فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
43

المتخيل في القَصة الشعبية اليهودية المغربية قصة يوسف عليه السلام نموذجا

العدد 43 - أدب شعبي
المتخيل في القَصة الشعبية اليهودية المغربية قصة يوسف عليه السلام نموذجا
كاتب من المغرب

تبرز القصة الشعبية عن خواص ومميزات تلعب دورا هاما في جلب القارئ واجتذابه نحوها، لما تحتوي عليه من أحداث متميزة وقيم وأهداف سامية. وعليه فهي تعد من أقدم الآثار الأدبية التي حفظتها الوثائق المكتوبة أو ذاكرة الإنسان. ومن أهم الأدوار التي لعبتها القصة الشعبية والدوافع التي أنشأتها نقل الحوادث والتعويض عن الواقع، ونقد المجتمع، والتعليم، والتعبير عن أنواع الظلم الاجتماعي والاضطهاد التي تعرضت له الشعوب على مر العصور1.

القصة الشعبية اليهودية المغربية لا تخرج عن المحددات السالفة الذكر، إذ تمكن مبدعها من اكتساب الحرية قصد التعبير عن وجهات نظره، وأهدافه وآماله المطلقة؛ والمتمثلة:

في الوقوف عند محـطات من التـاريخ اليهودي العام، تخلد لحياة شخصيات؛ كيوسف عليه السلام، لهم وقع في نفسية اليهودي ينتمون إلى الزمن الماضي.

إبراز ونقد الواقع المعاش للطائفة في الحاضر.

التطلع إلى أهداف وآمال وأحلام، أو التطلع إلى عالم آخر لا يقدر أحد على تلمس وقائعه بالمدرك الحسي، يرتبط في قرارة النفس المبدعة بإلهام روحي يصلها بالمعتقد المجاوز للإدراك العقلي.

إن حلم وآمال اليهودي المغربي بعالم (الموطن الأصل) يسود فيه الاطمئنان والحرية وتتركز فيه قيم الخير، كما تنقشع عنه سحب الظلم وتزول منه بعض من أشكال الحيف والاستغلال، هو حلم مشروع يتوق إله كل كائن بشري، لكن قد لا يوجد إلا المتخيل، يساور الذات (الجماعة)، حين تصطدم بواقع ووضع تاريخي صعب، ينتهي بالآمال والأحلام إلى الانهيار والفشل أمام ضربات القدر ومكر التاريخ.

لأجل ذلك سنتطرق في هذا المقال، بالدراسة والتحليل، إلى المتخيل اليهودي في القصة؛

نبذة عن المتخيل

أهملت الفلسفة العقلانية، وبأشكال متفاوتة، الملكات الروحية من مخيلة وحس، لأنها تعتبر «المخيلة عنصرا يشوش على عمل العقل، كما يقول ديكارت، لذلك يتعين إقصاؤها من عملية المعرفة؛ لأن الأخيرة هي نتاج فعل عقلي خالص يتخذ من مبادئ العقل منطلقه ومرجعه»2، فيما تجد كل من المخيلة والمتخيل موضوعاتهما في الأساطير والحكايات والقصص والأحلام، وكل ما يتعدى حدود العقل، وتهميشها هذا يعني أن الفلسفة العقلانية تنظر إلى «الذات الإنسانية من زاوية أحادية لا ترى فيها إلا العقل»3، بيد أن الإنسان ليس عقلا وحسب، حتى لا ننصاع مع أطروحة الفلسفة العقلانية؛ «بل إنه كائن تناقضي يحتمل في كينونته الرغبة والحلم والعقل والواقع، وتعتمل في داخله كل الملكات، وتصطرع، في أشكال لغوية ورمزية قد يطغى عليها الجانب العقلاني، كما قد تعبر عن سمات جمالية لا تخضع بالضرورة للنسق العقلي السائد»4.

وستجد هذه النظرة المحتشمة إلى المخيلة مكانتها إلى جانب العقل، بشكل لا مثيل له، مع بداية اكتشاف الصورة، بأنماطها المختلفة، الورقية والسينمائية والتلفزية، إذ سرعان ما عملت على «خلخلة صرامة الخطاب العقلي وأصبحت رموز هذه الاكتشافات وإنتاجاتها تتواصل مع متخيل الإنسان أكثر مما تتحاور مع عقله»5. من ثم غدت إنتاجات المخيلة والحس مجالا غنيا يكشف لنا عن جانب مهم من حياة الإنسان لم توفره لنا اهتمامات العقل الصارمة. إذن ما هو المتخيل؟

يعتبر مفهوم المتخيل من المفاهيم الزئبقية التحديد والتعريف القاموسيين، نظرا لـ«شساعة مجال المتخيل وتعدد وتقارب واختلاف المفاهيم التي تتوزعها مجالات معرفية متعددة، أدبية وفلسفية وصوفية وابستمولوجية وسيميولوجية»6. وفي هذا الدراسة، يستعمل مفهوم المتخيل من وجهة نظر أدبية، لذلك فإن كلمة «متخيل» imaginaire، تستعمل في اللغة بثلاثة دلالات على الأقل:

كصفة، وتعني ما لا يوجد إلا في المخيلة، الذي ليس له حقيقة واقعية.

كاسم مفعول، للدلالة على ما تم تخييله.

كإسم، وتعني الشيء الذي تنتجه المخيلة، كما تعني ميدان الخيال.7

ويـذهب مـحـمـد عـابـد الـجـابـري إلـى أن كلمة «imaginaire» من الكلمات التي لا نجد لها مقابلا مألوفا الاستعمال في اللغة العربية، والكلمة مشتقة من image بمعنى «صورة، صورة الشيء في المرآة أو في النفس، أي في الخيال، ومن هنا ترجمة الفلاسفة العرب القدماء للإسم الذي يطلق على الملكة الذهنية التي ترتسم فيها صور الأشياء الحسية والمتخيلة بلفظ المصورة تارة والمخيلة تارة أخرى»8، أي أن المتخيل هو جملة الصور غير الواقعية التي ترتسم في النفس.

