من وسائط في ذلك غير أريج الإبداعية الصادقة وصبر فنانين ذوي ملكات فولاذية... «تل الفخارين» حيث الشمس تشرق بأشعة تمتزج بالأسطورة والشعر البدائيين، لتحكي تجارب أنبتتها الفطرة على الطين الناطق بأيدي تؤمن بأصالة الانتماء للصلصال... تجارب إنسانية معتقة بنفح المكابدة والتاريخ.. تجارب تختصر أسئلة القلق الوجودي والأنطولوجي وتعانق عذابات الإنسان ومطامحه في أبسط التجليات وأكثرها تعبيرية...

من هنا كانت البداية، ربما، لفن عريق يعتمر المدينة الضاربة بأطنابها في جذور التاريخ، المخضبة برائحة الفتوحات والأسماك والأوائل.. من هنا أيضا عبرت كل الحضارات.. و ربما كان الامتداد لوصل غريب مع التربة والطين ورائحة الأرض... «تل الفخارين» لوحة خزفية تحكي للعالم سيرة الصلصال المغربي، طافحة بكل التفاصيل الشعرية الإنسانية الباذخة التي تصدر أهواءها عن مقربة من النخل والوادي والشعاب المتواطئة.

فن عريق:
ولقد أثبتت البحوث التاريخية والأركيولوجية والتراثية أن فنون الخزفيات والحرف الفخارية تواجدت بالمغرب منذ أزمنة سحيقة تكاد ترجع بدايات إرهاصاتها الأولى إلى تواجد الإنسان بهذه البقاع، يثبت ذلك حقيقة توفر المتاحف المغربية على آثارات ومنمنمات ولقى فخارية صعُب على الباحثين معرفة تاريخ ظهورها بالضبط، غير أن بعض الدراسات تؤكد أن صناعة الخزف الموروث عن الأندلس كان موجودا ومستمرا بالمغرب منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وخاصة بمدينة فاس التي استقبلت وفودا من الأندلسيين، إثر النزاعات السياسية والدينية، وقد كان هؤلاء يتقنون، من جملة ما يتقنون، فن الخزف وحرفا يدوية أخرى، وقد ورد ذكر ذلك في كتاب (وصف إفريقيا) حينما تحدث الحسن الوزان عن جودة القطع الفخارية ذات الصنعة المتقنة والألوان الزاهية التي تباع في دكاكين الخزفيين بمدينة فاس مع مطلع القرن السادس عشر للميلاد(1). أما بخصوص مدينة آسفي فنلاحظ ندرة المصادر، إن لم نقل انعدامها، مما يجعل أمر تحديد تاريخ ظهور هذه الصناعة فيها أمرا صعبا، ولكن يمكننا القول بأن هذه الصناعة ولجت آسفي منذ أقدم العصور. والدليل على ذلك تشابه تقنية الفخاريات التي صنعت في عهد الفينيقيين بطريقة يدوية بدائية، والتي استخدمها الفخاريون الأمريكيون في عهد كريستوف كولومبوس.
وإذا أمعنا البحث في أصل تسمية المدينة بآسفي، نجد أنها تعود إلى الكلمة البربرية (أسيف) والتي تجري المجرى أو المسيل، والمقصود بها (مجرى وادي الشعبة) الذي يخترق المدينة قاصدا المحيط الأطلسي كمصب له، تاركا على ضفتيه رواسب من الطين، فأخذ الصيادون المستقرون على سواحله يصنعون منها أواني خزفية بسيطة كجرار يستخدمونها لأخذ زادهم مما هم في حاجة إليه من الماء خلال رحلاتهم البحرية، وقد اختير موقع (تل الفخارين) نظرا لارتفاعه مما يجعله دائم التعرض لأشعة الشمس، وهذا يساعد الصناع الخزفيين في تصليب مصنوعاتهم.

