فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
49

السِّيجَةُ: حَفْرِيَّاتٌ فِي التَّاريخِ واللُّغَةِ

العدد 49 - عادات وتقاليد
السِّيجَةُ: حَفْرِيَّاتٌ فِي التَّاريخِ واللُّغَةِ

ليست الألعابُ على اختلاف أنواعها مصدرًا للتسلية والمتعة فحسب، ولكنَّها مرآةٌ تنعكس عليها حضارةُ الأمَّة بكافَّةِ أبْعادها، وتتجلَّى على صفحتها توجُّهاتها الفكريَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، فقد نشأت الرياضةُ قديمًا في سياق صراع الإنسان مع الطبيعة بكلِّ مفرداتها البشريَّة وغير البشريَّة، التي أجبرت الإنسانَ الأول على الكرِّ والفرِّ، والدفاع عن نفسه، ومحاولة إثبات ذاته في مواجهة الآخرين، ثمَّ تطورتْ لتصبح جزءًا من فلسفة الأمَّة، ورؤيتها للكون والحياة؛ فالرياضات العنيفة التي راجت في زمن الحضارة الرومانيَّة، والتي كان الأباطرة يتسلَّوْن فيها برؤية العبيد يقتل بعضهم بعضًا في مشاهد دمويَّة مُرَوِّعة، ولعبة الملاكمة والمصارعة الحرَّة في أمريكا، ومصارعة الثيران في إسبانيا وغيرها من الألعاب الدمويَّة تعكس روح العدوان والوحشيَّة التي قامت عليها الحضارة الرومانيَّة القديمة ووريثتها الحضارة الغربيَّة الحديثة. وذيوع ألعاب القمار في نوادي أوروبا وأمريكا وبعض الدول الآسيويَّة، والشغف بشراء أوراق اليانصيب، والمراهنات على المباريات، وغيرها من صور القمار الإلكترونيِّ الذي تقدر الأموال الدائرة فيه بمليارات الدولارات يعكس حالة الجشع الماديِّ والرغبة في الثَّراء السريع لدى شعوب تلك الدول. بينما يشير انتشار الألعاب العقليَّة كالشِّطْرنجِ والنَّرْدِ في الحضارة الفارسيَّة القديمة إلى الحكمة المنظَّمة والتدبير العقلي الهادئ. ويدلُّ شيوع الرياضات الدفاعيَّة كالكاراتيه في اليابان مثلاً على الطبيعة المسالمة لتلك الشعوب، والتي قصاراها أن تدافع عن نفسها بطريقة احترافيَّة ليس فيها إراقةُ دماء. وتتناغم الرياضات الجماعيَّة الهادئة الشائعة في الأرياف مع جوِّ الترابط الأسريّ، والسلام الاجتماعيِّ، ونمطٍ من التفكير المنظَّم وإن كان بدائيًّا في كثيرٍ من صُوَره.

وتحظى لعبة "السيجة" أو "الشيزى" بذيوعٍ كبيرٍ في شتى أقطار الوطن العربيِّ من المحيط إلى الخليج منذ قرون عديدة، وبخاصة لدى كبار السن في القُرَى والبوادي، حيث يجتمعون عليها في مجلس يسوده الحبُّ والوئام اللذان لا يخفى أثرهما في تقوية الروابط الأسرية، وتفريغ شحنات الغضب والانفعالات المتراكمة من أعباء الحياة وضغوط المادة. وإن أنس لا أنسى مجلس جَدِّي - رحمه الله - حيث كان اللاعبون يتحلَّقون أمام بيته لممارستها، أو للتمتع بمشاهدة اللاعبين في متابعة دقيقة، مع إنشاد الظافر مواويل النصر من سيرة "أبو زيد الهلالي"، أو سيرة "عنترة بن شدَّاد" بصوت رخيم، وربما استشهد بعض الحَفَظَةِ أثناء اللعب بآيات من القرآن الكريم الدَّالَّة على القتال والمطاردة والحشر، أو أسقط بعض المتابعين لنشرات الأخبار الأحداث السياسيَّة الجارية على مجريات اللعب، فتراه يسمى الحجارة التي يلعب بها بأنواع الطائرات المقاتلة، أو بأسماء بعض القادة شرقًا وغربًا، وسط جوِّ يسوده الترابط والسلام الاجتماعي الحقيقيّ على الرغم ما يطفو على السطح من صياح المنتصر، وحسرات المهزوم مع تصميمه على تكرار المحاولة حتى ولو امتدَّ بهم المجلس إلى طلوع الفجر. ثمَّ انْقَضَتْ تلك الأيام، وكادت اللعبة تنقرضُ بعدما جاء التلفاز واجتذب تلك الجماهير لمشاهدة مباريات الكرة، أو الدراما التلفزيونية، أو البرامج الحوارية، ناهيك عن الألعاب الإلكترونية التي اجتذبت الشباب من أحضان تلك الطبيعة الحالمة إلى عالمها الـمُفْعَم بالقتل والدماء، ثم جاءت الهواتف الذكيَّة التي بات الأطفال الصغار يحملونها، فقضت على البقية الباقية من أواصر الترابط الاجتماعيّ الذي بات حديثًا من أحاديث الغابرين.

