فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
32

تجديد المنهج في توثيق التراث غير المادي

العدد 32 - آفاق
تجديد المنهج  في توثيق التراث غير المادي
أستاذ محاضر، جامعة الحسن الثاني، المغرب

 

مقدمة:

أفضى الوعي بضرورة صون التراث الثقافي غير المادي في العقد الأخير، إلى إحداث منعطف جديد في الاهتمام بالمعرفة التراثية توثيقا وصيانة، وقد اتخذ هذا الوعي صورتين اثنتين:

- صورة حقوقية تجلت في مصادقة الدول العربية على اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي سنة 2003 وما استتبع ذلك من تشريعات محلية مؤكدة على أهمية المكون اللامادي في الهوية.

- صورة تطبيقية تمثلت في إنشاء مؤسسات حكومية وغير حكومية أُوكلت لها مهمة توثيق وصيانة المأثور الشعبي على غرار المؤسسات المهتمة بالمعمار والمباني.

 

 

لكن رغم ذلك بقي هذا الانبعاث قاصرا يحتاج إلى تأصيل فلسفي يقي عملية التوثيق مما يشوبها من آفات قد تفضي إلى أضرار لا تمحى بالنسبة للموروث الثقافي، وتسعى هذه الورقة إلى تأصيل منهجية في التوثيق انطلاقا من المحاور الآتية:

1 - التراث الشعبي أيا كانت طبيعته (معتقدات، عادات، سرود شفهية..) ما هو إلا مجموعة من الممارسات الثقافية، وقد أدى الخلط بين التراث بوصفه منجزا ثقافيا من جهة وكونه ركاما من الأشياء المتحفية من جهة ثانية إلى تشويه التراث وتجزيئه.

2 - توسل العاملون في توثيق التراث مؤسسات وأفرادا بمنهجية في التوثيق تفتقد إلى البعد السياقي وتغليب رؤية تجزيئية حصرت التراث في مجموعة من الأشياء المادية الساكنة فاقدة للحياة، وأمام هذا الوضع غير الطبيعي وسعيا إلى تصحيحه خرجت اتفاقية صيانة التراث اللامادي طامحة إلى ترسيخ مفهوم جديد للممارسة تراثية تقوم على شبكة من العلاقات المتداخلة للفعل التراث.

3 - ظلت منظومات التوثيق التقليدية توثق وتصون وتصنف الآثار الثقافية للفعل التراثي عن طريق انشاء متاحف تعبر عن نظرة جامدة للتراث، في مقابل هذه النظرة الجامدة قامت عدة منظمات حكومية بإقامة متاحف حية سميت في أدبيات اليونسكو بالكنوز البشرية الحية بحيث أن حامل التراث هو المحور الأساسي الذي يتعين صيانته وليس ما ينتجه من أشياء ومرويات.

4 - بناء على فهم سياقي للتراث والنظر إليه باعتباره ظاهرة ثقافية متعددة الأبعاد (زمنية جغرافية اثنية) يمكن استحداث مفهوم أصيل وهو التوثيق الحي مقابل التوثيق الميت.

وتستند المنهجية التي ندعو إليها في البحث إلى الدراسات الأمريكية والكندية المبكرة لا سيما المدرسة السياقية التي يمثلها كل من العالمين شارل جونز في أمريكا وجون دي بيرجي بكندا الذي أعد شبكة الممارسات الثقافية لهذا الغرض استفادت بشكل كبير من اللسانيات التداولية والأبحاث الاثنولوجية حيث قدمت فهما جديدا للتراث باعتباره مجموعة من الممارسات الثقافية بدل تحنيطه وتجميده في إطارات متحفية.

