فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
43

الظاهرة القائدية في الشعر الشفوي بالمغرب؛ العيطة العبدية نموذجا

العدد 43 - موسيقى وأداء حركي
الظاهرة القائدية في الشعر الشفوي بالمغرب؛  العيطة العبدية نموذجا
كاتب من المغرب

يزخر المغرب بتراث موسيقي وشعر شفوي هائل، يشكل دعامة أساسية من دعائم الثقافة الشعبية بهذه البلاد، فمن رقصة «القدرة» والشعر «الحساني» بالصحراء مرورا بإيقاعات «أحيدوس» بجبال الأطلس و«الركادة» بالشرق، و»الطقطوقة» الجبلية بالشمال، ووصولا إلى سهول المحيط الأطلسي حيث يحضر غناء «العيطة» الذي يتفرع بدوره إلى أنماط عديدة، تتلون بلون الرقعة الجغرافية التي تحتضنها؛ فنجد اللون «المرساوي» بالشاوية والدار البيضاء و«الحوزي» بتخوم مدينة مراكش و«الحصباوي» أو «العبدي» بمدينة آسفي. ويعتبر اللون الأخير من أكثر الألوان الغنائية الشعبية «العيطية» إثارة لدهشة الباحثين والمتلقين عموما، وذلك لغنى مضامينه وأغراضه الشعرية، وتنوع إيقاعاته ونبضاته الموسيقية، ومن هنا جاء اهتمامنا به منذ فترة ليست بالقصيرة، وها نحن اليوم كذلك نجعل منه محور هذه الدراسة المركزة، التي نخصصها لجانب من المضامين الكثيرة التي يفوح بها هذا الغناء الحافظ لِكَمٍّ لا يستهان من الشعر الشفوي بمدينة آسفي وبالمغرب عموما. وسنركز في هذا الصدد على الحضور الوازن للظاهرة القائدية في شعر غناء العيطة العبدية، أو بصيغة أخرى سنقتفي الجانب السياسي من هذا الشعر، والذي لم يتمظهر من خلال شخصية «القائد» المهيمنة بمداشر عبدة وقراها فحسب، وإنما كذلك من خلال معاناة سكان هذه القبيلة وصراعاتهم مع السلطة المخزنية ورجالها.

ونظرا لما يلف شعر العيطة من غموض والتباس، لطبيعته الشفوية التي تجعل منه شعرا معرضا لجملة من الأعطاب والتآكلات بفعل النسيان واللحن الشعري وغيرهما من الإكراهات، فإن الدارس لهذا الشعر لا مناص له في كل خطوة يخطوها في هذا الباب من أن يبدأ بالتأصيل المفاهيمي الجيد للجانب الذي يود أن يتناوله من هذا الموضوع، ولعل تعدد زوايا النظر بهذا الشأن يقود بالضرورة من جهة إلى إختلاف المقاربات والرؤى، ومن جهة أخرى إلى نسبية كل النتائج التي يتوصل إليها الباحث بهذا الخصوص، مهما بلغت درجة دقتها وموضوعيتها. وعليه فحين نتصدى لموضوع الظاهرة القائدية في شعر العيطة العبدية فإن ذلك يفرض علينا بداية –وبالضرورة- تقديم تعريف لغناء العيطة، وتمييز نمط العيطة العبدية من بين باقي أنماط هذا الغناء بالمغرب، ثم إبراز المقصود بالظاهرة القائدية وعلاقتها بهذا الشعر الشفوي. على أن هذا التأسيس النظري لاجرم سيقودنا للوقوف أمام بعض الإشكالات والتساؤلات المحورية التي ستشكل إجابتنا عنها ثمرة هذه الدراسة.

تعريف العيطة

كلمة «عيطة» في اللغة مأخوذة من فعل «عيّط». وهو فعل وإن تبادر إلى الذهن إنتسابه إلى اللغة العامية، فإن له أصل في اللغة العربية الفصحى كذلك، فــــ«عيّط» تعني نادى، وفي لسان العرب لإبن منظور تفيد من جملة معانيها «الصراخ» و»طول العنق»1، وعليه يمكن أن يكون المعنى المستفاد من الكلمة هو النداء أو الصياح بأعلى الصوت لدرجة إطالة العنق حتى يسمع المخاطب. فهل من علاقة بين الدلالة اللغوية لهذا الفعل وبين العيطة كفن موسيقي؟ ببساطة العلاقة تكمن في أن العيطة هي فن المناداة والمناجاة، وإستنهاض همم القبيلة وذكر مناقب سكانها. ولعل المتفحص لمتون العيطة يمكنه أن يستجلي بأن المنادى غالبا ما يكون مخاطبا غائبا، تستحضره الذاكرة الجماعية للقبيلة بلسان الشيخ العازف والمتغني بمعاني الحنين والمدح والإشادة. فنصوص العيطة كلام مأثور متوارث يشعر بالحنين إلى الماضي، ويذكر بمناقب وأخبار الأسلاف، فهو «بكاء ورثاء لما خلفته الأحداث»2 الفائتة، أو لنقل هو صوت يتوق إلى الماضي الدفين، ويصدح بأحلام، وآلام أجيال طواها التاريخ. أي أن سيرورته كانت نداءا يكشف عن «الحاجة المتواصلة لدى المجتمعات القبلية أو القروية أينما كانت (حتى في عمق المجتمعات الحضرية) إلى إمتلاك لسانها وإستعماله لتحقيق التوازن الروحي والنفسي والعاطفي، وإيجاد المعادل الفني والجمالي للعيش في الحاضر والانخراط في سيرورة المستقبل»3 بما ينطوي عليه هذا المستقبل من متاعب وقساوة شديدة على كينونة ذلك البدوي البسيط، تدفعه للتسلح بزاد معنوي قوامه ماضي الأوائل وتجاربهم في الحياة «يغالب بها التعب والمعاناة، ويبث من خلالها لواعجه»4. ونجد ضمن الموروث الزجلي المغربي القديم فعل «عيّط» مستعملا بمعنى النداء لكن بإحساس الدعاء والمناجاة الربانية، يقول عبد الرحمان المجدوب (1506-1569) الذي اشتهر بـ«نظمه للرباعيات التي عكست موقفه في الكثير من القضايا»5:

