فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
3

“المشموم” في تونس…ظاهرة اجتماعية وثقافية

العدد 3 - حرف وصناعات
“المشموم” في تونس…ظاهرة اجتماعية وثقافية
كاتبة من تونس

 

تمثل الأزهار والورود بمختلف ألوانها وأحجامها وتنوع أريجها ظاهرة طبيعية حظيت باهتمام الانسان في كل الثقافات والحضارات على امتداد تاريخ الانسانية  ارتقت من مستوى الظاهرة الطبيعية إلى مستوى البعد الرمزي على تنوع الدلالات واختلاف الإيحاءات.فليس من ثقافة إلا واعتبرت أن لهذا الكائن الجميل قدرة في العبارة عن العاطفة والإفصاح عن الشعور.

وإن كنا سنخص في بحثنا هذا صنفا من الأزهار باهتمام خاص وهو الذي يعنى به في صناعة «المشموم «نعني الفل والياسمين وهما من الأزهار المعروفة في مختلف بلاد الدنيا لكن طريقة التعامل إزاءها تختلف وكذلك رمزيتها تختلف .سنتناولها باعتبارها العنصر الجوهري في حرفية المشموم.

فما هو المشموم؟وما هي دلالاته الاجتماعية والثقافية؟

يعتبرالمشموم من أهم مميزات التراث الشعبي التونسي ومن رموز الثقافة الشعبية في تونس بل أكثر من ذلك أصبح المشموم يمثل ظاهرة ثقافية تجسدت في إقامة مهرجانات خاصة في بعض المدن والقرى التونسية في سعي إلى الدخول إلى كتاب «غينيس» للأرقام القياسية من خلاله وذلك بصنع أضخم مشموم في مهرجان «رادس» الأخير (جويلية 2008)  فالمشموم في تونس عبارة عن عمل فني يتضافر فيه جمال الطبيعة مع إبداع يد الإنسان بإفراز تحفة فنية تجمع بين البساطة والجمال إلا أنها ليست خالدة كأغلب الأعمال الفنية إذ هي تذبل وتفقد رونقها بعد مرور ساعات على صنعها لقصر عمر زهرات الياسمين لكن المشموم في هذه الساعات القليلة يظل يحظى باعتناء ذوي الأذواق الرفيعة والمشاعر المرهفة  يمتعهم بعطره وجماله ويعبر عن أسمى مشاعرهم ويقيم جسور التواصل بينهم وبين محبيهم. فما هو المشموم وكيف تتم صناعته وما هي دلالاته الثقافية في تونس؟

كلمة «مشموم» هي اسم مفعول من فعل  «شمّ»  تطلق على باقة صغيرة من أزهار الياسمين أو الفل منسقة ومصففة بطريقة معينة مشدودة إلى أعواد رقيقة من الحلفاء ليستطيع«الشام» أن يمسك بها ويشمها أو أن يقدمها إلى من يحب فمنذ بداية القرن الماضي عندما لم يكن بإمكان الخطيب أن يرى خطيبته وأن يعبر لها عن حبه كان يرسل إليها من حين إلى آخر وخاصة في المناسبات السعيدة مشموما تفوح منه رائحة ذكية تعبر عن مشاعر مرسله ويوم الزفاف يحضر العريس معه مشمومين يحتفظ بأحدهما لنفسه ويقدم الثاني وهو الأكبر والأجمل لعروسه فتتسلمه بفرح يغلب عليه الحياء لما تحمله هذه الهدية من إيحاءات  عاطفية. وبعد الزواج إذا دعيت الزوجة إلى عرس فإن زوجها يحضر لها مشموما ترشقه في شعرها أو على صدرها لتكون الأجمل بين المدعوات. أما إذا أراد الزوج أن يصالح زوجته بعد عتاب فإنه لا يجد طريقة أظرف ولا أجمل من مشموم يقدمه لها أو يضعه على وسادتها لتتحرك المشاعر وتعود المياه إلى مجاريها ...

ومما يؤكد العلاقة الوثيقة بين المشموم ومشاعر الحب السامية تردده في العديد من الأغاني التونسية القديمة باعتباره أداة التواصل بين العاشقين فقد غنى «الطاهر غرسة» وهو من أعرق الفنانين التونسيين في بعض الموشحات :

 

       بـــــالله يـــــــــا مشمـــوم الفـــل

                           قـــــــــــوللـهــــــــــا لــــــلاك تـطــــــــل

 

فهو يحمل المشموم رسالة غرامية متوسلا إليه بأن يطلب من حبيبته التي أرسل إليها هذا المشموم أن تطل عليه ليطفئ لهيب شوقه إليها.

