فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
46

الاحتفاء بالأنثى في ثنايا الحكاية الشعبيّة

العدد 46 - أدب شعبي
الاحتفاء بالأنثى في ثنايا الحكاية الشعبيّة
كاتبة من تونس

إنّ الثراء الدلاليّ للحكاية الشعبيّة وتنويعاتها المشروعة والمتحقّقة على امتداد الزمان والمكان يمنحان مزاوليها فرصة الإدلاء حولها بآراء مختلفة تصل حدّ التضارب، وذلك بحسب زوايا النظر إلى دواعي وضعها وطبيعة التعامل معها وجدواها. ففيما يرى بعضهم أنّها «مجرّد وهم اختلقه الناس لتخدير مواجعهم»، يذهب آخرون إلى أنّها سبيل إلى المحافظة على الذاكرة الجماعيّة بما فيها من قيم ومآثر، لإذكائها بالإيجابيّ من الإنجازات. والمتأمّل في مضامينها يجدها تتطلّع إلى بلوغ غايات، منها المعلن ومنها الضمنيّ، مثل إرساء بُعد تربويّ لها في قالب ترويحيّ، أو الانتصار إلى أحد الجنسيْن، إمّا تنفيساً و«ثأراً» لحقّ مغموط، في الجانب النسويّ؛ وإمّا تأصيلاً لمنزلة أعلى لا ينبغي أن تُمسّ بسوء، في الجانب الرجاليّ. وتظلّ الحكاية الشعبيّة خطاباً مستجيباً إلى تطبيق الثالوث المعتمد في تحليل النصوص الأدبيّة عموماً، والمتمثّل في استنباط كيفيّة القول/ المباني، ومضامين القول/المعاني، ومقاصد القول/ الأهداف؛ على أنّ هذا التقسيم الثلاثيّ لا يعني انفصاماً بين المكوّنات، إذ هي متعالقة متناغمة أبداً؛ وإنّما يُلجأ إليه في السياقات التعليميّة خاصّة؛ علماً وأنّ كلّ شكل إبداعيّ محتفظ لا محالة بخصوصيّاته التي تميّزه1، دون إغفال تناسل مختلف الأشكال وفنون القول من جذع مشترك، قوامه خطاب وقصّة لغاية في نفس المُنشء. ولا تخرج الحكاية الشعبيّة عن هذا الاسترسال؛ نراها مفترضة سارداً ومسروداً له ومسروداً عنه؛ وباختلاف جنس هؤلاء الفواعل واختلاف مقامات روايتها، تتلوّن مضامينها وطرق تبليغها، خاصّة فيما يتعلّق بإسناد دور البطولة للمسرود عنهم. أ لا ترى أنّه يندر أن تكون المرأة إيجابيّة، صانعة للنصر، على لسان حكّاء رجل، حتّى وإن ثبت في التاريخ بلاؤها البلاء الحسن في امتحانات الحياة العسيرة. وللمرأة، على العكس، قصب السبق، حنكةً وحسنَ تدبير، كما سيأتي، على لسان راوة من جنسها؛ فيما ينخرط الرجال في الاغتذاء من البطولات وألوان التحدّي المسندة إلى أمثالهم، في أجواء ملحميّة.

ومن مظاهر الاسترسال في الحكاية موضوع الدرس، طابع الكونيّة فيها، شأنها شان الحكاية المثليّة والحكم والأمثال2، المختزلة لتجارب إنسانيّة، ضاربة في القدم؛ لا يُعرف لها قائل محدّد، وحتّى إن عُرف واضعها، كما بالنسبة إلى الحكاية المثليّة، فإنّها تظلّ عامّة بعموميّة شخوصها، حيوانيّة كانت أم بشريّة، وبإطلاق زمان الأحداث فيها ومكانها. وتتوفّر الحكاية الشعبيّة على معظم مقوّمات العمل القصصيّ البنائيّة والمضمونيّة التي من بينها: البطل محاطاً بشخصيّات مساعدة وأخرى معرقلة، سيرورة أحداث لها تمهيد وتكثيف للّغز، ضماناً للتشويق، فعقدة، فانفراج، يتنفّس على وقعه السامع الصعداء، حتّى وإن كان لا يزال سابحاً في عوالم الخيال والخرافة والأسطورة، وراغباً في سماع المزيد.

من كلّ ما تقدّم، ثمّة تلميح إلى أنّ الحكاية الشعبيّة، بما هي موروث ثقافيّ، تستهوي الجنسيْن قصّاً وتلقّياً، توظيفاً وتأويلاً؛ وفي إطار التأكيد على ضرورة تنسيب الحكم بانحياز كلّ جنس إلى عوالم تغذّي طموحه وتمكّنه من بلوغ المنشود من الأوضاع، بغية تجاوز موجودها، سننظر في دواعي الاحتفاء بالأنثى ومظاهره من خلال نماذج من الحكايات الشعبية3.

من دواعي الاحتفاء بالأنثى في الحكاية الشعبيّة

إنّ الكلام عن دواعي الاحتفاء سوف لن يكون منبتّاً عن الكلام عن مظاهره، للتواشج بين عنصريْ ما نحن بصدد النظر فيه؛ وأوّل الأسباب هو:

1) النظرة الدونيّة إلى المرأة في الواقع المعيش:

يأبى الحديث عن النظرة الدونيّة إلى المرأة حدّها بزمان ومكان، لكونها ظاهرة مخترقة للتاريخ؛ وإن بدرجات متفاوتة، على مستوى الممارسة، وعلى مستوى الاستشعار والمعاناة. فالأنثى عندنا، حتّى بعد أن أعتقها الإسلام من جحيم الوأد ومنحها المكانة التي هي بها جديرة، لا تزال تعاني من ويلات النظرة الدونيّة إليها والتشكيك في قدراتها الذهنيّة والمادّيّة، فجنت من ذلك ما جنت من شهادات الإقصاء، رغم صفحات كفاحها وضروب نجاحها؛ فما بالك بوضعها في ثقافات أخرى؟!

