فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
25

الشعر الشعبي المقاوم والغناء الوطني الرافض للاحتلال الفرنسي في تونس من 1881 إلى حدود فترة الثلاثينات من القرن العشرين

العدد 25 - أدب شعبي
الشعر الشعبي المقاوم والغناء الوطني الرافض للاحتلال الفرنسي في تونس من 1881 إلى حدود فترة الثلاثينات من القرن العشرين

كان الشعر والغناء المقاومَيْن والرافضَيْن للاحتلال في القطر التونسي من جنوبه إلى شماله، متعدّد الأشكال والأغراض إذ ارتبطا بمقاومة المحتل وكذلك بالحفاظ على الهوية والانتماء. فقد «تعورفت لكل أمة من الأمم أغان خاصة تمثّل لغتهم، وقوميتهم، وأخلاقهم وعوائدهم»(1).

لذلك نرى أنّ كل أمّة تهبّ - بمجرّد تعرّضها لخطر خارجي - تدافع عن مقوّمات وجودها (الثقافة، اللغة، الأخلاق، الدين، العادات، الخ) لطرد المستعمر والحفاظ على الوطن والهويّة موظّفة مخزونها التراثي والحضاري والفنّي لذلك. أليس الفن انعكاسا لوعي اجتماعي - لا فردي معزول عن الواقع والمجتمع – وفي خدمة القضية الوطنية؟

وهذا ما ذهب إليه إبراهيم الحيدري حين أورد «ومن خصائص الفنون التقليديّة أنها فنون ليست ذاتيّة، وإنما جماهيريّة غير مغلقة ومحدودة في تركيبها. أنها تعكس وعيا جماعيا، لأنها غير مقصودة لجمالها وإنما لفائدتها الاجتماعية، لأنها تمارس بشكل أو بآخر تأثيرا فكريا وروحيا وأخلاقيا كبيرا، إضافة إلى قيمتها العمليّة»(2). هذه القيمة يمكن لنا أن نتلمّس أهميّتها ووظيفتها في علاقة بعمليّة توظيفها في الواقع العملي وليس خارجه وبفعلها الثقافي وتأثيرها في النفوس وفي الحياة الاجتماعية والعاطفيّة و الوجدانيّة والوطنية حيث يكون الوطن في خطر بكلّ مكوّناته الثقافيّة والفنيّة والحضاريّة والاقتصاديّة وغيرها، بفعل الاحتلال المباشر الذي بدأت إرهاصاته قبل 1881.

وفي تونس مثلما هو حال المغرب العربي- حيث توحّدت المقاومة بين ليبيا وتونس والجزائر- ومثلما هو حال كل جزء من الوطن العربي، كان الشعراء والمغنّون الشعبيون وغيرهم على موعد مع العطــاء وبذل فنّهم وروحهم من أجل الوطن في كل منعطف تاريخي ومع كل حادث جلل أصاب البلاد.

فالشعراء «غالبا ما يتعرضون إلى ذكر أبطال المعارك الّذين أبلوا فيها واستشهدوا فتخلّد أسماءهم في هذه القصائد الشعريّة. ولتونس رصيد هائل من هذه الأشعار الّتي تعرّضت إلى مقاومة المستعمر الفرنسي منذ دخوله البلاد (...) كما توجد أشعار عديدة تعرّضت إلى المقاومة المشتركة بين التونسيين والجزائريين وخصوصا في الجنوب التونسي»(3).
وسنعرض في هذه المقالة أمثلة من فترة تتراوح بين 1881 - وما سبقها من ثورة علي بن غذاهم(4) - وبين فترة الثلاثينات(5).