كما أخذت العديد من الدراسات الأدبية9 – بالمغرب خاصة– في استعمال مفهوم المتخيل، إذ عبر في هذه الدراسات عن «العالم الممكن» الذي تقترحه النصوص؛ وهو «عالم لا يختلف كثيرا عن العالم الذي يعتقد أنه فعلي، الشيء الذي يفيد أن مفهوم المتخيل قد استعمل بوصفه تصورا ذهنيا يحدد شبكة من العلاقات التي لا تتناقض مع ما يتصور كونه قابلا لأن يحدث فعلا في الواقع»10، فالعالم المعطى من قبل النصوص الأدبية عالم مبني من قبل المبدع، وإذا كان هذا العالم المبني تجسيدا استعاريا لفكرة يريد المبدع إيصالها إلى المتلقي، فإنه يقبل أن يستعير مادته الدلالية إما من الوقائع المحتملة الوقوع أو غير محتملة الوقوع سواء في الماضي أو المستقبل. وبالرغم من خلق المتخيل لعالم ممكن يتعالى على الواقع «فإنه حاضر في الحياة في كل لحظة من لحظات التواصل اليومي، سواء مع الذات أو مع الآخر، لأنه يكسر التكرار ويخرج عن أطر المألوف التي تميز اللغة المعادة، ويخلق إيقاعا زمنيا خصوصيا ممتدا لا علاقة له، بالضرورة، بالزمن العام. إن المتخيل حين يخلق هذه الزمنية الخاصة فإنه في حقيقة الأمر، يبدع وجودا مختلفا يوفر إمكانية التوازن الذاتي أو الجماعي»11.

وبالتالي، فإن المتخيل مجموع التصورات والدلالات والأفكار والعوالم الذهنية، التي ترتسم في النفس عن بعض الموضوعات أو ما إلى ذلك، نتيجة للرغبات الشعورية أو اللاشعورية.

المتخيل اليهودي في قصة يوسف الشعبية المغربية

1 - مرجعيات المتخيل اليهودي:

تروم مسألة تحديد مرجعيات المتخيل اليهودي، البحث في الخلفيات التي يستند عليها هذا المتخيل أي «المحركات التي يتأسس عليها، والمنطلقات «القبلية» التي سمحت له بالظهور في ثقافة معينة»12؛ بيد أنه لا يجب أن يفهم من أن مرجعيات هذا المتخيل ثابتة بصورة نهائية.

إن المتخيل كمجموع التصورات الذهنية، لا يمكن أن يوجد إلا في ثقافة ما، أو في جماعة بشرية تلجأ إليه؛ لأنها «بحاجة إلى المتخيل لكي تؤسس وجودها، ولكي تعطي لهذا الوجود قيمة ومعنى»13، على اعتبار أن المتخيل لا يعني «الأوهام والصور بالمعنى المادي للكلمة. إنه يعني الدلالات الكبرى التي تجعل المجتمع يبدو متماسكا ككل14. ولأجل هذا ذهب «كاستورياديس» إلى أن المتخيل ذو بعدين، فهو «مُكوِّن ومُكوَّن في الوقت ذاته، مؤسس ومؤسس في آن واحد»15، فهو مكون لهوية المجتمع، كما أنه يتشكل في ثقافة مجتمع وبفعل مرجعيات وسياقات تاريخية متعددة ومتداخلة.

انطلاقا من هذه الطبيعة المزدوجة للمتخيل، وفيما يتصل بالموضوع، المتخيل اليهودي في قصة يوسف الشعبية، يمكننا أن نسأل: ما الذي يشكل هذا المتخيل؟ هل هي السياقات التاريخية والاجتماعية؟ أم الأنساق الثقافية التي يتمثلها الإنسان اليهودي كالدين والرموز...؟ أم مجموع هذه السياقات التاريخية والأنساق الثقافية معا؟.

يتوقف بنا مسار تحليل قصة يوسف الشعبية، عند مقاربة صورة تكتنز في طياتها واقعا متخيلا أرادت الذاكرة اليهودية أن تجعل من ملجأ آت ليحل محل الواقع القائم. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الخاصية تميز الأدب الشعبي اليهودي المغربي بكافة أشكاله، وقد تضمن ذلك في قصة يوسف الشعبية فيما يلي:

إلى عَشْنَا نْعيشُو في زْمَاعْتْنَا [جماعتنا]

ويقول السارد في موضع آخر: انظر الصورة رقم (2).

يستشف من الشواهد السالفة الذكر، أن القاص اليهودي المغربي يبث عبر ثنايا قصه آماله وأحلامه، والمتمثلة فيما يلي:

يوحي الشاهد الأول بحلم القاص اليهودي العيش بين جماعته (بني إسرائيل) في زمن آت هو الزمن المستقبل.

يأمل القاص كذلك في الشاهد الثاني بأن يكون لقاؤه بإخوانه بني إسرائيل في أقرب الآجال.

هنا يتوجب علينا – من أجل رصد خلفيات هذا الفضاء المتخيل – الوقوف مع هذه الأحلام والآمال عبر السياقات التاريخية، وكذا الأنساق الثقافية خاصة الدين منها لمعرفة مرجعيات هذا المتخيل.

يظهر التاريخ اليهودي العام، أن اليهود لم يعرفوا الاستقرار كجماعة بشرية مستقلة في موطن ما من بقاع المعمور على مر التاريخ، وذلك منذ حملة «نبوخذ نصر»16 سنة 605 ق.م التي«انتهت بالقضاء على مملكة يهوذا وتحطيم أورشليم17 وتدمير الهيكل18، وحمل اليهود سبايا إلى أرض بابل عام 587 ق.م»19، إذ تعتبر هذه الحملة أولى مراحل الشتات التي عرفها اليهود، مرورا بـ«الشتات» الهلليني في مرحلة السيادة الفارسية و أخيرا الشتات الروماني والوسيط وهو الشتات.. الأخير»20، الذي حل باليهود في مصر، لما ولوا خوفا من بطش وجبروت سلطة فرعون، بيد أن «مطاردة المصريين لهم، وقسوة ما أصابهم من الهلع والرعب، جعلهم يتيهون في سيناء أربعين عاما»21. وبالتالي تعتبر هذه النبذة أهم الخطوط العريضة للتاريخ اليهودي العام، الذي بدأت انتكاسته بتدمير أهم مقدساته ومعابده، المتمثلة في أورشليم والهيكل المقدس بالخصوص. كان هذا بالنسبة للسياق التاريخي؛ ترى هل يمكن اعتبار الأنساق الثقافية، وخاصة الدين منها، من مرجعيات المتخيل اليهودي كذلك؟.

