فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
32

المطربة «صليحة» بحث في أسرار الخلود

العدد 32 - موسيقى وأداء حركي
 المطربة «صليحة» بحث في أسرار الخلود
أستاذ بالمعهد العالي للموسيقي، جامعة سوسة، تونس

احتفلت تونس على مدى السنة الماضية بمرور مائة سنة على مولد المطربة صليحة(1)(1914 – 1958) التي تعتبر من أهم الأعلام الفنية التي ميّزت المشهد الغنائي في البلاد التونسية خلال النصف الأول من القرن العشرين على الرغم من قصر عمرها الفني (1938 – 1958)، ونتبين ذلك من خلال نتيجة إحصائية تحصلنا عليها أثناء قيامنا بالعمل الميداني المبني على الاستبيان الخاص برسالة الدكتوراه (الذوق الموسيقي بالبلاد التونسية، جدلية الدلالة الرمزية والتقبل. مقاربة تاريخية واجتماعية ودراسة موسيقية مقارنة)(2)،حيث تصدّرت المطربة صليحة قائمة اختيارات المُستجوَبين الكهول(3) الخاصة بالمغنين التونسيين.

 

ومن خلال عملية البحث في جملة الأغاني الخاصة بها نجد أن مجمل الأسباب التي جعلت المطربة صليحة تتصدر قائمة المستجوبين الكهول تتلخص في النقاط التالية:

- أهمية الفترة التي ظهرت فيها المطربة صليحة.

- طبيعة صوت المطربة صليحة.

- الطبوع والإيقاعات التي جاءت عليها أغاني المطربة صليحة القريبة من اللهجات الشعبية والإيقاعات الشعبية في أغلب مناطق البلاد.

- القوالب الموسيقية المغناة من طرف المطربة صليحة والـقـــريبـة مـــن الـقــوالب الـغـنــائـية الشـعـبيـة، عـلــى غرـار الفـونـدو والعـروبـي الذي يشبـه قـالـب «هـزان الصوت» المنتـشر بـالمنـاطـق الـغـربـيـة والمحـاذيـة  للـحـدود الجـزائـريـة.

- القوالب الشعرية المغناة من طرف المطربة صليحة والتــي تنتـــمي أغلبـــها إلـــى إحـــدى الفـــروع الأربـــعـة للشعر الشعبي التونسي: الـﭭـسيم والموﭬـف والملزومة والمسدس.

- تنـوع الأغـراض الشعـريـة لأغـانـي المطـربة صليـحة.

- قيمة الملحنين والشعراء الذين تعاملت معهم المطربة صليحة.

ملخّص العمل الميداني الخاص بالمطربة صليحة:

السؤال كان حول المغنين الشرقيين والتونسيين والغربيين المفضلين لديهم في فترة شبابهم (تقريبا فترة الستينات والسبعينات من القرن العشرين)، فكانت النتائج مقارنة بعدد المستجوبين على النحو التالي:

- العدد الجملي لكل المستجوبين هو 1005 مستجوب يمثلون عيّنة مصغّرة للمجتمع التونسي حسب النظام التقريبـي للدولة وهم من الأقاليم السبعة للبلاد التونسية موزعين عدديا حسب الجنس والفئات العمرية والمستوى التعليمي وأيضا حسب منطقة الإقامة (وسط بلدي / وسط غير بلدي) وذلك حسب نتائج آخر إحصاء قام به المعهد الوطني للإحصاء سنة 2004.

- عدد المستجوبين الكهول: 195 مستجوب، منهم 97 إناث و98 ذكور.

- عدد المستجوبين الذين ذكروا المطربة في قائمة الاختيارات الخاصة بالمغنين التونسيين:

171 مستجوب، منهم 104 إناث و67 ذكور، (24 مستجوبا فقط من جملة 195 لم يذكروا المطربة صليحة).

- عدد المستجوبين الذين جعلوا المطربة صليحة تتصدّر قائمة الاختيارات الخاصة بالمغنين التونسيين: 133 مستجوب، منهم 76 إناث و57 ذكور.

كل هذه النتائج تبيّن مدى اهتمام التونسيين بالمطربة صليحة وأغانيها خلال فترة الستينات والسبعينات من القرن العشرين، وبالبحث في أسباب هذا الاهتمام نجدها تتلخص في النقاط التالية:

أهمية الفترة التي ظهرت فيها المطربة صليحة:

ظهرت المطربة صليحة لأول مرّة خلال حفل افتتاح الإذاعة التونسية في أكتوبر 1938 بالمسرح البلدي، وقد سجّلت منذ ذلك التاريخ وحتى وفاتها 63 أغنية منها 36 أغنية محفوظة بخزينة الإذاعة التونسية، والبقية تسجيلات تابعة لحفلات الرشيدية أو تسجيلات على اسطوانات الرصايصي، وتعتبر هذه الأرقام في حد ذاتها أرقاما قياسية في تلك الفترة إذا ما نظرنا إلى أجهزة وتقنيات التسجيل الصوتي المعتمدة بمؤسسة الإذاعة آنذاك وببقية شركات التسجيل والصعوبات الكبيرة والمختلفة التي تعرقل عملية التسجيل برمتها.

أما الفترة التي ظهرت فيها المطربة صليحة فقد تميّزت بالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية وبالحراك السياسي الذي انعكس على المشهد الثقافي والفكري والفني بصفة عامة، نذكر من ذلك:

- تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية من جراء انعكاسات أزمة الثلاثينات التي أدت إلى تدهور قطاعي الفلاحة والمناجم بسب انهيار الأسعار وغلق الأسواق الخارجيّة، وكذلك الظروف الطبيعيّة الصعبة من جرّاء الجفاف والجراد.

- أدّت الأزمـة الاقتصادية إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية لمعظــم التــونســيـين مـن ذلـك إفـلاس العديد من الفـلاحـين والحـرفيـين والتجـار وتفـاقم البطـالـة في المـدن الكـبـرى وفي المنـاطـق المنجمـيّة التـي أدت إلـى تكثّـف النـزوح إلى المـدن وانتـشار الأحـياء القـصـديـريّة حـولها وبـروز مـا يعـرف بظـاهرة «تـرييـف المـدن».