فقبل الاحتلال الفرنسي لتونس قيل شعر كثير، منه ما غُنّى ومنه ما بقي دون تلحين في وصف ثورة (علي بن غذاهم) حيث حملت لبنات الجهاد ضد بدايات التغلغل الاستعماري الفرنسي في تونس. فشعراء تونس الشعبيون سجّلوا بشعرهم هذه الثورة في مواقف فنيّة حماسيّة، ظلّ الناس يردّدونها ويتغنّون بها لكنها فُقدت مع وفاة رواتها الأولين، ولم يُعتنَ بتدوينها.
من بين هذه القصائد نورد طالع إحداها :
اللــّه يـنـصـر بن غذاهم
         جماعة الباطل فياهم (أهلكهم)(6)

وسجّل الشعراء المغنّون سخطهم على واقع الضرائب والمظالم المسلطة عليهم من حكومة الباي ومن التسرّب الاستعماري عبر الشركات المشبوهة وغيرها من مظاهر الغزو من ذلك هذه الأغنية الّتي جاءت في كتاب الأغاني التونسيّة للصادق الرزقي حيث ذكر أنها كانت تغنّى في الحفلات الشعبية بمصاحبة آلاتي المنْدولِينَة والدربوكة وضرب الأكف «وهي تندب حظ تونس الحائرة الحذرة من هذه الشركة الأجنبية الّتي استلزمت جلب ماء زغوان إلى المنازل مقابل مبالغ مالية، والمتألمة من الضريبة البلدية الخ ...

تِبـْكِـي وْدَمْـعِ العِيـنْ غْزِيرْ
              عَلَ تُــونِسْ يِا مَـاذَا يْصِيرْ
نِـبْــــــكِــــي بِــالـــــدَمْــــعَــــة
            علَى تُــونِسْ مَا صَايِرْ فِيـهَا
أُمْ الــــــــــبُــــــــــلْـــــــــــــــدَانْ
             مِحْتَـــارَة رَبِـّي يْهَـنِـّيـهَا»(7)

وعن بداية التغلغل الاستعماري ورفضه من الشعب والشعراء  يحدّثنا الصادق الرزقي(8) عن إحدى الأغاني الّتي جاءت لتحذير الشعب من الاحتلال ومن ظلم الباي ومن غدر المستعمر الذي يحاول من خلال إقامته لخط سكة حديد بين تونس والجزائر إيهام أهل البلد بأنه سيكون في خدمتهم ومن أجل رفاهيتهم:

يَـــا غَـــافِــــــلْ بَـــالِــكْ تُـطْـــمَــــانْ
فــــي الـــدُنْـــيَا مَـــاعَــــــادْ أَمَـــــانْ
عِـــــــــنْــــــــــــدَه بَــــــــابُـــــــــــــــــــورْ
عِنْـــــدَه مَـشْـــــي نْـهَـــــارْ بْــسَاعَـــه
يْــــزَهِّي فِـــــــــــــي الـــنَّــــــــــــــــاسْ
بَــاشْ يْـحَصِّلْ فِي الطمـَّاعة...(9)

وجاءت قصائد الشاعر الشعبي علي بن عبد اللّه القصري(10)  لتصف حالة الظلم والنهب وتدهور الأخلاق نتيجة لسياسة الباي المسلّطة على رقاب الشعب، هذه السياسة الّتي مهّدت للاحتلال نذكر منها بعض الأبيات لهذه القصيدة :

فَدتْ خَلُوقِـي الْقَـلْبْ بَاتْ يْكَـنْــدرْ
مَمْرُوجْ وْاجــــيِ لاَ جْـــبَـــرْت دْوَاه
الاَحْكَامْ مِـنْ مَـــوْلاَيْ رَادْ وْقَــــدَّرْ
ذَل الْــبُـــرْنِـــي وَالـــدجَـــاجْ غْــلاَهْ
يَحْيِ وْيُقْتُلْ يِـكَـسْـرِكْ ويْجَـــبّـــَرْ
الـحُـكْـمْ حُكْمَه وَالْـعَـطَى مَـعْــطَاهْ
مَـاذَا وْجَعْنِي السِّفْلْ كِـيفْ تْكَـــبَّرْ
    تْعـَـــلـَّى شَـــانَه وْعَادْ مُولَى جَـاهْ(11)