 إن الطابع الحي للممارسة التراثية أيقظ الوعي بخطورة التوثيق الحي(1) وما يمثله من دور في صيانة الأفعال التراثية، لكن بعض نظم التوثيق والحماية فرطت في الأهداف التي أُنيطت بالصيانة فاكتفت بالتدوين الكتابي عن القيام بإنشاء «محميات ثقافية» على غرار المحميات الطبيعية، لأجل تلك الغاية قمنا بعرض المتغيرات والركائز التي تبنى عليها الأفعال التراثية لعلها تكون دليلا للمؤسسات العاملة في هذا الميدان مسترشدا بالمواثيق الدولية وأحدث الدراسات العلمية:

1 .متغيرات التراث اللامادي:

يقتضي التوثيق الحي للتراث اللامادي باعتباره أفعالا إنجازية الأخذ بمجموعة من المتغيرات المؤسسة للممارسة التراثية:

1_1.متغير حامل التراث:

مابرح التوثيق التقليدي بنوعيه الورقي والمتحفي(2) يتعامل مع المواد التراثية مقطوعة صلتها بحامليها إلى أن جاءت اتفاقية صيانة التراث الثقافي غير المادي سنة 2003، داعية الدول الأعضاء إلى اشراك الجماعات المحلية في عملية جمع وصون تراثها، وقد أسفر هذا الإشراك عن إدراج اعتراف الجماعة الحاملة للتراث ضمن شروط القبول، ولا تحظى قوائم التراث غير المادي بالمقبولية القانونية من قبل اليونسكو حتى تستوفي شرط الاعتراف الجماعي للتقاليد الموثقة.

 1  _ 2.متغير الزمن:    

يمكن النظر إلى عناصر التراث الثقافي غير المادي  من زاويتين:

زاوية آنية:

 في ظل هذه الزاوية يقوم الموثق بالنظر والبحث في العنصر الثقافي خلال فترة زمنية مقتطعة من التاريخ، وصفا، وتدوينا. فالباحث في الفولكلور لا يهتم بالجانب التطوري لهذا العنصر وتغير أوضاعه في فترات زمنية متعاقبة  بقدر ما يهتم بوصفه وتوثيقه في فترة من فترات التاريخ، لأنه يتصور موضوعه في حالة سكون، غير مهتم بما كان عليه ولا متتبعا لأصوله، مركزا نظره على ما يدخل في حيز الرؤية والملاحظة الآنية دون الرجوع إلى سابق عهده في الزمن الماضي، ويركز في تحليله للعناصر التراثية على جملة علاقاته وأبنيتها المتراكبة، وانتظامها في نسق ديناميكي.

زاوية تطورية :

خلافا للنظر الأول، فإن الباحث يهتم في العناصر الثقافية غير المادية من حيث حركة تطورها، وصفا، أو تعليلا، أو تفسيرا، بالاهتمام بتطور الظواهر التراثية وصيرورة أوضاعها في فترات زمنية متعاقبة ويهتم بمشكلات النشأة والتحول، وعوامل النمو والتدهور.

الزاوية الثانية ليست ذات قيمة معرفية ولا اجرائية في مجال توثيق التراث الثقافي غير المادي، فهذا النوع من المعلومات يندرج ضمن الدراسات التاريخية، وما يعنينا، كدارسين للتراث الشعبي، هو النظر الثاني من حيث كونه يرصد العناصر التراثية في الفترة الآنية، باستقرائها من خلال السلوك اليومي للجماعة البشرية، وتشدد اتفاقية حماية التراث غير المادي على الطابع الحي والمستمر، منبهة إلى هذا المعنى بشكل واضح في تعريفها للتراث الثقافي بكونه «متوراثا جيلا عن جيل، تبدعه الجماعات والمجموعات من جديد بصورة مستمرة بما يتفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة وتاريخها»(3).

1 _ 3 .متغير التلقي المباشر للتراث:

من بين العناصر التي غُيبت في الممارسة التوثيقية التقليدية عنصر التلقي المباشر؛ فالحامل للتراث ينفعل بجمهور المتلقين، بل المتلقي أحيانا يكون أحد الفاعلين في إنتاج المأثور الشعبي لاسيما إذا تعلق الأمر بالمرويات الشفاهية، فشفاهية المرويات تستدعي تأثيرا بينيا بين المرسل والمرسل إليه، خلافا للتلقي الكتابي الذي قد يحدث في غياب الحضور المباشر للمتلقي، من أجل ذلك يتعين على الموثق أن يسجل لحظة الإلقاء/الإنتاج في حضور الجمهور لأن كل لحظة تترك أثرها في المسرد الشفهي.

