فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
47

الطب الفلكلوري عند المسلمين في ولاية كيرالا الهندية

العدد 47 - عادات وتقاليد
الطب الفلكلوري عند المسلمين  في ولاية كيرالا الهندية

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، وإن للتراث مساهمة غير قليلة في بناء المجتمع وتنظيم نظامه وتقويم تفكيره، وإذا تمكن من تقديم النشاطات اللائقة بكل الأزمنة يبقى اسمه في قلوب المتأخرين، وإلا فينهار ويتحطم كما تحطمت تلك الثقافات المغمورة في أتربة التاريخ وذاكرة النسيان. وفي هذا الجانب، يتمتع أهل كيرالا بتراث حيوي متميز عن غيرهم من سكان الهند، لأن تاريخ المسلمين وتراثهم في المليبار بدأ منذ أن أرستْ في سواحلها سُفنُ العرب وبزغ على ربوعها فجرُ الإسلام في أوائل القرن الأول الهجري. ووصولُ شعاعِ التوحيد إلى سواحل المليبار في القرن الأول الهجري، حقيقةٌ تاريخية توثّقها نخبةٌ من المؤرخين وعلماءُ الحفريات كما تُوثّقها الوثائقُ الدينية المعتمدة، مثل الحديث الذي رواه الحَاكِمُ في مُسْتَدْرَكِه عن الصحابي الجليل أبي سعيد الخُدْرِي رضي الله عنه، أنه قال: «أهدى ملك الهند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جرّة1 فيها زَنْجَبيلٌ، فأطعم أصحابَه قطعة قطعة، فأطعمني منها قطعة»2.

وبلاد الهند يعتبر إحدى الأمم الأربع التي لها اهتمامات علمية، وقد برع الهنود في الحساب وعلم الأفلاك والنجوم وأسرار الطب، وذكر المسعودي3 أن جماعة من أهل العلم والنظر اعتبروا الهند الغرة التي فيها الصلاح والحكمة، وكان الهند كما يقول القفطي4 معدن الحكمة وينبوع العدل والسياسية5. وقد ترعرعت في الهند الآثار الطبية المحلية، فذلك إثر جهود بذلها العلماء الهنديون في المجال العلاجية، وقد أضيفت إليها الأنماط العلاجية السائدة في العالم القديم.

التراث الطبي ووصوله إلى كيرالا

الطب موروث إنساني منذ القدم، وتراث مشترك للأمم، خاض في تجاربه الصينيون بالتركيبات العضوية، والهنود بالأدوية والعشبية النباتية، والفراعنة بالكيماء، واليونانيون بدراسة حاجات النفس والجسد. والحضارة الهيلينية (اليونانية) التي ارتكزت على العلوم العقلية بأدوات الفلسفة والمنطق، استطاعت أن ترقى بالطب النظري إلى قمته، وكان ذلك من خلال تشخيص الأمراض ومعرفة أسبابها، وهذا ما نراه في كتب جالينوس Galen. أما أبقراط (Hippocrates)، فيعتبر أبا الطب عندما حرره من الخرافات والشعوذات، وأضفى عليه منهجا ومصداقية، من خلال فرضه قسما على تلاميذه يؤدونه قبل ممارسة المهنة. لقد ترجم أبقراط النظرية إلى تطبيق عملي في علاج المرضى، وحكم على الطبيب بعلاج كل إنسان، حتى لو كان عدوا أو مجرما، فصار القسم عالميا. لقد جمع أطباء اليونان الكبار بين الطب والفلسفة، حتى انتشرت علومهم ووصلت إلى المشرق6. ووصلت العلوم الطبية فيما وصلت إلى سواحل كيرالا بالرحلات التجارية التي قام بها اليونان والإغريق والصينيون والعرب في الزمن التاريخي.

والموقع الجغرافي لولاية كيرالا قد لعبت دورها الريادي في الاحتكاك الحضاري والتبادل الثقافي بين الحضارات والثقافات العالمية. ومع مرور الزمن وصلت إلى ساحل كيرالا الحضارات اليونانية والإغريقية والصينية والعربية والإنجليزية. وبسبب هذا الاحتكاك الحضاري والتبادل الثقافي تطوّرتْ حضارةٌ فريدةٌ في تربةِ المليبار. وهذه الحضارة الوافدة مع الحضارة الأصيلة شكلت حضارة فريدة متميزة حتى صارت النتاج المليبارية في خارطة التراث شيئا يلفت أنظار العالم إلى مكنوزاتها. لأن الهند لا سيما، كيرالا حققت بصماتها في التاريخ العلاجي منذ القدم، الآيوفيدا أو علم الحياة، نظام علاج اكتشفه أهل كيرالا في الماضي السحيق، وجل اعتماده على الأعشاب والنباتات الكثيرة ذات القيمة الطبية، ويشتمل على تناول أعراض الأمراض العادية والمزمنة مع فحوصها، ومعالجتها، والعناية بها. وهو نظام طبي يتميز باعتماده على الأعشاب خلافا لنظم طبية أخرى مثل الآلوباثيا، والهوميوباثيا. وهو أيضا بعيد عن تدخلات العرافين والمشعوذين والسحرة.