وتختزن الذاكرة الجماعيّة العديد من المواقف الشعرية الشعبيّة منذ القرن التاسع عشر «مثل ملحمة حسونة الليلي للشاعر أحمد ملاك والّتي ارتسمت في أذهان الكثيرين خاصة مناطق الوسط والشمال الغربي وحادثة هروب البطل الليبي غُومَة المحمودي إلى مناطق الجنوب التونسي»(12). كذلك يمكن أن نسجّل في هذا الإطار التجسيد الفني لتجارب الجهاد في الحركة الوطنية ضد الاحتلال الفرنسي والّذي ظهر من خلال «إعلان الشعب رفضه لانتصاب الحماية الفرنسيّة ونقمته على الباي وهذا ما ظهر على ألسنة الشعراء الشعبيّين مثل علي بن عبد اللّه القصري والشاعر حمد بن سالم البرغوثي...كذلك ما قاله الشاعر عبد الله المرزوقي في وصف حالة البلاد التونسيّة عام احتلال المرازيق سنة 1882 وما قاله المناضل إبراهيم ساسي الشعيلي من بني يزيد بحامة قابس »(13).

هذا إضافة لما قيل من شعر مقاوم في معركة التجنيس التي اندلعت بتونس على إثر انعقاد المؤتمر الأفخارستي(14) مطلع الثلاثينات وما جادت به القريحة الشعريّة للشاعر أحمد البرغوثي من رفض لهذا المؤتمر وقراراته المستهدفة للغة العربيّة وللهويّة العربيّة الإسلامية.  ومع خيانة الباي للأرض والعرض والتاريخ إثر عقده لمعاهدة 12 ماي 1881 الّتي باع من خلالها أرض تونس للاستعمار الفرنسي شاع في جميع الأوساط أنه سلّم البلاد للأجانب الكفار وذاعت في أحياء البادية الأغنية الشعبيّة المشهورة الّتي كان يتغنى بها الصبيان:

يْـكِـبْ أَيََـامْ الـصََّـــادِقْ خَـــــانْ
            هْـرَبْ خَـلــّى الـكُرْسِـي لِـجْـــوَانْ(15)

كما راج مغنى في الحاضرة بعد هذه المعاهدة في حفلات الشباب يقول مطلعه :
يــــــــــــــــا مـخلــــــــــــــــــوق
        نـهــــار لـخميس غلــق السوق
مـا سلم إلا العربي زرّوق
        مـن الــــدولـة الـفـــرنساويّـة
وقد تفجّرت قريحة الشعراء منادية للجهاد وممجّدة للقبائل وأبطالها(16)
يا أمة نبينا يا من طالب على الجهـاد يجينا
ضـــــــامـــــــــــونـــــــــــــــا الــــــكـــــــــفّـــــــــــــــــــار
كـان خـرتو فـــينـــا العطيّـــــة للـقـــهــــــار ...
بــنــــو زيــــــد والـــهـــمــامـــة اثـــنــاش فيــــه
الــحـــــرب ليـــهـــم مــــن قــــديـــــم أبــــطـــــال
(علي بن عامرة) صـيـــــد فـــــي الـتـــرعيّــــة
(محمد بن هذيلي) بـــــطــــل م الأبـــــطــــال
وطـــــــن الـســــــاحـــــل فــــيــهـــم الــرجلـيّــــة
الـــــواحــــــد يــلــــــز كـــــبـــده عــلـــى الـملال
قـــفـــــصـــــــــة ونـــــفـــــــزاوة وجــــريـــديّـــة
 مـــــــــــع وعــــــــد ربـّــــــــي مـــــــا يـقـــد الحال
لشاعر مجهول (17)

