فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
28

الصناعات التقليدية وفنون العمران : الرقة أنموذجا

العدد 28 - ثقافة مادية
الصناعات التقليدية وفنون العمران : الرقة أنموذجا
كاتب من سوريا

 الرقة في اللغة هي كل أرض إلى جانب واد، ينبسط عليها الماء أيام المد، ثم ينحسر عنها، فتكون مكرمة للنبات،وبه سميت المدينة، وهي بفتح الراء والقاف المشددتين.
تقع مدينة الرقة وسط سهل خصيب بين نهر الفرات والبليخ في بقعة تاريخية ملأى بآثار الحضارات القديمة والكلاسيكية والعربية والإسلامية، وكانت من أهم مدن الجزيرة الفراتية، وحاضرة ديار مضر، وأحرزت منذ القديم أهمية دانت بها لحسن موقعها الجغرافي على النهر العظيم في نقطة متوسطة منه،

 

 وموضع تقاطع الطرق التجارية المتجهة من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب جعل منها محطة تجارية هامة بين الجزيرة الفراتية والشام والعراق وأرمينية وآسيا الصغرى وحوض البحر المتوسط.
تل المريبط: كشفت أعمال التنقيب الأثري عن العديد من المستوطنات البشرية الأولى، ويأتي في طليعتها تل المريبط على الضفة اليسرى من نهر الفرات مقابل بلدة مسكنة القديمة (بالس)، وقد عثر فيها على بيت نطوفي – نسبة إلى وادي النطوف في فلسطين - حوالي 8300 ق. م تميز باستدارته وانخفاض مستواه عن سطح الأرض المجاورة بعمق 50 سم ثم أحيطت هذه الحفرة بسياج ارتفاعه حوالي 70 سم مصنوع من أعمدة الحور الفراتي، وقد غطيت الأرض بطبقة طينية بسماكة 10 سم، وقد تجاورت بيوت هذا الموقع بشكل عشوائي إلا أنها لم تكن متلاصقة حيث كان هناك ممرات فيما بينها، وكان الموقد ( الكانون ) يتوسط المنزل، وهذه عادة مازالت متبعة في بيوت ريفنا حتى اليوم لأن الموقد يستخدم لأهداف متعددة منها الطبخ والإنارة والتدفئة، أما الأدوات المختلفة في هذه المنازل فهي أدوات صوانية ذات أشكال هندسية متنوعة منها ما يخص العمل الزراعي كالمنجل والمكشط والمنكاش  والمخرز والمثقب والمسن، ومن الصخور الصوانية المجاورة صنعوا أدوات  الصيد والحصاد والسكاكين والشفرات والمناجل ورؤوس الرماح والفؤوس.
أما بالنسبة للمسكن فقد تزاوجت المنازل بين منزل شتوي والآخر صيفي حسب  مقتضى الحال من توافر المواد الغذائية والحيوانية أو النباتية، وحتى وقت  قريب كان الفلاحون يقومون باغتراب موسمي خلف قطعان الماشية إلى البادية  في فصلي الشتاء والربيع ثم العودة إلى المنازل الطينية في فصلي الصيف  والخريف بالقرب من المياه.

ومن الميزات الأخرى لمساكن العهد النطوفي القديم أن المنزل صغير الحجم  تفرش أرضه بحصيرة من الحجارة الصغيرة أو الحصى ثم تبلط بقطع من الحجارة  المسطحة ثم تدعم بعد ذلك بطبقة من الملاط الطيني الذي يلون أحيانا.