وقد ورد ذكر "السِّيجَة" عَرَضًا في أحد أبحاثي، فرأيتُ من الأمثل أنْ أُعرِّف بها بعدما صارت شيئًا من التراث المنقرض في أذهان شباب اليوم؛ فوجدتني مفتوحًا على عوالم فسيحةٍ يختلط فيها الدينيُّ بالحضاريِّ، واللغويُّ بالثقافيِّ في معزوفةٍ فريدةٍ تعكس التواصل الحضاريَّ، والتفكير الهادئ لدى العرب منذ أزمنةٍ بعيدةٍ، وهو ما تجلِّيه صفحاتُ هذا المقال.

اولا: في غَياباتِ التَّاريخِ:
من المؤكَّد أنَّ هذه اللعبة موغلة في القدم؛ لارتباطها بالإنسان البسيط في باديته أو حقله، وسعيه إلى التسلية الممتعة التي تنمي فكره، وتعزز مكانته الاجتماعية. ولكنَّ تاريخ نشأتها لم يسجل للأسف على وجه التحديد، ولا يوجد دليلٌ يرقى إلى درجة اليقين حول بداياتها، ولكنْ ثمَّة افتراضات طرحها عدد من الباحثين منها:
فقد زعم الكاتب الأمريكي كارينغتون بولتون أنَّ سيدنا موسى عليه السلام كان يلعبها مع بنتي العبد الصالح "شعيب" في أرض مدين1.

وهو زعمٌ لا دليل عليه، ولم يذكر له مصدرًا، ولعله مما سمعه من الأساطير التي يتناقلها بدو سيناء الذين عاش معهم خلال رحلته البحثية في سيناء، وقد تعلم منهم اللعبة، ومارسها، ووصف النمط الذي كان يمارسه وصفًا دقيقًا.

وذكرها المستشرق البريطاني إدوارد وليم لين وشرح طريقة لعبها، وأشار إلى أنَّ عددًا منها محفورًا على قمة الهرم الأكبر في مصر، ولكن من المحتمل أن يكون من حفروا عيونها هم المرشدون العرب الذين يرافقون السياح الأجانب2.
وقد وقف الباحثان (Vesna Bikic)، و(Jasna Vukovic) وهما أثريَّان في جامعة بلجراد على لوحة للمَنْقَلة (أحد أسماء السيجة) مكونة من 12 عينًا 2×6 في قلعة بلجراد عام 2006م، وبيَّنا أنَّها من أقدم الألعاب اللوحية في العالم، وأنَّها منتشرة من الفلبِّين وإندونيسيا وماليزيا في أقصى الشرق، مرورًا بالهند والمنطقة العربية، ووصولًا إلى أدغال إفريقيا في كينيا وتنزانيا والكونغو وأنجولا وغيرها، وأشارا إلى الأصل العربيِّ للكلمة، وقد رجَّحا أن تكون اللعبة قد ظهرت في مصر الفرعونيَّة في العصر الحجريِّ الحديث، حيث وجدت بعض آثارها في معابد الأقصر3.