عَيَّطْتْ عَيْطَة حْنِينَة فَيْقَتْ مَنْ كانْ نَايَمْ

فَاقُوا قْلُوبْ لَمْحَنَّة وْنَعْسُو قْلُوبْ لَبْهَايْمْ

فقد اقترن فعل «عَيَّطْ» بنظم الأشعار والتغني بها، أي اُستعمل كمرادف لقرض الحكم والأزجال والغناء، ونصوص العيطة ذاتها تشي بهذا الترابط في بعض مقاطعها وحباتها الشعرية، كتلك الواردة في عيطة الراضوني: «عَيَّطْ عَيَّطْ نَسْمَعْ عَيْطتَكْ..أَخُويَا لَمْزَهِينِي لْيُومْ». ولعل ما يفصح عن هذا التكامل بين المفهوم اللغوي والإصطلاحي للعيطة، هو ما نصادفه من تجليات عديدة للنداء في نصوصها، ومن أهمها نداء الأشخاص والأولياء والأمكنة والمحبوب...إلخ. وفضلا عن ذلك، فكل حبة شعرية من العيطة تُستهل بنداء أو صراخ قوي حتى وإن لم يكن ذلك التركيب الشعري موجها لمنادى معين، ذلك أن الناظم لا ينفك يوظف أسلوب النداء في مختلف محطات النص وإن كان بصدد التعبير عن حكمة معينة (آآ الزْوَاقْ يْطِيرْ) أو إحساس شخصي معين (آآ دَاوِيتْ حْتَى اعْيِيتْ وْمَا كَرْ دْوَايَا) أو ماشابه.

إن المدلول اللغوي للعيطة إذن ممتزج بمفهومها الإصطلاحي وعاكس له، وهو مدلول تؤكده نصوص العيطة التي تكاد تكون في مجملها نداءات وصراخ، يحاول استحضار الماضي بما فيه من أحداث وأشخاص، أثرت في الواقع الذي عاشه الشيخ أو سمع به. مما جعل معنى العيطة يتماهى مع «ظاهرة الصياح الذي يكاد يبلغ أحيانا الندب والنحيب الذي نلمسه في مد الصوت وفي جرات الكمنجة»6 اللذان يرومان توصيف الجروح الغائرة والذكريات المنفلتة، دونما اعتماد على الكلمة في أحيان كثيرة، ذلك «أن الصرخة الباكية، المتألمة، النادبة، النابعة من دواخل الشيخة كالنفس الحارق المرهي التي قد تنوب عن معنى الكلمات في تحريك المتلقي»7 ولفت انتباهه، وهو ما تُعبر عنه تلك التأوهات والهمسات الصوتية التي قد تعوض سطرا شعريا ما في التركيب المتني لحبة من الحبات الشعرية، وينعتها أهل العيطة بـ«الفَرْطْ» أو «المْضِيغْ».إن ما يمكن أن تقود إليه هذه المعطيات، هو وجوب استحضار ثلاث مستويات عند أي محاولة لتعريف فن العيطة وملامسة خصائصه:

المستوى الأول يهم الجانب النصي، الذي يحيل على تلك الأشعار الشفوية وسياق نظمها وطريقة تأليفها ومضامينها، والأصلي منها والمنحول، وما بقي منها وما ضاع.

المستوى الثاني يتعلق بالإيقاعات اللحنية، أو القوالب الموسيقية التي أفرغت فيها تلك الأشعار، وهذا المستوى يسوق للحديث عن جدلية النصوص والايقاعات من حيث أسبقية أحدهما في الوجود على الآخر، ويستوجب استحضار تلك الميكانيزمات (مقدمات، حطات، عتبات، طمات..) التي ابتكرها الشيوخ للتغني بالنصوص. والوقوف على الآلات التي تؤدى بها أشعار العيطة وتطورها التاريخي.

المستوى الثالث يخص فضاء العيطة، أو الإطار الفرجوي الذي يتمظهر فيه هذا الفن (افْرَاكْ للفرق الرحالة، خيمة مصاحبة لحركة سلطانية أو قايدية، عرس..)، وهذا الفضاء لا يحتضن بالضرورة العيطة فقط، بل يمكن أن يستوعب أنماطا من فنون أخرى.

إنطلاقا مما سبق، يمكننا تعريف فن العيطة على أنه فن من فنون البوادي التي استقرت بها القبائل العربية الوافدة إلى المغرب، وهو عبارة عن نصوص شعرية شفوية غنائية تاريخية مغلقة، تصف الحياة القروية ونمط عيش سكانها وطرق تعبيرهم، ألفت بشكل جماعي وعبر مراحل زمنية من قبل أناس مجهولين في الغالب، مما أفرز عدة مقاطع شعرية جرى ربطها ببعضها عن طريق تقنية الحطات لتكون قابلة للغناء وفق إيقاع موسيقي مركب وتصاعدي، يعتمد فيه على آلات رعوية تقليدية من وحي البيئة القروية وعلى أسلوب النداء.

نصوص مغلقة: بمعنى أنها ليست غناء متجددا من حيث الأشعار والإيقاعات بما يمكن أن يعتريها من إضافات وتحويرات إلا في حدود ضيقة، فهي تؤدى كما وصلت إلينا بلا تغيير في جوهرها العام.