في ضوء ذلك يمكن استخلاص مجموعة من النتائج؛ منها أن نفس المروي الشفهي (قصص، حكايات، ألغاز، أمثال..) لا يتغير من شخص لآخر فحسب، إنما يختلف لدى نفس الشخص حسب السياق الذي أنجز فيه المروي، وبذلك يكون أي مروي شفاهي يتركب من جانبين: شكلي يعبر إجمالا عن عنوان المروي، ثم من جانب مادي سياقي وهو ثمرة تفاعل بين الراوي والمتلقي، فمهما حاول الموثق تسجيل مروياته فإنه بالكاد يمسك الخطوط العريضة للمرويات الشفهية.

1 _ 4 .متغير الجغرافيا:

الجغرافيا لها تأثير كبير في تشكيل الوعي الثقافي للمجموعة الثقافية، لذلك يتعين اعتبار هذا العامل في توثيق  المأثور الشعبي، للأسف هذا العامل لم ينل حظه من الدراسة في مختلف نظم التوثيق، مع كونه يمثل الفضاء المادي الذي تمارس فيه العادة، بل يعتبر أحد المكونات المؤسسة للمنجز التراثي سواء تعلق الأمر بمنجز شفاهي أو مادي.

1_5.متغير اللغة:

لما كانت اللغة هي المحل والمختبر الأول الذي تتشكل فيه التقاليد، جاز أن تختلف العادات والتقاليد وفنون القول الأدبي باختلاف اللهجات التي تنقلها، هنا لا يجب أن يفوتنا أمر بغاية الأهمية بمكان، وهو أنه مهما كانت طبيعة التدابير الرامية إلى استبقاء عناصر التراث الثقافي غير المادي فإن قدرتها التوثيقية ستبقى غير ذي جدوى ما لم يتم صون اللغة باعتبارها الوسيط لنقل التراث الثقافي غير المادي، لأن «اللغات المختلفة تتحكم في كيفية رواية القصص والأشعار والأغاني كما تؤثر على مضمونها، واندثار لغة ما يقود حتماً إلى فقدان دائم لما لديها من تقاليد شفهية وأشكال تعبير شفهي»(4)، ومع أهميتها تلك فإن حماية فرادى اللغات وصونها لا يدخل في نطاق اتفاقية 2003 .

2 .ركائز التراث اللامادي:

تتحدد ملامح الهوية الثقافية للفعل التراثي بأربع ركائز:

2 _ 1 .ركيزة الشفاهية:

ترتبط بمفهوم الشفاهية دلالتان: تشير الدلالة الأولى إلى طبيعة التراث من حيث كونه مجموعة من المضامين الكلامية وفنون القول، أما الدلالة الثانية فتشير إلى الجانب التواصلي؛ فالشفاهية هنا لا تعني مجرد التلفظ بالكلام، أو الخصائص الفكرية التي تميز المأثورات الشعبية، وإنما المقصود بها التواصل الشخصي المباشر، الذي يعتمد على الحضور المباشر بين طرفي العملية التواصلية (المرسل والمرسل إليه)، والغرض الأساسي من التوثيق بدرجة كبيرة هو الاستغناء عن هذا الحضور وضمان استمراريته بين أجيال وشعوب لم تشهد الحدث التراثي أثناء انجازه، وإلى هذا المعنى تشير الاتفاقية في الفقرة 3.2:

 «ويقصد بكلمة «الصون» التدابير الرامية إلى ضمان استدامة التراث الثقافي غير المادي »(5).