- تفـاقم تحـديات السـياسة الاستعمـاريّة، حـيث عـمـدت فرنسـا في مطلـع الثـلاثيـنات إلـى تنـظيم تظـاهرات كبرى على غرار المؤتمر الأفخارستي وكذلك الاحتفال بخمسينيّة الحماية وأيضا أحداث التجنيس، إذ مسّت هذه التظاهرات بمشاعر التونسيين الوطنيّة والدينية.

- تأزّم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية أدى إلى بروز قوّتين جديدتين على الساحة الوطنيّة، فمن جهة نجد الجماهير الشعبيّة التي عبّرت عن رفضها لسياسة المستعمر الفرنسي وعملت على التصدي لسلطات الحماية بتنظيم المظاهرات والاحتجاجات والإضرابات بلغت حدتها مع حوادث التجنيس وأجبرت سلط الحماية على تخصيص مقابر خاصة بالمتجنسين، ومن جهة أخرى نجد مجموعة «العمل التونسي» مع الزعيم بورﭬـيبة ورفاقه الذين أسسوا صحيفة العمل وأبدوا قدرة فائقة على تعبئة الرأي العام ضدّ قضيّة التجنيس.(4)

كل هذه الأحداث أثّرت في المشهد الثقافي والفكري والأدبي والفني للبلاد، حيث عرفت تونس في مطلع الثلاثينات حركة ثقافية وفكريّة نشيطة تجلّت من خلال تكثّف النشاط الصحفي وظهور عدّة صحف أخذت على عاتقها الدفاع عن مصالح التونسيين وتبني التحركات الشعبيّة مثل صحيفة «صوت التونسي» وصحيفة «العمل التونسي»، كما برز تيار فكري تحرّري جديد عبرت عنه كتابات المصلح الطاهر الحداد حول المرأة والعمال(5)، وقد برز أيضا تيار أدبي ثوري جديد تبنـّى التعبير عن تطلعات الشعب التونسي ورغبته في التحرر والانعتاق، عبرت عنه قصائد الشابي كما عبرت عنه كتابات جماعة تحت السور.

كما تكثف في هذه الفترة العمل الجمعياتي، حيث بلغ عدد الجمعيات سنة 1937 (94جمعيّة) ناشطة في مختلف المجالات مثل «الشبيبة المدرسية» وجمعيّة «طلبة شمال إفريقيا المسلمين» وجمعيّة «قدماء الصادقية» وكذلك جمعيّة «الرشيدية» التي مثّلت حدثا مهما في المشهد الموسيقي التونسي خاصة حين انبثق عن هذه الجمعيّة معهد يهتم بالتعليم والتكوين في الموسيقى التونسية (6).

طبيعة صوت المطربة صليحة:

يعتبر صوت المطربة صليحة من الأصوات النسائية النادرة خلال الفترة المتراوحة بين سنتي 1938 و1958 مقارنة بمثيلاتها اللاتي عاصرنها، فمن جهة نجد صوتها يمتد على مساحة صوتية تفوق الديوانين (من درجة اليكاه إلى درجة جواب جواب البوسلك)، ومن جهة أخرى نجد صوت المطربة صليحة صوتا خاما متعوّدا على أداء الجمل الموسيقية الشعبية بكل خصائصها التـقنـيـة والـجـمــالـــية، هـــــذا إلــــى جـــــانـــب نقــــاوة وســــــــلامـــــة مخارج الحروف عندها وهو النطق الذي يميّز طبيعة اللهجة العاميّة الدارجة لأغلب المناطق الداخلية للبلاد التونسية وخاصة منها البوادي والأرياف والتي يعرفها الجميع عند الاستماع باستعمال القاف المعقودة (ڤ)على حد تعبير الباحث المنوبي السنوسي(7).

طبوع وإيقاعات أغاني المطربة صليحة:

إن المتأمل في الرصيد الغنائي المسجل للمطربة صليحة يلاحظ التنوّع الكبير على مستوى الطبوع المستعملة والقريبة في استعمالاتها من اللهجات الشعبية التونسية هذا إلى جانب استعمال اللهجات الشعبية الخاصة ببعض المناطق الداخلية، إذ نجد العديد من الأغاني في طبع المزموم وطبع راست الذيل والأصبعين ورمل الماية والسيكاه وغيرها، كما نجد طبع الحسين صبا الذي تناولته المطربة صليحة في أغنية «انزاد النبي» على النحو الذي عليه تقريبا لهجة «الحمدان» المنتشرة ببعض المناطق الساحلية وخاصة منطقة المثاليث(8)، ومن اللهجات الشعبية المستعملة بكثرة في الموسيقى الكلاسيكية التونسية نجد العديد من الأغاني أو أجزاء منها في المحير سيكاه والمحير عراق، وأما في اللهجات الشعبية الأخرى فإنا نجد أغاني في العرضاوي والصالحي بمختلف تفريعاته وتنويعاته المحلية.

والجدير بالذكر أن المطربة صليحة غنّت في بعض المقامات الشرقية كمقام الصبا في أغنية «غزالي نفر»، لكن الصياغة الشعرية للأغنية وطريقة التنفيذ الآلي والأداء الصوتي تجعلك تشعر وكأن المقام الموسيقي المستعمل مقام تونسي صرف.

أما على مستوى الإيقاعات التي عليها أغاني المطربة صليحة، فإن أغلبها إيقاعات شعبية تونسية مستعملة في مختلف مناطق البلاد على غرار إيقاع الفزاني والبونوارة والبورجيلة وغيرها، كما نجد أغاني للمطربة صليحة على إيقاعات شعبية مستعملة في الموسيقى الكلاسيكية التونسية والتي لا تستعمل في النوبات مثل إيقاع المدور حوزي المستعمل في أغنية «يا خيل سالم» وأغنية «أوتاري وعودي» وفوندو «فراڤ غزالي»، وأيضا إيقاع المربع التونسي مثل أغنية «نا وجمال فريدة» وأغنية «مع العزابة»، كما نجد أغاني على إيقاع الختم الذي ينتمي للإيقاعات الكلاسيكية التونسية مثل أغنية «حزت البها والـﭭـد»، كما نجد العديد من الأغاني على إيقاع الوحدة الكبيرة المستعمل كثيرا في الموسيقى الشرقية على غرار أغنية «كيـــف دار كــــاس الحـــــب» وأغنــيـــة «ربــــي عطــــاني كـــل شـــيء بكمالو» وغيرهما.