تاريخية: لأنها ليست وليدة اليوم، فالإطار الفرجوي للعيطة وجد منذ العصر الموحدي، والنصوص تحيل على أحداث تاريخية تعود الى سنوات ولت، وإن عكست بعض مضامينها وقائع معاصرة بلسان الشيخ الذي يتقن الإرتجال الشعري البليغ وليس أيا كان.

مجهولة المصدر: إذ لا يمكن تحديد مؤلفها، فالنصوص نسيج من مقاطع شعرية مختلفة المصادر، ذلك أن في كل مرحلة زمنية وجد شعراء عبروا عن واقعهم بنظم حكم وأزجال، تم تركيبها في نصوص مختلفة من تأليف جماعي. وبالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ننسب نصا معينا إلى شخص بعينه، وإن جاز أن نسند حبات ومقاطع شعرية محدودة من هذه النصوص إلى شاعر ما. لكن النص في عمومه يبقى مجهول المصدر.

يعتمد في الإيقاع على آلات رعوية بسيطة تعكس بساطة أهل هذا الفن من بدو المغرب، ويهيمن على الغناء أسلوب النداء الذي يعكس ويكثف المعنى الإصطلاحي لــ«العيطة».

العيطة العبدية:

تنعت عيطة مدينة آسفي ونواحيها بالعيطة العبدية، نسبة إلى قبيلة عبدة لأنها –أي العيطة العبدية- تمثل بحق خزانا لذاكرة هذه القبيلة، لما تزخر به من تراث شفوي تاريخي وافر، بتفرعاته الموسيقية والشعرية، ومضامينه العاكسة لرجع الأحداث والولادات الأولى، وهو ما جعل من هذا الموقع مسرحا «تتقاطع فيه الفنون الأساسية التي تكون دعامة الحياة الثقافية والفنية بالمغرب»8، من ملحون وأندلسي وشعبي...الخ، وبذلك شكلت عبدة وما تزال مرجعا لا غنى عنه بالنسبة للفنانين فيما يخص الإيقاعات والألحان والكلمات9، بل ويشيع بين الناس أن من أراد الإلمام بفنون العيطة فما عليه إلا أن يقصد شيوخ عبدة لمجالستهم والأخذ عنهم مباشرة، ذلك أن هذه المنطقة لا تعتبر خزانا لعيوط الحصبة فحسب، بل تربة تعيش بها أنماط أخرى من العيطة، بحيث لازالت «تحتفظ بمجموعة من العيوط التي لا تنتمي لها أصلا كالمرساوي والحوزي، في الوقت الذي إختفت فيه من مواطنها الأصلية كالشاوية والحوز والرحامنة وغيرها»10، ويمكن أن نمثل لذلك بنص «الحَدَّاوِيَّاتْ» الذي تحتضنه اليوم المدرسة العبدية في حين يقل تداوله بموطنه (الشاوية)، ونفس الأمر يقال عن عيطة «دامي» والكثير من المتون والإيقاعات الزعرية. وإذا كانت منطقة دار القايد عيسى بن عمر قد شكلت عاصمة عبدة في وقت من الأوقات لسطوة قيادها وعظمة شأنهم، فإن غناء العيطة قد بلغ لهذا السبب أوج إشعاعه وألقه تحديدا بهذه النقطة الجغرافية، بحيث نظمت متون عديدة وابتكرت إيقاعات مختلفة للتعبير عما كانت تموج به منطقة دار القايد من أحداث عظيمة، وبالتالي مثل هذا الموقع المركز الذي تجددت في أحضانه نصوص العيطة وتخرج من رحمه العديد من شيوخ العيطة الذين قاموا بتعميم هذا الفن ونشره من المركز نحو المحيط في تنقلاتهم المختلفة.

وتسمـــى العـيـطـة العبـديـة كـذلك بـالـعيـطـة «الحصباوية» نسبة إلى «الحصبة»، وهي منطقة بقبيلة عبدة ترعرع وتألق بها هذا الفن، بحيث شكلت ولا تزال مشتلا مهما لعيوط الحصبة، بل وحتى لباقي أصناف العيطة بالمغرب. تبعد هذه المنطقة الخصبة والشاسعة عن مدينة آسفي بحوالي ثلاثين كيلومتر بإتجاه دكالة، أي بالقرب من مقر القائد عيسى بن عمر العبدي، ما جعلها مسرحا شاهدا على التطاحنات القبلية والمخزنية زمن التسلط القائدي وتراخي قبضة الدولة، وبذلك شكلت مصدرا للإلهام والإبداع بالنسبة لشيوخ القبيلة؛ إذ اتسمت بكونها واحة للترفيه عن النفس والتخلص من هموم الحياة من جهة، ومنبعا يمد بما يكفي من المواضيع الإجتماعية والسياسية والإقتصادية القابلة للتوظيف الغنائي في قالب العيطة من جهة أخرى. واذا كانت بعض الإجتهادات قد نسبت تسمية النمط الحصباوي إلى «لحْسَابْ»11، فإن ذلك القول مردود لسببين: الأول يتمثل في كون جميع العيوط لا تتضمن بالضرورة ما يعرف «بالحْسَابْ»، والثاني أن تواجد منطقة تألق بها فن العيطة العبدية تسمى «الحَصْبَة» يجعلنا ننسب إليها تلقائيا هذا النمط، لاسيما وأن نصوصها قد جاءت متخمة بالمتون التي تعكس تفاعلات الحياة البدوية بالمنطقة، كتصويرها لمشاهد دقيقة عن معاناة الساكنة مع تجاوزات القائد عيسى بن عمر، وإحتفائها بشخوص وأماكن من فضاء الحصبة الواسع. وزيادة على هذا، فإن هذا الركن الجغرافي من بلاد عبدة قد احتضن هذا النمط من غناء العيطة، الذي إرتبط إرتباطا وثيقا بشيوخ الحصبة، بحيث ظل لزمن طويل لا يُؤدى إلا على ربوعها، وبأصوات أهلها، ينشدونه كلما خلوا إلى أنفسهم متخلصين من مشاغل ومتاعب الحياة البدوية اليومية. وبالمقابل لم يخض فيه شيوخ المدارس الأخرى إلا نادرا لطول نصوصه وتعقدها.

