فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
44

مكانة الرمزية والخيال في الدراسات الثقافية المعاصرة أنثروبولوجيا جيلبير دوران نموذجا

العدد 44 - آفاق
مكانة الرمزية والخيال في الدراسات الثقافية المعاصرة أنثروبولوجيا جيلبير دوران نموذجا
كاتب من المغرب

الثقافة، أنساق ثقافية، فهم الثقافة، الخيال، الأسطورة، الرمز، الرمزية، الأنثروبولوجيا، الوعي، البنية، الأنساق الرمزية، التأويل الثقافي، المنهج، منهج التقاطع... إلخ.

تكمن أهمية هذا الكتاب في كونه يعدّ واحدا من أهم المؤلفات العلمية في ميدان الدراسات الإنسانية والثقافية التي تتعرض بالدراسة والتحليل لمختلف الرموز والموضوعات الأدبية والثقافية والنفسية من خلال نظامين يؤسّس عليهما المؤلّف بحثه في الدراسات الأنثروبولوجية لما يسمّيه بالنظام النهاري والنظام الليلي للصورة الذهنية.

إنّ قارئ هذا الكتاب سرعان ما يكتشف قدرة هائلة لدى جيلبير دوران (صاحب الكتاب) على الانتقال والتجوال بين مفاهيم ونماذج وصور ورموز وأنساق ثقافية عديدة ومختلفة قديمة ومعاصرة؛ وذلك ما يجعل القارئ يكتشف غنى وتوسّع ميدان الأنثروبولوجيا المعاصرة وانفتاحها على آفاق جديدة كدراسة الخيال واللغة، الأساطير والبنيات الثقافية.

جعل دوران الثقافة مجالا غنيا بالدلالات والرموز التي تنتظم في بنى رمزية وتخيلية تمثّل أنساقا تستدعي التحليل والتأويل والتفسير على أساس النظر إلى الخيال باعتباره قدرة خاصة بالإنسان في التنسيق (تنسيق البنى الرمزية والنفسية) ضمن أنظمة رمزية ولغوية1 تسمح بتقييم حالات الوعي وتصنيف الاستعدادات والقدرات السيكولوجية.

1 - استشكال الموضوع:

تستند الثقافات الإنسانية إلى العديد من المعطيات الرمزية والخيالية واللسانية والأسطورية، كلّ ذلك يحتم على الباحث في القضايا الأنثروبولوجية المختلفة (الظواهر الثقافية والاجتماعية والفكرية) التزود بالمنهجيات التأويلية المركّبة، خاصة منها تلك التي تستدمج في بنيتها المناهج المختلفة: اللسانية والنفسية والسوسيولوجية والتأولية.. إلخ.

فهل هذا الأمر ما ينطبق على أنثروبولوجيا جيلبير دوران؟ كيف حاول هذا الأخير تأسيس منهجية تأويلية بالثقافات من خلال المزاوجة بين علم النفس والفلسفة واللسانيات؟ وما هي معالم هذه المقاربة الأنثروبولوجية الجديدة التي يقترحها في كتابه الهام «الأنثروبولوجيا، رموزها، أساطيرها، أنساقها»؟ ثمّ على أيّة أسس نظرية وخلفيات منهجية يؤسّس مقاربته العلمية للظواهر الثقافية والرمزية والخيالية؟ كيف جعل هذا المفكّر الموضوع الخيالي والأسطوري مدخلا رئيسيا لتأويل الأنساق الثقافية والرمزية؟ وما قيمة هذا العمل الفكري؟

لبسط هذه القضايا كان ضروريا اعتماد طريقة في التحليل والمناقشة تلائم منظور هذا المفكّر الجديد لمسائل الثقافة والتخييل والترميز والتصوير والإدراك. لذا، فقد كان عليه مناقشة كلّ هذه القضايا دفعة واحدة في كتابه الموسوم «الأنثروبولوجيا، رموزها، أساطيرها، أنساقها»، بموازاة مع مجموعة مختلفة من الأطروحات النظرية والمنهجية السابقة حول الخيال والترميز.

لذلك، كان على هذا الأنثروبولوجي استدعاء مقاربة برغسون وسارتر، وكذلك طريقة علماء النفس الكلاسيكيين الذين يخلطون بين الصورة الذهنية وخلفيتها التذّكرية التي هي الإدراك، مفترضين أنّ هذه الأخيرة تملأ الفكر بمصغرّات عقلية، هي مجرّد نسخ عن أشياء موضوعية، ممّا أفضى بهم إلى اختزال الخيال في عتبة الإحساس واعتباره مجرد صور متبقية أو تعاقبية.

تفصيلا لهذا النقاش، بدأ دوران بمناقشة كيف بقيت الصور الذهنية لدى برغسون حبيسة دور التابع الذي أعطاه إياها علم النفس التقليدي، ممّا جعل الخيال عنده يتحوّل إلى مجرد ذاكرة، بالتالي تشيء الصورة الذهنية لدى الإنسان. ثمّ انتقل من ذلك، إلى إبراز كيف اعتمد سارتر منهج الفينومينولوجيا لمقاربة الخيال بعيدا عن تصوّر برغسون، اعتقادا منه بأنّ عملية التخيّل عبارة نوايا مجرّدة من كلّ أوهام الاحتواء2.

استخلص دوران من المقارنة السابقة أنّ القيمة الأساسية لنظرية سارتر تلك3، تكمن في كونها اجتهدت في وصف الحركة النوعية للخيال، ومن ثمّ تفريقها الواضح بين الفعل الإدراكي والتذكري4. بيد أنّ خطأ هذا الفيلسوف، حسب دوران، يكمن في أنّه كلّما تقدّم في نظريته، إلاّ وقلّل من دور الصورة والخيال حتى وصل في النهاية إلى إفقادهما أي دور5.

مرّ دوران، بعد ذلك، إلى الحديث عن المدارس النفسية التي تطرقت للخيال، كمدرسة «علم النفس الفكري» الألمانية، التي كانت تنادي بأهمية الفكرة بمعزل عن الصور؛ ثم مدرسة «وورتزبورغ» التي كانت تستند إلى تصورات هوسرل في القصدية ونزوع الوعي ومواقفه. وقد اعتبر، بالنهاية، أنّ كلّ هذه التصورات (الفلسفية والنفسية) تستحق نقدا منهجيا، وذلك لأنّها جميعها تمسخ دور الخيال، سواء عن طريق تحريف غايته كما عند برغسون، حيث يتحوّل إلى رواسب تذكرّية، أو من خلال تبخيس دور الصورة واعتبارها مرادفا تافها للحس كما عند سارتر، ممّا هيأ الظروف للعدمية النفسية التي وسمت نظريته للخيال6.