وغنى الفنان «يوسف التميمي«متغزلا بحبيبته« سالمة» التي زادها مشموم الفل والياسمين جمالا وبهجة في المحفل:

يــــاسمـيــن و فـــــــــل ســــــــالـمــــــة

          قـدك يسحر في المحفـل يــا سالمـة

 

وقد كان المشموم في الماضي حكرا على المتزوجين من الرجال والنساء وبالأخص على الشيوخ الذين تراهم يختالون في ملابسهم التقليدية الصيفية «الجبة» أو«البلوزة» وهم يرشقون المشموم على آذانهم تحت «الكبوس» الأحمر القاني أو«الشاشية» البيضاء...

أما اليوم فقد انتشرت ظاهرة المشموم بين كل الفئات الإجتماعية والعمرية فأصبحنا نراه على آذان الشبان وبين أيدي الشابات يتشممنه من حين إلى آخر وفي الأعراس والمهرجانات والمناسبات المختلفة يستقبلونك في مدخل القاعة بطبق تنتقي منه مشموما يرافقك كل السهرة وكذلك السائح تراه يتهافت على بائع المشاميم ليشتري مشموما يقدمه هدية لرفيقته أو يحاول أن يضعه على أذنه على الطريقة التونسية رغم ما يجده من صعوبة في هذه الحركة التي لا يتقنها إلا التونسيون.

فقيمة المشموم ليست قيمة جمالية فحسب باعتبار جمال مظهره وذكاء رائحته بل هو محمل بالعديد من الدلالات والإيحاءات العاطفية والثقافية فهو لغة العشاق والمحبين من جهة ورمز من رموز الثقافة الشعبية التونسية من جهة أخرى فأينما حللت بالأمسيات والسهرات الصيفية لمحت المشموم يرافق التونسيين وغير التونسيين فكل زائر لا بد أن يقدم له المشموم هدية وكل فنان يقف على مسرح «قرطاج» لا بد أن يكلل بالمشموم التونسي باعتباره رمزا للحب والكرم وحسن الضيافة...رمزا لتونس.

وإن هذا المشموم لوليد صناعة عريقة في بلدنا تميزت بها  بعض المناطق أهمها منطقة الشمال والوطن القبلي وبالتحديد ضاحية «الصقالبة» بمدينة «منزل تميم» حتى أنه منذ عقد تقريبا تم تأسيس مهرجان سنوي خاص بهذه الضاحية يحمل اسم مهرجان فنون الياسمين وتم إنشاء ساحة في وسطها أطلق عليها «مدار الياسمين»  يعلوها مشموم اصطناعي ضخم زاد القرية بهاء وإشعاعا. 

صناعة المشموم صناعة يدوية تقليدية تعود إلى بداية القرن الماضي ومن عجائب هذه الصناعة أنها ظلت يدوية كما نشأت لم يعرف التصنيع طريقه إليها وظل الإنسان المبدع الوحيد فيها إذ لم تنافسه الآلة مثلما نافسته في بقية الحرف والصناعات فقد ظل المشموم يصنع بنفس الطريقة إلى يومنا هذا مع التفنن في تطوير أشكاله وتنويعها بحكم توارث هذه الصناعة من جيل إلى آخر فكل جيل يضيف إليها من ثقافة عصره ومن روح الإبداع فيه وقد عرفت في «الصقالبة» عائلات عريقة اختصت في هذه الصناعة وتوارثتها أبا عن جد مثل عائلات «خليفة» و«القرماني» و«بن ابراهيم» وغيرها كثير...

 وقد قمت بزيارة ميدانية إلى إحدى هذه العائلات في وقت العمل وهي عائلة «بن ابراهيم» فرأيت مشهدا عجيبا يدل على تكاتف هذه العائلة وعلى ولعها بهذه الصناعة وتعلقها بها فقد رأيت الجد والجدة والأحفاد يعملون جنبا إلى جنب ويتقاسمون مراحل العمل حسب الطاقات والمواهب. رأيت الجد الهادي الذي يبلغ مائة سنة من العمر وهو يجمع أعواد الحلفاء ويصففها فيداه المرتعشتان لم تعودا تسمحان له بغيرذلك...

 أما الجدة منجية التي تجاوزت الثمانين من عمرها فدورها يتمثل في جمع أزهار الياسمين وصنع المشاميم  إلا أنها ظلت مقتصرة على الشكل التقليدي للمشموم الذي تعودت على صنعه منذ أكثر من نصف قرن...

أما ابنهما عبد الرزاق فرغم أنه يعمل نجارا إلا انه ظل متعلقا بصناعة المشموم يتفنن في إبداع أشكال جديدة له تروق لكل الأذواق وتبهج كل النفوس...