وقد استقر (المعلمون) الأولون بهذا التل، وظلت من بعدهم الأجيال تتابع نشاطها بنفس الطريقة وتكرر العمليات ذاتها التي تشكل أسس العمل البدائي، وتحرص على أن يظل الاشتغال بأدوات بسيطة، يعتمد في أغلبه على اليد وإتقان الحرفة، ويمتد هذا النشاط ليشمل مناطق وقرى مجاورة للمدينة، تتوارثه الأجيال خلفا عن سلف وعلى مر العصور إلى يومنا هذا. ودون شك أن أهمية الحفاظ على هذه الطقوس والطرق والوسائل التقليدية هو الاعتقاد بكونها السر في الإبداعية وعنصرا من العناصر المشكلة للأصالة لأنها لصيقة بالإنسان وترتبط بحياته اليومية وبتقاليده وعاداته.

أدوات بسيطة:
ومن المعروف أن المادة الأساس في صناعة الخزف هو الطين، فتوفر مواصفات الطين الصالح لهذا النشاط هو ما يجعل صناعة الخزف تنتشر في مدن دون أخرى. ومدينة آسفي غنية بهذا النوع من الطين مما جعلها مركزا لهذا الفن العريق ومعقلا لتوافد الصناع والخزفيين والمعلمين من كل بقاع المغرب. والطين أنواع: الطين الأصفر والأبيض (تادقة) والأحمر، وبعد استخراج الطين اللازم يقوم الصناع بِدَقِّه وغربلته ثم (تسليله) أي إضافة الماء إليه وخزنه، يخمر الخليط ويدلك مثلما تدلك العجين.

إن هذه المراحل وعرة جدا، وإن من يتابع تفاصيلها يعتقد بصدقِ هؤلاء الحرفيين وفنياتهم العالية، ويدرك عن قرب وعورة سلك مدارجها، منذ أن يستخرج الطين من رحم الأرض، وما هذا الرحم الأرضي سوى «كاريان» يقتلع منه الصلصال على شاكلة طوب كبير، يعبأ في شاحنات أو عربات وينقل إلى معامل الفخار بتل الفخارين ويوضع في صهريج الماء كي يبتل جيدا، حيث يترك في الماء لمدة أربع وعشرين ساعة، يخرج بعدها من الصهريج ليتم عجنه بواسطة الأقدام ليتحول إلى عجينة متلاحمة الذرات، متماسكة الأجزاء... تترك بعض الوقت كي تنشف قليلا إلى أن يأذن «المعلم» لمستخدميه بالشروع في عملية الدلك حيث تؤخذ كمية معينة من العجين ويشرع في دلكها لمدة طويلة حتى تتخلص من رخاوتها وتتصلب قليلا، ثم تقدم إلى «المعلم» الذي يدير اللولب، على شكل قوالب السكر، (اللولب عبارة عن آلة تدار بالأرجل من الأسفل) فيدور رأسها بسرعة كبيرة، يكون رأسها بين يدي المعلم، يأخذ قطعة من الطين، حيث ينسلخ الطين عن هويته بسرعة فائقة ويتحول إلى قطع وأشكال مصممة بعناية، تدخل هذه القطع إلى الأفران لمدة أربع وعشرين ساعة كي تتصلب خلالها ثم تبرد وتتحول إلى فخار، لكن هذه (التطييبة) هي أولية، ولابد للفخار من (تطييبة) ثانية، والتي ستأتي مباشرة بعد عملية الصباغة، إذ بمجرد ما تخرج من الفرن وتبرد تقدم «للمعلم» المكلف بالزخرفة، فيعمد إلى تزويقها وتنميقها وزخرفتها، بعدما يكون قد أحكم خلط صباغته المعدنية وسوَّاها بالعلك كي تطاوعه خاصة وأن الصباغة المستعملة عبارة عن معدن.. ويكون المزخرف عليماً بالأشكال حافظاً لها وهي أشياء معقدة مثل: (التبوع، الزياني، البربري..)، والغريب في الأمر أن هذا «المعلم» المزخرف يزوق الفخاريات ويرسم أشكالا رائعة، هندسية أو محاكاتية أو تشكيلية (المعلم يكون عارفا بأمور فن التشكيل) دون اعتماد غروغيات أو تخطيطات مسبقة، بل إنه يشتغل بتلقائية، وبعد أن ينتهي من عمله يتركها تنشف في الشمس، ويغطسها بعد تشمسها في معدن يسمى «ليماي» وذلك لكي تتخذ شكل اللمعان، وآنذاك يتم إعادتها إلى الفرن الناري لمدة 24 ساعة أخرى لتخرج في شكلها النهائي البديع حيث تصبح قابلة للتسويق، مهيأة للعرض، فبعد (التطييبة) الأولى يتخذ الشكل المصنوع من الطين صفة الفخار، وبعد(التطييبة)  الثانية يتخذ وسم الخزف.