وكانت قوافل الحميرتشق الطرق عبر الوهاد والسهول ناقلة الزجاج البركاني  من بلاد الأناضول إلى موقع المريبط، وتنوعت وتعددت أدوات المطبخ وتحسن  طعام الإنسان مما زاد في نشاطه الفكري وجهده العضلي، وصار يهتم بزينته  فاستخدم قواقع الصدف، وارتقت نظراته الجمالية والفنية، وصار يهتم  بالحياة الأخرى، ومما يدل على ذلك طرق الدفن والطقوس المرافقة، وانتقل  من عادة الدفن في أرض الدار إلى مقابر خارج نطاق السكن، وكذلك اللقى  التي رافقت المعيشة في حياته إلى الدار الآخرة، وعرفنا من مقدار مهارته  في الحياكة من وجود الدبابيس لتثبيت الثياب على الجسم، وهناك الأصباغ،  وفي نهاية المرحلة بدأ الإنسان يستخدم الفخار في أدوات طعامه وشرابه،  وصارت جدران مسكنه عالية، فمزيجها الطيني غدا مؤلفاً من الغضار والجص  وحطام العظام بدلا ً من التبن.
موقع أبي هريرة: يقع هذا الموقع على بعد 40 كم إلى الجنوب من تل المريبط على الجهة اليمنى  للفرات، وقد ظل هذا الموقع آلاف السنين مجالا ً حيويا ً لسكان هذه  المنطقة، واكتشف فيه قرية قديمة تعود إلى الألف التاسعة قبل الميلاد،  وإن بيوت هذه القرية عبارة عن حجيرات صغيرة، ويتوسط المنزل موقد نار، وهناك مصاطب منخفضة للجلوس، وكانت الأرض مفروشة بالملاط الأسود،  وأحياناً مدهونة باللون الأحمر، وكانت البيوت متجاورة تفصل بأزقة ضيقة  لبساطة أدوات الناس المعاشية، وإن كان شكل العمارة يشبه إلى حد كبير  المنزل في وادي الفرات في الوقت المعاصر، وكانت النوافذ كوى صغيرة  للتهوية، والمحافظة على الحرارة والبرودة والرطوبة معا ً، وكانت الغرف  تطلى بالحوار الأبيض ربما كل عام.

تل أسود: يقع هذا التل على مجرى نهر البليخ الأعلى، وقد بدأت الحياة فيه في  الفترة التي بدأت فيها في موقع أبي هريرة، وقد كانت السويات الدنيا  خالية من الفخار، والجدران المكتشفة مستقيمة ذات زوايا قائمة، وهي  مبنية من اللبن المجفف بالشمس، وألوان هذا الطين مختلفة بين اللون  الرمادي والأحمر، وكذلك أبعاد اللبن مختلفة، وقد استخدم الجص في طلي  الجدران، والأرضية مفروشة بالحصى، وأسلوب العمارة لا يختلف عن أسلوب  العمارة في وادي الفرات، وقد عثرت البعثات الأثرية في هذا الموقع وفي  أماكن أخرى من البليخ ووادي الفرات على آثار المنجل الحجري والرحى والجرن  وحجر الجرش والمثقب والنصل المزدوج الحد.

  مدينة توتول  تل البيعة: ورد ذكر مدينة توتول القديمة في الرقم الطينية التي اكتشفت في تل حريري (  ماري القديمة ) بالقرب من مدينة البوكمال، ولقد تكرر هذا الاسم في تلك  الرقم الطينية، فتارة يرتبط بنهر البليخ، وتارة يرتبط بنهر الفرات مما  حير العلماء، وبالتالي استعصى عليهم تحديد موقعها بالضبط، وفي عام 1974  اهتدى العالم البلجيكي جورج روسان إلى تحديد موقع مدينة توتول عند ملتقى  نهر الفرات برافده نهر البليخ.

  النشاط الحرفي:كانت مدينة توتول تدار ذاتيا ً حسب التشكيلات الحرفية، وقد قسمت إلى  أحياء حسب الأسر ذات الأنشطة الحرفية، ومن الحرف الشائعة حرفة النجارة،  والدباغة، وغسيل الصوف، وتربية الماشية، والخياطة، وكتابة العقود،  والفلاحة والرعي، وسياسة الخيل، والخدمة في البيوت، والسقاية والطحن،  وعملت النسوة في جر السفن، وجلب المياه، وغزل الصوف والشعر والكتان.

  فنون العمارة العربية الإسلامية:يمتاز طراز العمائر العربية الإسلامية في العصر العباسي الأول، سواء في  الرقة، أو في غيرها باستخدام مواد الآجر المشوي، وغير المشوي ((اللبن  )) والجص والخشب والزجاج، والخزف، وبتفضيل الأكتاف أو الدعامات على  الأعمدة في حمل البوائك.

ونجد فيه أيضا ً نزعة، ترمي إلى التحرر والإبداع في فرش أرض القاعات  والبدء في استعمال الأشكال المنمقة، كعنصر زخرفي، وأخذ الفن العربي في  مدينة الرقة أيام الرشيد وخلفائه يميل إلى النعومة والرشاقة، وهذا واضح  في الزخارف الجصية التي تزين جدران المباني، وصار الفنان يميل فيها إلى  ملء الفراغات في الجدران والقاعات بعناصر زخرفية لطيفة متناظرة متنوعة  وعناصر أخرى ملونة على الجدران بزخارف نباتية وهندسية.

