فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
37

موسيقى كناوة الأصول والامتدادات

العدد 37 - موسيقى وأداء حركي
موسيقى كناوة  الأصول والامتدادات

الأصول

هناك إقبال كبير على موسيقى كناوة من قبل زائري ساحة جامع الفنا الشهيرة في مراكش ومهرجان الصويرة، سواء كانوا مغاربة أو عرب أو أجانب، ومع ذلك الكثير من الناس لا يعرفون شيئا عن ماضيها القديم.

تعود أصول هذه الموسيقى الفريدة إلى جنوب الصحراء الكبرى، فمعظم الكناويين تعود أصولهم إلى إمبراطورية السودان الغربية التي تضم السنغال ومالي والنيجر وغينيا. ولكن أصل كلمة، كناوة ليس معروفا لحد الآن.

يقول موريس دولافوس مفسرا أصل الكلمة: يوجد تشابه لفظي مع العبارة الأمازيغية «أقال - ن - إغويناوين» وهي تعني أرض الزنوج. وقد نتج عن هذا المصطلح، ولادة صفة «غينيا» ومنها «غناوة»، على الرغم من انعدام المعطيات التاريخية التي توثق وتدعم هذه الأطروحة. خلافا للعديد من الأفكار السائدة عن الموسيقيين الكناويين، فهم ليسوا كلهم عبيدا تحولوا إلى الإسلام. إذا كان معظمهم من أصل أفريقي أسود وينتمون إلى جنوب الصحراء الكبرى، فهناك في الواقع فئات منهم من العرب أو الأمازيغ. أي من ألوان وجماعات عرقية مختلفة، وذات أصول اجتماعية مركبة، إلا أن الموسيقى وجماعاتها وحدت هذه الأعراق وجعلتها تؤسس مدارس عائلية سهرت على رعاية الموسيقى الكناوية والمحافظة عليها أبا عن جد ممتدة في الزمان والمكان.

تعيد بعض المصادر التاريخية تاريخ استقدام الزنوج إلى المغرب من الامبراطورية الصحراوية القديمة إلى القرن السادس عشر ومن طرف السلطان أحمد المنصور، سلطان السعديين الثالث الملقب بالذهبي، في اشارة الى حملاته الناجحة إلى تمبكتو وحصول قادته على كميات كبيرة من الذهب. كما جلب من بلاد السودان حوالي إثني عشر ألف عبد. استخدمهم كقوة عاملة في مزارع قصب السكر في الأراضي الأمازيغية «منطقة حاحا القريبة من «مدينة الصويرة» حيث استقرت وأنشأت سلالتها في هذه المنطقة. جزء آخر من العبيد ضمهم السلطان إلى الجيش وشكلوا بعد تدريبهم الحرس الزنجي الخاص بالسلطان. وقد شكل المنحدرون من الجيل الأول ما سيسمى بـ«كناوة»، لكن المجموعات الأولى كانت تسمى «غنغاس» نسبة إلى الطبول التي كانوا يستعملونها في ذلك الوقت.

في القرن السابع عشر، و في عهد السلطان مولاي إسماعيل جاءت الموجة الثانية من العبيد، الكثير منهم ضموا الى الحرس الملكي تحت اسم «عبيد البخاري». وهذا هو اللقب الذي سيحتفظون به حتى بعد وفاة مولاي إسماعيل في عام 1727 وتفكك هذه القوات العسكرية في جنوب الصحراء الكبرى. وقد ساهم جزء منها في إقامة أسوار مدينة الصويرة، الملقبة حينذاك بـ«موكادور». أما في العقود التي تلت، فقد تناثر أحفادهم في مدن أو مناطق من المغرب: فاس ومكناس والدار البيضاء وطنجة والرباط وأيضا في الجزائر وتونس.

ومع ذلك فقد فضل الكثير منهم المكوث في جنوب المغرب، وتحديدا في مدينة الصويرة ومراكش حيث استقروا وأسسوا مزارات وأضرحة تقام حولها احتفالات كناوية مهمة. ومن هذه المزارات نذكر أشهرها: سيدي عبد الله بن حسين ومولاي ابراهيم، اللذان يوجدان في نواحي مراكش وسيدي شمهروش المتواجد في جبال توبقال. لكن في الصويرة، المدينة سيتلاحم أبناء كناوة حول زاوية سيدنا بلال، التي حولوها إلى وطنهم الروحي. وتعتبر واحدة من أقدم الزوايا المغربية.

الامتدادات

امتدت ثقافة كناوة من خلال الموسيقى لتشمل فنونا مغاربية مثل موسيقى «الديوان» في الجزائر، و«ستانبلي» في ليبيا وتونس. كما استهوى الفن الكناوي واجتذب المولعين به، مما ساهم تطوره على مر القرون، مانحا المستمع موسيقى تمتزج فيها الإيقاعات الأفريقية القــــويـة والعربية والأمــازيــغــية مختـزلة إرثـا ثـقـافـــيا غنيا، ولاشعــورا جمعــيا ممــتدا في جــذور الجـغـرافـــيا والتاريخ والإنسان.