يجرنا الحديث عن التواصل بين أجيال المجموعة التراثية الحاملة لمضامين التراث الشعبي إلى الآليات التربوية التعليمية التي ابتدعتها الجماعة عفويا، قصد حماية مأثوراتها الشعبية القائمة على خاصية الحضور المباشر كما أشرنا إليه آنفا، وتعتبر هذه الآليات ذات أهمية قصوى في عملية استبقاء عناصر التراث إلى جانب اللغة.  وعندما يتسرب الضعف إلى هذه الآليات، فإن جزءا كبيرا من هذه العناصر لا يقوى على الصمود أمام التحولات المجتمعية الذي تعرفها المجموعة البشرية، بسبب احتكاكها المتواصل مع المجموعات المجاورة لها في نفس المكان، وقد تردد اعتقاد خاطئ لدى بعض علماء الانثربلوجيا، مفاده أن المجموعة التراثية تنقل ثقافتها وخبراتها إلى الأجيال القادمة بشكل جماعي ومتواتر، وأن أفراد الجماعة متساوون في هذه الخبرة(6)، ولا شيء يميز بعض أفراد الجماعة عن البعض الآخر في غياب أي أسلوب تعليمي بفضله يمكن لبعض الأفراد من الجماعة التميز عن الغير. والصحيح أن بعض الجماعات الثقافية التقليدية قد استطاعت تطوير أساليب وآليات تعليمية عفوية خلقت تفاوتا ملحوظا بين نفس أفراد المجموعة، من حيث درجة التحقق بالتراث الثقافي الشعبي، ويمكن التمييز بين صنفين من الأفراد داخل المجموعة التراثية؛ الصنف الأول يتكون من المتلقين العاديين ويشكلون سواد المجموعة، أما الصنف الثاني فهم أقلية أو نخبة تتميز عن الآخرين بقدرتها على التلقي والإنتاج في آن واحد، فضلا عن حفظ الموروث، وقد اكتسبوا هذه المقدرة عن طريق التنمذج بشيخ معروف ومعترف به بحيازته للعنصر التراثي (فن، حرفة ..). يقوم التنمذج على سلوك الاقتداء بنموذج سابق، مع الحرص على استيعاب وتمثل سلوك، و أداء «المعلم»، وإعادة إحيائه في سلوك المتعلم، سواء أكان التلميذ تحت الإشراف المباشر لـ«المعلم»، أو مجرد متعلم يحتذي حذو المعلم بغير علمه.

وقد ميز ايزيدور(7) بين صنفين من أساليب التنمذج؛ صنف غير رسمي باعتبار أنه ليس هناك التزام مسبق بين المتعلم والمعلم، يلاحظ المتعلم معلمه في فترة معينة ثم يبدأ في تقليده، ثم صنف آخر أرقى من الأول ينخرط فيه المتعلم بقصد إتقان فن من الفنون الشعبية على يد زمرة من الفنانين الشعبيين ذوي خبرة وباع كبير في هذا المجال .

«يوجد صنفان من التعلم لهما أساس مشترك..الشهرة والخبرة، الصنف الأول غير رسمي من حيث كونه لا يلزم ان تكون ثمة روابط عائلية أو التزام ظاهر بين المتعلم والأستاذ... في هذا الصنف يمكن للمتعلم ببساطة متابعة وملاحظة فنان قدير يعيش في نفس مجتمعه.. لكن يوجد شكل أكثر احترافية من الاول ولا يمارس إلا من قبل محترفين منتسبين إلى عبادة أو نقابة، أو خدام الملك...».(8)

 التنمذج على مثال سلوكي سابق ليست مقتصرة على التعليم الشعبي فحسب، وإنما هي طريقة مرغوبة ومتفشية أيضا وبشكل كبير في التعليم الديني أو الشبه الديني، وربما في أحيان كثير تكون في هذه الأوساط مُقدَمة على الطرق الرسمية(9) في التعلم، بل قد تكون شرطا في تحصيل فن من فنون الدين.

2 _ 2 .ركيزة التوريث:

جميع المأثورات الشعبية لها أصل في تاريخ الجماعة البشرية وتنقل جيلا عن جيل سابق في الوجود، وبهذا الحد تخرج جميع الممارسات والسلوكات التي ليس لها سند تاريخي سابق كرقص الهيب هوب مثلا، أو بعض الأشكال الموسيقية التي لا يتعرف عليها الأجداد ولا تعد جزءا من هويتهم الاجتماعية.