أمّا علم النفس العام، فيما يزعم دوران، فحتى لو كان ميالاّ إلى الظواهرية، إنّه يحوّل خصوبة عملية التخيّل إلى مجرّد ملخص أرعن للإدراك. لذلك، هناك ضرورة لإعادة انجاز دراسة منهجية للتصور والخيال والرمزية، بشكل عام، وفق منظور جديد، وبصفة خاصة منظور غاستون باشلار الذي يؤسّس مفهومه العام للرمزية الخيالية على بديهيتين اثنتين7، وهما:

إن الخيال عبارة عن دينامية منظّمة.

إنّ هذه الدينــامـية المنظمـة عامــل تجـانـس في التصور الذهني.

يتبنى دوران هذا التصور للرمزية الخيالية، وينطلق منه لأنّه يتماشى وفكرته حول دور الخيال في إنتاج المعنى والثقافة والاستعارات. لكن، كيف يتصوّر دوران هذه الرمزية الخيالية في دراسة وفهم الثقافة والأسطورة وتأويلها أنثروبولوجيا؟

الخيال والرمزية وتجديد المنهج في الأنثروبولوجيا

يصعب على أيّ مبتدئ في ميدان الأنثروبولوجيا أن يستوعب أهمية الرمزية والخيال في تحليل الظواهر الثقافية والاجتماعية، لكن منهجية جيلبير دوران في هذا الكتاب وحسّه البيداغوجي الرفيع قد سهّلا علينا إدراك تلك العلاقات المعقدة القائمة بين ملكة الترميز القابعة في أعماق الإنسان ومختلف أشكال استثمارها في إنتاج المعنى وتأسيسه من خلال الأنساق الثقافية التي يعيش داخلها ويتفاعل معها بشكل دائم ومستمّر.

يعقّب دوران في معرض نقده للتصورات والتصنيفات التي تحاول التلاؤم مع العالم الموضوعي (سماويا، أو أرضيا، أو مناخيا) على مثل تلك المحاولات بكونها قد انحرفت نحو اعتبارات غير موضوعية، حيث يكتفي أغلب محلّلي المحركات الرمزية (الذين هم من مؤرخي الديانات) بتصنيف الرموز حسب قرابتها من إحدى الظواهر الكونية الكبرى8.

على خلاف هؤلاء، ينظر دوران إلى الرمزية والاستعارات على أنّها نتاج الدلالة التي ينتجها الخيال، حيث تتولّد عنها كل الأفكار المعقلنة وتفرّعاتها اللغوية. فما هو تحديده للخيال والرمز تحديدا؟

1 - مفهوم الرمزية والخيال، ومحركاتها:

إذا كان علم النفس التقليدي يحاول أن يفصّل الخيال على مقاس التفكير أو أن يدرسه بمنظار التفكير المنطقي المنقح، فإنّ إسقاط دوران لمسألة اعتباطية الإشارة في عملية التخيّل هو ما حدا به لأن يرفض ضمنيا مبدأ تتابعية الدلالة التي تقول بها تلك التصورات المختزلة للخيال والرمزية. لذلك لم يعد الرمز ذا طبيعة ألسنية وذاك ما جعله ينفتح على عدة إمكانيات للتأويل والتفسير، ممّا يؤدي إلى القول بأنّ التعليل المنطقي التتابعي لم يعد كافيا في الاستنباط المنطقي أو في استبطان المحركات الرمزية. هكذا، يتخلّص دوران من عقم التعليل الترابطي لصالح ما يسمّيه باشلار التمثّل الذاتي في ترابط الرّموز ومحرّكاتها.

يأخذ صاحبنا بتصور باشلار، بهذا الخصوص، في تحليلاته معتبرا أنّ كل المحرّكات، اجتماعية كانت أو النفسية، التي تقترح لفهم البنى الرمزية وتكوينها، إنّما تنهج في الغالب نهجا غيبيا ضيّقا فيحاول البعض جعل دوافع الرموز مقتصرة على مجموعة عوامل خارجة عن الإدراك ومرتبطة بالغرائز، في حين يعتمد البعض الآخر على الغرائز أو على ما هو أسوأ من ذلك، أي الرقابة والكبت؛ غير أنّ كل هذه الطرق لا تجعلنا نفهم الرمزية الخيالية ودورها في إنتاج المعنى والثقافة9.

في مقابل ذلك، يقترح دوران لدراسة الرمزية الخيالية ضرورة السير في خط الأنثروبولوجيا في شكلها المعاصر، أي في اعتبارها «مجموعة العلوم التي تدرس الجنس البشري دون الاعتماد على أفكار مسبقة ودون الاعتماد على أفكار مسبقة ودون المراهنة على أونطولوجيا نفسية ليست في الواقع سوى روحانية مغلّفة أو على أونطولوجيا ثقافية ليست عموما سوى قناع لموقف يربط كل الظواهر بعلم الاجتماع، مادامت كل هذه المواقف في النهاية هي أشكال مختلفة لعقلانية أعراضية»10.

من هذا المنطلق، يسعى دوران من خلال دراسته للمحرّكات الرمزية والخيالية إلى إعطاء تصنيف بنيوي للرموز، وذلك بعد الإلقاء جانبا بنظريات علماء النفس الظاهراتيين وبأنواع الكبت والمسببات الاجتماعية العزيزة على علماء الاجتماع وعلماء التحليل النفسي. لذلك يقترح هذا الأخير التحرّر نهائيا من الخلاف الذي ينشأ من حين لآخر بين أنصار الثقافة وعلماء النفس، لصالح اعتماد وجهة نظر أنثروبولوجية ترى أنّ «كل ما هو إنساني لا يمكن أن يكون غريبا»، بل هو نتاج التبادل الدائم الموجود بين مستوى التخيّل بين الغرائز الذاتية والتمثيلية وبين العوامل الموضوعية الصادرة عن المحيط الكوني والاجتماعي11.

إنّ التخيّل وفق هذا التأويل عبارة عن المسار الذي يتشكّل فيه تصور شيء ما من خلال الحاجات الغريزية للشخص، والذي تفسّر فيه التصوّرات الشخصية «بالتكيّف المسبق للشخص في محيط موضوعي». تأسيسا على ذلك أصبح الرمز، بشكل دائم، نتاج المتطلبات العضوية والنفسية التي تقع ضمن محيط مادي واجتماعي معيّن؛ ويسمّي ج. دوران هذا المنحى «المسار الأنثروبولوجي» الذي ينطلق من الثقافة، أو من الطبيعة النفسية على حدّ سواء، حيث تقع أسس التصور والرمز بين كلا هذين الطرفين القابلين للتعاكس14.