والمتأمّل في الأمثال وفي الأقوال المأثورة المنسوبة إليها منذ العصور الغابرة، وفي دورها الفاعل الذي تخيّرته لنفسها من خلال روايتها للحكاية الشعبيّة، يجدها الخبيرة بشؤون التربية والسياسة، وإليها تعود الكلمة الفصل في القرارات الحاسمة، ومن نصيبها التفوّق في امتحانات الحياة العسيرة، كلّ ذلك بفضل حكمتها وحسن تدبيرها؛ وبهذا تصبح الحكاية وما هو من قبيلها مجالاً افتراضيّاً تثأر فيه المرأة لنفسها، متجاوزة الواقع المحموم بغمط حقوقها وطمس مآثرها. وليس هذا الإيجاب الممنوح إلى المرأة غريباً عن الآداب العالميّة، فكتاب كليلة ودمنة ذو الأصول الهنديّة، المنقول إلى العربيّة عبر الفارسيّة، لا يخلو من تمجيد الأنثى بمنحها أدوار الريادة والتروّي في المواقف الحاسمة، (نذكر على سبيل المثال الحمامة المطوّقة وأمّ الأسد والأرنب التي أطاحت بملك الغاب، مجسّمة غلبة القدرة الفكريّة على القدرة الماديّة)؛ ونذكر أيضاً ذكاء «طَبَقة» ولباقتها في فهم أحجيّات «شَنّ» في وقت غابت فيه الأجوبة الشافية عن أبيها. وما أحرى المرأة بأن ترى هذا المتخيّل الحكائيّ واقعاً ملموساً، لأنّها في الحقيقة صانعة الحياة، نسمعها مولولة في الأفراح، معولة في الأتراح؛ نراها منغرسة في الأرض تفلحها أو على أديمها تعركها؛ نلمحها فوق السطوح تجفّف غسيلاً أو قوتاً، أو تبتهل إلى اللّه، عساها أن تكون أقرب ما يمكن منه. وبالفعل، فهي لا تفوّت فرص منح نفسها، على الأقلّ أدبيّاً، المنزلة الأعلى وزمام الحلّ والعقد في أهازيجها؛ إنّها القائلة حين تُنيم ضناها: «نِنِّ نعاس ننّ نعاس، أمّك فضّة وأبوك نحاس وأنت ذهب فوق الراس»، والقائلة مُغالية في مهر ابنة أخيها ومقرّرة أمر زواجها: «صاع جوهر (= لؤلؤ) وصاع محبوب (= ذهب) والمشورة لعمّتها، وعمّتها قالت: الذهب ما يغلاش (= لا يغلو ثمنه مهما ارتفع) والجوهر ما يسواش (= لا قيمة له) وبنت خوي ما نعطيهاش (= لا أُزوّجها)». وحتّى الحيوانات لا تخذل المرأة في بعض ما يُتغنّى به، كما في: «والدجاجة تقاقي، تقول أعطني صداقي؛ والديك يحرّق، يقول واللّه ما أُطلّق. والجمل بِكركرته، يرحي بسيسة امرأته»؛ ليتجلّى أنّ طلب الطلاق يأتي على لسان الأنثى، والتشبّث بالزوجة على لسان الذكر الخدوم.

2) التعويض عن الحرمان المادّيّ والمعنويّ:

يُرجّح أنّ المضطلعين بمهمّة قصّ الحكايات الشعبيّة هم في الغالب من الطبقة الفقيرة المحرومة؛ ومن هذا المنطلق، لا يبعد أن يكون واضعوها منتمين إلى نفس الطبقة؛ خاصّة وأنّها ترد على مقاس ما يغذّي أحلامهم ويلبّي مطامحهم. وإذا ما كان الرجال يحبّذون الاستمتاع بالحكاية الشعبيّة سرداً وإنصاتاً في منتدياتهم المسقوفة أو في الهواء الطلق، على ضوء القمر، فإنّ المجال النسائيّ لهذا الترفيه هو الدور، قصوراً أم بيوتاً عاديّة أم أكواخاً. ولا يخفى أنّ تداول الحكايات الشعبيّة وما هو من فلكها يتمّ عن طريق نوعيْن من المتعاطين معها؛ فهناك الرواة العابرون لها، مثل الأمّهات اللائي يرمن تأديب أبنائهنّ وتأصيل بعض القيم النبيلة التي تحملها الحكم والأمثال والحكايات المقتضبة والأقوال المأثورة؛ وهي في العادة ذات تأثير فوريّ، قد يُكتب له الاستمرار بحكم توارث أجيال من الأمّهات للصالح من أساليب التربية ومضامينها. النوع الثاني من التعاطي يرتقي إلى درجة «الامتهان»، فقد كانت بعض العائلات الميسورة إلى حدود بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، على حدّ علمي، تستدعي نساء مختصّات في «التخريف»، وتنقدهنّ أجراً، مقابل ما يتحفنها به من قصص تطفح خيالاً ومواعظ؛ وبحكم الاختصاص، تنجح الحكواتيّة في خلق الأجواء العجائبيّة وتوليد التشويق باختيار لحظات التوقّف، كلّما تقدّم الوقت بالقصّ نهاراً أو ليلاً، إذ من الحكايات ما يستغرق سردها أيّاماً وليالي، في دلالة على أنّها سليلة «ألف ليلة وليلة». ما يهمّنا هو أنّ المرأة تمكّنت، عن طريق الحكاية الشعبيّة، من «تجاوز» فقرها وحرمانها، واقتحام الأوساط الثريّة اقتحاماً فعليّاً ملموساً، واقتحاماً أدبيّاً افتراضيّاً؛ فكثيرة هي القصص التي تكون بطلاتها فتيات نشأن في بيئة فقيرة، تعيش فيها الأسر الكثيرة الأفراد عادة على ما يدرّه عليها الاحتطاب وغزل الصوف، ولك أن تحصي عدد الحكايات التي تبدأ كالتالي: «يُحكى أنّ ثلاث/سبع فتيات أخوات يعشن على الغزل، فيبعن ما يغزلنه ويأكلن بثمنه» [س. ص452]؛ أو هنّ مقهورات من حيف زوجات آبائهنّ؛ إلى أن تأتي ضربة الحظّ التي تكافئهنّ على صبرهنّ وسعيهنّ، وخاصّة على رجاحة عقلهنّ، ليأتي في مرتبة لاحقة جمالهنّ. تنتقل الفتاة على صهوة جواد الفارس الأمير أو ابن أحد التجّار الموسرين، في بلدها أو في بلد مجاور، إلى حيث الخدم والحشم في خدمتها والرياش والطنافس لراحتها والأطايب لتنعّمها. تعيش الساردة تلك الأجواء، وتحلم المسرود لها بما تهيّأ للمسرود عنها من أسباب الرفاهيّة؛ ولا يخلو أن تستمتع المستمعة من علياء القوم بصورتها التي رسمتها لها الحكواتيّة، ولا يخلو أن تستمرئ الاطّلاع على حياة البؤس التي تمرّغت فيها «البطلة» قبل تحوّلها إلى النعيم، للمقارنة وأخذ العبرة. ومن آثار الأحلام المراودة والمنبثقة عن التشبّع بالحكايات الشعبيّة، ما روته لي أمّي كيف كانت تلجأ وندّاتها من الصبايا، أواسط الثلاثينات من القرن العشرين، إلى التطلّع بأعناق مشرئبّة، ومن خلال الفجوات التي تسمح بها أظلاف الهندي في أعلى الطوابي/الحواجز الترابيّة، إلى المارّة للتندّر بتصنيف الرجال وتقاسمهم فيما بينهنّ بالأنانيّة المقبولة. كنّ كلّما مرّ رجل متوسّط الحال والهندام، تقول الواحدة منهنّ: «هذا أرتضيه حارساّ أو بوّاباً»، وتقول الأخرى: «سأعيّنه بستانيّاً أو طبّاخاً»، وما إلى ذلك؛ وحين يمرّ رجل وسيم مهاب، تتسابق الصديقات إلى إعلان الفوز به رفيق درب، وهكذا يتمادين في الهزل والحلم.