الظاهرة القائدية

كان القائد هو ممثل السلطان بالقبيلة، ومنه كان يستمد سلطاته في إخضاع القبيلة لطاعة سلطان البلاد عن طريق إرغامها على تقديم المغارم والجبايات المفروضة عليها لصالح بيت المال، أو تأديبها بالقوة في الحالة التي تثور فيها وتخرج عن ولاء المخزن. وقد استحال هذا النمط من الإدارة -المرتبط بالمركز القوي للقائد- إلى ظاهرة حقيقية في القرن التاسع عشر وإلى حدود بداية التدخل الأجنبي بالمغرب وفرض الحماية عليه سنة 1912، بحيث تعاظمت في هذه الفترة سلطات القائد إلى الدرجة التي أصبح ينافس فيها مركز السلطان بالعاصمة، بل وأحيانا يفرض نفسه على هذا الأخير، خصوصا مع تراخي قبضة الدولة على باقي ربوع المملكة مع توالي نعرات القبائل وإنفلاتاتهم. وهكذا حدث تلازم قوي بين القائد ونمطي الإنتاج والحياة بالبادية بالمغربية، فتسللت شخصيته إلى النمط الموسيقي والغنائي لأهل البادية بشكل بارز؛ وصفا لنمط عيشه الأرستقراطي وتمجيدا لسلطانه وعظمته، وهو ما تُرجِم في نصوص العيطة، وخاصة العيطة العبدية التي عكست صولات قواد الجنوب الذين كانوا أكثر سطوة وهيبة بين قياد المغرب.

الإشكالية

يحيلنا هذا التأطير المفاهيمي على جملة من الإشكالات والتساؤلات العميقة: فإذا كانت العيطة في الأصل غناءا، وكان الغناء على العموم محكوما بطابع فرجوي راقص، فكيف تمكن شعر العيطة بعبدة من تجاوز هذا الطابع الترفيهي لينفتح على ماهو سياسي وعلى ما تموج به القبيلة من صراعات وتجاذبات؟ هل ذلك مرده إلى أن ظاهرة القياد الكبار قد فرضت نفسها على شاعر العيطة أم لأن القياد احتووا هذا الشعر ووجهوه لما يخدم مصالحهم ويديم مراكزهم؟ وبالتالي هل خضع شعر العيطة لهذه الكوابح السياسية أم إنفلت منها ليعبر عن ذات القبيلة وهمومها؟

شعر العيطة العبدية والظاهرة القائدية

إن الخوض في مضامين هذا الفن يستوجب الحديث بداية عن تلك الطريقة الجماعية التي ميزت تأليف نصوصه عبر مراحل متعاقبة، كما يحدث بالنسبة لــ«كل الإنتاجات الشعرية الشفوية في الثقافات الإنسانية التي تنموا تدريجيا مثل كرة الثلج كلما تدحرجت أكثر كبرت وتضخمت»12، مما أفرز حبات ومقاطع شعرية عديدة تم ضمها لبعضها عن طريق تقنية «الحطَّات». وهكذا تم نسج نصوص كاملة، متميزة عن بعضها انطلاقا من هذه المقاطع بالاعتماد على التنويع في الإيقاعات الموسيقية، وبهذا تستحيل من جهة نسبة نص من النصوص إلى شخص معين بذاته شعرا وإيقاعا، ومن جهة أخرى يصعب تحديد التيمة الخاصة بكل عيطة، بحيث تظل هذه التيمات متنوعة ومشتتة في ثنايا النص، لأن كل عيطة نسجت انطلاقا من حبات شعرية خرجت للوجود في مراحل وأمكنة وسياقات متباعدة، ثم جرى جمعها في مقاطع غنائية دون مراعاة الروابط الدلالية التي يمكن أن تجمع بينها. غير أن حضور الظاهرة القائدية وشخصية القائد الطاغية يعتبر التيمة التي يكاد لا يخلو منها أي نص من نصوص العيطة العبدية.