غير أنّ هذا التصور الجديد لا يسمح بإغفال أيّ شيء من المحّركات الاجتماعية للرموز؛ إذ يوجّه البحث نحو التحليل النفسي13 والمؤسّسات الطقوسية والرمزية الدينية وكذا الشعر والأساطير والأيقونات وعلم النفس المرضي، ممّا يفترض نهج منهج يأخذ بعين الاعتبار تقاطع كل هذه الجوانب والتقائها عند نقط معيّنة. فما هي مواصفات هذا المنهج الجديد؟

2 - دور منهج التقاطع والنفسانيات المنهجية

من أجل أن يحدّد ج. دوران المحاور الأساسية للمسارات الأنثربولوجية التي تشكّلها الرموز، عمد إلى استخدام منهج براغماتي نسبي للتحليل، بحيث رمى به معاينة وتحديد مجموعات واسعة من الصور التي هي تنتظم في شكل مجموعة من الكوكبات الثابتة تقريبا والمبنية على تماثل لرموز متقاطعة (Convergents)؛ بحيث يتجاوز بواسطته المنهج التمثيلي الذي ينطلق من مجرّد الاعتراف بالتشابه بين العلاقات ذات الخصائص المختلفة، في حين يعمل منهج التقاطع على إيجاد مجموعة من الصور المتشابهة في مختلف ميادين التفكير، فيكون متشاكلا أكثر منه مماثلة.

يساعد هذا المنهج التقاطعي على إجراء المقارنات بشكل فعّال والإحصاءات الدقيقة التي تتيح استخراج سلاسل ومجموعات من الصور، وكل ذلك يتمّ من خلال سماحه بالتركيز على مظهري طريقة المقارنة: الثابت والمتحوّل، بأن تتشكل المجموعات الصور الحركية، في آن واحد، حول نقاط تكاثف رمزي والأشياء التي تتبلور من خلالها الرموز.

يؤكّد ج. دوران حول نقطة البداية النفسية التي ينطلق منها هذا المنهج أنّه إذا كنّا قد اخترنا عن قصد نقطة انطلاق منهجية تعتمد على علم النفس، فذلك لا يعني على الإطلاق استسلاما لنفسانية أونطولوجية. لذلك، يبدو لنا بكل بساطة أنّه من الملائم الانطلاق من النفسي للوصول إلى ما هو ثقافي، لأنّ ذلك ملائم للمنهج، خاصة قاعدة «البساطة» التي كان ديكارت يطالب بها، حيث البساطة تعني بداية تبسيط قواعد اللغة؛ ويكون، وفقا لذلك، من السهل جدّا الانطلاق من الفاعل إلى المفعول به، ثم من هذا المفعول إلى باقي المفعولات الأخرى14.

أيضا، ينطلق دوران من «الأسلوب الحركي» الذي يعيد النظر بالإطار التصنيفي للرموز، وقد سبق للكثير من علماء النفس أن وظّفوه (بودوان، برادين، بياجيه)، حيث اعتبروا تكرار النماذج الأصلية للرموز ليس تكرارا لنقطة في فضاء الخيال، ولكنها «تشكيل لاتجاهه»؛ لذلك يعتبرون «الحقائق الحركية» هي طبقات التفكير. والسؤال الذي يتمحور حوله منهج التقاطع في الأنثروبولوجيا، كما يؤسّس له دوران، هو: في أي ميدان من ميادين المحرّكات والدوافع سوف نجد هذه «الاستعارات الأساسية»، أي «الطبقات الحياتية الرئيسية للتصور»؟

جوابا عن هذا السؤال، استثمر دوران نتائج مجموعة من الدراسات والأبحاث السيكولوجية التي أجريت على الإنسان «الطفل»، والتي أبرزت كيف أنّ للعوامل والمتطلبات العضوية الرئيسية، مثل: الغذاء والجنس والحركة، تأثيرات نفسية على سلوك الإنسان؛ وكيف أنّ جسم الإنسان كلّه يشارك في تشكيل الصور والخيال عنده. وقد استدّل على ذلك من خلال ما توصّلت إليه أبحاث جان بياجيه، من أنّه يمكننا أن نتتبع بشكل دائم تحوّل التمثّل والتكيّف الحسّيين- الحركيّين... إلى التمثّل والتكيّف الذهنيين اللذين يميّزان بدايات التصوّر15.

إنّ الصور الذهنية، وكذا الرموز التي ينتجها الإنسان في ثقافته، ما هي إلاّ تقليد مُسْتَبطن للمحيط. فإذا لم تظهر منذ البدايات الأولى عند الطفل، فلأنّها تتبلور فقط فيما بعد، ممّا يعزّز القول بوجود ترابط قوي بين حركات الجسم والمراكز العصبية والتصورات الرمزية16. يؤكد هذا الترابط قوة ارتباط الثقافة والطبيعة عند الإنسان، ممّا يفضي إلى القول بأنّ «الثقافة الحقيقية، أي تلك التي توجّه التفكير والتأملات البشرية، هي التي تحدّد بنوع من القصدية النزوع الطبيعي الذي تشكّله الانعكاسات الغالبة التي تلعب بالنسبة إليه دور الوصي الغريزي. ومن المؤكد أن الانعكاسات البشرية بفقدانها للوضوح والدقة اللذين نجدهما عند أغلب الثدييات، قابلة لتكيف ثقافي واسع ومتنوّع»17.

إنّ التكيّف عند الإنسان عبارة عن تلاؤم بين الانعكاس المسيطر والمحيط، حيث يحدث التوافق بين الغرائز المنعكسة لشخص معيّن مع محيطه فيغرس لديه، بشكل إلزامية، الصور الكبرى للتخيّل والترميز ويمدّها بالطاقة الكافية لديمومتها. وبما أنّ الرمزي غالبا ما يخضع لتقلبات المعنى، فإنّ هذا التشابك في المعاني وهذا التعقيد الرمزي هو الذي سيبرّر منهج دوران الذي ينطلق من الحركات الانعكاسية الكبرى ليحلّ الشبكات والعقد الرمزية التي يشكّلها تسليط الأضواء على الأشياء المحسوسة في الطبيعة.

هكذا تصبح مبادئ المنهج التأويلي للثقافة تأخذ بعين الاعتبار هذا التلاقي بين الانعكاسية والجوانب التقنية وعلم الاجتماع. ويرتكزّ هذا المنهج على التفريق بين نظامين رمزيين: الأوّل «نهاري»، والثاني «ليلي»؛ وإضافة إلى التقسيم الثلاثي للانعكاسات، يعتمد دوران تصنيفا ثنائيا للرموز الأولى انطلاقا من اعتبارين اثنين هما18:

إنّ هذا المنهج المزدوج، الذي هو في نفس الوقت ثنائي وثلاثي دون أن يكون في ذلك أي تناقض، يغطي بشكل رائع مختلف المحركات الأنثروبولوجية التي توصّل إليها باحثون متباعدون ومختلفون من أمثال: دوميزيل ولورا غوران وبيغنيول وميرتسيا الياد وكراب وآخرون من دارسي الانعكاسات وعلماء التحليل النفسي.