3) استثمار بُعد الحكاية الشعبيّة التربويّ:

تتعلّق همم الكبار بتربية الصغار تربية سليمة، تضمن استيعابهم القيم الأخلاقيّة الفاضلة والتمسّك بها، فلا يضلّوا السبيل. إلّا أنّ أمر التربية موكول في الغالب إلى الأمّ، لكثرة التصاق أبنائها بها، من قبل قطع الحبل السرّيّ إلى ما بعده؛ ومن تبعات ذلك تسمية لغة الطفل الأصليّة بـ«اللغة الأمّ»؛ ولا تدّخر الأمّهات جهداً لأداء رسالتهنّ، خاصّة تجاه بناتهنّ، متوسّلات بثقافتهنّ الموروثة، التي من أهمّ روافدها الحكاية الشعبيّة؛ وبثقافتهنّ المكتسبة من التجارب الشخصيّة ومن تجارب الغير، والأخريات تحديداً. ويظلّ مقياس نجاح المرأة في التربية هو توفّقها في إعداد ابنتها لتكون زوجة صالحة، تنطبق عليها مثلاً حكاية «الكنّة العاقلة» [س. ص379] التي نوجزها في التالي: اختارت الزوجة الشابّة الطلاق من زوجها التاجر الثريّ، لأنّه كان يؤثرها على أمّه فيما يجلبه من طعام وفاكهة؛ وسعت إلى الزواج من بستانيّ، عاينت، من سطح بيت أبيها، برّه بوالدته المقعدة؛ وحين تمّ لها ذلك، أصبحت تشاركه في أعماله وفي القيام بشؤون أمّه. ثمّ اشترت له بثمن حليّها متجراً لبيع حلويّات تصنعها هي. توفّق الاثنان في تجارتهما وأصبح لهما منزل فخم. وفي يوم، طرق بابها شحّاذ، سرعان ما تعرّفت عليه؛ إنّه زوجها الأوّل، فما كان منها إلّا أن ذكّرته بأنّها تنبّأت له بهذا المآل، وأنّ زوجها الحاليّ قد وفّقه اللّه نتيجة برّه بوالدته. ساعدته ببعض المال قبل أن ينصرف مغموماً متحسّراً. وفي نفس السياق تندرج حكاية «الجزاء من جنس العمل» [س. ص383]، لكنّ العبرة تُستقى منها بالخُلف، أي بتقديم سلوك سلبيّ للمرأة، ينبغي تجنّبه؛ ومفاد الحكاية، أنّ امرأة عوقبت، حين أصبحت حماة، بطيْر يحرمها باستمرار من قطعة اللحم التي يرسلها إليها ابنها مع زوجته، أثناء صعودها إلى الغرفة العلويّة، حيث تقيم الحماة؛ ولا عجب، فقد كانت تلك المرأة في السابق تزدرد قطعة اللحم من طعام حماتها أثناء إيصاله لها، في غرفتها العلويّة.

نتبيّن من ملخّص الحكاية الأخيرة أنّ الاحتفاء بالأنثى لا يعني تقديمها دوماً في صورة مشرقة ومضطلعة بالإيجابيّ من الأدوار، لأنّ في ذلك طمساً لثراء التجارب الحياتيّة، ممّا يعطّل المنحى الإقناعيّ والهدف الإصلاحيّ من الحكاية الشعبيّة؛ إلى جانب كونها، بالطبع، وسيلة إمتاع وترويح. وعلى هذا الأساس، لا تخلو المدوّنة الحكائيّة من حضور المرأة المجسّمة لبعض النقائص، ممّا يؤدّي إلى بوارها أو طلاقها، ومن ثمّ تفاقم معاناتها، وهو ما تنفر منه بنات جنسها. ومن النقائص ما تُنعت به «قدوشة» من كسل ورعونة؛ إنّها تلك الفتاة التي تستيقظ ظهراً، ولا تعتني لا بمظهرها ولا بنظافة بيت أهلها، لم تتعلّم الطبخ عن أمّها، ولا هي تعلًمت صنعة مثل غزل الصوف. تأتي النسوة لخطبتها، فينقلبن على أعقباهنّ مبهوتات ممّا شاهدن، وعنّست «قدوشة». ومن النقائص، الغباء الذي تظهره امرأة نظرت في الجرّات المملوءة زيتاً، وكانت كلّما تراءى لها وجهها على صفحته، عمدت إلى كسر الجرّة بالفأس، الواحدة تلو الأخرى، لاعتقادها وجود ضرّات لها؛ ولمّا وصل سيل الزيت إلى دكّان زوجها في السوق، عرف أنّ مصيبة حلّت به هو دون غيره؛ استشاط غضباً وقرّر تطليق زوجته. وفرّطت أخرى في كيس طويل مملوء قمحاً؛ وكان زوجها قد ركنه في سقيفة الدار، وحين تسأله عنه، يخبرها أنّه لـ«مارس/آذار» الطويل؛ إلى أن رأت في أحد الأيّام من ثقب الباب رجلاً طويل القامة جدّاً يمرّ أمام بيتها، فنادته وسألته إن كان هو مارس الطويل، وحين ردّ بالإيجاب، رجته أن يخلّصها من ذاك الكيس، فما كان من ذاك الغريب المدقع إلّا أن رفع الغنيمة على ظهره، وانطلق في حال سبيله، موقّعاً على غباء الزوجة، ومخلّفاً الكمد والخسارة للزوج؛ وعلى هذا قس بيع إحداهنّ قطعاً من الذهب مخبّأة في قلّة، بسعر قشر الرمّان، لعدم إخطارها من قِبَل زوجها بقيمة مدّخراته، ربّما استخفافاً بمستواها الذهنيّ؛ ولا غرو أن ينقلب السحر على الساحر، وإن كان قهر السلطة الذكوريّة لا يبرّر لا غباء المرأة ولا تغابيها؛ وهي التي أريد لها، في الواقع كما في الحكاية الشعبيّة، أن تكون رائدة في المجال الاقتصاديّ، باستنباطها سبل التقشّف وتنمية الثروة، وتطبيقها لهما. ولا يخفى أنّ بلوغ ذلك إنّما يتمّ ضمن العمليّة التربويّة وما تستدعيه من روافد مُقَرّ بجدواها.

