فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
36

عندما يُعبّر الإنسان عن نفسه موسيقياً آلــة الناي نموذجاً

العدد 36 - موسيقى وأداء حركي
عندما يُعبّر الإنسان عن نفسه موسيقياً آلــة الناي نموذجاً
كاتبة من العراق

اكتشف الإنسان الآلات الموسيقية، حتى يُعبّر من خلالها عن خلجات نفسه، فتحمل بذلك صوته إلى الآخرين، ولعل آلة الناي، تُعدّ من أكثر الآلات الموسيقية التي اكتشفها الإنسان، وجعلها حاملة لشجنه.

اقترن وجود آلة الناي بحياة الوحدة والعزلة، فالإنسان الذي يرى نفسه وحيدا تراه يستعين بآلة الناي حتى تكون أنيسته ورفيقة عزلته، ربما لأنها آلة بسيطة وبذات الوقت معبرة أكثر من أي آلة أخرى، ففي القرى نرى الرعاة يستأنسون بهذه الآلة التي تتخذ أشكالا مختلفة وغاية في البساطة، وكذلك ترى الفلاح الذي يشدو ويعبر عن فرحه وترحه من خلال الجلوس لبعض الوقت والنفخ في هذه الآلة التي تخفف الكثير عنه.

ثمة مقولة في التراث العربي لكاتب مجهول تقول: الموسيقى حكمة عجزت النفس عن إظهارها في الألفاظ المركبة، فأظهرتها في الأصوات البسيطة، فلما أدركتها عشقتها، فاسمعوا من النفس حديثها. الصوت الحسن والنغم الصحيح يجري في الجسم ويسري في العروق، فيصفو له الدم، وتنقاد له النفس، ويرتاح له القلب، وتهتز له الجوارح، وتخف الحركات.

منافع الصوت الحسن والأنغام الشجية أنها يُتوصّل منها إلى الهدوء، لأن منها ما يبعث الشجاعة، ويحدث النشاط، ويؤنس الوحيد، ويريح التعبان، ويسلّي الكئيب، ويبسط الأخلاق.

ليس بوسعنا أن نذكر التراث الموسيقي دون أن تقفز إلى أذهاننا آلة الناي وصوتها الشجي المقترن على الأغلب بالشجن والمواويل الريفية الحزينة. ويمكن لهذه الآلة أن تغني عن الكثير من الآلات في العديد من المقاطع الموسيقية التي تعبر عن مكنونات الإنسان الذي يعزف على هذه الآلة، فهي بمقدورها أن تحمل إلى السامع الحالة التي يشعر بها العازف وكأنها كلمات تتلى على مسمعه.

خصوصية آلة الناي

يعتبر الناي آلة موسيقية قديمة يعود وجودها إلى القرن التاسع عشر وهي جزء من التراث الثقافي للشعب الروماني وشعارا للمنطقة التي تطوقها جبال «أبوسيني» في غرب رومانيا. يقول المؤرخون إن آلة الناي الطويل استخدمت منذ عهد الداك، وهم السكان الأصليون لأراضي رومانيا الحالية في العصر القديم لإطلاق الإشارات والعزف.

ونظرا لسهولة العزف على هذه الآلة فهي سريعة التنقل من مكان إلى آخر لتحل على التراث الموسيقي في غالبية بقاع الأرض. ويذكر أن هذه الآلة حلت مكان المطرقة التي كان يستخدمها الفلاحون لضرب لوحات معدنية بهدف إطلاق إشارات أو نداءات إلى أهالي القرية .

فكان الناس يصعدون بآلة الناي الطويل الجبل المجاور ويعزفون أنغاما متفقا عليها فيما بينهم، فثمة ما يشير إلى وقوع حدث سيئ، وثمة ما يبشر بخير، أو ما يكون بمثابة الإنذار بوقوع شر، فيكون الناس في حالة من الطوارئ إلى أن يأتي النغم الذي يخبرهم بحلول الأمن. ويعلنون أيضا ولادة طفل أو موت أحد الفلاحين كما كانوا ينادون الناس إلى الاجتماع للذهاب إلى الصيد، أو العمل المشترك.