كما تفجّرت هذه القريحة متحدّثة عن صدى احتلال تونس من طرف الاستعمار مثلما جاء في طالع قصيدة للشاعر عبد اللّه بن علي المرزوقي(18) :
عَامْ كِذْبْ، عَامْ اَخْبَارْ عامْ نْذَايِرْ
        عَامْ اللِّي بَات الوَطْنْ كَامِلْ حَايِرْ(19)
لقد شكل الشعراء والمغنون الشعبيون جبهة فنية ثقافيّة فكانوا في مقدّمة المقاومين للاحتلال كما قال عنهم محمد المرزوقي «شعراء فحول وفرسان عظام، قاوموا المستعمر ببنادقهم وسلقوه بألسنتهم في قصائد رائعة»(20). ومن بين هؤلاء الشعراء «حمادي الذيبي»(21) الذي كتب الكثير من الشعر في معارك عديدة دارت رحاها في الوسط الغربي كمعركة سيدي يعيش بقفصة والّتي قال فيها :
عَرْكَة سَـــارتْ في سِيعِيشْ نْهَارْخَـايِبْ ثارْ الظَّحْظَاحْ
ساسِي غَافِلْ مَا يِدريشْ دِزْ  وقُولْ ليهْ أَرَّاحْ (22)

ومن بينهم الفارس الشاعر «منصور الهُوشْ» من مدنين الّذي ثار ضد الاحتلال الفرنسي مع عروش الجنوب ثم اضطر للانتقال إلى ليبيا حيث بقي ينشد الشعر الرافض للاحتلال والإذعان له ويقوم من حين لآخر بالإغارة على العدو وهو الّذي اعتبر « أنَّ مِنْ أَوْكَدِ الواجبات وقتذاك الهجرة الّتي يعتبرها فرض عين...» وفي هذا يقول :
    واجب علينا الهجرة فرض وسنة
            بالشرع مولى الخايبة يتكافى(23)

وقد حارب هذا الفارس «أعداءه وخصومه بسلاحه الناري ولسانه السليط ذلك أنه سلق بلسانه من لم تطله بندقيته»(24).
 وشيئا فشيئا أخذ العداء يتفاقم بين أبناء الشعب وبين الاحتلال ليأخذ أبعاده الوطنيّة والدينيّة والثقافيّة واللغويّة والسياسيّة وليرتقي إلى مواجهات مسلّحة واصطدامات ومواجهات عنيفة كان من أبرزها أحداث الزلاج 1911(25) وواقعة «التْرَامْ» 1912 (26) وما تلاها من بروز الحركة النقابيّة في تونس و تجذّر  الحركة الوطنيّة وتوسّعها في علاقة وثيقة لا تنفصم.
«ومن الطبيعي أن تواكب الأغنية الشعبيّة هذه الحوادث لتندّد بأشكال الظلم الاستعماري (...) ومن هذه الأغاني الّتي تغنّت ببطولات «المنوبي الجرجار»(27)  و«الشاذلي القطاري »(28)  شهداء واقعة الزلاج و«الدغباجي» شهيد المقاومة في جنوب تونس (...)الّتي بقيت خالدة في الذاكرة الشعبيّة (...) إلى زمننا الحاضر»(29)
 نذكر منها :
 بــــرّه ويجــــا ما ترد اخبار ع الجرجار
  يــا عـــالــــم لـســــــرار صبــــــــري للّه (30)
و
يا جماعة شوفوا مـا صـار
        القطـاري مــــعـــاه الـجـرجار
حـــــصـــــرنـــا الــــجـــــــلاز
        كــل واحد في قـبرو جــاز(31)

ومثلما امتشق الثوارُ السلاحَ في كلّ ربوع تونس، هبّ الأدباء والفنانون بشعرهم وأغانيهم وحكاياتهم وبكل الأشكال الفنيّة ليصرخوا صرخة واحدة ضد المحتل وليجسّدوا كل المعارك الّتي خاضتها الجماهير والمقاومة المسلّحة. فمع كل معركة وكلّ انتفاضة وكلّ حادث وجدنا ما عبّر عنها فنيّا بالشعر وبالأغنية.
وقد ظهرت في تونس العاصمة إحدى الأغاني التي خلّدت حادثة «التْرَام» 1912 وقد تغنّى بها الأطفال والصبيان تحدّيا للمستعمر(32)حيث يقول طالعها :
عَـلَـى مَـا جْرَى لِلْـكِبَْانيَّة(33)
           فِـلـْسِـــــتْ مَــــا دَلـّتْـشْ ثْنيَّة