ولعلّ توفّر الحكاية الشعبييّة على خاصّيتيْ الإفادة والإمتاع هو ما يقف وراء حرص القائمين على التربية والتعليم في أيّامنا هذه، وفي الكثير من بلدان العالَم، على إحياء تقاليد قصّها في أوساط الناشئة؛ وذلك بتخصيص نواد وجمعيّات وحتّى مهرجانات لها، وبإدراجها ضمن الأنشطة الثقافيّة للمؤسّسات التربويّة؛ ومن ثَمّ ردّ الاعتبار للحكواتيّين والحكواتيّات، عن طريق دعوتهم للقيام بالمهمّة أو تكليف بعض المدرّسين بذلك في الحصص اللاصفّيّة؛ يحدث هذا في زمن الثورات التعليميّة والتثقيفيّة.

مظاهر الاحتفاء بالمرأة في الحكاية الشعبيّة

1) المرأة عماد الاقتصاد الأسريّ:

غير بعيد عمّا كنّا فيه من رغبة في تأهيل المرأة للنجاح في حياتها، سننظر في مسبّبات ونتائج المراهنة على تحسّن الوضع الاقتصاديّ، في الأسرة وفيما هو أوسع منها، على يد المرأة بالخصوص؛ ولسائل أن يسأل عن الحكمة في أن تروي أمّ لبناتها قصّة تلك المرأة التي أجاءها المخاض إلى كرسيّ الولادة، في حضرة القابلة طبعاً. كان الألم يقطّع أحشاءها، والخوف من الموت يراود ذهنها، والرجاء في السلامة يداعب إحساسها. في لحظات المخاض العسيرة، تذكّر ابنتَها الكبرى بضرورة التقشّف قائلة: «يا طفلة، اِحمشي حَطبة وخلّي حطبتيْن! بوك زوّالي وعليه الديْن. (= يا ابنتي، اِحمشي في الموقد حطبة واحدة واحتفظي بحطبتيْن، فأبوك فقير ومديون)». أيّ درس في الاقتصاد تلقّنه الأمّ لابنتها حين تقصّ عليها مثل هذا الموقف؟ أ ليس هذا عنوان تآزر أسريّ، ودليل على صبر المرأة على فقر زوجها ودليل على قلقها من المستقبل الغامض وعلى إيمانها بجدوى الادّخار؟ أ لا يوصد أخذ العبرة من هذا الموقف أبواب الطلاق الذي مردّه في حالات كثيرة قلّة ذات يد الزوج وعجزه عن توفير متطلّبات الأسرة؟ وتأتي الأمثال لتعضد هذا التبجيل للزوج حتّى يسكن إلى زوجته وتستمرّ الرحلة في كنف الوئام والاحترام. تسمع المرأة مردّدة: «الله لا تقطع الشاشية حتّى لو كانت مهرّيّة (اللهمّ لا تغيّب الرجل/الزوج حتّى وإن اهترأ طربوشُه من إملاق)»، وممّا تردّده أيضا: «الله تجعل القضية من يد الراجل والشربة من الماجل (= اللهمّ اجعل المأكل مؤمّناً من ربّ الأسرة والمشرب من ماء المطر المخزّن في الصهريج)». ومن الأمثال المرغّبة في اقتصاد المعيشة قولهم: «إلّي خبّى غداه لعشاه ما شمتت فيه أعداه (= من ادّخر طعام غدائه لعَشائه، لم يشمت به أعداؤه)».

وفي حكاية شعبيّة تروى على مسامع البنات خاصّة حتّى يستقين منها العبرة ويكنّ ماسكات بزمام الاقتصاد الأسريّ، يتحدّث الزوج لزوجته قائلا: «ما بال جارنا البشير يرزح تحت نير الفقر المدقع؟» فتجيبه: «مِن مراتو (= بسبب امرأته)»، ويتكرّر السؤال، ومعه تتكرّر الإجابة، حتّى قال لها يوماً: «التحقي بهذه الأسرة لنرى ما أنت فاعلة بوضعها المادّيّ»، وكان أن انتقلت الزوجة إلى بيت الجار الفقير، نظرت فألفت أربع صبايا دون صنعة. أبدت الضيفة استغرابها من الأمر، وطلبت من الأب أن يحضر جزّة من الصوف، ثمّ طلبت من البنات أن يغسلنها ويجفّفنها وينزعنّ ما علق بالصوف من الشوائب ليتوليّن غزلها، ولمّا جهزت، باعها الأب في السوق ليشتري بثمنها جزّتين، وهكذا تواصل العمل وتحقّق بعض الربح. ونظرت الضيفة إلى نشاط الجار، رأته يبيع الحطب على هيئته الخام بثمن زهيد، فأبت إلاّ أن تتدخّل لتدلّه على طريقة مربحة قائلة: «ما هكذا يباع الحطب أيّها الرجل، عليك أوّلا أن تقصّه إلى قطع صغيرة، لنساعدك لاحقاً على ضمّها في حزم بحسب الحجم، وبهذا يمكنك تسويق بضاعتك؛ وسيصبح هذا الحطب العاديّ في قيمة القماري وحتّى الصندل وما أدراك ما الصندل!». انفتحت أبواب الرزق أمام صاحبنا، نفقت تجارته وزاد دخله. وما هي إلاّ فترة ليست بالطويلة حتّى بدأت آثار النعمة تظهر على الأسرة. أرادت النزيلة أن تبرهن لزوجها أنّها كسبت الرهان، فدعت الرجل إلى لزوم بيته مدّة ثلاثة أيّام متتالية، ففعل. افتقده جاره وأرسل في السؤال عنه لِيخبَر أنّ بصاحبه وعكة صحّيّة، مردّها زهرات ياسمين منثورة على فراشه، تأذّى منها جنْبُه الأيسر أثناء النوم. فهم الزوج أنّ البشير قد ترفّه، وأنّ عودة زوجته إلى بيتها قد حانت.

لا يخفى أنّ هذه الحكاية تبرز امتلاك المرأة القدرة على الفعل في الاقتصاد الأسريّ وفي ما هو أوسع، بممارسة التقشّف وبتكبير رأس المال وبحذق أساليب التسويق.