منذ عقود إذن تم إدراج العديد من الأساليب الموسيقية والإيقاعات الكناوية سواء في المغرب أو في الجزائر وتونس وليبيا أو على الصعيد العالمي. ويتمظهر هذا التأثير في أنواع عديدة من الموسيقى مثل الراب المغربي، والموسيقى الأمازيغية العربية وتجلى ذلك بوضوح في تجربة مجموعة «ناس الغيوان» الفريدة والثرية. كما تجلت في تجارب عالمية توظف الموسيقى كناوة والجاز أو كناوة والريغي وكناوة والبلوز. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر تجربة كارلوس سانتانا وبيتر غابرييل وليد زيبلين، وروبرت بلانت، وراندي ويستون، والبينك فلويد، وكات ستيفنز، وجيمي هندريكس، وهنري سلفادور، وسافو، وريتا ميتسوكو والقائمة طويلة.

ورغم انتشار موسيقى كناوة عبر أرجاء العالم وعزفها من طرف فرق في أوروبا وأمريكا واليابان إلا أنها لم تسجل موسيقيا إلا في عام 1975 حينما سينجز أول تسجيل صوتي لموسيقى كناوة على شريط كاسيت.

في أوائل شهر يونيو من كل عام، ينظم مهرجان كناوة في مدينة الصويرة تحت شعار «مهرجان كناوة وموسيقى العالم». ويكون فرصة لإحياء ليالي موسيقية كناوية بقيادة «المعلمية» أو بمشاركة فرق عالمية. كما يشكل للدارسين مناسبة فريدة للاستماع إلى كبار المعلمين الورثة الشرعيين لهذه الموسيقى الروحية. وفي السياق ذاته يكتشفون أن هناك أسرار دفينة ما وراء هذه الموسيقى الآسرة، بطقوسها التي ترقى إلى مستوى العلاج النفسي. يقول الشيوخ القدامى للموسيقى الكناوية، أن موسيقاهم مرتبطة ارتباطا وثيقا بالطقوس العلاجية التي مارسها أجدادهم الأفارقة في جنوب الصحراء الكبرى ويمكن للمتمعن في إيقاعات الموسيقى الكناوية أن يكتشف تشابهها الكبير مع موسيقى الفودو في هايتي، أو السانتيريا الكوبية أو الكاندومبلي البرازيلية. وهي جميعها من أصول واحدة. استقدمها الأفارقة من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى خلال مراحل الاستعباد وتجارة الرقيق.

تمارس طقوس الموسيقى الكناوية ليلا. لهذا تسمى «الليلة» ليلا وتمارس سواء في بيت خاص أو في الزاوية ويجب أن تقام ليلا. ويكون الهدف من، طقوس كناوة الليلية التفريج عن النفوس و طرد الأرواح التي تهيمن عليها. وبذلك فهم يمارسون طقوسا إفريقية قديمة تجعل من الموسيقي أو العازف وسيطا بين العالم الواقعي وعالم الأرواح.

بفضل حالة اللاشعور الباطني، تصبح الليلة على حد سواء طقوسا للخلاص وأداة علاجية. وتتكون الفرقة الموسيقية من «المعلم» الكناوي والموسيقيين الراقصين، والمقدمة وهي حارسة الزاوية المقدسة.

الليلة الكناوية:

تنفذ الليلة الكناوية على ثلاث مراحل: العادة وولاد بـــامبـــارة والمـــلــوك وهــي تـنــدرج جمـيـعـهـا فيــما يسمى «الدردبة»:

1. العادة:

تبدأ بطواف الفرقة الكناوية أزقة و شوارع المدينة القديمة متشحين بملابسهم المميزة المتكونة من الفوقية المتعددة الألوان وطاقية مرصعة بأنواع من الصدف. خلال الطواف على إيقاع الطبول والقراقش أو القراقب الحديدية، لا تستعمل آلة الكنبري وهي آلة وترية تشبه إلى حد كبير آلة النكوني التي مازال يعزف بها في مالي لحد اليوم. في مقدمة الموكب «العادة» تسير الفتيات حاملات الشموع. وبمجرد العودة إلى البيت يستغنى عن الطبول وتعوض بالكنبري. وخلال ليلة العادة يستغنى أيضا عن القراقش تدريجيا لتعوض بايقاع الكف. لكنه استغناء مؤقت، لأنها ستعود خلال المرحلة التالية.