والوثائقُ التاريخيةُ تُقرِّر أن علاقة كيرالا بالبلدان العالمية كانت مستمرّة لعدّة قرونٍ مُتتالية، وإن عَجزْنا أن نَضبطَ أوّليتَها. ويقول المؤرخون الذين تخصّصوا في الحضارة الهندية: إن هذه العلاقات في شواطئ نهر السِنْدِ قد بدأت قبل أربعة آلاف سنة قبل الميلاد ، إذ كانوا يجلبون السلعَ المليبارية والمنتوجات الهندية بواسطة سواحل نهر السِنْد بعدما تناقلوا إليها من سواحل المليبار. ويؤيد المؤرخون بأنه كان هناك ميناء كبير يعتني بتجار العرب في سواحل مُوهَنْجَدَارُو(Mohanjedaro). وملحوظ في تاريخ كيرالا، أن تصديرَ السلَع المليبارية كان يجري مُنْذُ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، إذ إن أهالي الأَشِيرِيِّينَ والبَابِليّينَ7 كانوا يجلبون الفُلْفُل8 والفُوفَل9 والقَرَنْفُل10 من كيرالا ثم يتجرون بها1 1.

تاريخ الخدمة الطبية في الديار المليبارية

إن تاريخ الطب والتراث العلاجي جزء لا يتجزأ في الحضارة الإسلامية السامية، وتاريخ الطب الإسلامي ومنتجاته وإبداعاته العديدة الرائعة حوافز ودوافع تحرض أبناء الأمة الإسلامية للاستعواد ما فقدوا من تراث آبائهم وأجدادهم. وكان العلاج الطبي عند المسلمين في كيرالا يعتمد على التقاليد والأعراف وما وصلت إليه تجربة الأجداد، يسجلون آرائهم العلمية وتراثهم العلاجي ويتناقلونه جيلا بعد جيل. وكانت الخدمات الطبية في كيرالا تتناسب مع بساطة الحياة والظروف التي كانت سائدة آنذاك، حيث لم تكن الخبرات الطبية متوافرة أو الإمكانات العلاجية متاحة. وهنا لجأ المسلمون في كيرالا إلى الطب الشعبي في علاج ما أصابهم من أمراض أو إلى الخبرات الطبية التي تم تناقلها بالواراثة عن الأجداد. والأطباء الشعبيون قد تنوعوا من أولئك الذين يركّبون الأدوية من الأعشاب والنباتات، ومن أولئك الذين يمارسون الطب النبوي من الفصد والحجامة وغيرهما من الطرق والأدوية التي ورد ذكرها في الأحاديث النبوية، ثم الفئة الأخرى الثالثة كانت تمارس الرقية الشرعية التي أشارت إلى صحتها المواقف النبوية والمصادر الدينية. ومنهم الأطباء الممارسون للأمراض بشكل عام، ثم الكحالون يعني أطباء العيون، وكذا المجبرون الذين تولوا طب العظام، وكانوا يمارسون جبر الكسور ورد خلع المفاصل، وكذا الجراحون.

وفي تلك الأيام علقت مهنة التطبيب على أعناق بعض الفئات المهنية في ديار كيرالا، مثل الحلاق وكذا القابلة التي تقوم بالأمور النسوية داخل البيت، وهي التي قامت مقام الممرضات، ثم الأساتذة والمدرسون في المساجد الذين يقومون بمهام الرقية والعلاج بالأسماء والطلسمات.