القوالب الموسيقية المغناة من طرف المطربة صليحة:

إن المتأمل في الرصيد الغنائي للمطربة صليحة المسجّــــــــل في الرشيـــــديــــــة أو عــلـــى اسطـــوانـــات الـــرصــايــــصــي أو المسجــلة بالإذاعة التونسية، يلاحظ التنوّع الموجود علـــى مســــتوى القوالــــب الموسيقــــية الغنـــائية، حيــــــث نجد الأغنية الشعبية والمونولوڤ والفوندو والعروبي والقصيدة وغيرها.

الأغنية الشعبية:

 هي الأغنية التي تتناقلها الأجيال بلهجة بسيطة تخترق الوجدان الجمعي دون أن تنتسب إلى قائل معين أو زمن محدد، وتخضع الأغنية الشعبية خلال التحولات الاجتماعية لتغيرات في مضامينها وألحانها وأشكالها، حيث يجب توافر ثلاثة عناصر في أي أغنية شعبية  هي اللحن الشعبي الفلكلوري واللهجة العامية والدلالة الاجتماعية الشعبية.

أما اللحن الفلكلوري فهو لا يستجيب عامة للتّطور ببساطة، فهو يميل إلى الثبات ويجمد عند مقامات معينة لا يتعداها، وحين يلجأ البعض إلى تطويره كما يحصل حاليا يصبح عندئذ لحنا عاطلا عن الأداء مفرغا من دلالاته الفنية السيميولوجية، وأقدم أنواع الأغنية الشعبية أغاني الحب وأغاني الأعراس والأفراح والرقص ومعظمها أغان غزلية ذاتية، ويمكن إضافة منظومات الشكوى التي تعود بدورها إلى مراسم تشييع الميت وكذلك أغاني العمل وأغاني المناسبات المختلفة(9).

نذكر من بين الأغاني الشعبية التي أدتها المطربة صليحة والتي اشتهرت بصوتها أغنية «انزاد النبي» وأغنية «بخنوڤ بنت المحاميد» وأغنية «باللّه يا حمد يا خويا» وأغنية «خالي بدّلني» وأغنية «ساڤ نجعك ساڤ» وأغنية «شرڤ غدا بالزين» وأغنية «عرضوني زوز صبايا» وأغنية «آه وادعوني يا لبنات».

المونولوڤ:

  يعود أصل كلمة مونولوڤ إلى اللاتينية القديمة ومعناها الأداء المنفرد، والشق الأول من الكلمة «مونو» تعني (مفرد) والشق الثاني من الكلمة «لوجوس» تعني (خطاب)، وتشير التسمية الموسيقية اصطلاحا إلى أن النص الغنائي يتمثل في مقطع واحد يؤديه فرد واحد(10). ومن أبرز المونولوﭬـات التي أدتها المطربة صليحة نذكر مونولوڤ «مع العزابة» ومونولوڤ «نا وجمال فريدة» ومونولوڤ «حبيتها» ومونولوڤ «يا مـﭭـواني».

الفوندو:

يذكر الباحث المنوبي السنوسي أن «الفوندو» كلمة من أصل إسباني أو إيطالي فيقول: «كانت تبرز أحيانا أغنية يلحقها من الحظ ما لم يلحق سواها، إما لطرافة لحنها وإما لمطابقة كلامها لحدث اشتهر أمره فيتبنى الأغنية المحظوظة الصناع أصحاب فرق الطرب الفنية ويجعلون منها فكاهة يدمجونها في برامج الحفلات التي تقام في الأفراح العائلية وفي قاعات اللهو العمومية. وذلك بعد ما يدخلون عليها بعض التغيير مما يجعلها تتفق وقوالب التلحين ومقاييس الوزن الإيقاعي المعهودة عندهم معتبرين ذلك تهذيبا وإتقانا ويطلقون على الأغنية الجديدة التي يخرجونها بمثل هذه الطريقة اسم الفوندو وهي كلمة إسبانية أو إيطالية معناها الأساس والأصل معبرين بذلك عن كون التأليف الجديد مرتكزا على أساس ومتفرعا عن أصل. ولا غرابة في عجمة هذا الاصطلاح إذا اعتبرنا كون غالب المحترفين بصناعة الموسيقى كانوا إلى أوائل هذا القرن من اليهود الإيطاليين أو الإسبان»(11).

من أبرز الفوندوات التي عُرفت بصوت المطربة صليحة نذكر فوندو «يا خيل سالم» وفوندو «فراڤ غزالي».

العروبي:

هـو قالـب غنـائـي تـونسـي يـقـوم عـلـى الارتجـال الصوتي الغنائي لبعض الأبيات الشعرية الشعبية، يأتيه المغني قبل أداء الأغنية لتهيئة المتلقي، ويُعرف العروبي في المشهد الغنائي الشعبي التونسي بمصطلح «الطوّاحي»، أمـا في أغلـب المناطق التونسية المحاذية للحـدود الجــزائــريــة فــإن الـــعــروبــي يُـعــرف بـــ«هـــزّان الصوت»(12).

 من أبرز العروبيات التي اشتهرت بصوت المطربة صليحة نذكر:

عروبي «فراڤ الحياة يذبل الروح» في طبع راست الذيل

فراڤ الحياة يذبل الروح        ويا عين بالدمع نوحي

نبــكـــي والـﭭــــــلــب مجــــروح        ومــن يوم فارﭬـت روحي

عروبي «ما نرﭬـد الليل محتار» في طبع راست الذيل

مـــــا نــــرﭬـــــد اللـــــيل محتار        وهــــــاجــــت علـــيّ النكيده

في كبـــــــــدتـــي شعــــــــلت النار        كما محرﭬـه في حصيده

على ولفتي كحلة الانظار        رحــــــلـــت عــلــــى غـير ريده

عروبي «يحدث على العبد ساعات» في المحير عراق

يحدث على العبد ساعات        الشيء الذي لا يوالم

بنـــــادم اليـــــﭭـرا العـﭭــوبــات        تبـــــعد علـــــيه المظـــالم

حكّـــــرت ووزنــــت الأوقــــــات        لا حـــد مـن حد سالم

عروبي «فراڤ الحياة مر وصعيب» في المحير سيكاه

فراڤ الحياة مر وصعيب        وخــــلّف دمـــــوعي تتـﭭـاطر

لوّجت مـــا لـﭭــــيت طبيب        يبري على الجروح شاطر

فـــرﭬـة بـــــلا موجعة عـيب        ومـــــا تتنسى مــن الخواطر

عروبي «رحلت عليّ وغابت» في العرضاوي

رحـلـــــــت علــــــــــيّ وغــــــــابــــت        وخشّت فجوج الخليّه

وكبدي من الوحش ذابت        عينــــي تـراجي الثنـــيّه

تـتفكّــــــــــــرنـيــــــــش ثـــــــــــابــــت        في غـيبـــــتـي يــــــا لبنـــيّه

