فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
47

أين فرق البحرين الغنائية النسائية الشعبية ؟!

العدد 47 - المفتتح
أين فرق البحرين الغنائية النسائية الشعبية ؟!
رئيس التحرير

تشبّـعت ذاكرتي منذ سنوات الصبا الأولى بأغاني فرق البحرين الغنائية النسائية الشعبية التي كانت تهزج بكلماتها العفوية العذبة مشحونة بالعديد من العواطف موقعة على عزف الدفوف والطبول تصدح بها تلك الأصوات الدافئة في حواري و«برايح» و«فرجان» مدينة المحرق. كانت حفلات الأعراس وأفراح ختان الصبيان وأماكن النذور التقليدية و«كشتات» البساتين ميداناً لتلك الفرق الشعبية النسائية التي انتشرت في أغلب قرى المحرق والرفاع والبديع والزلاق قوامها في الأساس نساء وفي بعضها عدد قليل جدا من الرجال لا يتجاوز اثنين أو ثلاثة يلتحقون بهذه الفرق للعزف على الطبل فقط لثقل وزن هيكله المصنوع من خشب الساج ولقدرة الرجال - في بعض الأحيان - على حمله بيد واحدة واللعب به في الميدان، وربما في حالات نادرة يتولى رجل مهمة «صاقول» وهو فن قيادة فريق عازفي الدفوف النسائي واللعب بزركشات لحنية محببة على الطار خارج الإيقاع العام للدفوف، وهي زركشات لحنية تستطيبها الفرجة وتفرح بها وتعتبرها نوعاً فريداً من أنواع التجلّي.

وقبل أيام أهداني الفنان البحريني الأستاذ أحمد سيف مجموعة من أغاني الفرق النسائية الشعبية مسجلة بعناية وبدرجة فنية عالية لثلاث من أشهر فرق الغناء النسائية البحرينية: فرقة طيبة المرزوق وفرقتا شمه وفاطمة الخضارية. وقد تفرغت للاستمتاع بسماع هذه الفنون واستعادة كلماتها بتلك الأصوات المحببة التي أعادتني إلى ذكريات حميمة ما تزال حيّة عامرة في الجزء المضيء من الذاكرة، فأعدت أيضاًالاستماع لتسجيل قديم للفنانة الكويتية الشهيرة عوده المهنا بالإيقاعات والكلمات ذاتها وتقريبا بذات الصوت العذب المليء بالشجن.

لقد ألحّ عليّ وقتها تساؤل مهم:لماذا لم تُـدرسْ بعد فنون الفرق الغنائية الشعبية النسائية؟! كيف أُنشأت ولماذا تأسست ؟ وفي أيّ الظروف ازدهر دورها؟ وكيف تعدّدت وظائفها؟ وما هو نظام عملها الداخلي؟من وضع كلمات تلك الأغاني التي تُـناغي الروح؟ومن ابتدع ألحانها وصوّبها نحو الفؤاد؟وكيف تم وضع أصول الرقص الفردي والثنائي الذي يمارس بفن وإتقان خلال تلك المعزوفات؟! وهل لدينا سجل مصنّـف وموثّـق لأهم وأشهر تلك الألحان ونصوص كلماتها؟وثبت بأسماء الفرق ومؤسسيها؟! وأشهر قادتها وفنانيها؟كيف كانت بدايات نشأتها وزمان ازدهارها؟!ومتى انتهى دورها؟ وكيف تم تجاهلها؟

كلنا يعلم بأن الإذاعات المحليّة في الخليج العربي تمتلك تسجيلات نادرة لهذه الفرق وتعمل على إعادة بثها بين حين وآخر، إلا أنها مصنفة كأغان شعبيّة ضمن كمٍ هائلٍ من الأغاني.

أذكر قبل ما يقرب من عشر سنوات من الآن،كانت لي محاولة أوليّة متواضعة في طرح هذه التساؤلات على بعض المهتمين، وقـد أجريت عدداً من المقابلات الصوتية لفنانين مهتمين بمثل هذه الأمور، كان من بينهم الراحل أحمد الفردان - طيب الله ثراه - وأحمد الجميري ومحمد جمال، وللأسف استنكف أن يكون مصدراً للحديث عن الطبّالين والطبّالات أحد مثقفينا، فاكتفيت بما أفاض به ذانك الرائعان وتوقفت لضيق الوقت وغزارة هذا البحر ولعدم اختصاصي بالخوض فيه.

مبدئيا، استخلصت من تلك التسجيلات الأولية أن هذه الفرق تأسست في البحرين والكويت مع قدوم واستقرار القبائل العربية من أواسط نجد إلى سواحل الجزيرة العربية أواخر القرن السابع عشر الميلادي، وقد استحدثها موالي شيوخ تلك القبائل العربية وتوارثها المولدون، وأغلب أصول هؤلاء الموالي من الرقيق الأفريقي ذلك الوقت، لسد وظيفة الاحتفال بتزويج أبناء وبنات سادتهم، ولولعهم الفطري بفنون الإيقاع، لذلك لا تجد أحدا من بين أعضاء هذه الفرق - حتى وقت متأخر - من ذوي البشرة البيضاء إلا فيما ندر. ومع تطور أداء هذه الفرق وانتعاشها في مجتمع ساحلي أكثر انفتاحا من مجتمع القبائل في الصحراء انتقلت فرق الغناء الصغيرة الخاصة من بيوت الشيوخ وعلية القوم إلى بيوت الجيران في الحي ثم إلى الأحياء المجاورة إلى أن انتشرت وباتت هذه الفرق وفنونها شعبية دارجة احتضنها الحس الجمعي وامتهنها ومارسها واستطابها عامة الناس كضرورة لحياة مدنية يحتاجونها لأداء وظيفة اجتماعية لا بد منها للأفراح والسمر.

اختصت هذه الفرق بأداء فنون «السامري» و«الخماري» و«اللعبوني» و«البستات»، وراجت لديهاالأغاني الطربية الخفيفة، كما كانت هذه الفرق تشارك في إحياء الاحتفالات الدينية الموسمية كالمولد النبوي الشريف وذكرى الإسراء والمعراج. وقد انتعشت في ذلك الجو صناعة الدفوف والطبول وتزيينها بنقوش الحناء وخلقت حولها مجتمعاً حياً عاشت بفضل إيراداته المالية المدرّة العديد من الأسر، فإلى جانب كلفة إحياء الحفل هناك خير كثير يأتي من «النقوط» وهو المال الذي يُتبارى بدفعه إلى الفرقة جمهور الحاضرين إكراما لراعي الحفل حيث يُنادى أمام الحاضرين باسم مقدم «النقوط» أو باسم أولاده وبناته.

ترى، هل هذا صحيح؟

هل مجتمع البحرين - قبل ذلك- كان بلا فرق غنائية نسائية في المدن ولا في القرى؟ كيف كانت العائلات البحرينية قبل ذلك تحتفل بأفراحها؟؟

أين هي الآن فرق الفنون الغنائية النسائية الشعبية ؟! ولماذا في ظل هذا الفقد والضياع الكبير قد اختفت؟!

أليس هذا مادة مهمة للبحث والتنقيب والتحليل والدرس..؟؟

أعداد المجلة