المؤلفات الطبية عند المسلمين في كيرالا

مخزن المفردات في الطب: إنه لم يؤلف في ديار كيرالا كتابٌ يداني هذا الكتاب الفريد المتميز في القسم الطبي العلاجي. ألفه الشيخ كي تي إبراهيم مولوي رحمه الله المتوفى سنة 1897م في قرية فاتيكاد بمقاطعة ملابرم، كيرالا. وكان رحمه الله ممن شاركوا في حركة الاستقلال الهندية من السيطرة الاستعمارية البريطانية. ويقع هذا الكتاب الفريد في ثلاث مجلدات، ويحتوي 239 صفحة من القطع الكبير، وتتفرد هذه المؤلفة الطبية المليبارية بجودة اللغة العربية وكثرة المعلوما ت العلاجية. وقد أورد المؤلف رحمه الله في كتابه المعلومات الطبية من الأدوية ومعادنها والأدوية النباتية والحيوانية، والأدوية الحجرية والأدوية الجواهرية. وقد وضح المؤلف رحمه الله في هذا الكتاب الطبي طبيعة الأدوية ومنافعها وكيفية العلاج بها، وقد قام المؤلف بالتحليل والتفصيل عن الأدوية وتطبيقها في الجسم الإنساني. وقد أشار المؤلف في مقدمة الكتاب التي تستغرق أربع صفحات إلى أهمية الأدوية وانتشارها في المجتمع الإنساني.

والمؤلف يرفع صوته بالشكوى ضد المسلمين الذين تساهلوا في تعليم أبنائهم المبادئ العلاجية والعلوم الطبية. ويقول الكاتب إن أسباب الجهل في تفسير الكلمات الطبية التي ورد ذكرها في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية يعود إلى تساهل العلماء والأساتذة في تعلم الطب والعلوم الجسدية. ويقوم الكاتب بالنقد اللاذع تجاه الأمة الإسلامية في ديار كيرالا حيث أهملوا الطب وتعليم مبادئه في مدارسهم ومناهجهم. ويبين الكاتب خطورة سوء استعمال بعض أساليب الطب البديل في علاج بعض الأمراض ويبين أهم مشكلاته، لأن الأدوية تعتبر سامة إذا استخدمت بكميات أكبر من المطلوب. وقد حصل رحمه الله على هذه المعلومات الطبية النافعة، حينما كان متغربا في مقاطعة كليان (Kalyan) في ولاية مهاراشترا (Maharashtra). لأنه هاجر إلى مهاراشترا (Maharashtra) حينما علم أن القوة الاستعمارية البريطانية تؤامر عليه لما قام بخطبات يحرض خلالها أهل كيرالا على الجهاد ضد الحكومة الاستعمارية، وقضى هناك أكثر من عشر سنوات يستفيد بمعلومات طبية شعبية نافعة. وقد اعتمد الكاتب في تأليف هذا المؤلفة القيمة على الكتب الطبية الشعبية في اللغة العربية والفارسية والأردوية والهندية والسانسكريتية. وقد أورد في مقدمة كتابه الفريد 36 نوعا للوزن والكيل للأدوية، كما أتى في آخر الكتاب بملحقة تحتوي أسماء الأدوية في اللغات الأردوية والهندية واللغة المحلية عربي مليالم. وقد أورد هذا الكاتب الماهر 1197 دواء بأسمائه حسب الحروف الهجائية.

المؤلفات الطبية في اللغة المحلية عرب مليالم (Arabimalayalam).

على الرغم من ندرة الكتابات التراثية في اللغة العربية التي تتناول الأحوال الصحية في كيرالا، فإن هناك العديد من الكتب المحلية التي سجلها أبناء هذه الولاية في لغتهم المحلية الشعبية، فهي لغة عرب ملايالم (Arabimalayalam)، فهي لغة كان المليباريون يستخدمونها في حياتهم الدينية والأدبية والعلمية، وتتميز هذه اللغة الفريدة الناشئة من الاحتكاك اللغوي بين اللغتين العربية والمَلَيَالَمِيَّة. وتعتمد هذه اللغة الشعبية على اللغة العربية في جانب الحروف والكتابة، كما أنها تعتمد على اللغة المليالمية في جانب النحو والصرف والقوانين، وأما المفردات والكلمات فهي مأخوذة من اللغة العربية (Arabic) والمليالمية (Malayalam) والتَامِيلِيَّة (Tamil) والأُرْدَوِيَّة (Urdu) والسَانْسْكْرِيتِيَّة (Sanskrit) والفَارِسِية (Persian).

وهذه الظاهرة اللغوية في تبادل الحروف والكلمات والأصول موجودة في لغات العالم، فمثلا فاللغة الإنجليزية والألمانية والفرنسية تستخدم الحروف اللاتينية للكتابة، بينما أن اللغة الهِنْدِيّة والمَارَاتِيَّة (Hindi & Marathi) في الهند تستخدم الحروف الدِيفَانْاجَرِيَّة(Devanagari). وهنا يجدر بالذكر، أن اللغة العربية المليالمية تتميز بكونها هي الوحيدة في جنسها، لأنه لا توجد في كيرالا لغةٌ غير عربية تُكوِّنُ مع اللغة المليالمية لغةً ثالثة. وتتمتع هذه اللغة العربية المليالمية بشخصية فريدة نظرا لانتساب مفرداتها إلى أصول سامية وحروف عربية. والمسلمون في المليبار طِوَالَ حياتهم الزاخرة بالإبداع والحيوية في مجال الأدب والفن، أنتجوا مؤلفات عديدة في مختلف أنواع العلوم والبيان.