ويمكن أن نضيف إلى ذلك عنصر التنميق في الزخرفة الجصية من خلال الأطر  الجصية التي تزين واجهات الأبواب والأروقة والمداخل والدهاليز، وعلى  الجدران في الغرف، والفن في مدينة الرشيد بالرقة من أنقى الفنون  المعروفة، وهو يعتمد تماما ً على التلاعب بالخطوط والأشكال والألوان،  وهذا ما نشاهده في مدينة الرقة على الخصوص، وانطلاقا ً  من هذا فقد خرج إلينا أروع نتاج في الفن الإسلامي هو   (الأرابسك) أي التوريق، ويخطئ من يقول إن ولادة ذلك كانت في سامراء ، فالرقة أقدم من سامراء.

وتظل ناحية هامة لفن العمارة والبناء في الرقة، هي التفاعل مع ما شهدته  بغداد من مؤثرات، وبالتالي نقله إلى بلاد الشام ومصر والمغرب.

الصناعات القديمة في الرقة:   برعت الرقة بصناعة الصابون لكثرة ما فيها من أشجار الزيتون، وقد كثرت  فيها معاصر الزيت في العصر العباسي وما قبله، وكانت تضرب النقود، فقد  عثر في أثناء الحفريات التي قامت بها مديرية الآثار في قصر من القصور  بالرقة خارج السور على نقود برونزية ضربت في الرافقة سنة 210 للهجرة بعصر  المأمون.

ويستدل من كثرة الأواني الخزفية والزجاجية المختلفة والأشكال والصحون  والأباريق والأكواب والدنان والكؤوس والجرار والمصابيح والشوابك وخلافها  أن الرقة كانت أيام العباسيين وحتى في العصرين الأتابكي والأيوبي مركزا ً  لمعامل خزفية وزجاجية، وكانت صناعة الفخار والخزف والزجاج منتشرة ورائجة ، مما جعل صناعها يتنافسون بإتقانها والتفنن برسومها وكتاباتها وألوانها  وأشكالها.
والأواني الزجاجية والخزفية التي وجدت في حفريات الرقة ذات زخارف نباتية  خطية وهندسية ووجدت أباريق نحاسية مزينة بكلمات.

وكان في الرقة صناعات كثيرة كالنسيج، وصنع أسرجة الخيل وألجمتها وصنع  السلاح لتلبي حاجة الجيوش التي كانت تنزل الرقة وتتمون فيها.

ومن أسوار الرقة وأبراجها البرج الكبير الذي كان في مدخل الرقة من عند  الجسر، وكان يسمى ( القلة ) وهو من اللبن ويدخل فيه عواميد خشب وقاعدته  من الحجر، وقد أزيل عام 1955، وكذلك مدينة الرصافة فقد كان يحيط بها  أسوار منيعة وجميلة تعد مأثرة في فهم هندسة التحصين العسكري، وتعد من  أكثر مباني المدينة حفظا ً وإثارة للإعجاب والدهشة، وللرصافة أربعة  أبواب رئيسية تقع على منتصف جدران السور وإلى جانبيها حيث نجد أربعة  أبواب ثانوية، وعد الباب الشمالي من أجمل تلك الأبواب لما يتمتع به من  هندسة دفاعية رائعة وزخارف تزيينية بديعة وأعمدة تثير الإعجاب بروعتها  وزخارفها وتيجانها.

متحف الرقة: تم اختيار بناء السرايا القديمة، وهو بناء جميل يحمل الصفة التاريخية،  ويقع في وسط مدينة الرقة، حيث تم ترميمه ليكون  متحف تاريخ الرقة وآثارها، وهو مؤلف من طابقين، وعند مدخله نجد لوحة  فسيفساء جميلة تعود إلى القرن الخامس الميلادي، وزين البهو الكبير في  الطابق الأرضي بلوحات فوتوغرافية لأهم المواقع الآثارية في سورية، كما  خصص في هذا الطابق جناح للآثار القديمة، ولآثار العهود الكلاسيكية  ( الرومانية والبيزنطية )، مع جناح الفن الحديث لأعمال فنانين تشكيليين  من القطر العربي السوري، أما الطابق الأول فقد اختص بقسمين:-

- الأول:  خصص بالكامل لآثار العهود العربية والإسلامية حيث يطغى عليه  مقتنيات خزف الرقة الشهير والأطر الجصية الجميلة التي كانت تزين أبواب  القاعات والمداخل في العصر العباسي وهي فريدة من نوعها، بالإضافة إلى  الجرار والتيجان والنقود.