اليهودية أقدم الديانات السماوية الثلاث؛ وهي التي أنزلت على النبي موسى عليه السلام في مصر أثناء وجود بني إسرائيل فيها، والكتاب المقدس الذي أنزل على موسى هو التوراة، تشرحها في شكل أحكام وشرائع تسمى الشريعة الشفوية «التلمود». وهي الشرح الحاخامي22 لنصوص التوراة والذي قد سجل لاحقا عن تدوينها. هذا بالإضافة إلى كتابين آخرين مقدسين، الأول يسمى «الأنبياء»، «يتحدث عن حياة وتاريخ الأنبياء الذين عرفتهم الديانة اليهودية»23، والكتاب الثاني يدعى «المكتوبات والأشعار»، وهي «وتضم الأناشيد والحكم والأمثال والمزامير والقصص، وصور من تاريخ اليهود وفلسفتهم»24. هذه الكتب المقدسة الثلاث (التوراة، الأنبياء، المكتوبات) تنطوي تحت اسم جامع لها هو «العهد القديم» تمييزا له عن العهد الجديد « الإنجيل» شريعة عيسى عليه السلام.

يعتبر اليهود من أشد الشعوب تمسكا بشعائرهم الدينية، فالدين عندهم هو الحياة والحياة هي الدين، ولذا فإنهم على الرغم من تشتتهم في أنحاء الأرض، وتباعد بعضهم عن بعض في تاريخهم الطويل القاسي ظلوا محتفظين بهذه الشعائر والطقوس. ومن أركان الدين اليهودي: «عقيدة أرض الميعاد» حيث يعتقد اليهود اعتقادا جازما أن الله سبحانه وتعالى قد وعد بني إسرائيل بمساحة من الأرض؛ لكي يقيموا عليها دولة لهم تجمعهم من التشرد والتشتت، في شخص نبيه إبراهيم عليه السلام – الجد الأكبر لليهود حسب اعتقادهم – لما جاء في التوراة: «وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا وأكون إلههم»25، بيد أن أرض كنعان هذه «ارتبطت في أذهان اليهود بأورشليم والهيكل»26 .

والخلاصة أن خصوصية المتخيل اليهودي، تتطابق مع طبيعته المزدوجة بوصفه مكونا ومكون في الوقت ذاته، فهو مكون بفعل السيرورات التاريخية، وكذا الأنساق الثقافية الممثلة بالدين، ومكون يسهم في تكوين الهوية الخاصة بهذه الثقافة اليهودية المغربية. لكن ما درجة حضور هذا الفضاء في المتخيل اليهودي؟.

2 - الفضاء المتخيل:

حسب «جوستاف لوبون»27 لم يبدأ تاريخ اليهود بالحقيقة، إلا في عهد ملوكهم، فقد كانوا «أقل من أمة، حتى زمن شاؤول، كانوا أخلاطا من عصابات جامحة، كانوا مجموعة غير منسجمة من قبائل سامية صغيرة، أفاقة بدوية تقوم حياتها على الغزو والفتح، والجذب وانتهاب القرى الصغيرة، حيث تقضي عيشا رغيدا دفعة واحدة في بضعة أيام. فإذا مضت هذه الأيام القليلة عادت إلى حياة التيه والبؤس»28.

هكذا تكونت زمرة بني إسرائيل السامية كجميع العشائر، إذ كانت في بداية الأمر مؤلفة من أسرة واحدة، ذات جد واحد. وهذا الجد هو يعقوب أو إسرائيل كما دعاه الرب من بعد، «وإسرائيل هذا من ذرية إبراهيم»29عليه السلام، الجد الأكبر لليهود حسب اعتقادهم. ولما سادت موجة القحط بآل يعقوب في بلاد كنعان ارتحلوا إلى مصر، وبطلب من يوسف، أقاموا بها وكثر عددهم، «واستعبدهم المصريون، فسئم أبناؤهم بؤسهم، فاغتنموا فرصة فتن اشتعلت، ففروا من بلاد العبودية»30، في اتجاه أرض الميعاد، مرورا بصحراء مصر التي قضوا فيها حوالي أربعين سنة من التيه والبؤس في عهد النبي موسى عليه السلام. فأرض الميعاد مختارة عن سائر الأمصار بدليل ميثاق قطعه الرب مع الجد الأكبر لليهود، إبراهيم عليه السلام حسب ما جاء في التوراة: «وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا وأكون إلههم»31، بيد أن أرض الميعاد هذه «ارتبطت في أذهان اليهود بأورشليم والهيكل ومملكة داود وبالعهد الذي أبرمه الرب مع إبراهيم»32.

وبذلك عرف اليهود في أرض الميعاد نوعا من الاستقرار المنظم، خاصة في عهد الملك داود الذي يكمن فضله ومجده على اليهود في «منحه بني إسرائيل عاصمة، وفي حسن اختياره لهذه العاصمة، فلولا أورشليم (القدس)، لكان شأن اليهود ضئيلا إلى الغاية»33. وازداد اليهود تشبثا بهذه العاصمة بعد موت الملك داوود، وتربع ابنه سليمان على زمام الأمور، فاستطاع أن يوطد المملكة وأن يقيم علاقات مع جيرانه من الأمم؛ فقام ببناء الهيكل المقدس، وهو البيت أو القصر، كان الهدف منه أن يكون للإله مسكن كما للبشر. ويروي العهد القديم «أن داود أراد أن يبني بيت الرب فقال الرب: لا تبني بيتا لإسمي لأنك رجل حروب، فقد سفكت دما. وأن سليمان ابنك هو يبني بيتي ودياري؛ لأني اخترته لي ابنا، وأن سأكون له أبا واثبت مملكته إلى الأبد»34، وبنى سليمان الهيكل الذي استغرق بناؤه سبع سنوات.

على هذا الأساس، عرف اليهود نعمة الأمن والاستقرار في ظل الملك داوود وابنه سليمان، وشيدوا رباطا وثيق الصلة بينهم وبين الأرض المقدسة «أورشليم» من جهة، وبين المعتقد الديني المتمثل في الهيكل المقدس بالخصوص من جهة أخرى؛ لكن سرعان ما انقلب الوضع رأسا على عقب بعد موت الملك سليمان «بنحو قرن ونصف»35، وفي ظل المماليك الذين خلفوا سليمان، فكان من صنيعهم أن «أثاروا غضب نبوخذ نصر بمحالفتهم لفرعون مصر، فاستولى ملك بابل القوي على أورشليم في سنة (586 ق.م ). فجعل عاليها سافلها، وهدم هيكلها، وجعل من اليهود أسارى، فغدت أورشليم أثرا بعد عين»36. على إثر هذا الحادث فتك باليهود الشتات والبؤس زمنا حتى تربع «قورش»37 على حكم بابل (538 ق.م)، وأذن لليهود بالعودة إلى فلسطين وبناء الهيكل من جديد، بيد أنهم «لم يتمكنوا من بناء المعبد بسبب الحالة الاقتصادية المزرية، حتى عندما ظهر النبي عزرا»38.