قد تتعارض هـذه الركيــزة مــع مــا رســخ في الاعتقــــاد أن المأثــور الشعــبي لا يشــوبه أي تغييـــر، لكــن الـــــواقع الثقافي يشهد غير ذلك والشواهد الحية من الواقع تؤكد بما لايدع أدنى شك أن العنصر الثقافي يتعرض بفعل احتكاك الجماعات بعضها ببعض لمجموعة من الإكرهات والمراغمات، وهذا يفسر لماذا بعض العناصر التراثية تختلف في مضامينها من منطقة لأخرى، خذ على سبيل المثال لا الحصر رقصة أحواش المنتشرة في المجال الثقافي المغاربي الأمازيغي ما يجعلنا نتحدث عن أكثـر مـن نـوع فنـي ذلـك أن الـرقصة بـرحـت مكــان مــــولــدها فــــي الأطلـــس الامــازيغي فانتقلــت محــايثة لمناطق عربية صحراوية، هناك اتخذت شكلا آخر امتزج بنكهة محلية...

2 _ 3 .ركيزة مشاركة المجتمع المحلي:

من المسلمات الاجتماعية البديهية أنه من الضروري أن تشارك المجموعة التراثية الحاملة للتراث في التعرف عليه والحفاظ عليه، لذلك تضمنت اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي مادة في غاية الأهمية بمكان؛ تلزم الدول الموقعة عليها «ضمان أوسع مشاركة ممكنة للجماعات، والمجموعات، وأحيانا للأفراد، الذين يبدعون هذا التراث ويحافظون عليه وينقلونه، وضمان إشراكهم بنشاط في إدارته(10).

ذلك أنه لما كانت الجماعة هي التي تبدع التراث الشعبي وتستبقيه حيا، فإنه من الطبيعي أن تكون مؤهلة قبل غيرها في تحديد التراث وصونه. «فبدون اعترافهم به لا يمكن أن يقرر أي إنسان آخر أن شكلا من أشكال التعبير أو ممارسة من الممارسات تشكل جزء من تراثهم»(11).

ومن أجل الوفاء والتحقق من هذه المشاركة من الناحية التقنية والعملية، يتوجب على الدولة الممثلة في الجهاز الثقافي الموكول له مهمة توثيق العنصر التراثي، أن تأخذ موافقة الجماعات البشرية الحاملة لهذا التراث، وإشراكها بصورة فعالة، و «ضمان ألا يحصر سوى التراث الثقافي غير المادي الذي تعترف به الجماعات أو المجموعات»(12)، كما يتعين «تأمين الموافقة الحرة والمسبقة والمستنيرة للجماعات أو المجموعات قبل الشروع في عملية الحصر »(13).

ويتأكد ذلك بوضوح أكبر في الاستمارة(14) المعدة لهذا الغرض، حيث ألزمت المترشحين في المحور الرابع(15) الفقرة الأولى(16) القيام بشرح كيف ساهمت المجموعات والأفراد المعنيين في إعداد وتهيئ الترشح في جميع مراحله(17).

 وفي الفقرة الثانية(18) تحت نفس المحور الرابع، طلب نص الاستمارة من المترشحين أن تكون هذه الموافقة عبارة عن اعتراف كتابي، أو شفوي مسجل، أو بطريقة أخرى حسب النظام العدلي للدولة (19).

هذا الاعتراف الضمني بالجماعات البشرية المحلية الحاملة للتراث الثقافي الشفهي يحمل عدة دلالات ثقافية نوجزها في الملاحظات الآتية؛

 - تسعى منظمة اليونسكو إلى رفع احتكار الدولة عن صيانة الثقافة.

- تدويل قضية التراث الثقافي غير المادي وإعطاؤه صبغة دولية عبر إقرار لجنة دولية، وإسناد لها مهمة اختيار العنصر الثقافي. ومن شأن ذلك قطع السبيل على جميع محاولات الدولة وأجهزتها التحكم المغرض في الأقليات الثقافية الموجودة تحت تصرفها.

- جعل المجموعات البشرية تقرر في مصير تراثها.

- إيلاء عناية خاصة بالمجموعات الثقافية التي طالها التهميش بسبب السياسات الثقافية التي تتحكم بها الدولة الغالبة.

2 _ 4 .ركيزة التداولية:

تستمد المأثورات الشعبية خصوصيتها من كونها نتاجا تراكميا لخبرة مجموعة بشرية تعيش في إطار زمكاني محدد، ومهما تشابهت تجارب الشعوب في بعض المظاهر الشعبية فإن المأثور الشعبي يظل مع ذلك يتميز بخصوصية المكان الذي أنتجه واصطبغ بصباغه.