ونقل عن الباحث السعودي مسعد العطويّ المعنيّ بتاريخ منطقة "تبوك" أنَّ آثارها لا تزال باقية إلى اليوم، وهي محفورة على صخورٍ كبيرةٍ في منطقة تبوك على طريق القوافل الذي مرَّ به الرسول ﷺ ما بين مدينة تبوك ومركز البدع4.
وذكر الباحث الجزائري علي عليوة أنَّه توجد آثار موجودة حتى الآن تؤكد وجود لعبة "الخربقة" (وهي التسمية الجزائرية للعبة) لدى البيزنطيين موجودة في الأحجار والآثار التي تركوها في ولاية "تِبْسَة" بالجزائر، والتي بني بها السور البيزنطيُّ في وسط المدينة5.

وفي تقديري أنَّ هذه العيون المحفورة على الصخور لا تكفي دليلًا على أنَّ الفراعنة أو البيزنطيين أو أهل مدين كانوا يلعبونها، فمن المحتمل جدًّا أن يكون اللاعبون قد حفروها في أزمنة لاحقة، وأنَّ المزاج قد استبد ببعض المصريين المحدثين مثلًا للعب مباراة تاريخيَّة على قمة الهرم، فحفروا تلك العيون التي لا تحتاج إلى جهد كبير في صناعتها.

وننتقل من هذا التاريخ الموغل في القدم، والمبني على افتراضات لا ترقى إلى درجة اليقين، إلى التاريخ الموثَّق بشواهد مقبولة، حيث نجدها تحت مسمَّى (القِرْق) تتردَّد في المصادر العربيَّة منذ العصر الجاهليّ، فما بعده، نكتفي من ذلك بهذه الشواهد:
فقد ذكرها الشاعر المخضرم أميَّة بن أبي الصَّلْتِ (5هـ/ 626م) في قوله:
وَأَعْلَاطُ الكَوَاكِبِ مُرْسَلاتٌ
                          كَخَيْلِ القِرْقِ غَايَتُهَا النِّصَابُ 6

قال الزمخشريُّ (538هـ) مُعلِّقًا على البيت: "قَالُوا: هَذِه اللعبة تلعب بِالْحِجَارَةِ فخيلها هِيَ الحِجَارَة، وَفِي القِرْقِ البَّدْرِيُّ والبَّغْتِي. وَقيل: هِيَ الأَرْبَعَة عشر، خطٌّ مربَّع فِي وَسطه خطٌّ مربع، فِي وَسطه خطّ مربع، ثمَّ يخط من كل زَاوِيَة من الخطِّ الأول إِلَى الخِّط الثَّالِث، وَبَين كل زاويتين خطٌّ، فَتَصِير أَرْبَعَة وَعشْرين"7.

وقال الزبيديُّ (1205هـ): "شَبَّه النّجومَ بهذه الحَصَيات التي تُصَفُّ، وغايتُه النِّصابُ، أي الـمَغْرب الذي تغْرُب فيه"8.

ووجود هذه الإشارة في الشعر الجاهليِّ دليلٌ واضح على مدى عراقة تلك اللعبة، وإضافة تلك الحصيات إلى الخيل من باب إضافة المشبه إلى المشبه به، كأنَّ تنقل هذه الحصيات يشبه عدْوَ الخيل، وهو قريب من تسمية حجارة اللعب في معظم البلدان المصريَّة بالكِلاب؛ وفي بعض الدول بالجِراء، (جمع جَرْو، وهو الصغير من ولد الكلاب أو السباع)، وفي بعضها بالنسور، والتشبيه )؛ "أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا رَآهُمْ يَلْعَبون بالقِرْقِ فَلَا يَنْهاهم". قال ابن الأثير (606هـ): "القِرْق بِكَسْرِ القَافِ: لُعْبةٌ يَلْعَب بِهَا أهلُ الْحِجَازِ، وَهُوَ خَطٌّ مُرَبَّع، فِي وسَطِه خَطٌّ مُرَبَّع، فِي وسَطِه خَطٌّ مُرَبَّع، ثُمَّ يُخَطُّ فِي كُلِّ زاوِية مِنَ الخَطّ الْأَوَّلِ إِلَى زَوَايَا الْخَطِّ الثَّالِثِ، وَبَيْنَ كُلِّ زاويَتين خَطّ، فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ خَطًّا"9.