عروبي «ليّام عدّيتهم مرض» في طبع المزموم

الأيــــــام عــــــــدّيــتـــهم مـــــرض        سبب مرضتي بالغبينه

نمشي جهامة على الأرض        في وســـط ســـوڤ المـدينه

خــــــايـف مـــن لاكـــة العرض        وشـمــــــاتة النــــــاس فيــــــنا

القصيدة:

 غنّت المطربة صليحة العديد من القصائد المنظومة بالعربية الفصحى، نذكر من ذلك قصيدة «عش حالما بالوصال» وقصيدة «هجر الحبيب» التي نظمها الشاعر مصطفى آغا وقصيدة «عذل العواذل» التي نظمها الشاعر الطاهر القصار وقصيدة «أنوح فتسخر من أدمعي» التي نظمها الشاعر جلال الدين النقاش وقصيدة «يا زهرة» التي نظمها الشاعر محمد سعيد الخلصي. والجدير بالملاحظة وحسب استنتاجات الاستبيان الخاص بالذوق الموسيقي الذي قمنا به، لاحظنا أن هذه القصائد التي أدتها المطربة صليحة لم تكن في دائرة اهتمام التونسيين مقارنة ببقية الأغاني المعروفة بصوتها، ونحن نُرجع ذلك إلى تعوّد المتلقين الاستماع إلى أغاني صليحة ذات الطابع الشعبي سواء الأغاني العتيقة التي سجلتها أو حتى الأغاني الخاصة بها، وهذا راجع بدوره إلى مدى حضور ورواج مختلف الأنماط الغنائية للمطربة صليحة في وسائل الإعلام السمعية والبصرية.

القوالب الشعرية المغناة من طرف المطربة:

إن أغلب الكلمات التي غنتها المطربة صليحة والتي لاقت رواجا وانتشارا واسعيْن سواء من الأغاني العتيقة التراثية أو الملحنة لها خصيصا هي كلمات منظومة على أوزان الشعر الشعبي التونسي المتمثلة في فروعه الأصلية الأربعة: الـﭭـسيم والموﭬـف والمسدس والملزومة(13)، وقد جاءت أغلب الأغاني التي أدتها المطربة صليحة على قالب الملزومة بمختلف أنواعها أما الأغاني التي جاءت في قالب الموﭬـف والمسدس والـﭭـسيم فهي ضئيلة مقارنة بقالب الملزومة.

الملزومة: هي منظومة شعرية لها طالع(14)  ذو غصنين(15) أو ثلاثة أو أربعة أدوار(16) تتركب من أغصان ثلاثة فما فوق تتحد قافيتها وتُختم بغصن ترجع قافيته إلى قافية الطالع. ومثال ذلك أغنية «فراڤ غزالي» (دون اعتبار الأبيات المغناة في شكل عروبي) وهي من التراث:

اِلْعـِينْ تِنْحِبْ مِنْ فْرَاڤ غْزَالِي

حَتَّى لْـذِيذِ النـَوْمْ مَا يَحْلاَلِي

رَحـْـــلُــــــــــــــــــــــــــــــــــوا بـِـيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهَا

سُـودِ الرِمَـايِڤ مْذَبّْلَه عِينِـيهَا

لُو كَانْ صَابِتْ حُكْمْهَا بِيدِيهَا

مَا نْطِيقْ سَاعَه عْلَى فْرَاڤ خْيَالِي

كذلك أغنية ربي عطاني كل شي بكمالو قد جاءت على قالب الملزومة وهي من كلمات بالحسن بالشاذلي وألحان خميّس الترنان:

رَبِـي عـَطَانِي كُلْ شِي بِكْمَالُو

جَـانِي اللِي نْحِبُو وِالنِكَايِدْ زَالُو

زَالُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوا عْـــلَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيّهْ

وِبْـقُـرْبَهَا لَيّـَامْ صَارُوا هْنِـيّهْ

فِكـْرِي زْهَى وِفْرَحْ بِالْمِسْمِـيّهْ

يَفـْرَحْ الْقَلْبْ إِذَا اتْصَلْ لَحْلاَلُو

وأيضا أغنية يا لايمي ع الزين لجلال الدين النقاش على قالب الملزومة (لحنّها محمد التريكي):

يَا لاَيِمِي عَ الزِّينْ مَا نُصْبُرْشِي

قَلْبِ إِنْ كِوَاتُو الْعِينْ مَا يْعَتَّقْـشِي

مَـــــــــــــــــــــــــا يِـــبْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَاشِــــــــــــــــي

قَلْبِ إنْ رَمَاتُو الْعِينْ مَا يِنْجَـاشِي

فِي سُوقَهَا لَرْوَاحِ مَا تَغْلَـاشِي

قُدَّامَــهَا الْـمُلُوكْ مَا تِـكْبِرْشِي

كل هذه الأغاني على قالب الملزومة المثناة (ذات الغصنين في الطالع) جاءت أدوارها متكونة من ثلاثة أغصان متحدة القافية ومتبوعة بمكب (الغصن الأخير من الدور) تتحد قافيته مع قافية الطالع:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أ    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أ

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ب   ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ب  

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ب   ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أ

 

كما توجد أغان أخرى على قالب الملزومة المثناة أيضا لكن تختلف عن الأغاني السابقة بعدد الأغصان في الدور وتركيبته العامة مثل أغنية غزالي نفر التي ألفها محمد المرزوﭬـي وأغنية «بدّلتيني» وكذلك أغنية «حزت البها والـﭭـد» وكذلك أغنية «عيون سود مكحولين»، وقد جاءت هذه الأغاني على الشكل التالي:

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أ   ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أ

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ب   ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ب   ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أ

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ب   ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أ

 

أغنية «غزالي نفر» التي ألفها محمد المرزوﭬـي ولحّنها خميّس الترنان:

غْزَالِي نَفَرْ بَعْدِ الْغَضَبْ مَا وَلَّى

وْقَلْبِي عَلِيهْ حْزِينْ مَـا يِتْسَـلَّى

قَــلْـــــــــــــــــبِـي عَـلِـــــــــــــيهْ مْـــــــــــــــرَايِـــــــــــــفْ

زَادِ عْلـَى نَــــارِ الْهَوَى مَا خَايِـفْ

تحَمّلْ رْدَايِفْ مَا وَرَاهـــَا رْدَايِـــــفْ

مِـــن الْـهَـــمِ وَانْـــــوَاعِ الشِـــقَا وِالذِلَّه

وْمَـــا زَالْ يِتْفَـــكَّرْ حْبِيــــبِ مْدَانِـفْ

بَعْــــــدِ الْغَـــــلاَ وِالْـعِــــزِّ بِــــــيَّ خَـــــــلَّـــى

أغنية «حزت البها والسر» كلمات: عثمان الغربي وألحان: خميّس الترنان:

حُــــزْتِ الْبَهَــا وِالسِــرْ يَـــا مِسْمِـيَّهْ

اِلْـخَـدْ وَرْدِي وِالْـهَـدَبْ زِنْجِـيَّهْ

الَــــــــــــــــــــهْـــــــــــــــــــدَبْ قَـــــــــــــــــــــــــــــتَّـالَـــــــــــــــــهْ

وِالْـــــــــخَـــــــــدْ وَرْدِ فَـــتَّـــــــحْ بِـــــــينْ خْمَـــــــالَهْ

يَا سَعْدِ مِنْ حَازِكْ كْسِبْ حْلاَلَهْ

كِيفْ مِنْ غَزَا عْلَى الْقُومْ جَابْ سْعِـيَّهْ

عْـلِــــــيهْ يْـهُــــونْ إِذَا يَخْـــسَرْ مَـــالَــهْ

خَــــــزْنَــــة ذَهَـــــبْ يْـقِــــيـنْ فِــــــيكْ شْـــــوَيَّــــهْ

أغنية «عيون سود مكحولين» كلمات: محمد المرزوﭬـي وألحان: محمد التريكي:

عْيُونْ سُودْ مَكْحُولِينْ عَ الْمِسْمِـيّهْ

قْـــــرَابِــــيلْ مَلْــــيَانِــــــــينْ كَــــبُّو فِـــــــيّا

عْـيُـــــــــــــــونْ سُــــــــــــــــودْعَ الْـمَـشْـــــــكَايَـــا

مِنْـهُمْ عْذَابِي وْمِحْنِتِي وِشْقَايَا

شَـبّـُـوا قْـــدَايَــــا اِللُطْـفْ يَا مَوْلاَيَا

رَدْفُـــوا بْـــلاَيَـا وْمَــزّقُــوا جْــوَاجـيَّا

عَــامـِينْ مَالْقـِيتِشْ طْبِيبْ لْدَايَا

وِاللِّي فْحَصْنِي زَادْ عْلَى مَا بِـيَّا

الموﭬـف:

 هو ﭬـسيم (لا طــالـــع له ولا مكب ولا رجوع) مربع ذلك أن أبياته تتركب من أربعة أشطر تتحد قوافي الثلاثة الأولى بينما تكون قوافي الأشطر الأخيرة من كل بيت متحدة، ويكون الموﭬـف على الشكل التالي:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أ    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أ    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ب

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ج    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ج   

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ج    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ب

 

ومن أبرز الأغاني في الموﭬـف التي أنتجتها الرشيدية لتتغنى بها المطربة صليحة نذكر أغنية «دار الفلك» التي ألّفها عبد المجيد بن جدّو ولحّنها صالح المهدي:

دَارِ الْفِلَكْ مِنْ بَعْدِ طُولِ الْعِشْـرَهْ

وِالــــــــدَّهْــــرِ حَــــالْ بْـــحَـــــالْ مَـــــرَّهْ بْمَــــــرَّهْ

مِــــنْ غَــــرِّ بِيـــنَـا يْجِــــيهْ وَقْـــتِ يْغُـــرَّهْ

وِاللِي جَرَى عْلَى النَّاسْ يِجْرَى عْلَـيَّهْ

دَارِ الْفِــــلـَكْ وِالْبُـــــعـْدِ زَادْ عْـــــذَابِــــي

وْضَـيّـــَعْتِ فِيــــكِ الصَـــبْرِ ضَاعِ صْوَابِي

وْبْقِــيتْ وَحْــدِي بْـــلاَشْ بِيــهَا كَـابِي

تْعَــــذَّبْـــتْ يَــــاسِـــرْ لِيــــكْ مُـــوشْ شْــــوَيَّـــهْ

المسدّس:

منظومة شعرية تتركب من طالع ذي ثلاثة أشطار وأدوار تتركب من ستة أغصان في الغالب الأربعة الأولى متحدة القافية والأخيران لهما نفس قافية الطالع. ويمكن أن نمثّل هذا القالب النظمي على الشكل التالي:

                      ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ب    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أ

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ج    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ج

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ج    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أ     ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ب

 

من الأغاني التي أدتها المطربة صليحة على قالب المسدس نذكر الأغنية التراثية «عرضوني زوز صبايا»:

عُرْضُونِي زُوزْ صْبَايَا

وَحْـــــــــــــــــــــــــــدَه فْــنـــــــــــــــــــــــــَـارْ      وْلـُخْــــــــــرَه شَـمْــــــــــعه ضَـــــــــوَّايَـــــــا

أَنَـــــــــــــا دَاخِــــــــــــلْ للـــزََنْـﭭـة      وْحَطِيتْ إِيدِي عْلَى الْحِلْـﭭـة

نَلْقَاهُمْ يَحْكِوْ بِالدِْرﭬـَة     نَــــــــــــــــــــاصـْبِـــــــــــــــــــيـنْ خْــطَـــــــــــــــــــارْ