وفي سنة سبعين من الميلاد «استولى «تيطس»39 على أورشليم، وجعلها طعمة للنيران، وبدئ بتشتيت شمل اليهود»40، في أنحاء العالم، وهو خيار لا رجعة فيه، أجج معه لهيب هجر وفقدان اليهود لأورشليم والهيكل المقدس، فأضحيا في قلب ومخيلة اليهودي جيلا بعد جيل توقا في العودة إليهما.

تمكن هذا الارتباط والتعلق بأرض الميعاد من السيطرة على الفكر اليهودي، فأصبح حلما يساور الذاكرة اليهودية، تترجمه الأدبيات اليهودية رمزيا، و شعائريا، ولفظيا، حال مبدعنا في قصة يوسف الشعبية، الذي بدت شخصيته تعيش غربتها في ذاتها وفي محيطها الذي يعاديها لمناقضته واقع الحلم، حسب قول القاص فيما يلي:

يَا حْنَا غُرْبَا وُمْوَالْفِيْنْ غُرْبَتْنَا

نَارْ الغُرْبَة يَا خْوَانِي / كْوَاتْنَا بِيْنْ العَيْنِينْ

على هذا الأساس، غدت حياة القاص اليهودي المغربي مرتبطة أشد الارتباط بتحقيق متخيلها، الذي ينشطر الى شطرين:

3 - متخيل أورشليم:

تتبوأ «أورشليم» في فكر القاص اليهودي المغربي المقام الرفيع، والروح السارية في الجسد؛ فهي لا غنى عنها في الأدبيات والتاريخ اليهوديين، باعتبارها أعظم مدينة في إثباتها للهوية اليهودية، التاريخية والدينية. الأمر الذي شد اليهود إلى الحنين والعودة لهذه الأرض المقدسة، رغبة منهم في إذكاء الشعور الديني، وتمجيد التاريخ اليهودي لتحقيق الذات الجماعية.

الحنين إلى الوطن الأصل ظاهرة إنسانية عامة، لا يستطيع المرء التخلي عنها، مهما بلغ رقيه الحضاري، وتطوره المادي. لذا نجد القاص اليهودي المغربي يتمثل في «أورشليم» الوطن الأم ، الذي ضم الأجداد والآباء، والشريحة اليهودية جمعاء بين الأمصار، لأجل هذا غدت روحه ينتابها شعور برغبة ملحة عارمة في العودة إلى جذوره، بدل واقع الاغتراب. في حين «يفقد المقيمون في المنفى مكانهم الخاص في العالم، قد يعتريهم الإحساس بأن الحياة تجرفهم وأنهم ضائعون في عالم أصبح فجأة غريبا عليهم. ففقدان المركز الثابت الذي يمثله «الوطن» معناه الفقدان الأساسي «للاتجاه» مما يجعل كل شيء يبدو نسبيا وبلا هدف، وتقطع الجذور الثقافية وجذور الهوية قد يدفع الإنسان إلى الإحساس بأنه يذبل ويذوي، بل بأنه بات غير ذي وجود مادي»41 الأمر الذي يدفعنا إلى القول، إن ارتباط مخيلة المبدع بالأرض المقدسة هو تاريخ يلغي الوجود خارج «أورشليم» إلا من حيث الشوق والحنين.

إن حلم المبدع اليهودي المغربي أماط اللثام عن عواطف وهواجس جياشة تنم عنوة عن إرادة الذات إلى الاجتماع بقوم بني إسرائيل مجددا في الأرض المقدسة، إذ يباشره شعور لقاء الإخوة حسب قوله، بالبهجة والارتياح النفسي، لما يوفرونه من دعم اجتماعي في صورة نصائح أو تعاطف أو كونهم محلا للثقة أو لمجرد اشتراكهم في نفس النظرة إلى العالم. كل هذا يمنح المبدع اليهودي قيمة معنوية تحمي من المشقة بزيادة تقدير الذات، عكس واقع الاغتراب الذي لا يستطيع المرء فيه أن يقرر مصيره، أو التأثير في مجرى الأحداث أو صنع القرارات المهمة التي تختص بحياته ومصيره، مهما بلغ شأنه في الوطن المغترب فيه.

وبالإضافة إلى ذلك، فقد بات أمن واستقرار وحرية المبدع اليهودي المغربي، رهين في تصوره بالعودة إلى الأرض المقدسة، والاجتماع بالأهل، حسب ما عبر عنه في قصه: صورة رقم(2)

تطارد شخصية المبدع أطياف حلم هارب تريد الإيقاع به في حبال الواقع، حلم تستعيده الذاكرة كلما ضاقت الذات؛ لكنه حلم نضج بتأثير وعي نقدي للواقع القائم، دفع القاص اليهودي المغربي إلى أن ينحو جاهدا إلى تغيير واقعه بما يتطابق وتطلعاته الحالمة، هذا الوعي ولد الخوف وعدم الاستقرار النفسي للقاص، عند عجزه عن إقامة الواقع المحلوم به مكان الآخر القائم، بذلك أصبح القاص اليهودي يعيش المأساة والخوف اللذين غيبا معهما الأمن والحرية من حياته. وهذا الوضع لن يستقيم في تصوره إلا بمعانقة الأرض المقدسة.

لا يعتبر شعور اليهود اتجاه قدسية الأرض مسألة عاطفية فحسب؛ بل هو شعور ديني عميق لدرجة أنه أقرب إلى الارتباط العقائدي، أي أن العودة إلى الأرض المقدسة تعتبر في تصور اليهود عامة، والقاص اليهودي المغربي بالخصوص، فريضة دينية بمقتضاها يعتقد اليهود أنه لا حياة لهم ولن يرضى عنهم الرب إلا إذا عادوا إلى «أورشليم» وأقاموا دولة داود وسليمان وعمروا الهيكل.