كما ورد ذكرها في العصر الأمويِّ، فقد روى أبو الفرج الأصفهانيُّ (356هـ) في "الأغاني" محاورةً دارت بين أربعة من كبار شعراء العصر الأمويِّ، هم: عمر بن أبي ربيعة (93هـ)، وكثيِّر عزة (105هـ)، والأحوص (105هـ)، ونُصَيْب بن رباح (108هـ)، حيث انتقد كثيرٌ بيتًا للأحْوَص، وفضَّل عليه بيتًا لنُصَيْب، فلمَّا نظر أنَّ الكبرياء قد دخلت قلب نُصَيْب انتقد عليه بيتًا، فقال نُصَيبٌ: "اسْتَوَتِ القِرَقُ". قال: وهي لعبة مثل المنقلة10.

وقد وقعت الكلمة محرَّفة إلى (القِوَق) في جميع طبعات الأغاني التي وقفتُ عليها، والصواب (القِرَق) أي تعادلنا في اللعب، فكلٌّ واحدٌ قد أُخِذَ عليه مأخذٌ، فَجَمَعَ القِرْق على (قِرَق)، وفي التاج: "وَيُقَال: اسْتَوى القِرْقُ فَقومُوا بِنَا، أَي: استَوَيْنا فِي اللَّعِب فَلم يقْمُر واحدٌ منا صاحبَه"11.

ثمَّ ورد ذكرها على لسان الإمام الشافعيِّ (204هـ) بتسميتين هما: (القِرْق)، و(الحزَّة) حيث تحدَّثَ في كتابه الأمِّ عن شهادة أهل اللعب قائلًا: "وَيُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالـحَزَّةِ، وَالقِرْقِ، وَكُلُّ مَا لَعِبَ النَّاسُ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّعِبَ لَيْسَ مِنْ صَنْعَةِ أَهْلِ الدِّينِ وَلَا الـمُرُوءَةِ"12.

نكتفي بهذه الأمثلة الأربعة التي تؤكد أنَّ اللعبة كانت معروفةً قُبَيْل ظهور الإسلام، وقد عرفها الصحابة والتابعون، وتكلم عنها الفقهاء المجتهدون منذ وقتٍ مبكَّرٍ جدًّا، ثمَّ استفاض الحديث عنها في المصادر اللغويَّة والفقهيَّة كما سيبدو لاحقًا.

ثانيا: في بحار اللغة:
تنوعتْ أسماء لعبة "السيجة" تنوعًا كبيرًا باختلاف الزمان والمكان ومستوى اللعب وطريقته، واختلط فيها الفصيح بالمعرَّبِ والعاميّ؛ مما يعكس المرونة الشديدة التي تصبغ اللعبة باللون المحليِّ للبيئة التي عاشت فيها، وتلك هي الأسماء التي وقفتُ عليها مرتَّبةً على حروف المعجم:

1 ) الأربعة عشر:
وقد ورد الاسم في قول الإمام أبي إسحاق الشيرازي (476هـ): "وَيَحْرُمُ اللَّعِبُ بِالأرْبَعَةَ عَشَرَ"13.

قال ابن بطَّال الركبي اليمني (633هـ) في شرحه: "وَالأَرْبَعَةَ عَشَرَ هِي: قِطْعَةٌ مِنْ خَشبٍ يُحْفَرُ فيها ثَلاثَةُ أَسْطُرٍ، فَيُجْعَلُ فِي تِلْكَ الـحُفَرِ حَصًى صِغارٌ يَلْعْبونَ بهَا، ذَكَرهُ فِي البَيانِ. وَيَحْرُمُ اللَّعِبُ بِالأرْبَعَةَ عَشَرَ: هِي الَلُّعْبَةُ الَّتِي يُسَمِّيها العَامَّةُ: شَارْدُهْ، وَهُوَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ بِالفارِسَّيةِ؛ لِأنَّ شَارْ أَرْبَعَةٌ، وَدُهْ: عَشرَةٌ بِلُغَتِهِمْ، وَهُوَ: حُفَيْراتٌ تُجْعَلُ فِي لَوْحٍ سَطرًا فِي أَحَدِ جَانِبَيْهِ، وَسَطرًا فِي الجانِبِ الآخَرِ، وَتُجْعَلُ في الـحُفَرِ حَصًى صِغارٌ يَلْعَبونَ بِها"14.
وأعتقد أنَّه يعني السيجة التي بها 15 عينًا: 3×5؛ حيث إنَّ عدد الأحجار فيها أربعة عشر، مع كل لاعب سبعة، كما يطلق المصريَّون على ما كان عدد عيونها 5×5 الخمساويَّة، وما كان عدد عيونها 7×7 السبعاويَّة، وما كان عدد عيونها 9×9 التسعاويَّة.