ويمكن القول أنه بقدر ما استفحلت الأوضاع في مغرب القرن التاسع عشر، بقدر ما تضخمت من جهة مكانة القائد بالقبيلة وتعاظمت سلطته «التي يجسدها في نظر الجميع كممثل عن السلطان»13، رغم ما تضمره هذه التمثيلية/الغطاء من«جشع»14يقف خلف كل سياسات القائد. ومن جهة أخرى أصبح لشخصه تلازم قوي مع مختلف مناحي الحياة بالبادية المغربية. فالقائدية ليست طريقة في الإدارة فحسب، بل هي صورة أوسع، هي ظاهرة اجتماعية لما تحمله في طياتها من دلالات وحضور قوي في السلوك اليومي، الفردي أو الجماعي للقبيلة. تبدأ إرهاصاتها الأولى بشخص غني أو اغتنى للتو، يطمح لوضع قبيلة أو مجموعة من القبائل تحت عباءة حكمه إما بشراء القيادة أو فرض نفسه على السلطة المركزية، ثم لما يتحقق مراده يلجأ إلى سياسة العنف المفرط لإخضاع القبائل وما يستتبع ذلك من ضغائن وفتن ومواجهات تشكل موضوعا دسما في أحاديث واهتمامات الكبير والصغير، ولذلك تكاد تهيمن هذه الظاهرة على كل نصوص العيطة العبدية وكأنها الملهم الأساس لقريحة الشيوخ والشعراء، وفي ذلك دليل على مدى تأثير شخصية القائد في هذا الوسط الاجتماعي والسياسي، لدرجة جعلت البعض من الباحثين يصنفون المجتمع المغربي ونمط إنتاجه في «خانة خاصة» وهي «المجتمع القيادي» و«نمط الإنتاج القيادي»15. بمعنى أن هذه الظاهرة قد «إلتصقت في تكونها وفي سيرورة حياتها وفعاليتها بالتشكيلة الاجتماعية والثقافية للمغرب القروي»16 فوجدت بذلك صدى لها حتى في المشهد الفني للناس البسطاء بالبادية، عاكسة هذا الزخم من الحراك القبلي والصراع مع السلطة، وهذه القوة المؤثرة لمؤسسة القائد القوية. وقد ساهم في ذلك أيضا احتضان بعض القياد17 لهذا الفن باستقبال الشيوخ داخل أسوار قصباتهم. وهكذا «تخبرنا العديد من العيوط عن حياة بعض القياد وممارساتهم تجاه السكان، كالقائد عيسى بن عمر»18 الذي لازالت نصوص العيطة تؤرخ لسياسته الحديدية في الحكم على غرار باقي نظرائه بربوع المغرب، والذين كانوا كلما ضعفت السلطة المركزية إلا وازدادوا قوة وجبروتا، فــ«لا يستطيع المخزن أمامهم أي شيء فأصبحوا سلاطين في مناطقهم مثل قياد الجنوب المشهورين»19 بما عرفوا به من إتباع لتقاليد مخزنية في نمط عيشهم وأسلوب حكمهم. ورغم البطش والشدة التي تميز بها قياد عبدة كغيرهم من القياد بالمغرب، وهي «شدة كانت مطلوبة في ذلك العصر الذي كان يمثل فترة تاريخية استثنائية، ومفصلا دقيقا في تاريخ المغرب الحديث والمعاصر»20، فإن نصوص العيطة العبدية لا تعكس في بعض متونها ذلك الواقع، وهذا إشكال يمكن تفسيره كما يلي:

أولا: لا يمكن للشيخ أن يجازف بحياته لكي ينقل الواقع كما هو ويذم القائد ويكشف عيوبه ومساوءه. ولذلك كان يلجأ للإيحاء للتعبير عن مواقفه السياسية، كقوله مثلا: «الخْزَانَة يْلا قَالُوا ارْشَاتْ..المَخْزَنْ يْجَدَّدْهَا»، فإنما يريد في الحقيقة القول «إذا كان عيسى بن عمر قد جار عليهم بحكمه واعتدى فإن هناك سلطة عليا مركزية بإمكانها وفي قدرتها أن تغير الوضع وأن تجدد»21. وهذا التشفير اللغوي، والتوسل بالألغاز إنما يجد تبريره في كون «الكثافة الاجتماعية للنص الشعري، للنص الشفوي الذي يصبح أغنية رائجة في القبائل والمناطق والجهات لم تكن لتغفل عنها سلطة القائد وإنما كان يتم السعي لاستيعابها وتدمير إمكانياتها الحرة لكي تظل حاملا لإمكانية نظرة الحاكم»22. على أن الشيخة الوحيدة التي شكلت الاستثناء في هذا الإطار، والتي يشهد لها التاريخ بوقوفها فنيا وسياسيا في وجه القائد هي الشيخة «خربوشة»، وكانت تنتمي إلى قبيلة أولاد زيد التي نكل بها القائد عيسى بن عمر، فكلفها ذلك حياتها حين قالت رافضة «انَا عَبْدْ عَبْدَة وْالسِّي عِيسَى لاَّ»، واصفة إياه بآكل الجيفة وقاتل إخوانه: «السِّي عِيسَى أَقتَّالْ اخُّوتُه.. السِّي عِيسَى أَوكّالْ الجِّيفَة»، إذ تعتبر عيوط الشيخة خربوشة –في هذا السياق- بمثابة وثيقة تاريخية، تسجل أحداثا بتطوراتها وانكساراتها ومعاناتها23 وتفضح تعسفات هذا القائد تجاه قبيلتها التي رفضت الخضوع لسلطانه:

رَاعِي الخَاوَة كُلْشِي يْفُوتْ وتَبْقَى العْدَاوَة

لابَاسْ ولابَاسْ رَا العْدُو مَادَارْ قْيَاسْ

هَزْ لويزَكْ صَرْفُو نْحَاسْ رَا فَعْلَكْ مَايَسْوَاشْ

ثانيا: أن القبيلة كانت على يقين بأن العنف المخزني نازل بها لا محالة، كيفما كانت شخصية القائد ومهما كان إنتماؤه القبلي، لأن القسوة في الحكم كانت من صميم السياسة المخزنية، في ظل شيوع تلك الأدبيات التي ترى في الرعية «رأس الفتنة بسبب ما جبلت عليه من نزوع إلى الشغب والفساد وإثارة الفتن متى استشعرت وهنا أو تراخيا في قوة سلطة الدولة وسطوتها»24. ولذلك لم يكن يجد الشيوخ بدا من مدح القياد إما تكسبا أو إتقاءا لشر انتقاماتهم.