غير أن هذه الفريضة الدينية، التي تتمثل في العودة إلى «أورشليم» مشروطة في الديانة اليهودية بالطاعة والاستقامة، إذ نجد «أن أحد نصوص العهد القديم يوضح أن الوعد بالأرض... مشروط بقيد الطاعة والاستقامة، فإذا لم يقم بنو إسرائيل بالطاعة والاستقامة فإن مصيرا مؤلما ينتظرهم»42. ولعل أوضح دليل على هذا هو الإصحاح الثامن والعشرين من سفر التثنية، الذي يوضح في عدد فقراته الأولى وعد الرب لبني إسرائيل بالأرض المقدسة، وما تبقى من فقرات الإصحاح تتحدث عن اللعنات التي تصيب قوم بني إسرائيل إذ لم يحافظوا على وصايا الرب، ومن هذه اللعنات قول الكاتبين على لسان الله: «وكما فرح الرب لكم ليحسن إليكم ويكثركم كذلك يفرح الرب لكم ليفنيكم ويهلككم فتستأصلون من الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها، ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصائها، وتعبد هناك آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك من خشب و حجر، وفي تلك الأمم لا تطمئن، ولا يكون قرار لقدمك بل يعطيك الرب هناك قلبا مرتجفا وكلال العينين وذبول النفس...»43.

ولعل هذا الشرط الديني الموكول على عاتق بني إسرائيل في الظفر والعودة إلى الأرض المقدسة «أورشليم»، هو ما ينسجم وتطلعات القاص اليهودي المغربي من وراء قصته (قصة يوسف)، التي تهدف بمشاهدها إلى الوعظ الأخلاقي والإرشاد الديني. الأمر الذي يدفعنا إلى القول، بأن رؤية القاص اليهودي من وراء قصته تتمثل:

دعوة بني إسرائيل إلى الالتزام بالتعاليم الدينية اليهودية، والسمو بالفضائل، وتجنب الرذائل.

مخاطبة الفكر اليهودي وتذكيره – على وفق ما تم وروده في التوراة – بأن من بين واجبات تحقيق عودة اليهود إلى الأرض المقدسة الإلتزام بما تم ذكره. وبالتالي يعد حلم القاص اليهودي المغربي حقيقة دينية وعهدا بين الرب وبين بني إسرائيل يجب الوفاء به حسب تصوره.

4 - متخيل هيكل سليمان:

الهيكل كلمة عربية يقابلها في العبرية «بيت هَمَقْدَاشْ» أي البيت المقدس، أو «هيخال» وتعني البيت الكبير في كثير من اللغات السامية. ومن أهم أسماء الهيكل «بيت يهوه» ويهوه هو إله اليهود، إذا هو بيت الإله، والهيكل أعد أساسا ليكون مسكنا للإله، وليس مكانا للعبادة وأداء الطقوس وتقديم القرابين، وإن أصبح فيما بعد مكانا لهذه الأمور44.

يقول المؤرخ «ول. ديورانت» عن قدسية الهيكل ومكانته في اليهودية: «كان بناء الهيكل أهم الأحداث الكبرى في ملحمة اليهود. ذلك أن هذا الهيكل لم يكن بيتا ليهوه (إله اليهود) فحسب، بل كان أيضا مركزا روحيا لليهود، وعاصمة ملكهم، ووسيلة لنقل تراثهم، وذكرى لهم، كأنه علم من نار يتراءى لهم طوال تجوالهم الطويل المدى على ظهر الأرض، ولقد كان له فوق ذلك شأن في رفع الدين اليهودي»45؛ لأجل هذا تشكل إعادة بناء هيكل سليمان في مخيلة اليهودي المغربي، وذلك بعد العودة إلى «أورشليم»، الغاية المثلى والهدف المنشود، فكثيرا ما تردد مقولة على ألسنة الحخامات، وكذا في الأدبيات اليهودية، أنه لا معنى لليهود بدون أورشليم، ولا معنى لأورشليم بدون الهيكل الثالث، «فالناس دائما ما يشعرون عند تأمل الدنيا بوجود قوة متعالية ولغز عميق في قلب الوجود نفسه. ودائما ما يحسون بأن تلك القوة ترتبط ارتباطا عميقا بذواتهم وبالعالم الطبيعي»46، المتمثل في شيء (معبد، مكان، أرض) يمس شغاف القلب بالجذب، ويشغل بقعة خيالية في الذهن، بعده يتدحرج في سلم القداسة يوما بعد يوم، و«تجربة الإحساس بالقداسة ذات ضروب منوعة، فهي قد توحي بالخوف، أو بالرهبة، أو بالثراء النفسي أو بالسكينة، أو الهلع، أو بضرورة القيام بعمل أخلاقي معين، وهي تمثل لونا أكثر اكتمالا وأرفع شأنا من الوجود لابد منه لاستكمال ذات الإنسان»47.

القاص اليهودي المغربي يعيش حالة نفسية تتسم بعدم التوازن، وكأن عضوا من جسده ضاع منه في فترة من عمره، لم يكن فيها الوعي قد نضج بعد، فكبر ونزاع قائم، تشنه الذات على النفس لإرغامها تجاوز مرحلة النقص هذه، إلى مرحلة التوازن، الذي يختله العضو، وما هذا العضو من ذات المبدع إلا الهيكل المقدس، «فإحساس المرء بأن شيئا ما قد تخلى عنه يحيل إلى مظهر من مظاهر شر باطن في الوجود وسائر في الكون، وكثيرا ما يتميز هذا القلق الباطن بإحساس بالفراق والفقد، إذ يبدو أن هناك ما نفتقده في حياتنا، وأن وجودنا أصبح ممزقا مشتتا ناقصا، وتتشكل في نفوسنا نطفة الإحساس بأن الحياة ما ينبغي أن تكون على هذه الصورة، وأننا فقدنا ما هو جوهري لسعادتنا»48.

وما يزيد في إذكاء شعور المبدع اليهودي المغربي بأهمية الهيكل في حياته، حينما يأخذ هذا الهيكل مكانة دينية مميزة في المعتقد اليهودي، إذ نجد التلمود الكتاب المقدس الثاني عند اليهود، تحدث في مواضيع متعددة منه عن أهمية الهيكل، ومن ذلك: «لما دخل تيطس، وبهزة من سيفه مزق ستار الهيكل، فسال الدم من الستار، فأرسلت بعوضة لعقابه، ودخلت إلى مخه، وأخذت تكبر حتى صارت مثل الحمامة، وحين فتحت جمجمته وجدوا أن البعوضة لها فم من نحاس، ومخالب حديدية»49.