والمسلمون في كيرالا أثروا ثقافتهم اللغوية وحضارتهم الشعبية بهذه اللغة الفعالة طوال قرون عديدة في التاريخ المليباري، وقد سجلوا فيها علومهم وأفكارهم وعواطفهم بحيث أنتجت هذه اللغة مصادرهم الدينية ومراجعهم التاريخية والثقافية الشعبية. أما مواقفهم المتشددة في أمور الدين فلم تمنعهم من التقدم في المجال الأدبي الإبداعي والمجال العلمي التطوري، لأن العلماء والأدباء وقفوا موقفا إيجابيا نحو الفنون الأدبية والأنواع الإبداعية، ومن جراء ذلك صدرت آلاف الكتب الدينية والأدبية والعلمية والتراثية من حاضنة هذه اللغة الخصبة. ولما طرق المسملون المليباريون جميع أبواب البيان، صار النتاج العلمي والأدبي في هذه اللغة الشعبية شيئا يلفّت أنظار الباحثين والنقاد، بمعنى انه ارتفع بمستواه بحيث نستطيع أن نطرح هذا التراث المليباري كتراث دولي أو عالمي. وصارت خلال سنوات قليلة كلغة شعبية متداولة يستطيع كل الأفراد أن يمتلكوا ناصية هذه اللغة، وبلغ عدد القادرين على الكتابة والقراءة بهذه اللغة إلى %100 حينما تبلغ نسبة القادرين، في هذه الأيام، على اللغة المليبارية المحلية إلى 90 في المائة. والمخطوطات والمطبوعات بهذه اللغة منتشرة في أنحاء كيرالا فهي في الحقيقة تراث إنساني وذخيرة عالمية. علاوة على ذلك، فإن المسلمين في المليبار قد تمكنوا من ترجمة الكتب الطبية الشهيرة من اللغة السانسكريتية مثل أشطانغا هرودايم14 (Ashtanga Hridhayam)، وغيرها من المصادر الأصلية. والمسلمون في كيرالا قد حفظوا هذا الكتاب التراثي الهندي ثم فسروه في لغتهم المحلية عرب مليالم (Arabimalayalam) كي تشمل على عامة الناس مجالبه ومنافعه.

وقد أثرى المسلمون المليباريون مكاتبهم بالكتب الطبية والعلاجية في أواخر القرن التاسع عشر ثم في أوائل القرن العشرين في اللغة عرب مليالم (Arabimalayalam). ومن أشهرها كتاب مَارْمَا شَاسْتْرَمْ (Marmma Shaasthram) يعني علم المَقَاتِل للطبيب الشعبي مَانَاتوُدِي وِيرَانْ كُوتِي (Mannathodi Veeraan Kutty)، وكتاب ويشا جيكيتسا أشطانغا هرديم (Vishachikilsa Astanga Hrudhayam) يعني علاج السموم للطبيب الشعبي فارافورات إيلّات بيران كوتي وايديار (Parappurathu Illathu Beraankutty Vaidhyar)، وكتاب جنوفكارم ترجمة (Janopakaram Tharjama) يعني ترجمة مصلحة العوام، وكتاب وايدي سارم ترجمة (Vaidhyasaram Tharjama) يعني ترجمة مفاد الطب البديل، وكتاب أبكارم كتاب (Upakaram Kithab)، يعني الكتاب النافع للطبيب الشعبي المليباري كونغانم ويتل أحمد المعروف بباوا مسليار(Konganam Veetil Ahmad alias Bava Musliyar)، وكتاب شفاء الشفاء لتداوي السموم للطبيب الشعبي إبراهيم كوتي مسليار(Ibrahim Kutty Musliyar)، وكتاب الطب النبوي للطبيب الشعبي محي الدين بن أحمد، وكتاب الطب للأمراض الصغرى لعلاج الأطفال للطبيب الشعبي سي أيتش إبراهيم كوتي (C.H Ibrahim Kutty).

وكذا يوجد في التراث الطبي المليباري بعض المخطوطات الطبية التي لم يُعرف مؤلفوها، مثل الكتاب وايديا يوغا راتنم (Vaidhya yoga Rathnam) يعني الجواهر الطبية، والكتاب علاج الأطفال بالا جيكيتسا (Elajul Athfal Balachikilsa) لتداوي أمراض الأطفال، وكتاب يوناني وايديا سارا يوغا شاسترم (Vaidhyasara yoga shasthram) يعني الكتاب اليوناني عن مفاد الطب البديل ويوغا.