2. اولاد بامبارا:

بعد الانتهاء من المرحلة الأولى. يبدأ طقس جديد يسمى «النقشة» أو «النكشة» ينبري فيه راقصو الكناوة إلى الرقص الانفرادي تارة والجماعي تارة أخرى. وبعد استرخاء وجيز تدخل الليلة الكناوية مرحلة تسمى بـ«فتوح الرحبة» يتم فيها إعداد المكان الذي ستقام فيه الليلة المقدسة. في هذه الأثناء تحضر «المقدمة» وهي سيدة تهيمن على المراحل المتبقية.

3. الملوك:

في البداية تضع المقدمة صينية أمام «المعلم» بها بخور متنوع وأشياء أخرى. ثم تبدأ بإلقاء قطع قماشية مختلفة الألوان. وترمز إلى ملوك الجن. وعلى إيقاع الموسيقى ومراحلها يؤمر المريدون بارتداء لون من ألوان القماش. مثلا اللون الأسود فصاحبه هو الملك «سيدي ميمون» و«لالة ميمونة»، أما اللون الأحمر فهو للملك «سيدي حمو». بيد أن اللون الأزرق فهو للملك «سيدي موسى». وترتب الألوان بحسب المحلات التي تنتمي إليها وهي محلة الأبيض، الأسود، الأزرق، الأحمر، المبرقش، الأخضر، ثم الأبيض والأسود، و الأبيض والأصفر. ثم على إيقاع الكنبري والقراقش يتصاعد الإيقاع ليدخل المريدون الذين وصلوا إلى الحالة واستجابوا روحيا للخلاص. خلال هذه المرحلة من الطقس يقوم المعلم بملاحظة المجموعات المختلفة من المغنين المرتبطين بلون ملك من الملوك بعدها يشير بضرورة استقدام الشخص الذي وصل إلى مرحلة «الجدبة» والنشوة.

ويعتبر الكنبري الآلة المركزية للطقوس الكناوية، فهو يساهم بإيقاعه الروحي في تصعيد النشوة عن طريق إرسال الدعوات إلى الملوك. في حالة من التعبئة الموسيقية والروحية مع التقيد الصارم بشروط إحياء العادة التي من شأنها أن تسمح باستدعاء الأرواح وتحرير بعض الأجساد من أمراضها النفسية.

الخصائص الموسيقية:

1. المقام

تصنف موسيقى كناوة من بين الأنواع الخماسية النغمات. في الواقع هي كذلك، لكن نوتة واحدة من المقام معرضة للاستبدال أو الانتقال المفاجئ.

ولإيضاح أكثر، يتم استبدال الدرجة الموسيقية «ري» بالدرجة «مي المنخفضة»، وهذا الانتقال يذكرنا بمقام الرصد في الموسيقى الأندلسية على وجه التحديد، وذلك باستخدام ست درجات.

2. الإيقاع

في موسيقى الليلة، يلعب الإيقاع دورا قياديا. إيقاع كناوة نموذجي تتداخل وتصطف فيه الصيغ الثنائية والثلاثية. قاعدته الإيقاعية تعتمد على آلات القراقب التي تضبط بشكل صارم كل مرحلة من الليلة بينما الغناء غير مستقر. وكلما تصاعد اللحن كلما تدفق الغناء أكثر، تتحكم فيه حالات المغني النفسية المختلفة و قدرته الحسية على الشعور بالإيقاع، لهذا تبقى موسيقى كناوة موسيقى حسية يغلب عليها الإيقاع الباطني المتقلب والمنسجم في الآن نفسه.

3. الغناء

يتألف برنامج الليلة على مجموعة من الأغاني تخللها معزوفات منفردة على الكنبري. في حين يقوم الملوك بالغناء على إيقاع الكنبري وعلى مراحل قصيرة. يتجاوب المريد مع الإشارات الغنائية ورموزها الوجدانية، فيستجيب فورا للحالة اللاشعورية. خلافا لغيرها من أنواع الموسيقى الشعبية المغربية، فإن الحالة الموسيقية الكناوية يمكن أن تتمدد وتتجاوز أحيانا وقتها المحدد. ويمكن أن نضيف جانبا نموذجيا في موسيقى كناوة وهو إمكانية مصاحبة المريدين الملوك في غنائهم والتماهي مع نوباتهم ومراحل ارتقائهم من حالة أسر إلى حالة انعتاق.

تبقى في النهاية موسيقى كناوة موسيقى روحية تخــــاطـــب الـــوجـــدان والــتـــاريـــخ، والـضــمــير الإنســانــي. تعزفها الذاكرة منذ بداية آلام الإنسان الإفريقي وهو يجتث من أرضه وأصوله، ليباع في أسواق النخاسة في أوروبا والأمريكيتين، أو في إفريقيا الشمالية. هذه المحنة تحولت تدريجيا من جراح مفتوحة على العالم، صراخا واحتضارا إلى غناء روحي فريد ورقص تعبيري خلاّق.

الآلات الموسيقية المستعملة في الموسيقى الكناوية:

القباقب أو القراقش - الكنبري - الطبل.

الصور

من الكاتب

أعداد المجلة