كما ساهمت فكرة وصف اليهود أنهم «شعب الله المختار» في توطيد العلاقة بين القاص اليهودي المغربي وبين الهيكل، فقد أكدت أسفار العهد القديم في أماكن متعددة أن بني إسرائيل هم أفضل البشر، وأن الله خصهم بهذه المكانة الرفيعة دون بقية البشر، وهم أبناء الله المباركون، بينما بقية الأمم هم أبناء البشر. ومن هذه النصوص التي تدل على ذلك ما ورد منها في الإصحاح السابع من سفر التثنية. يقول الرب: «لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك، إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعبا خاصا من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض. ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب. التصق الرب بكم واختاركم لأنكم أقل من سائر الشعوب، بل محبة الرب إياكم وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم»50. هذه الفكرة جعلت تصور القاص للهيكل بمثابة بيت الأب، ذلك المكان الأليف الذي يجسد في نفسيته الأصل، الهوية، المعتقد، الذات...، مادام الهيكل بيت الرب، فهو يمثل مكانة دينية مميزة، باعتباره مقر إله اليهود، وفي إعادة بناءه تثمين وتجديد للعلاقة بينهم وبين الرب.

وتأسيسا على ما سبق، يمكن اعتبار حلم العودة إلى أرض الميعاد – التي تنحصر في أورشليم والهيكل المقدس بالخصوص – الشغل الشاغل للقاص اليهودي المغربي، وهدف تغلغل في النفس، فأصبح لا غنى عنه في الأدبيات والشعائر اليهودية، ارتبطت به الحرية والأمن والاستقرار في حياة المبدع. لكن ما السبيل إلى ذلك، أو إلى ماذا يعزى تحقيق هذا الحلم المنشود؟ هل للقوة الجسدية أم هناك قوة غيبية ستعمل على تخليص اليهود من واقع الاغتراب والشتات الذي يعانون منه، والزج بهم في واقع الحلم المحلوم به؟.

5 - المنقذ/ المسيح المخلص المتخيل:

إن كلمة المسيح المخلص مأخوذة من الكلمة العبرية «ماشِيَّحْ»، ومنها «ما شحوت» أي «المشحانية»، وهي الاعتقاد بمجيء الماشيح، والكـلمة مشتقة من الكلمة العـبريـة «مشح» أي مسح بالزيت المقدس»51، الذي كان يصنع من أفخر الأطياب وأفخر أصناف العطارة وزيت الزيتون النقي، لقول الرب لنبيه موسى عليه السلام: «وأنت تأخذ لك أفخر الأطياب. مرا قاطرا...وقرفة عطرة...وقصب الذريرة...وسليخة...وزيت الزيتون... تصنعه ذهنا مقدسا للمسحة. وعطر العطارة صنعه العطار. ذهنا مقدسا للمسحة...يكون هذا لي ذهنا مقدسا في أجيالكم»52. وقد كان المسح يمارس لمبايعة الملوك؛ فيسمى مسيحا، أي ممسوحا بالزيت53، يمسحون رأس الملك والكاهن بالزيت قبل تنصيبهما، علامة على المكانة الخاصة الجديدة، وعلامة على أن الروح الإلهية أصبحت تحل وتسري فيهما54، ليكونوا مقدسين، مكرسين ومخصصين للرب.

وهكذا دعي الكهنة والأنبياء والملوك بـ«مسحاء الرب»55، ومفردها «مسيح الرب»، ويصفهم الله بمسحائي، يقول في كتابه: «ولا تمسوا مسحائي ولا تؤذوا أنبيائي»56، ويقول في موضع آخر: «لا تمسوا مسحائي ولا تسيئوا الى أنبيائي لأنهم مسحوا بالذهن المقدس وحل عليهم روح الرب»57. ومنها حال الملك داوود الذي أصبح المسيح المخلص كما يرى العهد القديم، إذ قال الرب عنه: «إني بيد داوود أخلص شعبي إسرائيل»58. ثم صارت فيما بعد من أهم العقائد اليهودية التي تعني: «الاعتقاد في بعثة ملك من نسل داوود يأتي في آخر الزمن ليجمع شتات اليهود المنفيين، ويعود بهم إلى الأرض المقدسة، ويحطم أعداء إسرائيل، ويتخذ أورشليم عاصمة له، ويعيد بناء الهيكل»59.

إن تصور القاص اليهودي المغربي لطريقة خلاصه من واقع الاغتراب المظلم والمفعم بالاستعباد والشقاء حسب نظرته، نابع إذن، من فكرة الاعتقاد أن شخصا مثاليا من نسل الملك داوود سيباشر بنهاية التاريخ، ويخلص قوم بني إسرائيل من ويلاته، بتحقيق حلمهم المنشود. لكن من يكون هذا «المخلص» الذي علقت عليه أحلام وآمال اليهود؟ وما هو وقع هذا الخلاص على حياة اليهود فيما بعد؟.

إن المتتبع لفكرة الخلاص أو المخلص في التراث اليهودي، سيجد جذورها نابعة من المعتقد الديني اليهودي، حيث احتلت هذه الفكرة (الخلاص) في أسفار العهد القديم حيزا كبيرا. وقد تبين من ذلك أن اليهود يعتقدون أن مخلصهم هو النبي « إيليا»60 أو «إلهي يهوه» حسب التعبير اليهودي، وذلك وفقا لما ورد في آخر إصحاح من سفر «ملاخي»، يقول الرب: «هأنذا أرسل إليكم إيليا قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف»61. بفضل هذا النبي يعتقد بنو إسرائيل أنه يكون لهم شأن عظيم في المستقبل، ستعاد في ظله مملكة داوود وأمجادها الغابرة، وفي سيادتها القوية والمستقلة، سوف يتم إعادة بناء الهيكل المقدس في أورشليم، ويتم جمع شمل اليهود المشتتين في أنحاء العالم، حسب ما جاء في التوراة عن ذلك: «يرد الرب إلهك سبيلك ويرحمك ويعود فيجمعك من جميع الشعوب الذين بددك إليهم الرب إلهك، إن يكن قد بددك إلى أقصاء السموات فمن هناك يجمعك الرب إلهك ومن هناك يأخذك ويأتي بك الرب إلهك إلى الأرض التي امتلكها أباؤك فتمتلكها ويحسن إليك ويكثرك أكثر من آبائك»62. وقتئذ سيتحول شقاء اليهود وبؤسهم إلى متعة وسعادة وفرح أبدي دائم - حسب اعتقادهم، لقول الرب على لسان مدوني العهد القديم: «ومفديوا الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بالترنم وعلى رؤوسهم فرح أبدي. ابتهاج وفرح يدركانهم. يهرب الحزن والتنهد»63 من طريق اليهود، على اعتبار أن كل أشكال الحرمان والشر والطغيان لن يكونوا قادرين على الوقوف في وجه مخلصهم، الذي سيكون مثلا أعلى – حسب اعتقاد اليهود دائما – في العدل بين قوم بني إسرائيل، لما جاء في العهد القديم: «ولذته تكون في مخافة الرب فلا يقضي بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه، بل يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض ويضرب بقضيب فمه ويميت المنافق بنفحة شفتيه، ويكون البر منطقة متنيه والأمانة منطقة حقوية»64.