العلماء والأطباء في كيرالا قد تفننوا في مؤلفاتهم الطبية، حيث أتوا بأساليب لم يتطرق إليها الكتاب قبلهم في الهند، فعلى سبيل المثال، كانوا هم أوائل من نظم الأراجيز والمنظومات الطبية العلاجية، وكانوا ينظمونها في أراجيز مابيلا باتو15. لأن الأغنية تعتبر الأسرع تأثيرا وانتشارا بين الناس، لأنها تتغلغل في الوجدان والحس الإنساني بسهولة، فيمكن لهم حفظ هذه المعلومات الطبية في ذاكرتهم بسهولة. منذ سبعة قرون كانت الأغاني مابلا لاتزال يغنّيها المسلمون في المليبار، ويعود تاريخُ أوّل عمل أدبيّ من هذا الشكل الغنائي الفلكلوري إلى ’مُحْيِ الدِينْ مَالَا‘ (مناقب الشيخ محي الدين عبد القادر الجيلاني في أسلوب غنائي مليباري رشيق) التي ألفها القاضي محمد الشهير في عام 1607م. والعلماء والأدباء في ديار كيرالا يغنون هذا النوع الفلكلوري الشعبي ويؤلفون فيه علومهم وآرائهم.

وكما وثق المليباريون آدابهم وعلومهم في الأغاني مابيلا باتو، وثقوا أيضا التراث العلاجي والطبي في هذه الأغنية الشعبية الفلكلورية. ويعتبر التراث الطبي والعلاجي كمؤشر حضاري يشير إلى تقدم المجتمع الإنساني علميا وثقافيا. وتاريخ الإسلام في ديار كيرالا لم يحفظ إلا النهضة التوعوية والإصلاحية التي قام بها العلماء المسلمون مثل السيد ثناء الله مكتي تنغل، والمولوي واكام عبد القادر وغيرهم، إلا أن الحركة العلمية كانت رائجة بحيث انتشرت المؤلفات العلمية والأدبية بهذه اللغة المحلية بين عوام الناس في الديار المليبارية، ولكن لسوء حظ هؤلاء العلماء والأدباء لم يعتن المؤرخون المليباريون بمساهماتهم العلمية والإبداعية.

ومن هذا النوع الغنائي الفلكلوري كتاب وايديا جنانم (Vaidhya Jnaanam) للطبيب الشعبي المليباري فطالط كونجي ماهين كوتي وايديار (Pattalathu Kunji Maahin Vaidhyar)، وقد تم تأليف هذا الكتاب الشيق في سنة 1889م، الموافق للسنة 1310 الهجرية. وقد أتى هذا الطبيب الشاعر بمختلف أنواع البحور الشعرية المليبارية حسب اختلاف الأمراض الجسدية والنفسية، كما قدم لها العلاج والأدوية التي تليق بها. والفصل الأول من هذه المؤلفة الغنائية والطبية يسرد في خلق الإنسان وعجائب المخلوقات. ثم يتطرق الطبيب الشاعر رحمه الله إلى أمراض متنوعة بأساليب شعرية متميزة، ولم يدع هذا العبقري المليباري مرضا في كتابه إلا وقدم له أدويته وكيفية العلاج بها.

ومن هذه الوتيرة، يعني المؤلفة الطبية الشعرية، كتاب وسوري جيكيتسا كيرتنم (Vasoori Chikilsa Keerthanam) يعني الترنيم لتداوي الطاعون للطبيب الشعبي يم كي كونجي فوكار (M.K Kunji Pokar). والشاعر الماهر والطبيب الحاذق يم كي كونجي فوكار قدم هذا العمل الرائع إلى القراء سنة 1935م. ويحتوي هذا الكتاب معلومات طبية شعبية نافعة. وكما تدل عليه عنوان القصيدة الطبية فإن هذه المؤلفة تعالج النازلة الوبائية التي عاشها المسلمون في مليبار ، عندما حلت بمنازلها الطاعون والأوبئة المعدية الخاطفة لأجسامهم وأرواحهم.