إنّ التصنيف الثلاثي للانعكاسات الغالبة قد تردّ على أيدي التحليل النفسي التقليدي إلى تصنيف ثنائي، إذ إنّ «الغلمة» بارتباطاتها الوراثية تقدّم، بصورة تدريجية ولكن متواصلة، تقييما وربطا عاطفيين للنزاعات الجنسية والنزاعات الهضمية. وهذا ما يجعلنا نعترف، من الناحية المنهجية على الأقل، بوجود قرابة بين الحاجة الهضمية والحاجة الجنسية؛ إذ من الشائع في الغرب إعطاء «ملذات البطن» مدلولا ظلاميا أو على الأقل ليليا.

بناء على هذا التفسير، يعتمد دوران في أنموذجه التأويلي المقابلة بين ما يسمّيه «النظام الليلي» للرموز مع نظيره «النظام النهاري» المرتكز على الغالبة الوضعية وملحقاتها اليدوية والبصرية وحتى «ملحقاتها الأدلرية» في بعض الأحيان.

يختصّ «النظام النهاري»، لديه، من الناحية النفسية، بحاجة الوضعية وسيادة الأسلحة من الناحية التقنية؛ أمّا من الناحية الاجتماعية فيتميّز بالسيّد، قاضيا ومحاربا، وبطقوس الارتفاع والتطهر. بينما يختص «النظام الليلي» بسيادة حاجتين: هضمية ودورية، الأولى تختص بتقنيات الاحتواء والسكن ورمزية الغذاء، والثانية بالروزنامة الزراعية وصناعة النسيج والرموز الطبيعية أو الاصطناعية للعودة والأساطير النجمية والعضوية19.

ينصرف الكتاب الأول والثاني من هذا المؤلف (الأنثروبولوجيا) إلى تحليل هذين النظامين، وذلك حسب منهج التقاطع المعتمد في العمل ككل. وهكذا ينصرف الكتاب الأول من العمل إلى تفصيل الكلام في النظام النهاري للصورة عبر قسمين: الأول، وقد خصّصه لإبراز وجوه الزمن عبر ما يسمّيه بالرموز الحيوانية والظلامية. بينما خصّص الثاني لتوضيح ما يسمّيه برموز الارتقاء ورموز النورانية ورموز الفصل، ثم علاقة النظام النهاري ببنى التخيّل الفصامية.

ولإتمام نظريته في أهمّية الرمزية للتأويل الثقافي، جعل الكتاب الثاني لبسط الكلام في النظام الليلي للصورة عبر قسمين رئيسين: الأول، انصرف فيه إلى بحث رموز التعاكس، ورموز الحميمية والبنى الصوفية للتخيّل عبر ما يسمّيه بـ«الهبوط والكأس». وقسم ثاني؛ انصرف فيه إلى بحث الرموز الدورية من خلال بحث كيف يتم الانتقال من النسق الدوري إلى أسطورة التقدّم وبُنى التآلف الخيالية وأنماط التاريخ، ثم العودة إلى دلالات الأساطير من جديد. ويختتم كتابه، في النهاية، بخاتمة عامة يضمّنها خلاصات عامة حول فرضياته النظرية والمنهجية، يدعو فيها إلى تربية جمالية ذات نظرة إنسانية شاملة قادرة على تحرير الدراسات اللغوية والفكر من القوالب الجامدة والأحكام المسبقة.

دلالة الأساطير في انثروبولوجيا جيلبير دوران

للبحث عن دلالة الأسطورة، يحاول الكاتب الجواب عن السؤال التالي: ما هي علاقات الدلالات النموذجية والرمزية مع الرواية الأسطورية؟ لمقاربة هذا السؤال، يعود دوران إلى تأكيد دور «النظام الليلي» بالنسبة للمخيّلة من خلال عدم اكتفاء الصور الرمزية بذاتها وترابط بعضها مع البعض، بدينامية خارجية، على شكل رواية تتحكّم بها أنماط التاريخ والبنى الدرامية لتصبح أسطورة. فما معنى الأسطورة في استعمالات دوران التحليلية والتأويلية؟

1 - معنى الأسطورة:

يستعمل دوران الأسطورة بالمعنى الواسع للكلمة، حيث يدخل فيها كلّ ما يمت إلى سكونية الرموز وما يمتّ إلى التحقيقات الأثرية من جهة أخرى. هكذا فالأسطورة، بهذا المعنى، تشمل الأساطير بمعناها الدقيق، أي الروايات التي تبرّر هذا المعتقد الديني والسحري أو ذاك، وكذا الملحمة وخصوصياتها التفسيرية، والحكايات الشعبية والسرد الروائي. من ناحية أخرى، هناك علاقة بين الأساطير والنماذج من جهة علاقة الرواية الأسطورية وعناصر الدلالة التي تحملها؛ فقد تبيّن، مثلا، أنّ شكل الطقس أو رواية أسطورية ما لا يمكن أن يكون مستقلاّ عن خلفية دلالية للرموز20.

يستثمر دوران في تحديده للأسطورة بهذا المعنى أبحاث الأنثروبولوجي الفرنسي المعاصر كلود ليفي ستراوس الذي يعتقد بأن الأسطورة هي صيغة الخطاب الذي تفقد فيه كلمة «ترجم» و«حوّر» كلّ قيمتها، وذلك لكونها بالأساس خطابا يقوم على نوع من تسلسل الدّال، وهذا الدّال يستمرّ قائما كرمز وليس كعلامة لغوية اعتباطية21. غير أنّه، بالنسبة لدوران، فحتى إذا كانت الأسطورة لغة من الوجهة التسلسلية للرواية، فإنّ ذلك لا يمنعها من الابتعاد عن الأساس اللغوي الذي انطلقت منه22.

يطرح السؤال هنا من جديد حول ما إذا كانت الحاجة إلى الاستعانة بالأصوات والكلمات، أي بكل الجهاز اللغوي، ضرورية لكي نستطيع التعرّف إلى الأساطير التي توجد على مستوى أعلى؟

يجيب دوران على هذا السؤال بأنّ الأسطورة لا يمكن أن تصغر لتصبح لغة، ولا أيضا، كما يحاول ليفي ستراوس أن يصوّر ذلك مجازيا، إلى تناغم، حتى وإن كان موسيقيا؛ ذلك أنّ الأسطورة ليست تدوينا يترجم أو يحلّل، بل هي وجود دلالي مكوّن من مرموز يحتوي على معناه الخاص بشكل شامل23.