ثـــــــــمََّ بِيــــــــــعِي وِشــــْرَايَـــــــــا     فــــــــــــــــــي هـــــــــــــــــــــَاكِ النــَهَــــــــــــــــــــارْ

عرفت هذه الأغاني التي أدتها المطربة صليحة رواجا كبيرا في كامل الأوساط الفنية وترددت في مختلف المناسبات من قبل العديد من الفنانين، والملاحظ أن كل الأغاني التي عرفت انتشارا واسعا هي الأغاني التي جاءت كلماتها بالعامية على قالب من قوالب الشعر الشعبي التونسي وذلك في مقابل محدودية انتشار القصائد المغناة باللغة العربية الفصحى على أحد البحور الخليلية التي تتميّز بالوحدة على مستوى القوافي في كامل الأبيات مثل قصيدة «هجر الحبيب» التي نظمها مصطفى آغا.

الأغراض الشعرية لأغاني المطربة صليحة:

إن المتأمل في مجمل أغاني المطربة صليحة والأغاني العتيقة التي اشتهرت بصوتها يلاحظ التنوّع الكبير في الأغراض الشعرية، ويمكن أن نصنف هذه الأغراض إلى أغراض شعرية كلاسيكية مستمدّة من الشعر العربي الكلاسيكي القديم والحديث، وكذلك إلى أغراض شعرية شعبية مستمدّة من الشعر الشعبي التونسي. فمن الأغراض الشعرية الكلاسيكية القديمة التي غنّت فيها المطربة صليحة نذكر الغزل والرثاء والحكمة، وأما في الأغراض الشعرية الحديثة فقد أنشدت الأغاني الوطنية والاجتماعية والدينية وغيرها. أما في الأغراض الشعرية الشعبية فقد أنشدت المطربة صليحة في غرض الجرح والغرض الملحمي.

الغزل:

 هو التغني بالجمال وإظهار الشوق إليه والشكوى من فراقه، والغزل هو فنّ شعري يهدف إلى التّشبّب بالحبيبة ووصفها عبر إبراز محاسنها ومفاتنها(17).

ومن أبرز ما غنّت المطربة صليحة في غرض الغزل نذكر قصيدة «هجر الحبيب» وقصيدة «عذل العواذل» وقصيدة «أنوح فتسخر من أدمعي».

الرثاء:

 هو تعداد خصال الميت بما كان يتصف به من صفات كالكرم والشجاعة والعفة والعدل والعقل، والرثاء هو التفجّع على الميت والتأسّي والتعزّي(18).

ومن أبرز ما غنّت المطربة صليحة في غرض الرثاء نذكر فوندو «يا خيل سالم» الذي مطلعه:

يا خيل سـالـم بــاش روحتــولـــي

بـــــانــــــــا وجـــــوه تـﭭــــابــلــــو ﭬــــولـولي

بـــــــــــــــاش لــــــــــــــــــــي جـيـــــــــــتـو

واش ﭬـولكم في اللي اللي خليتو

سالم على العـﭭـاد شايع صيته

يـــوم البــــراز إذا صـفـــن ع الحــولي

الحكمة:

 الحكمة قول ناتج عن تجربة وخبرة ودراية بالأمور ومجرياتها، ولا يقولها من الشعراء إلا من كانت خبرته واسعة على مدى الأيام التي وسمته بميسمها، فهي تختلف عن الغزل الذي يقوله الشاعر في أول شبابه، والحكمة لها الأثر البالغ في النفوس، فربما اشتهر الشاعر ببيت يشتمل على حكمة جيدة فيحفظه الناس ويتناقلونه، وتشتهر القصيدة أو شعر ذلك الشاعر بسبب تلك الحكمة، والحكمة ليست غرضاً مقصوداً لذاته وإنما هي من الأغراض التي تأتي مضمّنة في قصائد ذات أغراض أخرى(19).

ومن أبرز ما غنّت المطربة صليحة في الحكمة نذكر العروبيات التي تستهل بها بعض أغانيها وكذلك العروبيات المتضمنة في بعض الفوندوات وخاصة فوندو «فراڤ غزالي».

عروبي «يحدث على العبد ساعات» في المحير عراق

يحدث على العبد ساعات       الشــــيء اللـــي لا يوالم

بنادم اللي يقرا العقوبات        تبعـــــــد علــــــيه المظـــــالم

حكّــــــرت ووزنـــــــت الأوقـــــات        لا حــــد مـــن حــد سالم

الأغاني الوطنية:

هي أغان معبّرة عن حب الوطن في المطلق أو في إحدى مناسباته السعيدة، أو أغان تمجيدية لشخص الرئيس أو الملك كما يمكن أن تكون أغاني مسايرة لسياسة ظرفية للدولة أو معبّرة عن توجهاتها السياسية وغيرها.

ومن أبرز ما غنت المطربة صليحة في الغرض الوطني نذكر أغنية «تونس اليوم برات» التي أدتها بمناسبة حصول تونس على الاستقلال سنة 1956، وكذلك أغنية «العلم للأمم سر بقاها» التي جاءت مساندة لمجهود الدولة الفتية للتشجيع على الالتحاق بصفوف الدراسة خلال السنوات الأولى للاستقلال.    

الأغاني الاجتماعية:

هـيـ الأغــانـــي التـي تتـنــاول مــواضــيـع اجتـــمـاعـــية كالعلاقات الإنسانية داخل المجتمعات، والحياة الأسرية وطرق عيشها، كما تتغنى الأغنية الاجتماعية بالمحيط البيئي والجغرافي لبعض المجتمعات المحلية التي لها خصوصيات تميّزهـا عـن بقـية المجتمـعات وتكوـن متـأثرة بتلـك الأبعـاد البيئية والجغرافية.(20)

ومن أبرز ما غنّت المطربة صليحة في هذا الغرض نذكر أغنية «أوتاري وعودي» التي ألّفها الشاعر أحمد خير الدين ولحّنها صالح المهدي، وأغنية «يا بر العمالة يا بر الجريد» التي ألّفها الشاعر أحمد خير الدين ولحّنها خميس الترنان، وأغنية «يا زين الصحراء وبهجتها» التي ألّفها الشاعر أحمد خير الدين ولحّنها صالح المهدي (21)، وكذلك أغنية «ننّي أهنا منام» التي ألّفها الهادي العبيدي ولحنّها خميس الترنان.