وللوقوف أكثر على نجاح المرأة فيما فشل فيه الرجل، في مجال تنمية الثروة خاصّة، نقترح إيراد حكاية «يا صباح الخيرات، يا صباح الغبنات»4، كما رواها تقريباً الإذاعيّ والصحفيّ التونسيّ عبد العزيز العروي رحمة اللّه عليه، وقد دوّنت ونشرت لاحقاً5؛ وتحقيقاً للفائدة، سنعمل على تخفيف غلبة اللغة العاميّة على نصّها الأصليّ (وهو ما قد يذهب ببعض حرارتها؛ ذلك أنّ «الإعراب ربّما سلب بعض الحديث حُسنَه»، حسب ابن قتيبة في «عيون الأخبار» ص 14)، وسنقارنها بمثيلتها الواردة تحت عنوان: «سبع سعدات وسبع عكسات»، بقلم الكاتب السوري أحمد بسّام ساعي. [س. ص423]

يحكى عن أخويْن أنّ أحدهما من التجّار الكبار، ميسور الحال، وله ولد، والثاني نجّار بسيط، يجد صعوبة في توفير قوت عياله، وهو أب لسبع بنات. كان الأخوان يسكنان في نفس النهج، الغنيّ في آخره، والثاني في أوّله. كلّ صباح، يمرّ التاجر أمام أخيه الذي يبادره بعبارة «يا صباح الخيرات»، فيردّ عليه: «يا صباح الغبْنات»، فيوجع قلبه. لاحظت البنات انكسار أبيهنّ وتزايد غمّه؛ قرّرت أصغرهنّ معرفة السبب. في صباح الغد، احتالت للأمر وتوفّقت فيه، لتصبح شاهدة على الموقف الذي يؤذي أباها. فقالت في نفسها: «لا بدّ أن أثبت لعمّي وللناس، حين تتهيّا الفرصة، أنّ البنات لسن عنوان شؤم وغبن ونكد». وفي يوم عاد النجّار أكثر غمّاً، لقد عيّره أخوه ببناته، اللّائي لم يُخلقن إلّا للفقر واليُتم، وليس مثل ابنه امْحمّد الذي سيرسله في تجارة كبيرة بعد حواليْ شهر، مجهّزاً بمركب من السلع. لم يجد الأب بدّاً من إخبار بناته بسياق إهانة عمّهنّ له، فواسينه بما استطعن، وما كان من الصغرى فاطمة/فطيمة إلّا أن طلبت وألحّت على أبيها أن يعرض على عمّها مرافقتها هي لابنه؛ استجاب الأب وسخر العمّ؛ وفاطمة مصرّة على فكرتها. طلبت من أبيها أن يصنع لها أربعين برميلاً، وأن يُحكم غلقها بعد ملئها ماءً، دون إعلام أحد بمحتواها. في يوم السفر، تنكّرت فاطمة بملابس الرجال، وتحوّلت إلى المرسى بعد أن تمّ تحميل بضاعتها مع بضاعة ابن عمّها في المركب. ودّع الحاضرون هناك التاجريْن الشابّيْن متمنّين لهما العودة سالميْن مظفّريْن. بعد انطلاق الرحلة، هاج البحر وماج، وتقاذفت الأمواج المركب، فكان أن أُرسي به اضطراريّاً في إحدى المناطق المبتلاة بجفاف شديد. هناك، سُمع المنادي ينادي: «شربة الماء بدينار من الذهب». اغتنمت فاطمة هذه الفرصة، فباعت كلّ بضاعتها، وامتلأت كلّ براميلها ذهباً. بعد بضعة أيّام، بلغ التاجران وجهتهما، الإسكندريّة. اكتريا دكّانيْن متقابليْن. انجذب امْحمّد إلى اللهو ولم يبال بالتفريط في رأس ماله؛ أفقر وأصبح يعمل عند فطائريّ، مقابل طعام بطنه؛ أمّا فاطمة التي قدّمت نفسها في السوق باسم «يحيى»، فتوفّقت في بعث تجارة رابحة؛ وصادف أن مرّ بدكّانها ابن السلطان، فأبهره جمالها الأخّاذ، أُخبر أنّ الشخص هو التاجر يحيى، القادم من بلد آخر. رغب ابن السلطان في مزيد التعرّف عليه ومصادقته، شاكّاً أن يكون يحيى هذا رجلاً. قصّ الأمر على أمّه، فأشارت عليه أن يجرّبه؛ وأولى حيَلها، إهداء يحيى كميّة من الفلّ والياسمين ونثره على فراشه، ليُعلم في الصباح، إن كان النائم على الزهور ولداً، في حال ظلّت يانعة، أو بنتاً إذا أصبحت ذابلة. تفطّنت فاطمة إلى طبيعة الاختبار، فعمدت إلى جمع الهديّة قبل النوم؛ وفي الصباح نثرتها غضّة طريّة؛ وهو ما خيّب أمل ابن السلطان حين زار صديقه للتثبّت. لكنّه بقي على شكّه، وطلب مساعدة أمّه ثانية؛ فدلّته على حيلة دعوته للاستحمام معاً؛ وبالفعل، تواعد ابن السلطان مع يحيى على الالتقاء من الغد في الحمّام. لكنّ التاجرة وعت نيّة ممتحِنها، فاستعدّت للرحيل بأقصى سرعة، لملمت أموالها وأمتعتها. أخطرت ابن عمّها أنّ العودة غداً على أوّل مركب. اصطحبته في الصباح إلى المرسى، وأمّنته على رزقها لتعود هي إلى الحمّام. أخبروه(ا) هناك أنّ ابن السلطان قد سبقه(ا) وسأل عنه(ا)، فذكر(ت) لهم أنّه(ا) في عجلة من أمره(ا)؛ وكلّفـ(ت)هم بتسليمه رسالته(ا)؛ وكانت قد ذكرت فيها اسمها وحقيقة أمرها وعنوانها. استُقبلت فاطمة في بلدها استقبال الأبطال، فيما جلب امْحَمّد إلى أبيه العار؛ ومن الغد، التقى التاجر بأخيه النجّار، فقال له: «أنت هو أب الخيرات، أمّا أنا فغبينتي في قلبي». وما هي إلّا أيّام قلائل حتّى قدم ابن السلطان طالباً يد فاطمة من أبيها، فكان له ذلك؛ عمّت الأفراح وتلاحقت النعم.

دعانا اطّلاعنا على هذه الحكاية في مصدريْن مختلفيْن إلى إجراء مقارنة موجزة بين نسختيْها المتّفقتيْن عموماً في المحتوى؛ أمّا الاختلاف فقد شمل العنوانيْن والحجم الذي انجرّ عنه اختلاف في الإطناب6 في مواقع من عدمه. النسخة 2 (للساعي) أطول من النسخة 1 (للعروي)؛ خضعت فاطمة لخمس اختبارات في 2 مقابل اختباريْن فقط في 1، متّفق عليهما في النسختيْن؛ للتاجر في1 ولد وحيد، وسبعة أولاد ذكور في 2، كما جاء في عنوانها، ليكون التنافس بين أصغر البنات وأكبر الأولاد من أبناء العمّ. فاطمة في 2 (وعُرفت بِـحَسَن) هي المبادِرة بفكرة الخروج في تجارة للتحدّي؛ ورأس مالها مبلغ مقترض؛ بينما رشّحت فاطمة في 1 (وعُرفت بِيحيى) نفسها للمشاركة في المشروع، والفكرة لعمّها، زهوّاً بابنه ونكاية في أخيه؛ ورأس مالها ماء باعته بالذهب. الرحلة برّيّة في 2، تنطلق من اللاذقيّة نحو مدينة بغداد؛ بينما هي بحريّة في 1، والوجهة مدينة الإسكندريّة. الراغب في الزواج من فاطمة هو ولد السلطان في 1، وقد وصل إلى أهلها مستدلّاً بالعنوان؛ وهو أمير، اسمه سعلاي الدين في 2، وقد ساعدته أختها الصغرى في الوصول إليها. كان ابن العمّ امْحمّد أميناً على ممتلكات فاطمة في 1، وليس كذلك في 2، لكن أُسقط في يده، لأنّها احتاطت للأمر.