و يردّ الشاعر الفارس محمد بن مذكور(34)على الاحتلال - وهو يبني مركزا حربيا لجنوده في منطقة الذهيبة خلال ثورة الودارنة وبني يزيد -  بأغنية يقول طالعها :
أَيَـامْ كُـنْت تِرْعْبي يَا قَاعَـة
   والْيُومْ فِيك الْكَلْبْ مَدّ كْرَاعَـه(35)

و«في هذه الفترة بالذات، أي تحت وهج هذه الحرب(36) التي طالما تَحَرَّقَ بِنِ مَذِكُور لخوضها تفيض قريحته من جديد، فيتوجه بخطابه إلى الفرنسيين»(37)
مرات في الـطليان مـرة فيكم
        رقريق مانولوش دوم علـيكم
مـــــــــرات فــــي الــــــطــــليـان
        ومرات عليكم راقب الكيفان
قداش سقنا من نــيـاق سمان
                     وقداش خزيتو على كرعيكم
حلال رزقكم بالشرع والقرآن
                 رعية مرا تموا الشروط عليكم
ومن القيروان يصف أحد الشعراء في إحدى الأغاني وضع المجتمع أمام الاحتلال:                            
ثمَّاشْ مِنْ يِبْكِي وْيِنْدِبْ عْلِـينَا
 نْـفِد القِضَاء مَا عَادْ يِنْفَعْ فِيناَ

وقد كتب الشاعر الشعبي عمارة السوداني الفطناسي من قابس هذه الكلمات من أغنية اشتهرت في الجنوب يقول طالعها :
مِنْ رَبِّـي مَكْتُوبْ اسْطَارْ
قْعَدْنَا رَعِيَّة لِلْـكُـفَّـارْ
كما تحدّى الشاعر «محمد الروِيسْ»(38) الاحتلال والباي بكلمات أغنية جعلت هذا الأخير يأمر بتتبعه ومنعه من ترديد أغنيته:
يا لندرى تونس على الملكيّة
والا ديـمــه قاعدة عيريه

كما رُثِي الشهيد البشير بن سْديرَة بأغنية يقول مطلعها:
نـــــوحــــي يا زيـــن التَخلِيلة
         عَــــل خــــوكِ العاتــي قتلوه
فيه تشفــــوا كــــلاب الغابة
        ولا خلّـــــى رجــــال يفيــــدوه

أما الشاعر «عبد الرحمان الكافي» فقد كتب عن واقعة سوق الأربعاء(39) ( جندوبة حاليا) فصارت أغنية ردّدتها الجماهير يقول طالعها :
مشنوق يشكي من الدرك يا حليلة
        يـبـكي يكلــم فـي حبل مثيلة
أما حادثة المرسى(40) فقد جسّدها شاعر مجهول في أغنية وصف فيها ما كان يترقّب أحد المواطنين جراء غدر المستعمر قال طالعها  :
نحكي لكم يــا حضّار
         فــي الـمـرسـى آش الّــي صار
الفرشيسي قاصـد مولاه
        ع الــصـبحــيّــــة آش عــطـــاه
ولـد المـالطــيّة ناداه
        حـالــــل حـانـــوته جـزار(41)

وفي الجنوب بعد انكشاف تحرّك مشايخ بني يزيد وبعد محاصرة ثورتهم في خطواتها الأولى واعتقال أبرز قادتها، أسرعت قبائل الجنوب الشرقي بتطاوين للقيام بثورة «الْودَارْنَة» و«في إعلان الثورة المسلّحة الّتي مازال ينقصها الاستعداد المادي اللازم والتنسيق. ووقعت بينهم وبين الجيش الفرنسي عدّة معارك على الحدود»(42). ثم انضمت هذه القبائل إلى القائد «خليفة بن عسكر» بجهة نالوت بليبيا «وقد دامت معارك الثورة ما يزيد عن سبع سنوات»(40) انطلاقا من سنة 1915.