ونصُّ ابن بطَّال على التسمية الفارسيَّة يشير إلى أصلها فيما نعتقد، ولعلَّها صورة شعبيَّة منبثقة عن الشطرنج، لكنَّ العامة حرَّفوا اسمها قليلًا، والصواب "چـهار ده"، و"چـهار" هو رقم أربعة بالفارسيَّة، بالجيم التي تنطق مشوبة بالشين، وهو صوت غير موجود بالعربية، وحذفوا الهاء أسوة بالنطق.

2 ) الحَزَّة:
قال الإمام الشافعيُّ (204هـ) في الأمِّ في حديثه عن شهادة أهل اللعب: "وَيُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالـحَزَّةِ، وَالقِرْقِ، وَكُلُّ مَا لَعِبَ النَّاسُ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّعِبَ لَيْسَ مِنْ صَنْعَةِ أَهْلِ الدِّينِ وَلَا الـمُرُوءَةِ. وَمَنْ لَعِبَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا عَلَى الاسْتِحْلَالِ لَهُ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ. وَالـحَزَّة تَكُونُ قِطْعَةَ خَشَبٍ فِيهَا حُفَرٌ يَلْعَبُونَ بِهَا إنْ غَفَلَ بِهِ عَنْ الصَّلَوَاتِ فَأَكْثَرَ حَتَّى تَفُوتَهُ، ثُمَّ يَعُودَ لَهُ حَتَّى تَفُوتَهُ رَدَدْنَا شَهَادَتَهُ عَلَى الاسْتِخْفَافِ بِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ"15.
وقد ضبطت الكلمة في بعض تحقيقات كتاب "الأمّ" بضم الحاء؛ لكنَّ الأضبط فتح الحاء كما نبَّه على ذلك الخطيب الشربيني (977هـ) قائلًا: "وَأَمَّا الـحَزَّةُ وَهِيَ بِفَتْحِ الحَاءِ الـمُهْمَلَةِ وَبِالزَّايِ: قِطْعَةُ خَشَبٍ يُحْفَرُ فِيهَا حُفَرٌ فِي ثَلَاثَةِ أَسْطُرٍ، يُجْعَلُ فِيهَا حَصًى صِغَارٌ، وَيُلْعَبُ بِهَا وَتُسَمَّى الـمَنْقَلَةُ، وَقَدْ تُسَمَّى الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ"16.

ولعلَّهم سمَّوها بذلك؛ لأنَّ الحفر تُحَزُّ في قطعة الخشب أو الصخرة التي يلعبون عليها.

3 ) الخَرْبَقَة:
وهي التسمية الشائعة للسيجة في الجزائر وبلاد المغرب العربي، وقد ذكرها الروائيُّ الجزائريّ محمد العربي الجليديّ، وشرحها مطبقًا على "السبعاويَّة" المعروفة في مصر، ومال إلى أنَّها انتقلت من مصر إلى بلاد المغرب العربيّ إبان حروب بني هلال وبني سليم في المغرب في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي تقريبًا قائلًا: "إنَّ بني هلال وبني سليم وغيرهم من أعراب التغريبة لم يأتوا فقط بقطعان الإبل، وبالخيول الأصيلة والأشعار، وبقصص سيف بن ذي يزن، وعنترة بن شداد العبسي، والزير سالم. حين قدموا إلى بلاد المغرب، وإنما جاءوا بكلِّ تراثهم الأصيل، وتقاليدهم العريقة، ومنها عدد من الألعاب التقليدية مثل الخربقة واللقفة"17.