أردنا من هذه المقارنة الممكن إقامتها بين حكايات أخرى كثيرة، من نفس الثقافة أو من ثقافات مختلفة، مثل الهنديّة أو الغربيّة، إبراز أنّ الحكاية الشعبيّة تنتقل وتنقل جوهرها المضمونيّ، منفتحة على تعديلات الراوي الثانويّة. والمهمّ أنّ الاحتفاء بالأنثى قائم في النسختيْن، وداخل في باب التحدّي النابع من الأنثى، وردّ الاعتبار إليها، من جهة الواضع والراوي، ومباركة المتلقّي؛ والأرجح أنّ ثلاثتهم من بنات حوّاء.

وعلى العموم، يزخر موروثنا الشعبيّ، على مستوى الأمثال والحكيات والأقوال المأثورة بما ينشّئ الشباب على الانطلاق بثبات للنجاح في الحياة الاقتصاديّة خاصّة، إذ يؤكّد جميعها على أنّ فهم أحوال السوق هو مفتاح معرفة الوقت المناسب لإبرام صفقات البيع والشراء. فكم هو معبّر، على سبيل المثال، ذلك الحوار الدائر على الدوام بين الابن وأبيه، «قلّو: يا بويَ الجمَل بميّة، قلّو: غالي، قلّو: يا بوي الجمل بألف، قلّو: رخيص» (=قال :«يا أبي إنّ الجمل بمائة درهم»، فقال له: «إنّه غالي الثمن»، وفي وقت آخر قال: «يا أبي إنّ الجمل بألف درهم»، فقال له: «إنّه رخيص»)؛ وممّا قيل للنصح بعدم التفريط في ما يُحتاج إليه: «جبَيْبتك ما تبيعها، شتاها في ربيعها» (= لا تبع جُبّتك، فكما دفّأتك شتاءً، فإنّها تصلح لك ربيعاً).

ما ينبغي الخلوص إليه هو أنّ خطاب الحكاية الشعبيّة وما يدور في فلكها لا يمكن إلّا أن يكون موجَّهاً إلى الجنسيْن، إمتاعاً وإفادة ؛ ومع ذلك، فإنّ ما نذهب إليه هو أنّ المرأة قد استمدّت من هذا التراث المخصوص، نظراً إلى مكانتها الإيجابيّة والمتميّزة فيه، ثقتَها في نفسها وفي قدراتها، وعزمَها على خوض معترك الحياة بشراسة أحياناً، وكذلك طموحَها إلى نيل المراتب المشرّفة، عن طريق اجتهادها ومثابرتها7.

2) المرأة بفكرها وحسن تدبيرها أوّلاً:

ليس من العسير تبيّن أنّ التركيز في الحكاية الشعبيّة منصبّ على روح المرأة وفكرها أكثر ممّا هو على مظهرها الخارجيّ، خلافا للرجل الذي يمتلك في الغالب مكانته من وسامته ومن جواد يمتطي صهوته، ومن جاه موروث أو تجارة متوارثة؛ وتراه أحياناً، إن قبل تعلّم حرفة، فباشتراط الفتاة عليه ذلك، لتقبل به زوجاّ، كما في حكاية «مقياس الذهب» [ع. ص211]8. ويُفترض أن تتّسم الأحكام في هذا المجال بالنسبيّة؛ بما أنّ مدوّنة الحكاية الشعبيّة لا يعوزها مدّ الكلِفين بها بشخصيّات محوريّة ذكوريّة على درجة من الفطنة والذكاء (مثل حكاية: «ذكاء أولاد السلاطين» [س. ص131]، وحكاية «الغلام الذكيّ والأميرة»[س.ص330])؛ كما لا تُعدم قصصَ فتيات سحرن بجمالهنّ ملوكاً وأمراء وشبّاناً أثرياء، سعَووا، بشتّى الحيل والوسائل إلى الفوز بهنّ.

ومن الحكايات الدالّة على علوّ قدر المرأة في عين الرجل على أساس سلامة تفكيرها وحسن أخلاقها، قصّة العروس التي لم يعجب جمالها زوجها يوم زُفّت إليه، فتظاهر بالمرض، ونام فى غرفة غير غرفته؛ فهم أهله موقفه، فظلّوا يسعون إلى الإصلاح بينه وبين زوجته التي وجدت نفسها في وضعيّة لا تحسد عليها. كانت توجّههم إلى تقديم بعض الأعشاب المغلية إلى مريضهم علّه يتعافى؛ وكانوا في كلّ مرّة يجيبونها بأنّهم فعلوا ذلك، لكن دون جدوى. أدركت العروس أنّ ما بالعريس هو تمارض وليس مرضاً، فطلبت من المحيطين به أن يعدّوا لها مشروباً ساخناً، ستتولّى هي تقديمه إليه؛ جيء لها بما طلبت، فدخلت على «المريض» وقالت له بكياسة: «ذوقو بشفائه فوقو، إن ما عجبك زينو يعجبك خلوقو» (= ذق هذا المشروب الحامل للشفاء، وإن لم يعجبك جماله فحتماً ستعجبك أخلاقه)؛ فما كاد الرجل يسمع هذا الكلام حتّى نفض عن نفسه آثار التمارض، وقام إلى عروسه، بها راضياً ومرحّباً. ومنه ما جاء أيضاً في حكاية: «تزوّج بنات الأصول» [ع. ص369]، عن زوجة أُجبر زوجها على تطليقها، بعد أن دارت عليه الدوائر، ليتزوّجها أحد العاملين في الدولة، مقابل مهر أُغري به أبوها. وكان أن غضب السلطان على عامله لمّا اشتكاه إليه الزوج، ولكن سرعان ما أصبح السلطان، كما حدث مع عامله، الخصم والحكم في نفس الوقت؛ إذ لمّا مثلت الزوجة أمامه، أعجب بجمالها وكذلك بأدبها وبفصاحتها، فأرادها لنفسه. ولمّا أبدى الزوج تشبّثه بها، خيّرها السلطان بين الوجيه والمدقع؛ فردّت بما ينمّ على رصانتها ورجاحة عقلها ونبل أرومتها: «هذا زوجي أعزّني ودلّلني في أيّام عزّه وغناه، لن أتركه وقت الشدّة، بل إنّ مودّته زادت عندي لمّا عضّه الدهر بنابه، إنّه خير لي من كلّ عامل وكلّ سلطان». وهو ما حمل السلطان على الحكم لصالح زوجها.