ثالثا: إن نفسية أهل البادية عموما، لم تكن لتقبل بهجاء قائدها ونصرة قائد من خارج القبيلة، فرغم البطش فإن القبيلة كانت مستعدة لنصرته ومدحه والوقوف في صفه ضد أي مناوئ، خاصة وأن العصبية للقبيلة كانت ما تزال تسري في دماء السكان25. وهكذا جاءت نصوص العيطة الحصباوية متضمنة لإشكال النص والواقع، والذي لا يمكن تفسيره دون الرجوع إلى المرجعية الثقافية والسياسية المتحكمة في الفعل اليومي للبدوي المقهور والخاضع، أو «الكوابح» -على حد تعبير الأستاذ بوحميد-26 التي أثرت في سيرورة التراكم الشعري. غير أن هذا الحضور الطاغي للقياد بمتون العيطة، وخاصة قياد عبدة، لا يجب أن يدفع بنا إلى التسليم تلقائيا بارتباطهم بالعيطة وشيوخها، كما ذهب إلى ذلك الباحث حسن نجمي27 - مستدلا بـ«الحضور المكثف» لشخصية القائد عيسى بن عمر في نصوص عبدة، وببعض الروايات الشفوية التي تقول بأنه «اضطلع بدور الباعث لهذا الفن التقليدي»، وكذا برحلات صيده وفضاءات الفرجة في عهده، والتي لابد وأن تكون قد أثثتها العيطة. فالأمر يمكن أن يرجع فقط إلى توظيف العيطة لهؤلاء القياد كمواضيع لنصوصها، بالنظر إلى انبهار الشيوخ بشخصية القائد عموما ومكانته ونمط عيشه الأرستقراطي الذي شكّل مصدر إلهام بالنسبة لهم. بل يصعب تصور أن يكون لقائد ما دور في بعث فن سريع الانتشار، يمكن أن يشكل تهديدا لمركزه على اعتبار ما قد يتضمنه من نقد شرس لممارساته وتجاوزاته. وما يُؤكد ذلك الرواية التي أوردها المؤرخ محمد المختار السوسي على لسان الباشا إدريس منو حول علاقة السي عيسى بهذا الغناء، حيث يقول أنه قد: «حكى له –أي السي عيسى- أن أخا له كان قائدا قبله، وكان عيسى خليفته يستخلفه في القبيلة حين يجيش مع السلطان، فقال فخطرت امرأة مغنية بلدنا –الشيخة- فكنت وأنا شاب أذهب مع رفقاء لي بها إلى غار بعيد من العمارة تغني لي، وقد حرصنا على أن لا يعرف ذلك أحد، لأن ذلك مستغرب في ذلك العهد الذي لا يعرف الناس فيه إلا الجد ثم لما أراد القائد أخي أن يسافر مرة أخرى إلى السلطان، خرجت مع كل رجالات القبيلة حتى وصلنا محلا نعتاد أن نودعه فيه، فحين ودع كل الناس ورجعت عنه قليلا أمال عنق فرسه فناداني فقال ها أنذا ذهبت فاشتغل أيضا في الغيران بفعلاتك، لم يعد ذلك، فتوجه لطيته، فبقيت أنا مبهوتا، ولو أمكن لي أن أسيخ في الأرض لفعلت ثم كان ذلك آخر عهدي بمثل ذلك»28. فهذه الرواية تؤكد اعتزال هذا القائد الاحتكاك بالعيطة منذ صغره، وقد حاول الأستاذ حسن نجمي نفي ذلك معتبرا أن هذه الرواية إنما تدخل في سياق ازدواجية خطاب القائد29، وهو أمر كان يمكن أن يكون صحيحا لولا شهادة الحاكي المذكور في حق القائد بقوله «وهو كذلك»، أي أن تلك القصة التي رواها له عيسى بن عمر عن نفسه كانت فعلا آخر عهده بالعيطة، وإدريس منو هذا ليس بالشخص العادي في ذلك الوقت، فقد كان على إطلاع بكل مايدور في البلاد من أخبار عن الرعية والقادة، بحكم قربه من السلطان مولاي عبد الحفيظ، فقد عاش معه منذ الصغر، وكان «صاحبه ونجيبه»30 في الكبر كما يشهد بذلك القائد الناجم الأخصاصي. غير أن التابث في هذا السياق أن القائد السي احمد «ابن القائد عيسى بن عمر» هو من ارتبط بموسيقى العيطة ارتباطا وثيقا على خلاف أبيه، وربما لم يتغن شعراء العيطة بعيسى بن عمر إلا حبا في إبنه هذا، وتشير الكثير من الدلائل على تعلق السي احمد بغناء العيطة أهمها تلك النصوص التي نظمت في مدحه وكذا بعض الروايات الشفوية التي تجزم بأنه كان يرعى شيوخ العيطة وينظم الحفلات العيطة بقصره من حين لآخر، ما جعل غناء العيطة تتجدد دماؤه وتتدفق نصوصه بشكل لافت بمنطقة عبدة. فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن غناء العيطة كان يشكل «جزءا من الحياة الاجتماعية والترفيهية لقيَّاد القرن التاسع عشر وقبله»31، فإن سر ذلك الدفق الغزير من العيوط بعبدة يكمن بالتأكيد في وجود هذا القائد المولوع بالعيطة والذي قضى عمرا وهو يعتني بشيوخها ويقربهم إليه، ويسهر على تنظيم جلسات وسهرات عيطية بأحضان قصره، حتى عُد في نظر الكثيرين من القياد الذين جددوا فن العيطة في العصر الحديث، ولعل هذا الاهتمام إنما يدلل على ولعه الشديد بغناء العيطة، وميله المفرط نحو الترفيه للتخلص من نمط العيش الصارم لأبيه القائد عيسى بن عمر. مما جعل إسمه يظهر في متون جل عيوط الحصبة، بل ونظمت نصوص كاملة في مدحه والتغني بشخصه كما قلنا، خاصة بعد نفي أبيه، ثم توليه قيادة «ثمرة» سنة 1925.