ويترتب عن هذا المبدأ مجموعة من الاعتبارات المنهجية في توثيق التراث الشعبي يمكن إيضاحها من خلال المثال الآتي؛ أدرجت الصقارة (تبيازت بالمفهوم المحلي المغربي للكلمة) في القائمة التمثيلية لصون التراث الثقافي غير المادي في إطار ترشيح مشترك ضم أكثر من دولة تنتمي إلى مجالات تراثية مختلفة (مجال تداول إسلامي ، غربي..). ومع أن الصقارة كممارسة رياضية لا تختلف مظهريا من دولة لأخرى، فإنها تختلف من حيث كونها فنا له خصوصياته، تصاحبه مجموعة من الطقوس والشعائر المحلية، تجعله نشاطا فريدا من نوعه وأكثر التصاقا بالمجال التداولي الذي نشأ فيه.

يتبين من ذلك بجلاء أن المأثور الشعبي يتجاذبه انتماءان اثنان؛ انتماء انساني مشترك بين البشر، ثم انتماء محلي يربطه بمجاله التداولي، لأجل ذلك يتعين على الموثقين رصده في تلوناته المحلية، والإمساك بعلاقاته التي يقيمها مع باقي العناصر في سياق طقوسي محدد.

خلاصة:

من كل ما مر يمكن أن نستجمع مجموعة من النتائج يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجالات رئيسة: حقوقية، علمية ثم مؤسساتية.

أما المجال الحقوقي فقد حظيت الممارسة التراثية غير المادية باعتراف جميع دول العالم وصاحب هذا الاعتراف سن تشريعات وقوانين تنهض بحماية حقوق الجماعة الثقافية.

علميا:   حظي الفعل الإنجازي بأهمية كبيرة في الدراسات الاثنولوجية حيث جعلت منه منطلقا لتوثيق الذاكرة الثقافية التي لا يمكنها أن تتكشف إلا عبر نسق من الأداءات «performances» والممارسات الثقافية الحية.

مؤسساتيا: تم إنشاء مؤسسة عالمية تحتضنها اليونسكو تضطلع بدور جد هام في ترشيح أفضل الممارسات وإدراجها في قوائم التراثية العالمية وتعهدت بتقديم دعم مالي مهم للمشاريع الوطنية.

 

 

 

الهوامش:

1 - نقصد بالتوثيق الحي تلك الممارسات التي تتخذ من الفعل التراثي مدخلا لصيانته في المقابل يمكن أن ننعت النظم الحميائية التي تكتفي بتوصيفه وتدوينه بالتوثيق الميت

2 - إذا تأملت في المواثيق الدولية قبل 2003 ستلاحظ أمرين أساسيين :

 - غياب إطار قانوني يحظى بإجماع دولي حول مسألة التراث اللامادي-

-  جل المواثيق والبنود الدولية قبل 2003 تاريخ صدور الاتفاقية . ركزت بشكل كبير على الطابع الثابت للتراث فأفضى ذلك إلى متحفية ميتة تدور حور الشيء الثقافي بدل الحدث.

3 - المادة 2 – التعريف من اتفاقية صون التراث غير المادي

4 -  http://www.unesco.org/culture/ich/index.php?lg=ar&pg=00053

5 -  ‘Safeguarding’ means measures aimed at ensuring the viability of the intangible cultural heritage..

6 -  إلى هذا المعنى أشار «ازيدور» في كتابه Littérature Orale En Afrique»  «  ص 15 حيث فند هذا الادعاء بقوله :

« Au début des recherches anthropologistes sur les sociétés africains, un préjugé voulait que, puisque les africains menaient une vie communautaire fondée sur le partage , tout individu devait être capable de produire des textes littéraires oraux ,tous devaient être également compétents »

7 - ISIDORE OKPEWHO – Littérature Orale En Afrique –page 16-Bibliothèque d’orientation-

8 - «… il existe deux type de formation, qui doivent d’ailleurs avoir pour base commune… une vocation et un talent manifestes .on peut dire du premier type qu’il est informel dans la mesure où n’implique ni liens ni engagement explicite entre l’apprenti artiste et le maître …l’apprenti peut tout simplement observer un artiste confirmé qui vit dans le voisinage ou dans la même communauté…mais il existe une forme d’art oral plus savant , plus raffiné, qui ne peut être pratiqué que par des artistes affiliés à un culte, une guilde , ou au service de roi»

9 - المقصود بالطريق الرسمي في التعلم الطريق الذي يعتمد نظام الكتابة في حفظ المعلومات وتوثيقها وعلى هذا الاساس يتم تداول المعاني وتلقينها.