ولكل إشارة لحنها المعين، فكان لا بد للعازفين أن يجيدوا تلك الألحان على أفضل وجه. وكانت بعض تلك الألحان معروفة لدى أفراد القرية فيحافظون على سرية المعنى لهذا النغم أو ذاك حتى لا يفهمها الذين يدخلون تلك القرى ويريدون بها سوءا.

وفي إيحاء إلى التعبير عن مشاعر العاشق الولهان أخذ اليونان هذه الآلة وأطلقوا عليها:

(مون ) أو (لوس). كما ورد اسمها في التوراة تحت اسم (أوقاب) .

وفي الواقع فإن الناي في الأجواق العربية لا يمكن أن تقتصر على ناي واحد أو نايين، فلكل طبقة صوتية ولكل نغمة ناي خاص بهما.

أما عدد النايات المستعملة عند عازفي هذه الآلة في الأجواق العربية، أربعة وعشرون ناياً لاستخراج أربعة وعشرين طبقة صوتية. والأساس في هذه النايات هما نايان: الشاه، والمنصور.

الأول يعتبر أساساً أو قراراً لنغمة البياتي من الحسيني، والثاني يستخرج منه قرار نغمة الراست. وهنا يمكن الاعتماد على ستة نايات لدراسة خصائصها:

الأول تستخرج منه نغمة البياتي من الراست ودرجتها (دو) وقرار هذه الدرجة المنصور.

الدرجة الثانية: بياتي الدوكاه، وطبقتها (ره).

الدرجة الثالثة: نغمة البوسليك، ودرجتها (سي).

الدرجة الرابعة: بياتي من الجهار كاه، وطبقتها (فا).

الدرجة الخامسة: نغمة بياتي نوا، وطبقتها (صول).

الدرجة السادسة: نغمة بياتي الحسيني، وطبقتها (لا).

كما أن هناك ستة نايات أخرى ترتفع طبقتها الصوتية ثلاث كومات تقريباً.

وستة نايات أخرى تنخفض ثلاث كومات.

وكذلك هناك ستة أخرى تنخفض بين الأربع والخمس كومات تقريباً.

تقنيات متعددة لصنع الناي

ولما كان للناي هذا الحضور البارز لدى الناس، وكذلك في تأليف الإيقاع الموسيقي فقد أبدع صنّاع هذه الآلة في تقنيات صناعتها من أجل الحصول على معزوفات غنية ومتنوعة تعبر عن أدق الحالات والمشاعر الإنسانية.

فالشرط الأول لصناعة ناي جيد، هو أن يتم قطع القصب ساعة نضوجه.

وأن يكون ثقبه من الداخل بدءاً من طرف الفم , فيكون الثقب صغيرا ويتدرج في التوسع حتى نهايته ويكون الثقب في نهايته بحجم قطر القصبة . ثم بعد ذلك يقص ثلث العقدة الأولى تقريبا .

يصنع الناي من قصبة عادية في ثمانية عقد، وأطوال المسافات التي بين العقد، تسعة قصار بنسب واحدة تثقب.

هذه القصبة من نصف المسافة الخامسة تماماً، وبذلك يكون من كلا طرفي المسافة المثقوبة أربعة مسافات. ويكون هذا الثقب من خلف الناي، ثم يقسم النصف السفلي إلى أربعة أرباع ويقسم الربعان الأوسطان كل منهما إلى أرباع المسافة.

بعد ذلك يشار إلى مسافات الأرباع بخطوط عددها سبعة تثقب الثلاثة العليا والسفلى ويترك الخط الأوسط، وتكون الثقوب من الطرف الأمامي.

وفق هذا النحو تأخذ آلة الناي شكلها الأولي الكامل صالحة للعزف.