انتشار خارج الحدود:
ومع مرور الزمن، ذاع صيت الخزف وانتشرت صناعته وكثرت شهرته وشعبيته بين الورى فبدأ المستثمرون يتهافتون (تل الفخارين) لاقتناء المصنوعات الخزفية ونقلها خارج آسفي قصد تسويقها سواء داخل المغرب أو خارجه، ونظرا لصعوبة مراحل صنع الخزف وطول مدة التحضير يبدأ الصناع التقليديون في البحث عن سبل أخرى لتيسير الصنعة وتوسيع الإنتاج وتقليص حجم التكاليف. فأدخلت الأفران الغازية محل الأفران التقليدية، ومع أن هذه المجهودات تبدو خجولة ليس فقط لغلاء تكلفتها، بل أيضا لاعتبار «المتعلمين» و«المعلمين» معا التمسك بهذه الطقوس التقليدية فيه من الأصالة والإبداعية السر الكبير، لكن يتضح أن لآسفي الحظوة في التمسك بإمكانيات البحث عن سبل التحديث، وذلك بكونها تتقدم المدن المغربية فيما يخص تحديث الأفران، ويبدو ذلك جليا من خلال الجدول الآتي:
المدن    الأفران الغازية
فاس    12
سلا    10
آسفي    14
ورزازات    2
تطوان    1
الدار البيضاء    1

و قد أثبت الأخصائيون أن لهذه الأفران مزايا عديدة نذكر منها:
- اختزال زمن طبخ الخزف ما بين أربع وتسع ساعات عوض أربع وعشرين ساعة.
- الاقتصاد في الطاقة بنسبة تتراوح ما بين 30 و 50 بالمائة.
- عدم تأثر اشتغاله بتغيرات الظروف المناخية.
- تفادي التلوث البيئي وضمان سلامة أكبر للعاملين والساهرين على مراقبة الأفران وإعدادها.
- التوفير لمردودية أفضل والإسهام في تحسين الجودة(2).
وبالإضافة إلى تحديث الأفران فقد عمد فنانو الخزف وحرفيوه إلى استخدام (التور الكهربائي) عوض  (الماعون الخشبي) الذي يتم تحريكه بضغط الأرجل، كما تم تعويض المطاحن المائية، التي تستخدم لطحن مواد الطلاء الأولية، بآلات كهربائية معدة خصيصا لهذه الغاية، وهي ذات مردودية عالية فيما يخص الجودة والإتقان.
ولم يقتصر انتشار هذا الفن العريق والأصيل على فئة الذكور بل تجاوز ذلك، في بعض المناطق، ليطول فئات عريضة من النساء، وهذه الظاهرة تعرف، خصوصا، بنواحي (واد لاو) وتحديدا منطقة فران أولاد علي، حيث إن النساء هن من يمتهن هذه الحرفة، (حوالي 600 امرأة)، إذ يروج، هناك، مثلٌ يقول إن المرأة التي لا تصنع الفخار لا تتزوج، وهؤلاء يتقنﱠ كل المراحل، بدءا باستخراج الطين من جوف الأرض (الكاريان)، وطحنه وغربلته وانتهاء بتحويله إلى أواني جميلة بديعة الصنع، والغريب في الأمر أنهن لا يستعلمن اللولب المعروف بالماعون، بل يقمن بتشكيله بأيدهن مما يضفي على الأشكال الخزفية المصنوعة رونقا بديعا. وهذا دليل قوي على أن صناعة الخزف بالمغرب صناعة ذات قيمة شعبية واسعة تتأصل في عروق الإنسان المغربي ودمائه فتشمل صغيره وكبيره، شيبه وشبابه، نساءه ورجاله... حيث نجد أن الأسرة المغربية رغم ذيوع الصناعات الألومينيومية والبلاستيكية تصر على تأثيث منازلها من المصنوعات الفخارية والخزفية، سواء في البوادي أو المدن، حيث يلصق المغاربة بالأشياء التراثية الأصيلة الثمينة، فيفضلون استعمال كؤوس الفخار والطين عوض الزجاج، مثلما يحبذون تناول وجباتهم وكذا تحضيرها في أواني خزفية ويعتبرون ذلك بنة إضافية ونسمة زائدة ترفع قيمة اللذة والتذوق والاستمتاع.