من هذا المنطلق، يتعامل صاحبنا مع الأسطورة، على خلاف ستراوس، بكونها لا تعادل في بنيتها التخيّلية المسيرات الشكلية للمنطق والرياضيات. فما يميّز البنية، حسب دوران، أنّها تتشكل وتنطلق في المسار الأنثروبولوجي المحسوس الذي نشأت فيه؛ فهي ليست شكلا فارغا، بل مثقلة دائما بوزن دلالي غير قابل للتصرف24.

تماشيا مع ما سبق، تصبح الأسطورة، في هذا الأنموذج الجديد، بنية تزامنية لكونها تكرارا مستمرّا لنشأة الكون، وبالتالي دواء ضد الزمن والموت من حيث تحتوي في ذاتها مبدأ دفاع وصياغة تنقله للشعائر والطقوس. أمّا هذه البنية التزامنية، فليست سوى ما أسماه دوران بالنظام الليلي للصورة، وتشهد على ذلك أساطير البداية الكبرى في المكسيك القديمة أو عند قبائل المايا حيث الأسطورة عبارة عن تكرار إيقاعي للخلق، مع تنويعات طفيفة. من هنا يصبح دور الأسطورة هو التكرار كما تفعل الموسيقى، أكثر ممّا يتمثّل في الرواية مثلما يفعل التاريخ25.

ففي الأسطورة لا يرتبط التزامن بالمضاعفة فقط، بل أيضا بالتكرار الزمني وبالبنى التركيبية، حيث تضيف الأسطورة، في الإطار البسيط والمتلاحق للخطاب الكلامي، بعد الزمن العظيم من خلال قدرتها التزامنية على التكرار. يؤكّد دوران على أنّ تكرار المقاطع الأسطورية له محتوى دلاليا، ممّا يعني أنّ نوعية الرموز ضمن التزامن لها أهمية العلاقة المكرّرة بين شخصيات الدراما.

إذاً؛ فتزامن الأسطورة ليس فقط لازمة، ولكنّه موسيقى يضاف إليها معنى كلامي، فهو تعزيم وتعويذ يخرجه الإيقاع الموسيقي من المعنى الكلامي العادي ليعطيه القدرة على تغيير العالم. إنّ دقائق هذه الدلالات هي التي يحاول دوران إضاءتها مستعينا بالدراسة القيّمة التي قامت بها كومهير سيلفان (Comhaire-Sylvain) حول أسطورة (أمّ الماء)، والتي سبق له أن أشار إليها في بداية كتابه هذا26.

لقد استخلص من ذلك أنّ الصورة التعاقبية والعلاقات التزامنية لمجموعة «أم الماء» الأسطورية هذه، إنّما تمثّل مظهرا لتقاطع نماذج وأنساق ورموز التعاكس والحميمية المشكّلة لبنية هذه الأسطورة؛ ممّا يجعلها تجسيدا للبنى الصوفية للمخيلة. وقد كانت إحدى الثوابت الأساسية لهذا التقاطع والتشاكل، أن تم إبراز الصفة المادية للبنى الرمزية وكذا للأشكال النحوية والدلالية المشكّلة لهذه الأسطورة. لكن هل يعني ذلك أن تأويل وقراءة الأسطورة مسألة سهلة؟

2 - التباس الأسطورة:

تأتي صعوبة تأويل الأسطورة من كونها كائنا خلاسيا ـــ هجينا يصدر عن الكلام وعن الرمز في آن واحد، إذ الأساطير تُدخل تسلسل الرواية في عالم الدلالة المتعدّد الأبعاد وغير المتسلسل كما يصرّح بذلك الكاتب في نهاية كتابه هذا؛ لذلك تصبح الأسطورة على مسافة متساوية بين الملحمة، كخزان للأساطير التي تستخرجها الاهتمامات الوضعية للبحوث الأثرية، وبين اللغة التي تترابط فيها علاقات وضعية.

بهذا الخصوص يتفق دوران مع فكرة ليفي ستراوس في «أنّ المفردات أقلّ أهمية من البنية» التي يبرّر بها كون الأسطورة لا تخان إذا ما ترجمت (أي أنّها ليست بحاجة إلى الترجمة ممّا يقلّل من ارتباطها اللغوي)، غير أنّه لا يوافق على أن يكون للشكل الأسطوري أفضلية على محتوى الحكاية27.

غالبا ما تبدو الأسطورة كمحاولات للتوفيق بين تسلسل الكلام وتزامنية الدمج الرمزي، لذلك تظل البنية الأساسية لأي أسطورة مثل بنية تركيبية تسعى لتدمج لا زمنية الرموز في زمنية الخطاب. تجعل هذه الخاصية الأساطير تبدو كما لو أنها ميدان لا يخضع لعقلانية الخطاب؛ إنّها بهذا المعنى تتّصف بانعدام المعقولية، فلا تنكشف أسرارها إلاّ أثناء إنجاز التحديد المتضافر لحوافزها التفسيرية المتشابكة28.

هكذا فالأسطورة هي تأليف وتجميع لأكبر قدر من المعاني الممكنة، ولذلك يصبح من العبث شرح وتأويل أسطورة وتحويلها إلى لغة سيميائية صرفة. إنّ كلّ ما يمكن القيام به بهذا الخصوص هو تصنيف البنى الرمزية المشكّلة للأسطورة إلى مجموعة من القوالب التي تنتج تعددية متحركة من الدلالات والمعاني والرموز. فالأساطير إذاً مشبعة بالدلالة والرمزية، وهي بهذا المعنى سرب دلالي تنظّمه البنى الدورية؛ لذلك، وكما يقول دوران: «ما من مكان كالأسطورة نستطيع أن نرى فيه كيف يتكسّر الجهد السيميائي والنحوي للخطاب على تنويعات الدلالة، حيث استقرار النماذج والرموز يقاوم الخطاب الشفوي»29.

تعمل الأسطورة إذاً على تنسيق الرموز بما يسمح بتشخيص بنيتها؛ غير أنّه لتحديد كيفية ذلك، يتوجب علينا أن ندرس العوامل الجغرافية والتاريخية التي يمكن أن تحوّل الأنموذج إلى رمز. لذا أصبح لزاما علينا العودة إلى عدّة مستويات لكي نسترجع المعنى المتعدّد للأسطورة:

المستوى السيميائي والنحوي، كما يريد ليفي ستراوس، حيث يمكن إيجاد «المعنى» التعاقبي للحكاية انطلاقا من درب اللغة التعليمية للخرافة أو التفسيرية للسيرة أو الحكاية في الأسطورة.

أمّا المستوى التزامني الذي يدلنا على التكرارات التي تسود في الأسطورة.

ثم المستوى التناظري الذي يعطينا تشخيصا لتوجه «أسراب» الصور؛ وأخيرا تكشف المعطيات الجغرافية والتاريخية نقاط انعطاف الأسطورة وابتعادها أو اقترابها من التمحوّر النموذجي30.