كما أنه توجد طريقة أخرى لفتح ثقوب الناي، إذ تُقسم الناي إلى ستة وعشرين مسافة متساوية، وعند المسافة الرابعة يثقب الثقب الأول في الأسفل من الأمام، وعند المسافة الخامسة يثقب الثقب الثاني، وعند السادسة يثقب الثالث، وتترك المسافة السابعة بدون ثقب. وعند المسافة الثامنة يثقب الثقب الرابع، وعند التاسعة يثقب الخامس، وعند العاشرة يثقب السادس، وعند المسافة الثالثة عشرة يثقب الثقب الخلفي، وهي نصف مسافة الناي تماماً.

ومن المعلوم أن مساحات هذه الآلة لم تقف في إطار الميدان الموسيقي الغنائي فحسب، بل تعدته ودخلت مواطن الطرق الصوفية في التكايا والزوايا وإطارات الديكور المنزلي.

أشكال العزف على آلة الناي

إن هذه الآلة وبما تدل من إمكانات موسيقية وإيقاعية بالغة العذوبة، فإنها تحتاج إلى عازف ماهر كي يكون قادرا على استخراج هذه الأنغام من هذه الآلة الصغيرة العجيبة، فعليه أن يواظب على هذه الآلة حتى تمكنه من نفسها وتهبه مفاتيح أسرارها الثمينة.

من قواعد العزف على هذه الآلة أن يوضع الناي على جانب الفم ويحبس الهواء من الجانب الأيمن، ومن ثم يوضع الناي مستقيمًا.

وعندما يرغب العازف بالتصرف بالنغمات - أي استعمال علامات التحويل الرافع والخافض - يميل الناي إلى الجهة اليمنى، ثم إلى الجهة اليسرى من الفم. وللنافخ بالناي أن يحتفظ بكمية من الهواء في فمه يصرفه عند الحاجة إليه لكي تصدر النغمة الموسيقية سليمة من الشوائب.

تحتاج هذه الآلة إلى براعة شديدة حيث لها 3 تقنيات:

التقنية الأولى، فهي طريقة النفخ، حيث أن إخراج الصوت الطبيعي منها هي أول صعوبة يجب التغلب عليها بالنسبة لطالب علوم العزف عليها. لذلك ينصح عادة بأن يتمرن من يريد التعلم بالتدرب على إخراج الصوت، ومن ثم عندما يتمكن من ذلك يبدأ بالتعلم على إخراج الدرجات الصوتية.
والعازف‭ ‬الخبير‭ ‬يستطيع‭ ‬بتغيير‭ ‬طريقة‭ ‬النفخ‭ ‬التلاعب‭ ‬بهذه‭ ‬الآلة‭ ‬المستجيبة‭ ‬لخبرته‭ ‬العزفية،‭ ‬حيث‭ ‬يستطيع‭ ‬العازف‭ ‬المتمكن‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبع‭ ‬علامات‭ ‬صحيحة،‭ ‬وهنا‭ ‬يكون‭ ‬بإمكان‭ ‬العازف‭ ‬المتمتع‭ ‬بتمرين‭ ‬جيد‭ ‬أن‭ ‬ينتج‭ ‬7‭ ‬أصوات‭ ‬أخفض،‭ ‬و7‭‬ أصوات‭ ‬أعلى‭.‬

التقنية الثانية: هي إمالة الشبابة بأكثر من زاوية لإخراج أصوات معينة أو ربع التون.

التقنية الثالثة : وهي طريقة سد الثقوب، بحيث ينتج الأصوات المطلوبة أو سد الثقوب بطريقة معينة لإنتاج ربع التون.

تبقى لهذه الآلة شفافيتها الشرقية الخاصة، فهي مليئة بعذوبة وشجن وسحرية أولئك الذين يقطنون شرق الأرض.

آلة الناي هي على الأغلب صديقة الإنسان الوحيد الذي تنهال عليه الأحزان فيستقبلها بشاعرية، إنها أنيسة الوحدة.

وقد استطاعت أن تحفظ الكثير من الإرث الموسيقي سواء في بلادنا، أو في غالبية بلاد العالم.

 

الصور

1 https://upload.wikimedia.org/wik ipedia/commons/2/28/Eight_Flute1.JPG

2 http://www.nedamusic.com/wp-content/uploads/2013/03/NeyDaxtila2.jpg

3 أرشيف الثقافة الشعبية.

أعداد المجلة