ويرى بعض الباحثين أنَّ التسمية جاءت من قولهم "خَرْبَقَ" المكان إذا أتلفه وأفسده، والسيجة التي تحفَرُ في التراب تترك مكانًا مخربقًا آثار الدماء فيه واضحة من جراء نقل الكلاب من بيت إلى بيت18. وهو تأويلٌ بعيدٌ في تقديري.

4 ) السِّيجَة:
وهي التسمية الشائعة في مصر، ومنها انتقلت إلى بلدان عديدة، لكنها تسمية غامضة التاريخ والنشأة والاشتقاق، فقد كانت غير معروفة حتى زمن ابن حجر الهيتميِّ (974هـ/ 1557م)، وهو مصريٌّ عاش في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي؛ إذ لم يذكر هذه التسمية على كثرة الأسماء التي ذكرها، ومن الغريب أنَّ المعاجم العربية الحديثة مثل: "المعجم الوسيط"، و"المعجم العربي الأساسيّ"، و"معجم اللغة العربية المعاصرة"، و"الرائد"، و"المنجد"... وغيرها لم تذكرها، على حين ذكرت "السيجار، والسيجارة، والسيجان"؟

وقد وقفْتُ عليها فحسب في المصادر الإنجليزيَّة التي كتبها الرحالة والمستكشفون الأجانب الذين جاسوا خلال الديار العربيَّة لأسباب عديدة خلال القرن التاسع عشر، بلفظ (Seega)، وقد نقل الكاتب الأمريكي كارينغتون بولتون عن مصدر لم يسمّه أنَّ أحد المصادر المكتوبة بالإنجليزيَّة أتتْ على ذكر هذه اللعبة سنة 1694م19.

ولستُ أدري ما أصل هذه الكلمة: أهي كلمة قبطيَّة مما بقي على ألسنة المصريين؟ ولكن كيف تحيا الكلمة خمسة عشر قرنًا دون أن يسجلها مصدرٌ عربيٌّ؟ أم هي كلمة عربيَّة مشتقة من السياج، وهو السور من حائط أو سلك أو جريد الذي يقام حول المكان لحياطته، وكأنَّهم شبهوا تلك الخطوط التي ترسم بالسياج، ولكنَّ البنية الاشتقاقيَّة للكلمة ليست عربيَّة، ثم كيف تغيب عن عيون المؤرخين والفقهاء والمعجميين كلَّ هذه القرون؟ ولعلي أمْيَلُ إلى أنَّها محرَّفَة عن "شيزى" الشائعة في الجزيرة العربيَّة، والتي ستأتي، فبينهما تقاربٌ صوتيٌّ واضحٌ بسبب اتحاد مخرج الزاي والسين، ومخرج الجيم والشين، واتحاد الوزن؛ لأنَّ العامة يحذفون في النطق التاء الأخيرة، ويستعيضون عنها بمطل فتحة الجيم، فتصير ألفًا؛ فربَّما حرفها بعض الأجانب صوتيًّا إذ وردت في كتبهم أولًّا، ثم شاعت بعد ذلك.

5 ) شطرنج المغاربة:
حيث جاء في تعريف ابن حجر الهيتمي (974هـ) للقِرْق قوله: "وَالقِرْقُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ خَطِّ القَاضِي الرُّويَانِيِّ فَتْحَهُمَا، وَتُسَمَّى شِطْرَنْجَ الـمَغَارِبَةِ: أَنْ يُخَطَّ عَلَى الْأَرْضِ خَطٌّ مُرَبَّعٌ، وَيُجْعَلَ فِي وَسَطِهِ خَطَّانِ كَالصَّلِيبِ، وَيُجْعَلَ عَلَى رَأْسِ الـخُطُوطِ حَصًى صِغَارٌ يُلْعَبُ بِهَا"20.

وواضح أنَّها تسمية محليَّة خاصة بأهل المغرب، كما سماها بعضهم شطرنج الفلاحين، أو القرويين، أو المسنين، أو العواجيز، أو البسطاء وغيرها، والصلة بينها وبين الشطرنج واضحة شكلًا ومضمونًا وغاية، وإن اختلفت طرائق اللعب.