إنّ القبض على المعنى في الأسطورة يعتبر محاولة لاستعادة الزمن المفقود، وهي بهذا المعنى، أي بصفتها المزدوجة: الاستطرادية والاسهابية، تنطوي على بنى تركيبية وجب تحليلها وتأويلها وفق منهجية تكاملية. بذلك تشكّل الأسطورة عند دوران نوعا من البحث عن المصالحة مع الزمن والموت المتحوّل إلى مغامرة فردوسية31.

الانثروبولوجيا باعتبارها تقاطعا للإنسانيات

تتلمذ ج. دوران على يد مفكّر العلم المشهور، في الساحة الفكرية الفرنسية في القرن الماضي، غاستون بشلار، الذي فَتَحَ التأمل الفلسفي العلمي المعاصر على بحث الرمزية، وربطها بعلاقة وطيدة مع التفكير العلمي؛ وكان لذلك تأثيره البيّن على تصوّر دوارن للانثروبولوجيا بصفة خاصة. وإلى جانب ذلك، تأثّر دوران، أيضا، بكبار نظّار الدراسات الثقافية والنفسية المعاصرين، أمثال: يونغ، ميرسيا الياد، كلود ليفي ستراوس، وغيرهم علماء الإنسانيات المقتدرين في الغرب.

لكن، ورغم كلّ هذه التأثيرات الفكرية البيّنة على تصوّرات دوران للثقافيات، إلاّ أنّه استطاع أن يجترح لنفسه مسلكا دراسيا تحليليا خاصّا به، فتميّز به عمّا سواه من بقية نظار الأنثروبولوجيا المعاصرة. وقد دفعت هذه المميّزات الخاصة بهذا الانثروبولوجي بالمترجم العربي (مصباح الصمد)، أثناء تعداده للأسباب التي دفعته إلى ترجمة كتابه، لأن يعتبر كتاب (الأنثروبولوجيا: أساطير ورموز وأنساقها) عمل لا يشيخ نظرا لما يمثّله من ثورة منهجية على الصعيدين: العلمي والأدبي؛ حيث جعل البحث الثقافي والأنثروبولوجي ينفتح على كلّ الميادين: اللغوية والنفسية والرمزية والفنية32.

وجّه ج. دوران نداءات كثيرة أطلقها في خاتمة الكتاب هذا (من أجل تربية جديدة للتخيل، من أجل تربية جمالية ذات نظرة إنسانية شاملة، من أجل تنظيم الكسل وانطلاق الكوامن وأوقات الفراغ، ومن أجل تحرير الدراسات اللغوية)، مُتوجّها بها إلى استنهاض همم المفكرّين والباحثين وتشجيعهم على التحرّر من القوالب الجاهزة للفكر والأحكام المسبقة، وذلك لمواصلة الدرب الذي سار عليه دوران كواحد من الأنثروبولوجيين الكبار في اللحظة المعاصرة.

دافع ج. دوران عن الخيال والتخيّل عبر ما سمّاه بالمهمة التخيلية التي تضيف إلى الموضوعية الميّتة أهمية المنفعة التمثلية، ثم إلى المنفعة لذة المتعة وإلى المتعة ترف الانطباع الجمالي. وقد توصّل في النهاية بفضل هذا التخيّل إلى موضعة مختلفة للفكر عبر ما يسمّيه: «التلطيف الشامل» سواء في الاستكانة أو في التمرّد الفلسفيين33.

إنّ الخيال موهبة الممكن وقوة مجيء المستقبل، لذلك ينفي عنه أن يكون مجرّد نزوة لا طائل منها، بل على خلاف ذلك هو ما يشكّل الفكر البشري.

هكذا برهن كتاب الأنثروبولوجيا بحس تحليلي تأويلي رفيع على أنّ ما يوجّه روافد مختلف مظاهر التخيّل ومناهج التعبير عن الصورة هو الاهتمام الوحيد بتحويل الزمن من ميدان القدر المحتوم إلى ميدان الانتصار الأنثروبولوجي. وقد بدا الخيال للمؤلِّف على امتداد هذا الكتاب كإبداع وكتغيير تلطيفي للعالم، بحيث يحمل طابعا انطولوجيا وينزع نحو تنسيق رمزي للكائن ضمن أنظمة غنية ومشبعة بالدلالات.

أتاح هذا التأويل الجديد للثقافة تقييم حالات الوعي وتصنيف مواهب النفس. وقد أعاد ج. دوران من خلالها الاعتبار لدراسة البلاغة والرمزية والبيان بشكل عام، حيث حاول أن انتزاع الدراسات الأدبية والفنية من النظرة الأحادية للتاريخ ولعلم الآثار لكي يسمح ذلك بموضعة العمل الفني في مكانه الأنثروبولوجي المناسب في متحف الثقافات، حيث يصبح بإمكانها أن تكون دعامة لآمال البشر34.

كشف هذا النموذج الأنثروبولوجي عن الكيفية التي قطع بها الفكر الموضوعي لحظات عطشنا الوسيطة بطريقة آلية كما وضّح ذلك جيلبير دوران؛ كما يبيّن الكيفية التي يبدو بها الزمن ملجأ أخيرا للوعي. نتيجة لذلك، دعا صاحبه إلى إنشاء تربية جمالية فنية إنسانية تستطيع تهذيب تخيّلاتنا وأوهامنا البشرية تربية قادرة على إنارة وتوجيه هذا الظمأ للصور والأحلام35.

لقد حان الوقت حسب دوران للدفاع عن الخيال والأسطورة بعد الهجمة الشرسة التي جوبهت بها الرمزية الخيالية من قبل النزعة العقلانية الموضوعية الداعية إلى التخلّي عن الروحانيات والأسطورة والوهم36. بيد أنّ هنالك اليوم أكثر ممّا يبرّر المطالبة الملحّة بالخيال والتخيّل، فالتحول إلى نموذج الخيال، والبحث عمّا يؤسّسه نظريا ومنهجيا، قد غدا خلفية للعديد من الأبحاث في مجال الإنسانيات، وذلك ما يجسّده الإقبال على الفن، وباقي الأشكال اللاعقلانية الأخرى37.

في خضم التزمّت العقلاني الذي وسم الحداثة حيث التحامل على الأسطورة قد بلغ أوجه، ارتدّت الطاقة التخيلية إلى الموضوعية المتزمّة، فغدت الدعوى إلى إلغاء كل ما هو أسطوري نوعا من التسلّط الفكري الداعي إلى إلحاق آمال وارث البشرية كلّها بركب حضارة تقنية ناكرة لكلّ ما يتصل بالخيال. دفع هذا الوضع ج. دوران إلى أن يجتهد في البحث عن ظواهرية جديدة للتخيّل يمكن اعتمادها في مقاربة الأنثروبولوجيا للظواهر الثقافية38.