المخطوطات الطبية في اللغة المحلية

ويوجد في أسرة كدافنكل (Kodappanakkal) الشهيرة في قرية باناكاد (Panakkad) في مقاطقة ملابرم (Malappuram) بعض المخطوطات الطبية في اللغة المحلية عرب مليالم (Arabimalayalam). لأن هذه الأسرة العريقة شهيرة في مجال الطب الجسمانية والروحانية، لأن أهل كيرالا يلتمسون العلاج والشفاء للأمراض الجسمانية والروحانية من سادات هذه الأسرة الشهيرة، وقد توارث السادات في هذه الأسرة عن آبائهم هذه الكتب الطبية القيمة. وكل هذه المؤلفات تحتوي معلومات طبية نافعة، وتوضح كيفية التطبيق العلاجية بالأدوية النباتية وبالأعشاب. وكذا توجد فيها الإشارات إلى الطرق العلاجية مثل الرقية والطلسمات.

ومؤلفة أخرى ذات قيمة طبية فائقة توجد عند الأستاذ تقي الدين الهيتمي، نجل العلامة الشيخ ننديل محمد مسليار (Nandiyil Muhammad Musliyar) المؤسس الكلية العربية دار السلام بناندي في مقاطعة كاليكوت. وكان المؤسس رحمه الله من أولئك الذين يلتمس أهل كيرالا عندهم العلاج النبوي والطب الشعبي. ويقع هذا الكتاب في 85 صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي على المعلومات الطبية الشعبية والعلاج النبوي والرقية والطلسمات.

الأساليب العلاجية السائدة في ديار المليبار:

- العلاج بالقرآن والرقى الشرعية وبماء زمزم.

- العلاج بالأعشاب.

- العلاج بالغذاء: ويشمل العلاج بالعسل وبالحبة السوداء وبالألياف الغذائية وبالفواكه أو الخضار أو الفيتامينات.

- العلاج بالحجامة

- العلاج بالكي

- المعالجة النفسية، وتشمل جلسات الاسترخاء والتنفيس عن النفس والعلاج المعرفي.

- العلاج الطبيعي بالحرارة والماء والتمارين.

- العلاج بالحمية والصوم

تدليك الجسم أو أوزتشل (Uzhitchil) أي التدليك في آيورفيدا: كل ما عدا هذه يوجد في الطب النبوي في الديار الإسلامية العالمية، إلا أن هذا التدليك يختص بالتراث المليباري الهندي. فالتدليك شكل من أشكال العلاج في آيورفيدا . يعرض المريض للتدليك كي يتجدد الجهاز العصبي والعضلات في الجسم، ولكي تتحفز الدورة الدموية في الجسم الإنساني. والمريض الذي تجمدت عصباته الجسمية يعرض لهذا التدليك البدني لتنشيط وظائف الجلد الفسلجية، وتنبيه الأعصاب الدقيق وتنشيط الدورة الدموية، والتخلص من الخلايا الدهنية ومقاومة الترهل. ينصح المريض للتدليك عند اضطرابات الدورة الدموية، وضعف العضلات العام وضمورها وشللها، وحالات الإجهاد بعد الرياضة، والتهاب المفاصل وتوتر الأعصاب والتهابها، والأرق، والسمنة المفرطة، واضطرابات الهضم، وانكماش الجلد والشيخوخة.

أما الزمن الموقت لأوزتشل، كما في التقويم المحلي، فهو من شهر ميدونام (Midunam) إلى شهر وروشتيكام (Vrishchikam) ، وفي هذه الشهور الستة يكلف المريض بعض التمارين الجسمية إلا أن العناية البالغة تعطى للتدليك البدني في الأشهر الثلاثة الأولى. وفي هذه المدة يُعطى المريض العناية الفائقة مثل الأطعمة ذات البروتينات، وكذلك يحظر االمريض من النوم في النهار باعتقاد أن كثرة النوم في هذه المدة سوف تؤثر في بدنه تأثيرا سلبيا. ويتولى هذا التدليك الماهرون المتخصصون بالأعصاب والعضلات في الجسم الإنساني، وإلا فإن الهفوة اليسيرة تؤدي إلى الإعاقة المزمنة لدى الإنسان.

خلاصة القول

1. وكان للعلماء القدماء في ديار كيرالا إلمام بالغ بالطب الشعبي والطرق العلاجية كما لأسرة السيدين الذين يعالجون الناس بالطب النبوي وكذا الأسماء والرقية.

2. وكان عوام الناس يلجؤون إلى علماءهم في الأمور الصحية والعلاجية كما يلجؤون إليهم في أمورهم الدينية.

3. وكانوا يلتمسون الحل من علماءهم وساداتهم فيما يعنيهم من الأمراض الجسمانية والروحانية.

4. أما العلماء والسادات فكانوا يعتمدون على طب شعبي قد توارثوه عن أسلافهم وأجدادهم، وعلى علوم قد تعلموها من كتب الطب الشعبي واليوناني. وكذا يوجد من العلماء من يعتمدون على العلوم الطبية التي جاءت من الطرق الفارسية مثل الأسماء والطلسمات. وكانوا يظنون أن هذا النوع من العلاج هو إسلامي محض.