لأجل هذه الحياة المثالية في مملكة الخلاص، «كان من الطبيعي أن ينتظر اليهود بشغف مقدم المسيح المخلص ليحررهم ويحقق لهم «الوحي الإلهي» المنشود بإعادتهم إلى أرض الميعاد»65. وما القاص اليهودي المغربي إلا عنصر فاعل من الأمة اليهودية، يستهدف تحويل ما في مخيلته وقلبه (أرض الميعاد= أورشليم+ الهيكل المقدس ) إلى حقيقة تاريخية واقعية تعزى إلى إنسان مثالي مقدس (المخلص) آت لا محالة – حسب اعتقاده – في المستقبل القريب.

على سبيل الختم

وبناء على ما سلف، إن المتخيل اليهودي في قصة يوسف الشعبية يشير إلى شيء (حلم) متشكل تاريخيا ودينيا في اللاوعي الثقافي للأمة اليهودية، أصبح يمارس سلطته على الأفراد لا في ميدان التصور فحسب، بل في مجال الإبداع أيضا، إن لم نقل إنه موضوع الإبداع نفسه. وقد سمحت لنا دراسة هذا المتخيل برسم صورة حية عن وجدان القاص اليهودي المغربي، من حيث بناء الأحلام وعرض الانكسارات وجراحها.

الهوامش

1 - روزلين ليلى قريش، القصة الشعبية الجزائرية ذات الأصل العربي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، د ط، 2007، ص 7.

2 - محمد نور الدين أفاية، المتخيل والتواصل: مفارقات الغرب، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1993، ص 5 وما بعدها.

3 - المرجع نفسه، ص 6.

4 - المرجع نفسه، ص 6.

5 - المرجع نفسه، ص 7.

6 - نور الدين الزاهي، المقدس والمجتمع، أفريقيا الشرق، المغرب، د ط، 2011، ص 9.

7 - مصطفى النحال، من الخيال إلى المتخيل: سراب المفهوم، مجلة فكر ونقد، السنة الرابعة، العدد 33، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 2000 ص 73.

8 - محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، معدداته وتجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، د ت، ص 10.

9 - على سبيل التمثيل لا الحصر: متخيل الصحراء في الرواية، متخيل الريف، الواقع والمتخيل في القصة القصيرة....

10 - عبد اللطيف محفوظ، عن حدود الواقعي والمتخيل، مجلة فكر ونقد، السنة الرابعة، العدد 33، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 2000، ص 117.

11 - محمد نور الدين أفاية، المتخيل والتواصل، مرجع سابق، ص 9-10.

12 - ناظم كاظم، تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2004، ص 33.

13 - المرجع نفسه، ص 33.

14 - المرجع نفسه، ص 33.

15 - بول ريكور، من النص إلى الفعل: أبحاث التأويل، ترجمة محمد برادة وحسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الطبعة الأولى، 2001، ص 179.

16 - نبوخذ نصر: ( 563- 605 ) ق.م أشهر ملوك الدولة البابلية الحديثة قاد الجيوش البابلية في معارك حاسمة على منطقة بلاد الشام ودمر عدة ممالك منها مملكة يهوذا في حملتين وسبا الكثيرين من سكان منطقة بلاد الشام الى بابل.

17 - أورشليم: لفظ عبري للقدس العربية، وأصلها أورسالم، ومعناها مدينة أو حامية السلام.

18 - هيكل سليمان : معبد يهودي، بناه سليمان أحد ملوك بني إسرائيل حسب الاعتقاد اليهودي بأمر من الله للعبادة والقربان.

19 - حسين فوزي النجار، أرض الميعاد: دراسة علمية للوعد الإلهي لبني إسرائيل بأرض الميعاد على ضوء الكتب السماوية، دار المعارف، القاهرة، د ط، د ت، ص 44.

20 - جمال حمدان، اليهود، كتاب الهلال عدد 542، 1996، ص 61- 68.

21 - كمال سعفان، اليهود تاريخ وعقيدة، دار الاعتصام ودار النصر للطباعة الإسلامية، الطبعة الثانية، د ت، ص 11.

22 - الحخام:هو رجل الدين، مختص بتوفير القرارات بشئون دينية، ويكون زعيما لليهود في هذه المواقف.

23 - كمال سعفان، اليهود تاريخ وعقيدة، مرجع سابق، ص 138. بتصرف.

24 - المرجع نفسه، ص 138.

25 - سفر التكوين، الإصحاح 17/ الآية 7-8.

26 - حسين فوزي النجار، أرض الميعاد، مرجع سابق، ص 35.

27 - مؤرخ فرنسي ولد عام 1841 م، عني بالحضارات الشرقية، ومن آثاره: ( حضارة العرب)، ( باريس 1884)، ( الحضارة المصرية)، و(حضارة العرب في الأندلس)... .

28 - جوستاف لوبون، اليهود في تاريخ الحضارات الأولى، ترجمة عادل زعيتر، الناشر مكتبة النافدة مطبعة دار طيبة، الجيزة، الطبعة الأولى، 2009، ص 49.

29 - المرجع نفسه، ص 49.

30 - المرجع نفسه، ص 50.

31 - سفر التكوين، الإصحاح السابع عشر، الآية 7-8.

32 - حسين فوزي النجار، أرض الميعاد، مرجع سابق، ص 35.

33 - جوستاف لوبون، اليهود في تاريخ الحضارات الأولى، مرجع سابق، ص 55 – 56.

34 - أحمد ربيع يوسف، أرض الميعاد بين نصوص العهد القديم والقرآن الكريم، قطر، 1996، ص 58 – 61.

35 - جوستاف لوبون، اليهود في تاريخ الحضارات الأولى، مرجع سابق، ص 60.

36 - المرجع نفسه، ص 60.

37 - قورش: (530 – 546) مؤسس الإمبراطورية الفارسية، فتح بابل، حيث وجد جماعة يهودية، يعود أصلها إلى سبي بنوخذ نصر (586 ق.م) ويبدوا أنها ساعدت على احتلال المدينة. وقد سمح قورش لليهود بأن يعودوا إلى القدس، ليعيدوا بناء الهيكل.