أما ابنهما كريم فيتمثل دوره في بيع هذه المشاميم متجولا بها آخر النهار بين المقاهي وشوارع المدينة، أما الحفيد نصر الدين فقد تغلغلت صناعة المشاميم في وجدانه فقد نشأ في هذا الجو الإبداعي الرائع فأتقن هذه الصناعة منذ نعومة أظافره ومازال يتفنن في حذقها ويبدع في تطويرها إلى جانب دراسته فعلاقة هذه العائلة بصناعة المشموم علاقة حميمة بدأت منذ أكثر من نصف قرن وتواصلت إلى يومنا هذا. سألت الجدة : «هل هذه الصناعة هواية أم أنها مورد رزق بالنسبة إليك؟»   فأجابت بكل صراحة وبلغتها البسيطة: في البداية كانت مورد رزق فعندما تزوجت وأنجبت الأطفال وجدت أن دخل زوجي البسيط لن يكفي لتلبية حاجيات العائلة فاخترت هذه الصناعة لأساعد بها زوجي ولعل دافع هذا الإختيار هو ميل خاص إلى زهرة الياسمين وحب لرائحتها وجمالها ومع مرور الأيام والسنين تحولت هذه الصناعة إلى هواية لا أستطيع التخلي عنها فرغم تحسن أوضاعنا المادية بفضل عمل الأبناء ظللنا متعلقين بها نشغل بها أوقاتنا في فصل الصيف مستمتعين برائحة الياسمين فهي ليست مورد رزق بقدر ما هي هواية نجد متعة في ممارستها .

ثم سألتها عن مراحل صنع المشموم فقالت: نجمع أزهار الياسمين قبل أن تتفتح ثم  نجتمع  حولها لنبدأ عملية الصنع فنشدها بخيوط رقيقة جدا إلى أعواد الحلفاء في شكل دائري ونظل نحيط الباقة بالأخرى حتى نتحصل على الحجم الذي نريده لأن للمشموم أحجاما وأشكالا مختلفة  حسب أذواق الناس ومناسباتهم وإمكانياتهم المادية فسعر المشموم يرتفع بارتفاع كمية الياسمين التي يتضمنها وبتميز شكله. كما أن لمشموم العروس والعريس حجما أكبر وشكلا أجمل ليكونا متميزين عن بقية الناس.

وقد أتاحت لي هذه الزيارة مقابلة السيد « عبد القادر بن عثمان» مؤسس مهرجان فنون الياسمين بالصقالبة ومديره وهو شاب طموح متحمس لتحقيق شعارات هذا المهرجان يبذل جهدا جبارا ليجعل منه  تظاهرة ثقافية تشجع على الإبداع من خلال تنظيم  ورشات عمل للكبار والصغار للنساء والرجال محورها الياسمين مثل رسم الياسمين والمشموم على الورق والبلور والحرير وتحرير مقالات أدبية وأخرى صحفية موضوعها كيفية توظيف الياسمين في تشجيع السياحة وتنظيم محاضرات وندوات ثقافية بالتعاون مع اتحاد الكتاب التونسيين (فرع نابل) ومسابقات لصنع المشموم بين محترفي هذه الصناعة وهواتها ...

فقد كان هذا المهرجان ثريا ثراء  يلفت انتباه الناس إلى هذه الزهرة  البسيطة وإلى هذه الصناعة اليدوية المغمورة وحدثني هذا الشاب أيضا عن الأهداف التي يرنو إلى تحقيقها في العشرية الثانية لنشاط جمعية هذا المهرجان تحت شعار « الصقالبة مزار سياحي أكيد في الوطن القبلي» فقد رسمت هذه الجمعية مخططا طموحا يرمي إلى توسيع غراسة الياسمين وتصنيعه كبعث مصنع لتقطير الزهور وآخر لتجفيفها للتمكن من تصديرالمشموم وتأسيس مركب للصناعات التقليدية يعنى خاصة بتحويل ابتكارات المشموم الطبيعي إلى ابتكارات فضية وبتوظيف المشموم في صناعة السعف والزربية والحدادة والنجارة  وغيرها من الصناعات. وإن كان هذا المخطط طموحا يفوق إمكانيات الجمعية إلا أنه يدل على طموح أعضائها وتحمسهم لنشر حضارة المشموم وتدعيمها لتلقى ما تستحقه من الإهتمام والرعاية من قبل الناس والمسؤولين.

وهكذا نرى أن الياسمين إضافة إلى أنه يرمز إلى جمال الطبيعة ويمتع حواس الإنسان قد تحول إلى«صناعة غير مكلفة ولا ملوثة»(كما وصفها مدير المهرجان) تهذب ذوق الانسان وتوطد علاقته بالطبيعة  وتعلمه الصبر والإتقان وتشجع المستهلك على اقتناء منتوجات تغذي روحه وحواسه دون أن تضر به وأكثر من ذلك أصبح يمثل تظاهرة ثقافية هامة تشغل الشباب وتحثهم على تحقيق طموحاتهم.

أعداد المجلة