10 -  المادة 15 –تحت عنوان مشاركة الجماعات والمجموعات والأفراد .

11 - http://www.unesco.org/culture/ich/index.php?lg=ar&pg=00259

12 -  http://www.unesco.org/culture/ich/index.php?lg=ar&pg=00259

13 - http://www.unesco.org/culture/ich/index.php?lg=ar&pg=00259

14 -  Liste représentative : ICH-02-Formulaire.

15 -  Participation et consentement des communautés dans le processus de candidature.

16 -  Participation des communautés, groupes et individus concernés dans le processus de candidature

17 - « Décrivez comment la communauté, le groupe et, le cas échéant, les individus concernés ont participé activement à la préparation et à l’élaboration de la candidature à toutes les étapes ».

18 -     -4.b. Consentement libre, préalable et éclairé à la candidature

19 -  Le consentement  libre, préalable et éclairé de la communauté, du groupe ou, le cas échéant, des individus concernés à la proposition de l’élément pour inscription peut être démontré par une déclaration écrite ou enregistrée, ou par tout autre moyen, selon le régime juridique de l’État partie et l’infinie variété des communautés et groupes concernés. Le Comité accueillera favorablement une diversité de manifestations ou d’attestations de consentement des communautés au lieu de déclarations standard et uniformes. Elles doivent être fournies dans leur langue originale de même que, si nécessaire, en anglais ou en français.

المراجع:

1 - Isidore Okpewho , La littérature orale en Afrique subsaharienne, trad. de l’anglais par Micheline Pouteau , Bibliothèque d’orientation.

2 - Jean Du Berger , Grille des Pratiques Culturelles, Septentrion .CELAT

3 - Dan Ben Amos, Toward a Definition of Folklore in Context, the journal of American Folklore, vol.84 , No.331, Toward New perspectives in Folklore (Jan-Mar.1971),pp3-15

4 - Charles W. Joyner, A Model for the Analysis of Folklore Performance in Historical Context, The Journal of American Folklore, Vol. 88, No. 349 (Jul. - Sep., 1975), pp. 254-265.

5 - LES MESURES DE SOUTIEN AU PATRIMOINE IMMATÉRIEL , Conseil québécois du patrimoine vivant, Bibliothèque et Archives nationales du Québec, 2012.

6 - والترج.أونج ، الشفاهية والكتابية، ترجمة حسن البنا عز الدين،مراجعة محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،1994.

7 - مصطفى جاد ، توثيق التراث الشعبي العربي ..قضية سياسية، مجلة التراث الشعبي العدد 1.

8 - حوار د.علي عبد الله خليفة مع مجموعة من الباحثين ، التراث الشعبي غير المادي ..مصطلحا خلافيا ، مجلة التراث الشعبي ، العدد 1 .

9 - شهرزاد قاسم حسن ، في المنهج وسياقاته ، مجلة الثقافة الشعبية العدد 4.

10 - مصطفى جاد ، مكنز الفولكلور المجلد الأول – القسم المصنف ، مراجعة محمد الجوهري ومحمد فتحي عبد الهادي ، المكتبة الأكاديمية ، مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي ،القاهرة، الطبعة الأولى ، 2006.

11 - محمد محمود الجوهري ، مقدمة في دراسة التراث الشعبي المصري، مركز البحوث والدراسات الاجتماعية ، 2006، الطبعة الاولى.

12 - السعدية عزيزي ، المالكي طارق، سعيد أيت زهرة ، مكنز التراث الشعبي المغربي، المركز المغربي للتراث الشعبي والمخطوطات، الدار البيضاء ، 2008.

الصور:

1-http://africanah.org/wp-content/uploads/2014/08/Davis3.jpg

2-https://theartofdang.files.wordpress.com/2012/02/time.jpg

 

أعداد المجلة