ويخبرنا شعر العيطة العبدية عن مجموعة من الأخبار والحقائق التاريخية الكاشفة لسيرة قياد منطقة عبدة، تماما كما تخبرنا بذلك بعض الكتابات التاريخية القليلة بهذا الخصوص، ومن ذلك أن منصب القيادة كان يُشترى من قبل الراغب فيه، ولا يُمنح بناءا على معيار الكفاءة والاستقامة في الخدمة، وهي حيلة كان يلجأ لها المخزن من جهة لسد النقص المادي الحاصل في خزينة الدولة، ومن جهة ثانية لتشتيت ثروة القائد المراد نزع القيادة منه وتسليمها لمن يدفع أكثر، يقول شاعر العيطة تعبيرا عن ذلك: «زِيدْ الزْيَادَة يْلا بْغِيتِي القْيَادَة»، أي إدفع أكثر من غيرك إذا كنت ترغب في حيازة منصب قائد. وقد استفحلت هذه الظاهرة –كما يذكر العلامة محمد المختار السوسي على لسان إدريس منو- في عهد الوزير أحمد بن موسى، بحيث «بلغ البيع والشراء للقيادة في أيامه نفاقا عجيبا»32 وهي الحقيقة التي عكسها شعر العيطة الشفوي بوضوح.

وتصف لنا العيطة العبدية كذلك نمط العيش الباذخ لقياد عبدة، لاسيما القائد عيسى بن عمر الذي اشتهر بحبه لخرجات الصيد بكلاب السلوقية بحثا عن الطرائد، وقد ألقيت صنوف من الفواكه الجافة فوق الزرابي في كل مكان»33، في منظر فريد يجمع بين القوة والبذخ، «مما ]كان[ يدفع ]بالقبائل[ إلى الإعتقاد بأن قائدهم السي عيسى في قبيلته وداخل حدود قيادته، سيد فوق الجميع»34 :

السِّي عِيسَى أَوَشَّامْ السْرُوتْ

زِينْ الصَّيْدَة زِينْ السَلاكَ عِيسَى يَا بَنْ عُمَرْ

ولم يكن السي عيسى معروفا بهذه الهواية في قبيلته فحسب، بل إمتد صيت ذلك ليصل باقي ربوع البلاد، لدرجة أن «بوحمارة» –الثائر على المخزن- لما قبض عليه الجيش السلطاني وأحضره بين يدي مولاي عبد الحفيظ، قدم أوصافا ساخرة للحاضرين آنذاك في مجلس السلطان، لكنه حين وصل للقائد عيسى بن عمر، أشار إليه «فقال هذا صاحب الذئاب- يعني يألف صيدها»35. ونقف في نص «العَمَّالَة» على وصف دقيق للحظة مهيبة يكون بطلها القايد عيسى بن عمر (أو ابنه السي احمد من بعده) وقد هب لوجهة معينة في موكب من الخيل والعتاد. وهو الأمر الذي تتداوله الساكنة وفق توصيف العاملين بالإسطبل (تَاوْعْ الرْوَا)؛ حيث يتجه القائد متقدما موكبه ممتطيا جواده، فيقدم له «العَسْكرْ» التحية (السْلَامْ) فيما يجر «اسْويلَمْ» اللجام ويرفع «الفَرَاجِي» العلم. إنها وجهة إما لدك قبيلة متمردة أو للصيد ترفيها عن النفس، ويقدم هذا النص لوحة لهذا البروتوكول الذي ميز خرجات وحركات القائد عيسى بن عمر، بلسان سكان منطقة عبدة المبهورين بعظمة قائدهم وعلو مكانته:

تَاوْعْ الرْوَا كَالُوا شِي اكْلَامْ

السِّي عِيسَى امْشَى بِالسْرُوتْ

الفَرَجِي رَافَدْ لَعْلَامْ

اسْوِيلَمْ جَارْ اللْجَامْ..العَسْكرْ عَاطِي السْلَامْ

ولأن شعر العيطة عموما هو شعر بطولات في الكثير من جوانبه، فإنه يكاد لا يحتفي إلا بالقياد الذين كان لهم موقف معاد للتغلغل الاستعماري بالمغرب مطلع القرن العشرين، كقائد عبدة عيسى بن عمر الذي دوخ سلطات الحماية بأفعاله المتعارضة مع سياساتها فإضطرت لوضع حد لحكمه بالمنطقة ولم تتوقف عند حدود ذلك، بل نفته إلى مدينة سلا إتقاء لمكره. والقائد العيادي بالرحامنة الذي ورغم ارتباطاته مع بسلطات الاحتلال حافظ على صلات وثيقة بسلاطين المغرب، موازيا بشكل ذكي ودبلوماسي بين ضرورة دعم المخزن وإكراه الحماية الفرنسية. أما القياد الذين ارتموا في حضن المحتل -حفاظا على مصالحهم ونفوذهم وإن كلفهم ذلك الإسهام في تيسير سيطرة الغزاة على التراب الوطني وتثبيت أوتادهم به- فقد تنكر لهم شعر العيطة وأحجم عن ترديد أسمائهم كما هو الحال بالنسبة للقائد المدني الكَلاوي الذي ينعدم ذكره في شعر العيطة.

وهكذا، نخلص للتاكيد على أن لنصوص العيطة العبدية قيمة دلالية واضحة، تستقي مواضيعها من الواقع الاجتماعي والسياسي لساكنة المنطقة، فهي ليست مجرد تقاطيع لفظية ثانوية في خدمة الإيقاع باعتباره المكون الأساس في الغناء، أي كلام ينظم كما أتفق لأجل تدعيم الجمل الموسيقية كما هو الحال في المدرسة المرساوية مثلا، فبقراءة متأنية لنصوص العيطة العبدية، أو باستماع متمعن لتسجيلاتها وأداءاتها المباشرة، ينجلي أمامنا مضمونا غنيا، مصدره شعر شفوي -من الثقافة الشعبية- لا تقل أهميته عن أي نص شعري فصيح ومكتوب، مندرج في خانة الثقافة العالمة، ذلك أن تيمات النمط الحصباوي «تتجاوز الحقل العاطفي لتشمل ما هو سياسي واجتماعي»36، وتلك لعمري مقومات مميزة لأي نص شعري أدبي متكامل.