ولا ريب أن المسلمين في كيرالا، قد أرشدتهم دراساتهم الدينية وتجاربهم اليومية وظروف حياتهم القاسية إلى تعلم واستنباط بعض العلوم الطبية، لدرء آلام الأمراض عنهم، وقدموا نصائح وإرشادات قيمة في مجال الطب الوقائي، وقد دونوا في العلوم الطبية من القدر ما يساوي مؤلفاتهم في العلوم الأخرى، ولكن لم يحفظ لنا من مساهماتهم ومؤلفاتهم الطبية إلا آثار قليلة. ومعظمها دوّن في اللغة المحلية الملبارية، ومع هذا يوجد بعض المؤلفات باللغة العربية الفصحى. وكل هذا إن دل على شيء فإنما يدل على كفاءة العلماء المسلمين ومهارتهم ونبوغهم في العلوم الطبية، على الرغم من قلة وسائل التشخيص والعلاج البدائية التي كانت سائدة في عصرهم. أما المشكلة الوحيدة التي تواجه هذا الطب الشعبي المليباري، أنه لم يخضع للتجارب العلمية الكافية، التي خضع لها الطب الحديث. فلم يطبق مثلا على الحيوانات قبل استخدامه على الإنسان، وبعض أساليبه لم تدرس في مدارس نظامية، وإنما يتوارثه العلماء والسادات في كيرالا عن آبائهم وأجدادهم.

الهوامش

1. الجر والجرار : جمع جرة، وهو إناء من الفخار أو الخزف.

2. رقم الحديث: 7297، رواه الحاكم في مستدركه، وقال رحمه الله تعالى : "لم أخرج من أول هذا الكتاب إلى هنا لعلي بن زيد بن جدعان القرشي رحمه الله تعالى حرفا واحدا ولم أحفظ في أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم الزنجبيل سواه فخرجته".

3. المسعودي هو أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي (896-956) كان مؤرخا كبيرا وجغرافيا شهيرا يلقب بهيرودوت للعرب.

4. هو جمال الدين علي بن يوسف القفطي صاحب الكتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء.

5. الدكتور عصام الدين عبد الرؤوف الفقي، بلاد الهند في العصر الإسلامي. عالم الكتب، القاهرة، مصر. 1980م. ص 236.

6. المقالة: الطب علم وعمل للدكتور عادل العبد الجادر، صفحة 5، مجلة التقدم العلمي، مجلة علمية ثقافية فصلية تصدر عن مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، العدد 74، نوفمبر 2011م. الكويت.

7. الأشوريون والبابليون أمتان كانتا تسكنان في العراق.

8. الفلفل الأسود (الاسم العلمي: Piper nigrum) هي نبتة متسلقة من مغطاة البذور، تزرع من أجل ثمارها، والتي تجفف عادة وتستخدم في المأكولات والمشروبات، وتعتبر مناطق جنوب الهند المصدر الطبيعي للفلفل الأسود.

9. الفوفل أو الكوثل (الاسم العلمي:Areca) هو جنس نباتي يتبع فصيلة الفوفلية من رتبة الفوفليات.

10. القرنفل: نوع من النباتات من الفصيلة الآسيّة. لها شكل مخروطي، مزهرة ذات زهر رباعي الأجزاء، ولها رائحة عطرية قوية، يبلغ متوسط ارتفاع شجرة القرنفل من 10 إلى 12 مترا ويصل أحيانا إلى 20 مترا. ويوصف القرنفل بأنه طارد للحمى، مطهر، ومعقم للمعدة، يشفي من القروح وآلام الرأس ويحمي من الأوبئة ويساعد على الهضم ويسكن الام الاسنان ويخفف التهابات الحساسية وينبه القلب والمعدة.

11. Rowlinson, H.G, Intercourse between India and the Western World – from the earliest time of the fall of Rome, Cambridge University Press - 1916

12. صفحة 466، الموسوعة الإسلامية، الجزء الرابع.

13. ويكي بيديا، الموسوعة الحرة.

14. أشطانغا هرودايم (Ashtanga Hridhayam)، وهذا الكتاب من المصادر الأصلية في الآيورفيدا، ألفه الطبيب الهندي الماهر واكبداندا (Vagpadanandha).