  - أما القسم الثاني:  فيتعلق بالتقاليد الشعبية في الرقة، وعرضت فيه خيمة  فيها الأثاث والأدوات الخاصة بالحياة البدوية مع تمثالين لشخصين من الرقة ، وطريقة صناعة الخبز والغزل والنسيج وحاجات الخيول، مع عرض لبعض  الأزياء التقليدية والحلي الذهبية والفضية.
  الرقة والرافقة: بنى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور مدينة الرافقة على هيئة مدينة  بغداد، وعلى مسافة ثلاثمائة ذراع غربي مدينة الرقة، وما لبثت المدينتان  أن اتصل بناؤهما بالقصور والمزارع والأسواق خلال السنوات المتعاقبة،  وربما أطلق عليهما معاً  (اسم الرقتين)  وقد قال البحتري:
وفي كبدي نار اشتياق كأنها
             إذا أضرمت للبعد نار حريق
لذكرى زمان بان منا بنظرة
             وعيش مضى بالرقتين رقيق
ومع مرور الأيام خربت الرقة، وصارت مدينة الرافقة نفسها يطلق عليها اسم  ((  الرقة)) في معظم الأحيان.
ولم يكن لتراث الرقة الشعري ما يستحق الذكر في مطلع القرن السابع الهجري،  وصدق ياقوت الحموي عندما قال عن عيسى الرافقي، وهو من شعراء هذه الحقبة  (( أحد أدباء عصرنا، أخمل من ذكره خمول قطره ))، علماً بأن للرقة ماضيا  ً حافلا ً  في ميادين علمية كثيرة:  كالفلك والفقه والحديث، والنحو واللغة، والقضاء  والترجمة، وهذه الميادين امتدت بها العصور أكثر من ميدان الشعر، حتى  وصلت إلى القرن الهجري الثامن، وأصبحت الرقة تذكر مع المراكز الكبرى  للعلم والمعرفة والازدهار الفكري، مثل قرطبة، وطليطلة، وبغداد، ودمشق، والقاهرة، والكوفة، والبصرة، وغيرها من المدن التي أسهمت في النهضة  العلمية في البلاد العربية والإسلامية، ومع ذلك، فإن التراث الشعري  الذي عرفته مدينة الرقة في ماضي عهودها لا يجحد أثره، ولا ينكر فضله،  وهو تاج آخر يزين مفرقها، أو عقد ثمين يحلي جيدها، على الرغم من ضياع  قسم كبير من هذا التراث، والباقي منه كاف للدلالة على ذلك الماضي الزاهر  الذي يزداد تألقا ً كلما كشف النقاب عن كتب منسية، ودواوين من الشعر  خافية.

المصادر والمراجع

الرقة درة الفرات:  تأليف نخبة من الباحثين – مراجعة الأستاذ الدكتور  سهيل زكار – تقديم الأستاذ محمد نجيب السيد أحمد.
 -  المسهمون في إعداد هذا الكتاب:   الباحثون:   الدكتور عبد السلام العجيلي  الدكتور عبد الهادي نصري  الدكتور توفيق برو  الأستاذ مصطفى الحسون  الأستاذ محمود فاخوري  الأستاذ قاسم طوير  ا؟لأستاذ عبد الحميد الحمد  الأستاذ صبحي الدسوقي  إشراف التحرير:  الدكتور عبد الهادي نصري  التدقيق اللغوي:   الأستاذ محمود فاخوري  الدكتور عبد الجليل العلي  الأستاذ أحمد ديبة  المراجعة والتدقيق والإشراف على الطباعة والإخراج   الأستاذ الدكتور سهيل زكار  رسم الغلاف:  الفنان مازن عليوي.
 - الإدارة والتنسيق:  مصطفى العباس – محمد عيد شحادة – سليمان حمزة –  تقديم الأستاذ محمد نجيب السيد أحمد الرقة – 1412 – للهجرة 1992 – م.
*مفيد فهد نبزو – سوريا – حماة –  عضو حركة شعراء العالم في تشيلي  عضو دارة الشعر المغربي  مستشار شبكة صدانا الثقافية في الشارقة  هاتف جوال:  0999429277  له دواوين مطبوعة:  ناي بلا حنين – كرم الغزل – مشوار الحلا.
 - ديوان الكتروني بعنوان:  ديوان الشاعر مفيد نبزو في الموسوعة الكبرى  للشعراء العرب.
 - له ديوان قيد الطبع في القاهرة بعنوان:  القدس صبارة الروح.
- الكتاب هدية من  الباحثين للشاعر مفيد فهد نبزو

أعداد المجلة