38 - كمال سعفان، اليهود تاريخ وعقيدة، مرجع سابق، ص 22. بتصرف.

39 - تيطس، أحد أباطرة الرومان. وهو ابن فسبسيا. قاد القوات الرومانية إلى مقاطعة يهوذا الرومانية في عام 70 م. فاستولى على القدس بعد حصار دام خمس أشهر، اشتركت فيه إلى جانبه قوات يهودية بقيادة أجرين الثاني. وبعد استيلائه على القدس هدم الهيكل.

40 - جوستاف لوبون، اليهود في تاريخ الحضارات الأولى، مرجع سابق، ص 61.

41 - كارين أرمسترونج، القدس مدينة واحدة عقائد ثلاث، ترجمة فاطمة نصر و محمد عناني، سطور للترجمة والطبع والنشر، د ط، 1998، ص 150.

42 - أحمد ربيع أحمد يوسف، أرض الميعاد: بين الحقيقة والمغالطة، مرجع سابق، ص 440.

43 - سفر التثنية، الإصحاح 28، الآية 53 – 54 -55.

44 - عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشرق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1999، مجلد 4/ ص 260.

45 - ول. ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود، مطابع الدجوي، القاهرة، د ط، 1973، الجزء الثاني/ ص 338.

46 - كارين أرمسترونج، القدس مدينة واحدة عقائد ثلاث، مرجع سابق، ص 12.

47 - المرجع نفسه، ص 12.

48 - المرجع نفسه، ص 13.

49 - إبراهيم خليل أحمد، إسرائيل والتلمود، دار المنار، د ط، 1983، ص 40.

50 - سفر التثنية، الإصحاح 7/ الآية 6 – 7 – 8 .

51 - عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مرجع سابق، المجلد 5/الجزء 2، ص 449.

52 - سفر الخروج، الإصحاح 30، الآية 22-31.

53 - إسماعيل راجي الفروقي ولويس لمياء الفروقي، أطلس الحضارة الإسلامية، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1998، ص 103.

54 - عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مرجع سابق، المجلد5/ جزء 2، ص 449.

55 - سفر المزامير، مزمور 105، الآية 15.

56 - سفر أخبار الملوك الأول ، الإصحاح 16، الآية 22.

57 - سفر المزامير، مزمور 105، الآية 15.

58 - سفر صموئيل الثاني، الإصحاح 2، الآية 3- 18.

59 - عبد الوهاب المسيري، الإيديولوجية الصهيونية، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، د ط، 1982، ص 46.

60 - في عام 875 ق. م، وفي أثناء حكم الملك آخاب ظهر النبي إيليا، ولا نعرف الكثير عن حياته، إلا أن التوراة المقدسة تقدمه لنا باعتباره أنه إيليا التشبي من مستوطني جلعاد، وأول ما نقرأ عنه في التوراة المقدسة، نقرأه في الإصحاح السابع عشر من سفر الملوك الأول، حيث يقول: وقال إيليا التشبي من مستوطني جلعاد لأخاب: «حي هو الرب إله إسرائيل الذي وقفت، إنه لا يكون طل ولا مطر في هذه السنين إلا عند قولي». ملوك 1، 17/1، ( القس منيس عبد النور، سيرة النبي إيليا، دار العودة، الطبعة الأولى، 1989، ص 6.).

61 - سفرملاخي، الإصحاح 4، الآية 5.

62 - سفر التثنية، الإصحاح 30، الآية 3 – 5.

63 - سفر إشعياء، الإصحاح 51، الآية 11.

64 - سفر إشعياء، الإصحاح 11، الآية 3 – 5 .

65 - أحمد الشحات هيكل، يهود المغرب في الأدب العبري الحديث وأوهام الخلاص الزائف، مركز الدراسات الشرقية جامعة القاهرة، مطبعة العمرانية للأوفست، مصر، د ط، 2007، ص 49.

المصادر والمراجع

* روزلين ليلى قريش، القصة الشعبية الجزائرية ذات الأصل العربي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، د ط، 2007.

* محمد نور الدين أفاية، المتخيل والتواصل: مفارقات الغرب، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1993.

* نور الدين الزاهي، المقدس والمجتمع، أفريقيا الشرق، المغرب، د ط، 2011.

* مصطفى النحال، من الخيال إلى المتخيل: سراب المفهوم، مجلة فكر ونقد، السنة الرابعة، العدد 33، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 2000.

* محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، معدداته وتجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، د ت.

* عبد اللطيف محفوظ، عن حدود الواقعي والمتخيل، مجلة فكر ونقد، السنة الرابعة، العدد 33، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 2000.

* ناظم كاظم، تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2004.

* بول ريكور، من النص إلى الفعل: أبحاث التأويل، ترجمة محمد برادة وحسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الطبعة الأولى، 2001.

* حسين فوزي النجار، أرض الميعاد: دراسة علمية للوعد الإلهي لبني إسرائيل بأرض الميعاد على ضوء الكتب السماوية، دار المعارف، القاهرة، د ط، د ت.

* جمال حمدان، اليهود، كتاب الهلال عدد 542، 1996.

كمال سعفان، اليهود تاريخ وعقيدة، دار الاعتصام ودار النصر للطباعة الإسلامية، الطبعة الثانية، د ت.

* جوستاف لوبون، اليهود في تاريخ الحضارات الأولى، ترجمة عادل زعيتر، الناشر مكتبة النافدة مطبعة دار طيبة، الجيزة، الطبعة الأولى، 2009.

* أحمد ربيع يوسف، أرض الميعاد بين نصوص العهد القديم والقرآن الكريم، قطر، 1996.

* كارين أرمسترونج، القدس مدينة واحدة عقائد ثلاث، ترجمة فاطمة نصر و محمد عناني، سطور للترجمة والطبع والنشر، د ط، 1998.

* إبراهيم خليل أحمد، إسرائيل والتلمود، دار المنار، د ط، 1983.

* إسماعيل راجي الفروقي ولويس لمياء الفروقي، أطلس الحضارة الإسلامية، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1998.

* عبد الوهاب المسيري، الإيديولوجية الصهيونية، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، د ط، 1982.

* أحمد الشحات هيكل، يهود المغرب في الأدب العبري الحديث وأوهام الخلاص الزائف، مركز الدراسات الشرقية جامعة القاهرة، مطبعة العمرانية للأوفست، مصر، د ط، 2007.

الصور

* الصور من الكاتب .

1 - المصدر: موسوعة ويكيبيديا

أعداد المجلة