هذا الوجه المشرق لتعقّل المرأة لا ينبغي أن يحجب مرّة أخرى الحدّ الأقصى الذي يمكن أن يبلغه ذكاؤها، ونعني الدهاء الذي في حدّه الحدّ بين الطيبة والمكر؛ وقد بنيت بعض الحكايات الشعبيّة، الشفويّة والمكتوبة على فكرة مكر النساء وحيلهنّ المقترنة بسياقات الخيانة الزوجيّة للخروج من المآزق، وبسياقات الثأر تشفّياً في المسيئ إليهنّ. ولا يمنع منطق الأحداث والأخلاق من أن تدفع المرأة غالياً في أحايين كثيرة ثمن زلّاتها. وقد شكّل هذا المعنى الأخير إحدى ركائز الصورة المستخلصة للمرأة من دراسة بعنوان «نماذج مغربيّة للحكاية الشعبيّة»9؛ وورد الحديث عن «إدانة ثقافة خروج المرأة»، وعن حمل المرأة لـ»صفات تعمل على قتلها الرمزيّ بتغييب استقلاليّتها عن الرجل»، وعن تقويتها، بتبنّيها تلك الصفات، «غربتها ومنفاها الاجتماعيّ»، وعن التأكيد الضمنيّ، عبر رمزيّة عثورها على «مغزل ذهبي»، «على أنّ وضعها الطبيعي هو الإقامة بالبيت لغزل الصوف وحياكة الزرابي وإنجاب الأطفال وما شابه ذلك. وبالتالي فالمرأة حتى وهي خارج البيت تبقى سجينة تصوّرها لوظيفتها. إن وعي المرأة بالنتيجة جحيمها»10. ونحن، إذ نسوق هذه الشواهد، فلغاية إبراز ما طرحناه في المقدّمة عن ثراء الحكاية الشعبيّة ووفرة تنويعاتها، ممّا أهّلها للخضوع لزوايا تناول مختلفة؛ فتتوالد بذلك الاستنباطات ونتائج القراءات؛ وقد أمكننا الاستدلال في مواطن عدّة –وسيتواصل-على أنّها فضاء افتراضيّ ملائم لتفريغ المرأة شُحَن قهرها المتراكمة، وللفت الأنظار إلى قدراتها المادّيّة والمعنويّة، بما يبرّر إثباتها لذاتها وردّها الاعتبار إلى نفسها، بمباركة الرجل أو دونها.

3)المرأة، أُمّاً وزوجة وابنة، ملاذ الرجل عند الشدائد:

تتعلّق همّة الشابّ في الحكاية الشعبيّة بالظفر بفتاة أحلامه، فلا يجد غير أمّه للتشاور وتذليل العقبات من أجل بلوغ المرام. يكلّف الملك وزيره بمهامّ جسام وفكّ ألغاز مغلَقة عن الفهم؛ فإذا بزوجه تشدّ أزره أو ابنته تضع عنه وزره كما في حكاية «الملك وبنت الوزير» [س. ص353]، فينجح في الاختبار وينجو من الأضرار؛ ومن الأقوال الدائرة في مثل هذا السياق: «تدبّر الأمر يا وزير وإلّا رأسك يطير». وقد مرّت بنا حكايتا «ياصباح الخيرات، ويا صباح الغبنات» و«سبع سعدات وسبع عكسات»، وفيهما اتّفاق على لجوء «الأمير» إلى مساعدة أمّه، مرّة بعد مرّة في الوصول إلى حقيقة التاجر الشابّ/فاطمة، للزواج بها؛ وتجلّت الأمّ في شكل مَعين لا ينضب من الأفكار السديدة والنصائح الصائبة. يستفيد الولد من رأي أمّه وحكمة جدّته؛ لكن يظلّ التعاون بين الأخ والأخت باهتاً، إلّا إذا كانت في موقف ضعف شديد؛ فيهبّ إخوتها الذكور إلى نجدتها، معرّضين أنفسهم للأهوال، كما جاء في حكاية «سعلاء الدين وأخته زمرّدة» [س. ص142]؛ وإن من تفسير لغياب هذه العلاقة الأفقيّة، وتوافقاً مع «لاوعي» الطرفيْن في الحكاية الشعبيّة، فهو عزوف الأخت عن ظهورها تابعة لأخيها وواقعة تحت سلطته الرمزيّة التي قد تقبلها من أبيها، وأحياناً من زوجها؛ وأكثر ما يبدو تعاملها مع أخواتها، متعاونات كما في حكاية «البنات الثلاث» [س. ص452] أو مسكونات بالغيرة من بعضهنّ بعضاً؛ بل إنّ حكاية «الأولاد وعمّتهم» [ٍس. ص92] تكشف عن حقد شديد للأخت على أخيها، طال أذاه أبناءه أيضاً. وكذا الشأن بالنسبة إلى الأخ المتعالي عن الاعتراف بفضل الأخت، القابل للتعامل مع الإخوة الذكور، تكاتفاً أو تنافساً إلى حدّ العداوة، مثل ما جاء في حكاية «الثلاثة إخوة» [ع. ص143]. ثمّة أيضاً تغييب ملحوظ للخالة.

4) المرأة جديرة بوفاء الرجل وتضحياته:

يطّرد طلب الفتاة للزواج في الحكايات الشعبيّة كما في الواقع؛ وعادة ما تقترن الموافقة عليه بالتوافق في مسألة المهر. إلّا أنّ قيمة المهر هي موضوع اختلاف بين الأطراف المعنيّة به، وذلك بحسب الشروط والأوضاع الماديّة الحافّة، وخاصّة العقليّات السائدة والمتحكّمة. وقد يقف اشتراط مهر عالي القيمة عقبة أمام تحقّق الزواج، إلّا إذا برهن طالبه على همّة واستعداد للتضحية من أجله، تستشفّ منهما جدارة المرأة بكلّ ذلك. وبمثل هذا تنبئ حكاية سعيد الذي طلب يد علياء من عمّه، فردّ عليه بالقول: «يا ابن أخي إنّ مهر علياء كبير كبير»، أجابه قائلا: «اشترط عليّ يا عمّي ماتريد!» فما كان من العمّ إلّا الشطط لغاية التعجيز، لكنّ سعيداً قبِل الرهان، وطلب من عمّه أن يمهله إلى أن يعود من سفره، قصْد تجميع قيمة المهر؛ وتعاهد الرجلان على ذلك. انطلق سعيد في رحلة الشقاء والاغتراب. لكنّ العمّ أخلف الوعد بتزويجه ابنته إلى رجل ميسور؛ وللتستّر عمّا فعل، ذبح كبشاً وجعل له قبراً، لادّعاء أنّ المدفون هو الغالية علياء. وبهذا أُخبر سعيد عند عودته؛ فحزن عليها حزناً شديداً، وبكى على قبرها أيّاماً؛ وفيما هو يمشي ذات مرّة هائماً على وجهه، مرّت بجواره ثلاث فتيات يحملن على ظهورهنّ ماءً، فسألهنّ شربة، ولمّا عرف منهنّ أنّهنّ في خدمة سيّدتهنّ علياء، تعمّد خفية إسقاط خاتمه الذي عليه اسمه في قلّة إحداهنّ؛ وحين وصلن، جعلت سيّدتهنّ تأخذ عنهنّ القِلال لتفرغها في طست كبير؛ وفي الحال تعرّفت على الخاتم؛ طلبت من فتياتها اللحاق بصاحبه وإحضاره إليها، وهكذا...