ولم تتوقف هذه الثورة عند هذا الحد بل تواصلت بتشكّل مجموعة من المقاومين اختارت الكفاح المسلح ضد المحتل وكان يقودها محمد الدغباجي أغلبهم من بني يزيد. أما البقيّة فهي من تطاوين والحزم أحواز قابس( وغمراسن وليبيا )عمر كريد الحامدي، وذلك بعد أن انفصلت عن مجموعة البشير بن سديرة.

وقد خاضت مجموعة محمد الدغباجي معارك عديدة تناولها الشعراء والمغنون بفنّهم حتّى أنها غدت وثيقة تاريخيّة هامة لتلك المرحلة في علاقة مع كل ما كان يحدث في البلاد التونسية فحيث حل الاستعمار حلت المقاومة بكل أشكالها بما في ذلك الشعر والغناء المُقَاوِمَيْنِ.

وفي نضال حامة قابس كانت الشخصية الرئيسيّة الّتي وقع إفرادها بالنصيب الأكبر من الشعر والحكايات هي شخصيّة محمد الدغباجي التي وجدناها حاضرة في عدد كبير من القصائد الشعبيّة الشعريّة والمغناة والتي تروي أغلب المعارك التي خاضتها المقاومة.

فـ«ليس غير الشاعر من يستطيع أن يخلّد معاني البطولة ويجسّمها للناس في أمثلة فريدة من الذوق والصدق، وحدّة العاطفة. وقد توفّر للدغباجي شعراء استطاعوا أن يعطوه حقّه وأن يصوّروا اتّقاده وجيشان روحه إزاء حبّ الوطن»(44). حتّى أنّه غطّى ببطولاته كل أنحاء تونس تقريبا فأصبحت صولاته وجولاته على لسان الشعراء والمغنّين والناس. فلم تذهب تضحياته سدى بل تفاعل معها الفنّانون والمجتمع وأصبح اسم الدغباجي يطالعنا في الذاكرة الشعبية كبطل شعبي يجمع بين الشجاعة والبطولة والوفاء والحب والعفّة والرأفة(45).

هذا البطل أصبح رمزا وأسطورة في الحكايات والأشعار الشعبية «وجدت عديد الأساطير والحكايات الشعبيّة القديمة في شكل خطاب شعري. وقد وصلتنا بهذه الطريقة عديد الروايات الشهيرة من أهمها قصة الجازيّة الهلاليّة الّتي يعود تاريخ ظهورها إلى القرن الحادي عشر إضافة إلى رواية الشهيد الشهير الدغباجي وملحمته الدمويّة ضد المستعمر وذلك في تاريخنا القريب»(46). 