الهوامش

1 - العيَط: طول العنق، رجل أعيط، وامرأة عيطاء: طويلة العنق. أنظر لسان العرب، لابن منظور، المجلد الثاني، ص 3191، دار المعارف، تنقيح عبد الله علي الكبير، محمد احمد حسب الله وهاشم محمد الشاذلي.

2 - سالم اكويندي، أصول التخييل المسرحي، مقاربة أنتروبولوجية في المسرح والثقافة الشعبية، الطبعة الأولى 2006، مطبعة دار النشر المغربية، ص 90.

3 - حسن نجمي، غناء العيطة الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب، الجزء الأول، دار توبقال للنشر، 2007، ص 24.

4 -سالم اكويندي، أصول التخييل المسرحي، مرجع مذكور، ص 111.

5 - رقية بلمقدم، معلمة المغرب، مادة "المجذوب"، الجزء 20، ص 6985.

6 - محمد أبو حميد، عبد العزيز بن عبد الجليل وآخرون، مدخل إلى تاريخ وفنون الشاوية، أنجز هذا الكتاب على هامش الملتقى الأول لفنون الشاوية بسطات سنة 1989، منشورات وزارة الثقافة. (دار النشر وسنة الطبع غير متوفران بالمرجع). ص 78.

7 - حسن نجمي، غناء العيطة، الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب، الجزء الثاني، دار توبقال للنشر، 2007، ص 81.

8 -Allal ragoug, Safi histoire et mémoire, Rabat net, 2013, P 95.

9 -يمكن إعتبار مجمل تجربة بعض الفنانين الشعبيين بالمغرب مجرد تكرار لأعمال فناني هذه المنطقة في قوالب لحنية جديدة ومصقولة، كالفنان المحفوضي محمد والفنان الشيخ البشير-أحد رموز نمط "اعبيدات الرمى"- الذي يعود أصله إلى منطقة عبدة. والأمثلة كثيرة في هذا الباب تؤكد غنى الموروث الفني الموسيقي للمنطقة.

10 -علال ركوك، موسيقى آسفي نماذج وتجليات، مطبعة rabat net maroc، 2005، ص 99.

11 -رقص على "آلة الغسيل" "الجفنة" أو "القعدة" أو ما شابهها إنسجاما مع الإيقاع الموسيقي، ينتهي بـ"طمَّة" موحدة بين الآلات ودقات الأرجل.

12 -حسن نجمي، غناء العيطة، مرجع سابق، ج 1، ص139.

13 -جرمان عياش، دراسات في تاريخ المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء 1986، ص 206.

14 - Abdallah Laroui, Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain (1830-1912), Centre Culturel Arabe, 3ème édition- 2009, Casablanca. P 352.

15 -محمد حجاج الطويل، معلمة المغرب، مادة "القايد"، ج 19، ص 6590 و 6591.

16 -حسن نجمي، غناء العيطة، مرجع سابق، ج 2، ص 181.

17 -كالسي أحمد بن عيسى بن عمر، الذي كان يقرب إليه الشيوخ، ويقيم سهرات عيطية داخل منزله.

18 -Allal Ragoug, Safi Histoire et mémoire, Rabat net, 2013. P101.

19 -محمد حجاج الطويل، معلمة المغرب، مادة "القايد"، ج 19، ص 6590.

20 -كريدية إبراهيم، عيسى بن عمر وحقيقة القائد المتسلط الظالم والسفاح، مطبعة safigraphe، 2008. ص 35.

21 - علال ركوك ومحمد بالوز: الأستاذ محمد أبو حميد، رائد البحث في الموروث الثقافي دراسات ووثائق وشهادات، 2011، مطبعة rabat net maroc، ص77.

22 -حسن نجمي، غناء العيطة، مرجع سابق، ج1، ص 190.

23 - المصطفى فنيتير، حادة الزيدية (خربوشة) شيخة في مواجهة تسلط المخزن، مجلة زمان، العدد 29 / مارس 2016، ص 37.

24 -كريدية ابراهيم، القائد عيسى بن عمر وثورة أولاد زيد وواقعة الرفسة. مطبعة IMBH، بآسفي، 2003، ص29.

25 -فقد حرّم أولاد زيد على أنفسهم أكل الثمر فقط للتشابه في اللفظ بينه وبين "ثمرة"، القبيلة التي ينتمي لها القائد عيسى بن عمر. ولازالت الذاكرة الشعبية تحتفظ بمقولتهم الشهيرة "اللهم حر الجمرة ولا الثمرة".

26 -علال ركوك، محمد بالوز، مرجع سابق، ص 63.

27 -حسن نجمي، غناء العيطة، مرجع سابق، ج 1، ص 190.

28 -محمد المختار السوسي، على مائدة الغذاء، مطبعة الساحل، الرباط، ص 85.

29 -حسن نجمي، غناء العيطة، ج 1، ص 187.

30 -محمد المختار السوسي، المعسول، الجزء 20، مطبعة الجامعة، الدار البيضاء، 1961، ص 60.

31 -من مداخلة للأستاذ إبراهيم كريدية بندوة "آسفي تراث غني ومتنوع" التي نظمتها الخزانة الجهوية بمدينة آسفي بتاريخ 11 ماي 2015،

32 -محمد المختار السوسي، على مائدة الغذاء، مرجع سابق، ص 38.

33 -رواية شفوية عن المرحوم السيد اشتيوي عمر.

34 -ابراهيم كريدية، عيسى بن عمر العبدي وحقيقة القائد المتسلط الظالم والسفاح، مرجع سابق، ص34.

35 -محمد المختار السوسي، المعسول، مرجع سابق، ص 74.

36 -Allal Ragoug, op. cit., P 101.

الصور

* الصور من الكاتب .

أعداد المجلة