ظهر لصاحبنا أنّ من أهم المهمّات البحثية التي يتوجّب القيام بها في ميدان الأنثروبولوجيا المعاصرة، هي ضرورة الكشف عن التلازم القائم بين الأسطورة والعلوم الروحية. غير أنّ مهمة كهذه تحتاج إلى جهد كبير ومضني من حيث هي مجهود فكري علمي وروحي لإعادة تأهيل الرمزية وتأسيسها تأسيسا فلسفيا وثقافيا وتربويا وفنيا لأجل تحويل الإنسان إلى كائن قادر على التخيّل المثمر39.

يلعب الخيال الرمزي هنا بشكل عام دورا بارزا في تشكيل نوع من التوازن النفسي الاجتماعي والتربوي من خلال جدلية سكونية قادرة على خلق نوع من التوازن الحاضر للشعور. وقد كشف التاريخ الثقافي بهذا الخصوص، وخاصة تاريخ الموضوعات الأدبية والفنية وكذا تاريخ الأشكال والأساليب، أنّ الجدلية الحركية لمجتمع ما إنّما تخضع لنفس الوظيفة الحيوية التي ينضبط بها نفس ذاك المجتمع40.

وفقا لذلك يرى دوران أنّ التوازن الاجتماعي- التاريخي لمجتمع معيّن قد لا يكون شيئا آخر غير «إنجاز رمزي» مستمر؛ ومن ثم تصبح حياة ثقافة ما مصنوعة من الانبساطات والانقباضات، البطيئة أحيانا والسريعة أحيانا أخرى، التي تسمها عبر هذه الرمزية المثمرة وحسب المفهوم الذي يستخلصه المجتمع من تاريخه41. لذا تعمل كل الثقافات من حيث هي أنظمة رمزية على خلق التوازن الروحي والتربوي والفني للجنس البشري بأسره، وذلك ما يجعلنا نتحدث عن كونها تشكّل ما أطلق عليه نوثروب «المتحف الخيالي» القابل للتعميم على كل فروع الثقافات، على اعتبار أنّه ما يمثّل عاملا رئيسيا في إعادة التوازن للجنس البشري بأسره42.

لذلك اقترح ج. دوران الحديث عن أنثروبولوجيا ليس هدفها مجرّد تأويل مجموعة من الصور والمجازات والمواضيع الشعرية؛ ولكن، أيضا، الالتزام إلى جانب ذلك بامتلاك طموح إقامة لوحة مركبّة من آمال ومخاوف النوع البشري، بهدف أن يعرف كلّ فرد منّا نفسه ويؤكّدها. لذلك فإنّ ما تسمح به أنثروبولوجيا الخيالي، وتنفرد به، هو أنّها تفتح المجال أمام الروح لتعرف نفسها ونوعها، عبر نتاج الفكر البدائي والمتحضر والطبيعي والمرضي على حدّ سواء43.

يعتقد دوران أن ما يحرّك الفكر البشري في مراحله التاريخية هما: النظام النهاري والنظام الليلي، فحول هذين القطبين يتمحور الفكر الإنساني وتدور حولهما بالتناوب تلك الصور والأساطير والأحلام والقصائد وكل الرمزيات الأخرى. لذلك تتنوع مسكونية الخيالي، بالنسبة إليه، بثنائية متماسكة لا تسمح لنا بأن نقلّل من قيمة الأساطير بالمقارنة مع التقنيات الحديثة والمعاصرة، فكلاهما نتاج الفكر الخيالي البشري؛ وبالتالي علينا أن نوازن بين فكرنا النقدي وخيالنا، وقد أزيلت الأوهام عنه، وبين «الفكر البري» الذي لا يجوز التصرف فيه والذي يمد يد العون الأخوية لشعور المتحضر بتخلّي الرب عنه، يقول دوران 44.

على سبيل الختم

لقد حاول جيلبير دوران في كتابه الهام: «الأنثروبولوجيا: رموزها، أساطيرها، أنساقها» أن يظهر دور الخيال في تاريخ الفكر البشري الثقافي والنفسي والروحي، وذلك من حيث التشكّل والفهم والتفسير (تفسير وفهم الظواهر الثقافية). والواضح أنّه تبنى في هذا الكتاب الدعوى التي أطلقها الفكر العلمي الجديد في القرن العشرين، خصوصا مع غاستون باشلار، والتي تؤكّد على أن للخيال دورا هاما في تأويل الفكر، وفهم حياة الإنسان من خلال إدراك كيفية تأسيسه للرموز وباقي الموضوعات الفنية والأدبية والروحية، وكذا سائر العلوم الإنسانية.

البيّن ممّا سلفناه أنّ دوران قد تمكّن، فعلا، من خلال كتابه هذا من تحليل أبرز تلك الجوانب الثقافية التي يتمظهر من خلالها الخيال عبر النظامين الرمزيّين (النظام النهاري، والنظام الليلي للصورة الذهنية) حيث يبني عبرهما أطروحته في أهمية الرمزية والخيال في تأويل الثقافات. والحاصل من ذلك، أنّ الأنثروبولوجيا قد غدت بفضل هذا التصوّر رحلة استكشاف شيّقة للصور والنماذج الرمزية والأسطورية السائدة لدى مختلف حضارات شعوب العالم (القديمة والحديثة).

وتكمن قيمة وأهمية هذه المحاولة الأنثروبولوجية في كونها تسمح للباحث المهتم بتأويل الثقافات أن يسبر أغوار الرمزية والخيال، بمظاهره المختلفة، وفق أسس منهجية علمية ونظرية فلسفية عميقة. لذلك كان لجدّة هذا الكتاب ورصانة تحليله أن جعل الرمزية والخيال أفقا للتأويل والفهم الثقافي، وربما هذا هو الباعث على أن أقرّ «المجلس الوطني للأبحاث العلمية» في فرنسا قيمته النظرية وصلاحيته المنهجية في ميدان البحث الأنثروبولوجي بالمعاصر.

الهوامش

1 - يقول دوران بهذا الخصاص ما يلي: "من المهم أولا إعادة الاعتبار إلى دراسة علم البيان [البلاغة] الذي هو وسيط ضروري للولوج إلى ميادين الخيال. والمهم بعد ذلك محاولة انتزاع الدراسات الأدبية والفنية من النظرة الأحادية للتاريخ وعلم الآثار كي نستطيع وضع العمل الفني في مكانه الأنثروبولوجي المناسب في متحف الثقافات، ولكي يصبح هرمونا ودعامة لآمال البشر." أنظر كتاب:

* جيلبير دوران: الأنثروبولوجيا رموزها، أساطيرها، أنساقها. ترجمة مصباح الصمد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. ط الثالثة، سنة 2006. ص 360.

2 - المرجع نفسه، ص 10.