15. ومابلا باتو، (Mappila Paattu) أو أغاني مابلا، هو النوع الفلكلوري الغنائي الذي تطوّر من الاحتكاك الثقافي والأدبي بين اللغتين العربية والمليبارية، وكثيرا ما تغلب على أغاني مابلا السماتُ العربية والميزاتُ الإسلامية، وهذا النوع الفلكلوري المليباري له هويّتُه الثقافية المتميزة، وهو يرتبط ارتباطا وثقيقا بالممارسات الثقافية والحضارية في حياة المسلمين في المليبار. يكثر في أغاني مابلا استخدام الكلمات الفارسية (Persian) والأردوية (Urdu) والتاميلية (Tamil) والهندية (Hindi) والسانسكريتية(Sanskrit) بصرف النظر عن اللغة العربية والمليبارية، ولكن تستند أغاني مابلا دائما إلى اللغة المليالمية (Malayalam) في جانب النحو والصرف. ومن جانب الموضوع وإن أغاني مابلا تتناول مواضيع ذات صلة بالدين والحب والمدح والهجاء والبطولة. وغالبا تُغنّى أغاني مابلا في مناسبات الولادة والزواج والوفاة، وتتشكل مابلا باتو جزءا لا يتجزأ في التراث الأدبي الإسلامي في المليبار، لأنها هي الفلكلور الأكثر شعبية في الفنون المليبارية.

المصادر العربية

- تحفة المجاهدين في بعض أخبار البرتغاليين، المعبري، الشيخ زين الدين بن محمد المليباري المخدومي، مكتبة الهدى، كاليكوت، كيرالا، 1996م.

- رحلة ابن بطوطة، ابن بطوطة، دار التراث، بيروت، 1968م.

- شرح المعلقات السبع، الزوزني، أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين، دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير، القاهرة، 1993م.

- الشعر العربي في كيرالا ــ مبدأه وتطوره، الفاروقي، ويران محي الدين الدكتور، عرب نت، كاليكوت، كيرالا، 2003م.

- المسلمون في الهند، الندوي، أبو الحسن علي الحسني، المجمع الإسلامي العلمي، ندوة العلماء، لكناؤ، الهند، 1986م.

- المسلمون في كيرالا، القاسمي، عبد الغفور عبد الله، كاليكوت، كيرالا، 2000م.

- الطب البديل، بابللي، ضحى بنت محمود، مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، المملكة العربية السعودية، 2007م.

- ، بلاد الهند في العصر الإسلامي. الفقي، الدكتور عصام الدين عبد الرؤوف. عالم الكتب، القاهرة، مصر. 1980م.

المصادر الإنجليزية

- Caste and Social Stratification among Muslims in India, Edited by Imtiaz Ahmed, Manohar Books, New Delhi, 1978.

- Contribution of Arabic Language and its Influences on the Lyrics of the Performing Mappila Arts in Kerala: Shakeeb K.T, Unpublished thesis, Centre for Arabic and African Studies, School of Languages and Cultural Studies, Jawaharlal Nehru University, New Delhi, 2007.

- Intercourse between India and the Western World – from the earliest time of the fall of Rome, Rowlinson, H.G, Cambridge University Press – 1916.

- Kerala History, T.K Gangadharan, Calicut University Central Cooperative Stores Ltd, Calicut University, Kerala, 1998.

المصادر باللغة المليالمية

- Muslimkalum Kerala Samskaravum, P.K Muhammad Kunhi, Kerala Sahithya Academy, 2008.

- Mahathaya Mappila Sahithya Parambaryam, K.K Muhammad Abdul Kareem & C.N Moulavi, Paraspara Sahayi Press, Calicut, Kerala, 1978.

- Mappilappaattinte Thayverukal, V.M Kutty, Kerala Sahithya Academy, 2007.

- Kozhikode Muslimkalude Charithram, P.P Muhammad Koya Parappil, Focus Publication, Calicut, 1994.

- Kerala Muslim Charithram, Sayed Muhammad, Al Hudha Book Stall, Calicut, Kerala, 1996.

- Arabi Malayala Sahithya Charithram, O Abu Sahib, 1970.

المقالات

- الهند حضارة الملاحة والطب والأعشاب، مقالة في اللغة العربية، الكاتب: الدكتور قمر شعبان الندوي، مجلة التقدم العلمي. العدد 86، يوليو 2014.

- المسلمون والعلاج العلمي، مقالة في اللغة المليبارية، الكاتب، محمد صلاح الدين سي،تي. مجلة بودنم (Bodhanam). http://www.bodhanam.net/inner.php?iid=16&cid=183

- الكتب الطبية في لغة عرب مليالم في كيرالا ، مقالة في اللغة المليبارية للدكتور يوسف محمد الندوي، مجلة بودنم (Bodhanam). http://www.bodhanam.net/inner.php?iid=16&cid=186

الصور

- الصور من الكاتب

أعداد المجلة