ولع مغربي بالفخار:
وبإلقاء نظرة، مجرد نظرة أولية على المطبخ المغربي نكتشف هذا السر ونستجلي علاقة المغربي بفن الخزف، حيث نجد (القصرية، الطاجين، الفراح، الكسكاس، الطنجرة، الخديمة، المجمر، الحمّاس، المترد، الطبسيل، الحوّار، الخابية، الكَـدرة، البحرارة، الغراف، الروابة، الزلافة، الجبانية، وغيرها من الأواني والديكورات والمصممات..)
والأكثر من هذا أن الأسواق المغربية جزءا من رحابيها للمصنوعات الخزفية وتُسمى «الطيانة» أو «الفخارية» أو «الخزافية»، وسواء كانت هذه الأسواق أسبوعية أو دائمة؛ فإن المغاربة يصرون على زيارتها والاستمتاع بالنظر إليها وتفقد جديدها حتى دونما رغبة في الاقتناء، كأنما يأتون إلى هذه الرحابي ليكتشفوا ذواتهم من خلال ملامح هذا الصانع التقليدي الصبُور، القابع في خيمته الصغيرة مراقبا أشكاله المصنوعة، وهي تنادي العين الذواقة، يراقبها ويتلذذ بتتبع الأعين وهي تَنْشَدُّ إليها بِوَله وتريد أن تبلعها لحظة واحدة، ترتع النظرات المدهوشة تارة في جمال المصنوعات، وتارة أخرى في ملامح وسحنات هذا الفنان الذي اتخذت شكل ولون الطين، لقد تحول بفرط التصاقه بالطين وشدة عشقه له إلى كائن من طين وخزف، بوجه مفلول بالتجاعيد وبشرة سمراء قمحية وأيدِ متشققة ونظرات باهتة، لكن عميقة(3).

عوائق في الطريق:
ومع كل هذا، يعرف هذا الفن العريق منعطفا صعبا ويجتاز مراحل عويصة تكاد تعصف به بكرة أبيه لولا صمود بعض (المعلمين) المهووسين بصنعتهم وإبداعهم والرابطين حيواتهم وكينوناتهم بتواجده، فهم يحرصون على استمراره كي يستمروا وإلا فليدفنوا أنفسهم أحياء، كما يؤكد أحد المعلمين يدعى (محمد حمين المعروف بالضو)، وقد تكلم هذا الأخير بمرارة (كادت الدموع تنهمر من عينيه العميقتين) عن كثرة العراقيل والمثبطات، وقد اختصرناها في: الضعف الكبير في الإمكانات المادية وانعدام  مواردها ومصادرها، قلة الطلب على المنتوجات الخزفية بسبب منافسة الصناعات البلاستيكية والألومنيومية الأقل تكلفة والأطول عمراً، غياب الدعم والتشجيع من قبل الدولة والمؤسسات، ارتفاع المصاريف وكثرة الضرائب، عدم تمييز الأبناك، من حيث الفوائد، بين التاجر والمقاول والصانع التقليدي، اقتصار التحْفيز على مجال السياحة، غياب جمعيات تؤطر العمل وتوحد الصفوف وتشد عضدهم قصد الاستمرار في العطاء، وذلك بتوزيع المهام وجعل التلاحم عنصرا هامًّا في الحياة الحرفية والإبداعية، عدم توفر أسواق داخلية وخارجية محترمة قصد تصريف المنتوج، وكذا لتغطية النقص الحاصل في التسويق؛ مما ينعكس سلبا على المردودية، ويضيف (الضو) «أن هناك نيات مبيتة  لإقبار هذا الفن وتحويله إلى سلعة للمزايدة والسمسرة والتسابق نحو الربح دون أي اعتبار للفنيات والجودة، وهذا يتضرر منه الحرفي التقليدي والمبدع الأصيل بحكم محدودية إمكانياته المادية لتطوير أساليب اشتغاله، فيصبح بالتالي ضحية للتنافس غير المتكافئ مع سماسرة لا علاقة لهم بالصنعة»، كما أنه (أي الضو) يصرح بكون جهات خفية تسعى إلى إقصاء صناعة الفخار من الحسبان وتهميشها– مع سبق الإصرار والترصد– وذلك على حساب الاهتمام بالآجور والزليج والقرميد، ويؤكد- متأثراً- أنه لولا بحث هؤلاء الصناع والحرفيين عن أرزاقهم في حلبات أخرى لأغلقوا هذه الدكاكين وماتوا جوعاً...
وهكذا، وبناءً على هذه المُعوّقات، لم يستمر في مزاولة هذه الحرفة سوى من كانوا يتوفرون على دكاكين تجارية يعرضون فيها منتوجاتهم، وقد انعكس هذا على مستوى الجودة بسبب اختفاء (المعلمين) أو تغييرهم للحرفة.