3 - Sartre (J.P) : Situations philosophiques; éd Gallimard, 1990, p.283.

4 - كريستوف فولف: علم الأناسة، التاريخ والثقافة والفلسفة، نقله إلى العربية أبو يعرب المرزوقي، الدار المتوسطة للنشر، وكلمة، ط الأولى، 2009، ص 357.

5 - جيلبير دوران: الأنثروبولوجيا رموزها، أساطيرها، المرجع نفسه، ص 11.

6 - المرجع نفسه، ص 12.

7 - غاستون باشلار: الماء والأحلام: دراسة عن الخيال والمادة؛ ترجمة علي نجيب إبراهيم، نشرة المنظمة العربية للترجمة، ط الأولى، بيروت، سنة 2007. ص 13.

8 - يحيل هنا على الدراسات الأنثروبولوجية التي قام بانجازها بعض الأنثروبولوجيين مثل كراب في كتابه "تكوين الأساطير" حيث قسّم الأساطير والرموز إلى فئتين: الرموز السماوية والرموز الأرضية. وميرسيا إلياد الذي اتّبع في كتابه القيّم "عرض تاريخ الأديان" تقريبا نفس المنهجية، حتى وإن توصّل بتعمّق إلى دمج الأساطير والرموز الكوارثية والبركانية والمناخية ضمن فئات أكثر عمومية، الشيء الذي جعله يكتب فصولا طويلا عن الطقوس والرموز السماوية، وعن الشمس والقمر وروحانيته، وعن المياه ومسوخها وعن الأرض. أنظر مقدمة كتاب "الأنثروبولوجيا رموزها، أساطيرها"ج. دوران.

9 - المرجع نفسه، 16.

10 - بتلك الطريقة يعرّف جلبرت دوران الأنثربولوجيا، أنظر المرجع السابق، ص 20 .

11 - كريستوف فولف: علم الأناسة، التاريخ والثقافة والفلسفة، مرجع سابق، ص 359.

12 - جيلبير دوران: الأنثروبولوجيا رموزها، أساطيرها، المرجع نفسه ، ص 14.

13 - Freud (S) : Totem et tabou; traduit par Marielème Weber, éd Gallimard, Paris, 1993, p.185.

14 - أنظر الصفحة 24 من نفس المرجع.

15 - أنظر بهذا الخصوص:

* Piaget (J) : Psychologie et pédagogie ; éditions Denoel, 1969, p.205.

16 - Ibid, p. 201.

17 - نفس المرجع، ص 30.

18 - نفسه، ص 35.

19 - نفسه، ص 364 و365.

20 - أنظر الصفحات 337 و 338 .

21 - Gaetano (C) :" Le goût de la croyance"; L’Homme : revue française d’anthropologie, 166, Avril, Juin 2003, pp.171 – 184.

22 - كريستوف فولف: علم الأناسة، التاريخ والثقافة والفلسفة، مرجع سابق، ص 352.

23 - نفسه، ص 339.

24 - نفسه، ص 341.

25 - نفسه، ص 342.

26 - نفسه، ص 343.

27 - نفسه، ص 352.

28 - نفسه، ص 353.

29 - نفسه، ص 354.

30 - نفسه، ص 355.

31 - نفسه، نفس الصفحة.

32 - المرجع نفسه، أنظر تقديم المترجم.

33 - المرجع نفسه، ص 362.

34 - المرجع نفسه، ص 360.

34 - نفسه، نفس الصفحة.

36 - Philippe Descola : Par- delà nature et culture ; éd. Gallimard, 2005, pp.160-167.

37 - ج. دوران: مرجع سابق، ص 358.

38 - نفسه، ص 359.

39 - نفسه، نفس الصفحة.

40 - جيلبير دوران: الخيال الرمزي، ترجمة علي المصري، المؤسّسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط الأولى، سنة 1992، ص 118 .

41 - المرجع نفسه، ص 120.

42 - نفسه، ص 121.

43 - نفسه، ص 122.

44 - المرجع السابق، ص 123.

المراجع العربية

* جيلبير دوران: الأنثروبولوجيا رموزها، اساطيرها، أنساقها. ترجمة مصباح الصمد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. ط، الثالثة، سنة 2006.

* جيلبير دوران: الخيال الرمزي، ترجمة علي المصري، المؤسّسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط، الأولى، سنة 1992.

* كريستوف فولف: علم الأناسة، التاريخ والثقافة والفلسفة، نقله إلى العربية أبو يعرب المرزوقي، الدار المتوسطة للنشر، وكلمة، ط الأولى، 2009.

* غاستون باشلار: الماء والأحلام: دراسة عن الخيال والمادة؛ ترجمة علي نجيب إبراهيم، نشرة المنظمة العربية للترجمة، ط الأولى، بيروت، سنة 2007.

* ليليا بن سالم، إرنست كيلنر، عبد الله حمودي، جان فافري، جاك بيرك، عبد الله العروي: الأنثروبولوجيا والتاريخ: حالة المغرب العربي؛ ترجمة عبد الله السبتي، وعبد اللطيف الفلق، دار توبقال للنشر، ط الأولى، الدار البيضاء، 1988.

المراجع الأجنبية

* Eliade (M): Aspects du mythe; éditions Gallimard, Paris, 1963.

* Freud (S): Totem et tabou; traduit par Marielème Weber, éd Gallimard, Paris, 1993,

* Kristiva (J): Le langage cet inconnu; éditions du Seuil, Paris 1981.

* Livé-Strauss, (C): Race et histoire; Unesco, réédition, Collection Folio essais, 1987.

* Descola (Ph) : Par- delà nature et culture ; éd. Gallimard, 2005.

* Piaget (J) : Psychologie et pédagogie ; éditions Denoel, 1969.

* Sartre (J.P) : Situations philosophiques; éd Gallimard, 1990.

الدراسات الأجنبية

* Poullion (J):"L’ouvre de Claude Levi-Strauss"; Temps Modernes, Num 126, Juillet 1956.

* Houdart (S):"Quand la culture prend forme"; L’Homme: revue française d’anthropologie, 166, Avril, Juin 2003. pp.107 – 144.

* Gaetano (C):"Le goût de la croyance"; L’Homme; revue française d’anthropologie, 166, Avril, Juin 2003. Pp 171 – 184.

الصور

1 - 3- www.s3-eu-west-1.amazonaws.com/nc1073/catalog/product/cache/1/image /400x/8a02aedcaf38ad3a98187ab0a1dede95/i/811/9782070324811_1_75.jpg

2 - www.abebooks.co.uk

4 - www.pictures.abebooks.com/LELIVRE/ 1683472668.jpg

5 - https://abjjadst.blob.core.windows.net/pub/5b76d66c-5023-460b-b6ad-76e86b63e352.png

أعداد المجلة