من أجل المرأة تسير الركبان، وبقبولها الزواج من الراغب فيها، يتصاهر الملوك وتتحدّد العلاقات بين البلدان والشعوب في الاتّجاهيْن. وعلى هذه المعاني تركّز عديد الحكايات الشعبيّة، فينجلي، ليس معدن المرأة فقط، ولكن معدن الرجال أيضاً؛ فنصادف الشهم (كما في حكاية «الشهامة العربيّة» [ع. ص187])، والمغامر، والممتثل لصوت الحكمة (كما في حكاية «مقياس الذهب»[ع. ص211])، وفيها أنّ ابن أحد سلاطين تركيا، ما كان لينجو من موت محقّق، لولا إتقانه لحرفة، كما اشترطت عليه الفتاة التي اختارها، لتقبل به زوجاً، رغم التفاوت الطبقيّ بينهما.

الخاتمة

إنّ التعامل مع الحكاية الشعبيّة، إنشاءً وروايةً وتلقيّاً وتدارساً، وحتّى تعديلاّ، سبيل إلى إحياء ذاكرة الشعوب والمحافظة على موروثها الثقافيّ الضارب عادة في القدم والقائم إلى حدّ اللحظة. وقد بيّن التعامل معها أنّها مادّة ناقلة متنقّلة، تنتمي إلى الكونيّة، وخاصّة حمّالة تأويلات بحسب ما يرسم لقراءتها من غايات. ومن جهتنا، فقد وجدنا فيها منهلاً لأطروحة إمكان إخراج المرأة من الصورة النمطيّة التي حُشرت فيها منذ أزمان؛ فمن عنصر ثانويّ وسلبيّ ومهمّش في المجتمع إلى عنصر فاعل في أوجه الحياة، الاقتصاديّ والأسريّ والعلائقيّ منها، على أساس التدبّر والتروّي. ومهما تكن درجة الاحتفاء، فإنّ الحكاية الشعبيّة لا تسقط في أمثلة المرأة، مراعاة لمنطق ما يجري في الواقع الذي يتردّد صداه في المرويّات بأنواعها، وإدراكاً لجدوى الإقناع بالخُلف. وفي هذا السياق، يتنزّل الاعتداد بدور الحكاية الشعبيّة، ماضياّ وحاضراّ، في إذكاء التجذّر الثقافيّ والقيميّ والاعتزاز بالموروث الأدبيّ لدى الأفراد والجماعات. وفي هذا تفسير لنزعات إحيائها ثقافيّاً10 وبيداغوجيّاً في زمن الطفرات العلميّة والمعلوماتيّة والتواصليّة. وما كان للاشتغال على موضوع الاحتفاء بالمرأة في الحكاية الشعبيّة ليتمّ بمعزل عن الرجل من ناحية، وعن وضعها حاضراً من ناحية أخرى؛ فكأنّ توق الأنثى في الحكاية إلى الأفضل وحلمها بلعب دور مرموق، هو استشراف لانطلاقها، منذ أمد، في نحت مصيرها الذي ترتضيه لنفسها وتسعى جاهدة إلى فرضه والإقناع به. نقول هذا دون الخوض في فرضيّة أنّ الكثير من الاختراعات الحديثة مستوحًى من الخيال الذي يعمر الأساطير والخرافات وأقلّ منهما الحكايات الشعبيّة.

الهوامش

- نذكّر بالملاحظة: أدرجنا الإحالات على الحكايات الشعبيّة المستشهد بها في متن المقال، مع إضافة الحرف «س»، ونرمز به إلى أنّ ناقل الحكاية هو أ.ب. ساعي؛ والحرف «ع» بالنسبة إلى ع.ع. العروي.

1. الحكاية الخرافيّة ص 136 - 137.

2. للوقوف على تعريفات بعض الأشكال السرديّة، انظر مقال فرج بن رمضان.

3. اعتمدنا المصادر المذكورة أعلاه.

4. وردت هذه الحكاية تحت عنوان آخر، وهو: «فطيمة بنت النجّار».

5. المصدر الثاني، (في1987).

6. لمزيد الاستنارة حول بنية الإطناب باعتبار مبدأ التراكم والاختزال في السرد الشعبيّ (السيرة تحديدا)، انظر «قال الراوي»؛ الصفحات: 29-30 - 31.

7. هذه الفكرة هي موضوع كتاب من تأليفنا، ظهوره وشيك بإذن الله تعالى.

8. لا توجد علاقة بين العنوان المذكور ومحتوى الحكاية التي وردت تحته، والتي نقدّر أنّها قابلة للاندراج تحت عنوان ضمّ عديد الحكايات، وهو: «ينفد مال الجَدّيْن وببقى كدّ اليديْن».

9. الدراسة د. رشيد وديجى؛ الشواهد المأخوذة منها وردت بالصفحتين: 38 و39.

10. لمزيد الاستنارة حول بنية الإطناب باعتبار مبدأ التراكم والاختزال في السرد الشعبيّ (السيرة تحديدا)، انظر «قال الراوي»؛ الصفحات: 29-30 - 31.

11. والدليل وفرة الأوعية، الورقيّة وغير الورقيّة، المتخصّصة في دراسة الإطار العامّ للحكاية الشعبيّة؛ من أهمّها على مستوى المجلّات: مجلّة التراث العراقيّة، مجلّة التراث الإماراتيّة، مجلّة الثقافة الشعبيّة البحرينيّة التي تحدّثت في عددها 40 عن 10 سنوات و300 دراسة.

الصور

1. https://wooarts.com/wp-content/gallery/orientalism-art/orientalist-paintings-wooarts-com-001.jpg

2. http://www.shuuf.com/shof/uploads/2018/12/18/jpg/shof_91d1a4dbd9f1451.jpg

أعداد المجلة