الأغاني الدينية:

هي الأغاني التي تتخذ من الشأن الديني موضوعا لها كالأغاني المعظّمة للذات الإلهية والأغاني التي تمدح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو الأغاني المخلّدة لبعض المناسبات الدينية.

ومن أبرز الأغاني الدينية التي أنشدتها المطربة صليحة نذكر أغنية «يا آل أحمد يا مسلمين» وأغنية «رمضان» وأغنية «يا مرحبا بالعيد الأضحى» وأغنية «انزاد النبي وفرحنا بيه».

الجرح:

 للجرح في الشعر الشعبي التونسي «صورة خاصة تتشكل في إطار العاطفة المشبوبة التي تملك على الشاعر حواسه في غمرة شعوره بالحب الذي يستولي على قلبه فيتبادر له أنه مجروح وأن هذا الجرح الذي يشكو منه يتغلغل في داخله ولا يظهر للعين لأنه جرح معنوي لا حسيّ (...) وقد رأينا من الشعراء الشعبيين من اهتم بالجرح وأفرد له القصائد الكاملة» (22).

من أبرز ما غنت المطربة صليحة في هذا الغرض الشعري الشعبي نذكر عروبي «فراڤ الحياة يذبل الروح» وعروبي «فراڤ الحياة مر وصعيب».  

الأخضر:

«الشعر الأخضر هو الشعر الغزلي الموغلة صوره في الإباحية الرمزية والمجون، وقد يأتي الشعر الأخضر بصور شعرية واضحة ومباشرة وقد يأتي متخفيا وراء صور وتعابير شعرية تبدو عادية لكنها تحمل دلالات ورمزيات أخرى» (23).

ومن أبرز ما غنّت المطربة صليحة في هذا الغرض نذكر أغنية «آه وادعوني يا لبنات» ومنها هذا المقطع:

بعــد الوصول وبعد اللي رﭬـدنا  

 الليل يطول جرالي كما جرى

لحَصَّاد السبول تـﭭـطع منجلـَه

انكســـــرت إيـــــدَه وخــــانـــت فـــاطـــمة

قيمة الملحنين والشعراء الذين تعاملت معهم المطربة صليحة:

تعاملت المطربة صليحة خلال مسيرتها الفنية مع خمسة ملحنين وأكثر من خمسة عشر شاعرا من الذين ينظمون بالعربية الفصحى وبالعامية، أما الملحنون فهم خميس الترنان (29 أغنية) وصالح المهدي (11 أغنية) ومحمد التريكي (7 أغان) ومحمد النابلي (1 أغنية واحدة) وﭬـدور الصرارفي (1 أغنية واحدة)، أما الشعراء فنذكر منهم عبد الرزاق كرباكة والهادي العبيدي وأحمد خير الدين وبالحسن بالشاذلي ومحمد العربي الكبادي والحاج عثمان الغربي ومحمد المرزوﭬـي والهادي ذهب وعبد المجيد بن جدو وعلي عامر وجلال الدين النقاش ومصطفى آغا والعربي النجار وسعيد الخلصي والطاهر القصار، علما وأن الفنان ﭬـدور الصرارفي هو من كتب كلمات الأغنية التي لحنها للمطربة صليحة «ساڤ نجعك برنة».

كل هؤلاء الأعلام الذين تعاملت معهم المطربة صليحة يمثلون مدارس في التلحين والكتابة الشعرية الفصيحة أو حتى العامية، إذ كان لهم العديد من الأعمال الفنية مع العديد من الفنانين الذين برزوا بعد المطربة صليحة وكان لهم الأثر الواضح في الذائقة الفنية العامة للتونسيين حتى نهاية ثمانينات القرن العشرين، ولعل ارتباط اسم الفنانة صليحة بأسماء هؤلاء الملحنين والشعراء أدى إلى مزيد تألقها ونجاحها وسببا آخر كان وراء خلودها الفني.

الخلاصة:

بعد كل ما تقدّم، نستنتج أن من أهم أسباب خلود المطربة صليحة فنيا وحضورها الواضح في المشهد الفني عامة وتأثيرها في الذائقة الفنية لفئة من التونسيين على الرغم من قصر عمرها الفني، نذكر طبيعة صوتها الخام والمتميّز وقدرته على الأداء في مختلف الطبوع واللهجات الشعبية وحتى المقامات الشرقية، وكذلك تنوع الإيقاعات الشعبية والكلاسيكية والشرقية وتنوع القوالب الموسيقية المغناة من طرفها والقريبة من القوالب الغنائية الشعبية، وأيضا تنوع القوالب الشعرية المغناة من طرفها والتي تنتمي أغلبها إلى إحدى الفروع الأربعة للشعر الشعبي التونسي: الـﭭـسيم والموﭬـف والملزومة والمسدس، إلى جانب تنوع الأغراض الشعرية لأغاني المطربة صليحة وقيمة الملحنين والشعراء الذين تعاملت معهم، كل ذلك في فترة قصيرة ومتميزة في تاريخ البلاد التونسية.

 

 

الهوامش:

1 - اسمها الحقيقي صلوحة بنت ابراهيم بن عبد الحفيظ، ولدت في قرية نبر من ولاية الكاف.

2 - الدريدي (محمد)، الذوق الموسيقي بالبلاد التونسية: جدلية الدلالة الرمزية والتقبل. مقاربة تاريخية واجتماعية ودراسة موسيقية مقارنة، رسالة دكتوراه، المعهد العالي للموسيقى، جامعة تونس، 593 ص. (تمت المناقشة العلمية يوم 13 مارس 2014 وقد ترأس لجنة المناقشة الأستاذ الدكتور محمود قطاط).

3 -  [40 سنة –  59 سنة]، وذلك خلال فترة الستينات والسبعينات من القرن العشرين.

4 -  بن نصر (كنزة)، أضواء على تاريخ تونس الحديث، المطبعة الرسمية، تونس، 1986، ص. ص. 77 – 98.

5 -  خالد (أحمد)، أضواء من البيئة التونسية على الطاهر الحداد ونضال جيل؛ ط. 3، الدار التونسية للنشر، تونس، 1985، 494 ص.