الهوامش

1 - الرزقي (الصادق)، الأغاني التونسية، تونس، الدار التونسيّة للنشر، كتابة الدولة للشؤون الثقافيّة والأخبار، إدارة الموسيقى والفنون الشعبيّة، 1967، ص. 19.
2 - الحيدري (ابراهيم)، اتنولوجيا الفنون التقليديّة، ط.1، سورية، دار الحوار للنشر والتوزيع، 1984، ص.51.
3 - نجاحي (محمد عبد العزيز)، الحماسة عند بعض فحول الشعر الشعبي بالوسط الغربي المقاومة على الحدود نموذجا، دراسات في الثقافة والمجتمع، تونس، جامعة تونس الأولى، منشورات المعهد العالي للتنشيط الثقافي، كتاب غير دوري، 1994، ص. 92.
4 - ثورة علي بن غذاهم (1846م) : هي ثورة تحريريّة كانت تهدف إلى التخلص من ظلم البايات ومن إرهاقهم للشعب بالضرائب الفادحة ومن بدايات التغلغل الاستعماري الفرنسي.
5 - سنترك البحث في غناء وشعر المقاومة في تونس لما بعد الثلاثينات لفترة لاحقة.
6 - المرزوقي(محمد)، الشعر الشعبي والانتفاضات التحرّريّة، سلسلة اعلم، تونس، الدار التونسيّة للنشر، 1971، ص. 13.
أوردنا هذه الكلمات غير مشكولة وذلك كما كتبت في المرجع السابق كما أن شرح كلمة «فياهم» جاءت في النص الأصلي لذلك تركناها كما هي.
7 - الرزقي(الصادق)، الأغاني التونسية، تونس، الدار التونسيّة للنشر، كتابة الدولة للشؤون الثقافيّة والأخبار، إدارة الموسيقى والفنون الشعبيّة، 1967، ص. 272.
8 - الرزقي (الصادق)، المرجع  السابق، ص. 273.
9 - المرزوقي (محمد)، الشعر الشعبي والانتفاضات التحرّريّة، المرجع السابق، ص. 19؛ 20.
10 - علي بن عبد الّله القصري: شاعر فحل من الجيل الماضي من أبناء )قصر قفصة( اشتهر بقصائده الطويلة المستوحاة من حالة مجتمعه.
11 - المرزوقي (محمد)، المرجع السابق، ص. 26 .
12 - مجهول، الشعر الشعبي بين التأصيل والتحديث، صحيفة الشروق، شروق الابداع، تونس عدد 5970،  الخميس 31-5-2007، ص. 4 .
13 - مجهول، المرجع السابق، ص. 4.
14 - المؤتمر الأفخارستي : انعقد هذا المؤتمر عام 1931، نظّمه الاستعمار مع الكنيسة الأفخارستية لإحياء الذكرى الخمسين لاحتلال الجزائر وذلك في كاتدرائية قرطاج، وكان من أهدافه طمس الهوية العربية الإسلامية لأبناء تونس.
15 - المرزوقي (محمد)، الشعر الشعبي و الانتفاضات التحرّريّة، المرجع السابق، ص. 39.
16 - وردت هذه القصائد غير مشكولة في كتاب بوذينة (محمد)، المرجع السابق. لذلك سنوردها كما هي.
17 - بوذينة(محمد)، الأغاني والأحداث الوطنية، بدون دار نشر، بدون تاريخ، ص. 46 .
18 - عبد اللّه بن علي المرزوقي: أحد الشعراء الشعبيين بدوز، استشهد سنة 1917.
19 - المرزوقي (محمد)، صراع مع الحماية، تونس، دار الكتب الشرقيّة، 1973، ص. 127.
20 - المرزوقي(محمد)، الشعر الشعبي و الانتفاضات التحررية، المرجع السابق، ص. 40.
21 - حمادي الذيبي: شاعر كان كثيرا ما يرافق الثوار و خاصة الفدائيين لزهر شريط وساسي لسود في معاركهما مع المحتل الفرنسي.
22 - نجاحي (محمد عبد العزيز)،  المرجع السابق، ص. 93 .
23 - ليسير (فتحي)، من الصعلكة الشريفة إلى البطولات الوطنيّة، ط. 1،  صفاقس، ميديا كوم، كليّة الآداب و العلوم  الإنسانية بصفاقس، 1999، ص. 95.