من التل إلى المتحف:
وبالرغم من كل العوائق التي تعترض طريق هذا الفن، فقد استطاع، بفضل حنكة رواده وتجربتهم الطويلة وباعهم الزاخر في باب التحديات، أن يؤسس لنفسه وهجا دفاقاً ومتألقاً وسط العتمة والأشواك، فنال بذلك صيتاً عالميا، واكتسح مساحات هامة من الاهتمام الشعبي الدولي حيث يحج سنويا آلاف الأجانب إلى «تل الفخارين» وغيره ليتأملوا عطاءً إنسانيا فريداً يقاوم بشدة المتاريس ويتخطى بفردانية الحدود ليصل إلى أبعد نقطة في العالم(4).
وقد أنشئ بالبيضاء متحف يحكي عشرة قرون من تاريخ الخزف بالمغرب، وقد أرسى دعائم هذه التجربة رجل آسفوي يدعى «أحمد بنعبد الخالق» وجمع، في هذا المتحفِ، النفيسَ من المصنوعات الخزفية الصغيرة (المنمنمات)، ولقد بدأ عمله هذا منذ الخمسينيات من القرن الماضي، وشارك في ملتقيات دولية وانخرط في جمعيات ثقافية وفنية عالمية يسرت له سبل التواصل وتطوير آليات اشتغاله، حيث قرر الخروج إلى البوادي والحواضر المغربية البعيدة قصد الحصول على القطع الأكثر قدماً والأشد نفاسة، مما خَول له المشاركة في تظاهرة للمنحوتات بفرنسا (1998) وملتقى برلين بألمانيا (1981). وواصل مجهوداته الفردية في مجال إغناء متحفه  الشخصي إلى أن استطاع أن يرفع رأس الفنان الخزفي المغربي، عاليا، بفضل التألق الذي حصده في سنتي 1988 و1997 إثر فوز المعروضات الخزفية بجائزتي المربع الذهبي ومعهد غوته الألماني(5).
«تل الفخارين» القلب النابض لهذه الصنعة، يشكل بحق، ذاكرة منحوتة من العرق والطين والدم تؤرخ للنفس البشرية؛ وتنهل من صميم التجارب الإنسانية، بسيطة عميقة تخاطب في الإنسان الأصل (الصلصال)، «خلق الإنسان من صلصال كالفخار «سورة الرحمن آية 14،  وتؤلب فيه الوجدان لتستمر الحكاية...

الهوامش

1 - الوزان الحسن بن محمد الفاسي المعروف بليون الإفريقي، وصف إفريقيا، ترجمه عن الفرنسية، محمد حجي، ومحمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي بيروت، الطبعة الثالثة، 1983م.
2 - التهامي الوزاني: تل الفخارين، المصدر المصدر:
 http://les-safiots.over-blog.org/article-11233341.html
3 - المهدي الكراوي: خزف آسفي.. مفخرة تاريخية تركت على الرصيف، جريدة المساء المغربية، العدد 2014، الأحد 17 مارس 2013م.
4 - عبد الرحيم كريطي: أسفي المغربية مدينة الخزف والفخار بامتياز، موقع أسفي اليوم، العدد 2114، بتاريخ: 17 مارس 2013م.
5 - سعيد لقبي: آسفي «قليل من المغرب» الثقافي، المصدر:
http://www.safi.ma/index.php?option =com_content&view=article&id=24&Itemid=61&lang=ar

أعداد المجلة