 6 - المهدي (صالح) والمرزوقي (محمد)، المعهد الرشيدي للموسيقى التونسية، الشركة التونسية لفنون الرسم، تونس 1981، ص. ص. 28 – 43.

 7 - السنوسي (المنوبي)، الأغنية الشعبية في البادية، في: مجلة الإذاعة، عدد خارج عن السلسلة: الفنون والتقاليد الشعبية في تونس، الإذاعة التونسية، تونس، ديسمبر 1963، ص. ص. 16 – 17.

8 - شقرون (ليليا)، الغناء والأدب الشعبيين عند المثاليث، في: مجلة فنون مغاربية، عدد 14، وزارة الثقافة الجزائرية، الجزائر، مارس 1999، ص. 75.

9 - شقرون (ليليا)، مصدر سابق، ص. 64.

10 - سحاب (إلياس)، المونولوج والديالوج في الموسيقى العربية، في: مجلة رؤى، عدد 1104، القاهرة، ماي 1989، ص. 23.

11 - السنوسي (المنوبي)، الأغنية الشعبية في العاصمة، في: مجلة الإذاعة، عدد ممتاز خارج السلسلة، تونس، ديسمبر 1963، ص. 53.  

 12 - الخميري (رضا)، قراءة في الشعر الشعبي التونسي، في: مجلة فنون، عدد 1، جمعية فنون، تونس، 1978، ص. 14.

13 -  سنعتمد في دراسة أوزان الشعر الشعبي في هذا المحور وغيره من محاور البحث على كتاب:

14 - خريف (محيي الدين)، الشعر الشعبي التونسي أوزانه وأنواعه، الدار العربية للكتاب، تونس، 1991، 267 ص.

15 -  الطالع: ويعرف أيضا باللازمة وهو البيت الأول من كل ملزومة على أي ميزان بشرط أن تكون له جرائد أو أدوار تـُختم بمركبات ترجع قافيتها إلى الطالع. يتركب الطالع من غصن أو غصنين أو ثلاثة أغصان.  

16 -  الغصن: هو شطر البيت مهما كان ميزانه ناقصا كان أو كاملا.

17 -  أدوار: جمع دور والدور هو القطعة المتركبة من أغصان تـُختم بمكب ترجع قافيته إلى نفس قافية الطالع. ويسمى أيضا جريدة كما يسمى بيتا.

18 -  العُمَري (صلاح الدين)، أغراض الشعر العربي، ط. 2، دار القلم الأدبي، القاهرة – مصر، د. ت.، ص. 12.

19 -  العُمَري (صلاح الدين)، مصدر سابق، ص. 72.

20 -  المصدر نفسه، ص. 53.

21 -  شقرون (ليليا)، مصدر سابق، ص. 66.

22 -  أغاني أحمد خير الدين من الإذاعة والتلفزة الوطنية والمعهد الرشيدي للموسيقى التونسية، الدار التونسية للنشر، كتابة الدولة للشؤون الثقافية والأخبار وإدارة الموسيقى والفنون الشعبية، تونس، 1968، ص. 68 وص. 128 وص. 127.

23 -  خريف (محي الدين)، مصدر سابق، ص. 59.

24 -  الخميري (رضا)، مصدر سابق، ص. 19.

المراجع:

1 -  أغاني أحمد خير الدين من الإذاعة والتلفزة الوطنية والمعهد الرشيدي للموسيقى التونسية، الدار التونسية للنشر، كتابة الدولة للشؤون الثقافية والأخبار وإدارة الموسيقى والفنون الشعبية، تونس، 1968، 164 ص.

2 -  الخميري (رضا)، قراءة في الشعر الشعبي التونسي، في: مجلة فنون، عدد 1، جمعية فنون، تونس، ماي 1978.

3 -  الدريدي (محمد)، الذوق الموسيقي بالبلاد التونسية: جدلية الدلالة الرمزية والتقبل. مقاربة تاريخية واجتماعية ودراسة موسيقية مقارنة، رسالة دكتوراه، المعهد العالي للموسيقى، جامعة تونس، 593 ص. (تمت المناقشة العلمية يوم 13 مارس 2014 وقد ترأس لجنة المناقشة الأستاذ الدكتور محمود قطاط).

4 -  السنوسي (المنوبي)، الأغنية الشعبية في البادية، في: مجلة الإذاعة، عدد خارج عن السلسلة: الفنون والتقاليد الشعبية في تونس، الإذاعة التونسية، تونس، ديسمبر 1963.

5 -  السنوسي (المنوبي)، الأغنية الشعبية في العاصمة، في: مجلة الإذاعة، عدد ممتاز خارج السلسلة، تونس، ديسمبر 1963.  

6 -  العُمَري (صلاح الدين)، أغراض الشعر العربي، ط. 2، دار القلم الأدبي، القاهرة - مصر، د. ت.، 309 ص.

7 -  المهدي (صالح) والمرزوقي (محمد)، المعهد الرشيدي للموسيقى التونسية، الشركة التونسية لفنون الرسم، تونس 1981، 153 ص.

8 -  بن نصر (كنزة)، أضواء على تاريخ تونس الحديث، المطبعة الرسمية، تونس، 1986، 341 ص.

9 -  خالد (أحمد)، أضواء من البيئة التونسية على الطاهر الحداد ونضال جيل؛ ط. 3، الدار التونسية للنشر، تونس، 1985، 494 ص.

10 -  خريف (محيي الدين)، الشعر الشعبي التونسي أوزانه وأنواعه، الدار العربية للكتاب، تونس، 1991، 267 ص.

11 -  سحاب (إلياس)، المونولوج والديالوج في الموسيقى العربية، في: مجلة رؤى، عدد 1104، القاهرة، ماي 1989.

12 -  شقرون (ليليا)، الغناء والأدب الشعبيين عند المثاليث، في: مجلة فنون مغاربية، عدد 14، وزارة الثقافة الجزائرية، الجزائر، مارس 1999.

الصور:

1 - من الكاتب

2-https://bossss227.files.wordpress.com/2012/05/20120522-174823.jpg

3-http://www.sama3y.net/faharestunisie/images/saliha_index1.jpg

أعداد المجلة