*نورد كل القصائد الواردة في المرجع السابق كما جاءت أي بدون شكل.
24 - ليسير(فتحي)، من الصعلكة الشريفة إلى البطولات الوطنيّة، المرجع السابق، ص. 121.
25 - أحداث الزّلاَّجْ : نسبة إلى مقبرة بتونس العاصمة تقع في جبل سيدي بِلْحسَنْ (الولي الصالح). شهدت هذه المقبرة مواجهات ضد المستعمر الفرنسي في شهر نوفمبر من سنة1911.
26 - واقعة»التْرَامْ» 1912 : حادثة ارتبطت بمقاطعة الشعب في تونس للترام الكهربائي بسبب سلوك شركة «التْرَامْ» العنصري والتي ذهب ضحيتها عديد التونسيين.
27 - المنّوبي بن علي الخضْرَاوي شُهِرَ «الجَّرْجَارْ» : ولد بتونس العاصمة من أبطال معركة الزلاج 1911 . حُكم عليه بالإعدام من طرف الاستعمار الفرنسي على إثر أحداث الزَّلاجْ ونُفِّذ فيه الحكم يوم 25 أكتوبر 1912.
28 - الشاذلي القطاري : ولد بالعاصمة سنة 1890، شارك في واقعة الزَّلاجْ ضد القوات الاستعماريّة الفرنسيّة. حكم عليه بالإعدام في 30 جوان 1912 واستشهد يوم 26 أكتوبر 1912.
29 - خواجة (أحمد)، الذاكرة الجماعية والتحوّلات الاجتماعيّة من مرآة الأغنية الشعبيّة، تونس، أليف، منشورات البحر الأبيض المتوسط، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، 1998، ص. 141.
30 - بوذينة (محمد)، الأغاني والأحداث الوطنية، المرجع السابق، ص. 56.
31 - المرجع السابق، ص. 54.
32 - خواجة (أحمد)، المرجع السابق ، ص. 145.
33 - «الكبانيّة» : الشركة الفرنسيّة الّتي تشرف على استغلال «التْرَام».
34 - محمد بن يحي بن مذكور:شاعر وفارس معلم، من قلعة أولاد شهيدة بمعتمدية تطاوين، إجتاز الحدود وشارك سنة 1911 في مقاومة الإحتلال الإيطالي لليبيا. اعتقل من طرف فرنسا بعد1913. بعدها كان له شرف إشعال فتيل انتفاضة الودارنة 1915 .
35 -المرزوقي (محمد)، الشعر الشعبي والانتفاضات التحررية، المرجع السابق، ص. 100 .
36 -انتفاضة الودارنة بالجنوب 1915.
37 - ليسير (فتحي)، من الصعلكة الشريفة إلى البطولات الوطنيّة، المرجع السابق، ص. 152 .
38 -محمد الرويس : شاعر من توزر، توفي سنة 1936.
39 -واقعة سوق الأربعاء : مظاهرة ساخطة ضد العدو الفرنسي احتجاجا على التنكيل بأبناء البلد وقعت يوم 3 أوت 1922 بجندوبة (يوم العيد).
40 -حادثة المرسى : وقعت اثر حادثة سوق الأربعاء ،على إثر غدر جزار يدعى (ج باتَاوْرِي) تسبب في قتل أحد المواطنين بواسطة سلك كهربائي وضعه للغرض.
41 - بوذينة (محمد)، الأغاني والأحداث الوطنية، المرجع السابق، ص. 84 .
نُذكَّر بأن هذه القصائد وردت في المرجع السابق بدون شكل.
42 -الزريبي (الهادي)، ثورة 1915-1918 ودورها في تحرير المغرب العربي، ط. 1، قابس، 2002، ص. 132.
43 -المرجع السابق، ص. 132.
44 -خريّف (محي الدين)، صورة الدغباجي في الشعر الشعبي، الحياة الثقافيّة، عدد 59، تونس، وزارة الثقافة، 1990، ص. 39.
45 -خريّف (محي الدين)، المرجع السابق، ص. 39 .
45 - LEJMI (Hafedh), L’enseignement de la musique en Tunisie : évolution des idées et des pratiques de la pédagogie, thèse de doctorat nouveau régime, Université de Paris IV, Paris Sorbonne, octobre 1996, p .240.

أعداد المجلة