6 ) الشِّيزَى:
وهي التسمية الشائعة في الجزيرة العربيَّة، والشِّيزَى في الأصل شجر صلب الخشب تصنع منه أدوات البيت، قال ابن منظور (711هـ) في لسان العرب: "والشِّيزَى: شَجَرٌ تُعْمل منه القِصَاع والجِفَان، وقيل: هو شجر الجَوْز، وقيل: إِنما هي قِصاع من خَشَب الجَوْز فَتَسْوَدّ من الدَّسَم. الجوهريُّ: الشِّيزُ، والشِّيزَى: خشبٌ أَسودٌ تتَّخَذُ منه القِصَاعُ؛ قال لَبِيد:

وَصَبًا غَدَاةَ مُقَامَةٍ وَزَّعْتُهَا
                          بِـجِفَانِ شِيزَى، فَوْقَهُنَّ سَنَامُ"21

وواضح أنَّ الذين سموها بذلك هم الذين كانوا يصنعون لها لوحًا خشبيًّا مصنوعًا من ذلك الخشب المتميز بالصلابة، مما يشعر بالاستقرار، فهي ليست مجرد حفر آنيَّة في الرمل أو التراب، إنَّما لها لوحتها المستقرَّة كالشطرنج، وقد أدركْتُ تلك اللوحة الصلبة في بيت جدِّي؛ إذ كان يهتمُّ بها كلَّ الاهتمام، ويسارعُ إلى إصلاحها كلمَّا تخلخلتْ بفعل القرع العنيف أحيانًا بالزلط على صفحتها، ويدفع للنجَّار ما شاء ثمنًا لواحدة جديدة.

7 ) القِرْق:
وهي أقدم تسمية لها كما سبق في التأريخ للعبة، حيث ورد في الشعر الجاهليِّ، وبقيت حيَّة على مدار تاريخ العربيَّة، وقد شرحها الزَّبِيديُّ (1205هـ) في تاج العروس بقوله: "والقِرْقُ لعب السُّدَّرِ كسُكَّر. وقد قَرِق كفرِح: إذا لعِبَ به، وهو لصِبْيانِ الأعْراب بالحِجاز، كانوا يخُطّون أربَعًا وعِشْرين خطًّا، وهو خطٌّ مربَّعٌ، في وسَطِه خطٌّ مربَّعٌ، في وسطه خطٌّ مربَّعٌ، ثمَّ يُخَطُّ من كُلِّ زاوية من الخَطِّ الأول الى الخطِّ الثالث، وبين كل زاويَتَين خطٌّ، فيصير أربعةً وعِشرين خطًّا وصورتُه هذا كما تراها، فيصُفُّون فيه حُصَيَّات"22.

وقد رسمت في الهامش تلك الصورة:


ولعلهم سموها بالقِرْقِ؛ لأنَّه لا بدَّ من تسوية سطح الأرض قبل ابتداء الحفر، والقِرْقُ في الأصل هو السطح الأملس المستوي، وهي لغة في القرق ككَتِف، قال المرار الفقعسي يصف أرضًا مستوية23:

وَأَحَلَّ أَقْوَامٌ بُيُوتَ بَنِيهِمُ
                     قِرْقًا، مَدَافِعُهَا بُعَادُ الأَرْؤُسِ

8 ) الكلَّابَة:
وهي تسميةٌ شائعةٌ في صعيد مصر وفي السودان؛ نسبة إلى "الكلاب" وهي الحجارة التي يلعب بها، والتي تسمَّى في كثيرٍ من البلاد بالكلاب، وفي بعضها بالجراء، والجرو هو الكلب الصغير، وفي التسمية إشارة إلى ما في اللعبة من منافسة ومشاكسة تشبه مهارشة الكلاب.

9 ) الـمَنْقَلَة:
وهي التسمية المصريَّة للحُزَّة، قال ابن حجر الهيتميُّ (974هـ) بعد شرح اسمي (القرق)، و(الأربعة عشر): "وَهِيَ الـمُسَمَّاةُ فِي مِصْرَ الـمِنْقَلَةُ، وَفَسَّرَهَا "سُلَيْمٌ" فِي تَقْرِيبِهِ بِأَنَّهَا خَشَبَةٌ يُـحْفَرُ فِيهَا ثَـمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ حُفْرَةً، أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ جَانِبٍ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ الـجَانِبِ الآخَر،ِ وَيُلْعَبُ بِهَا، وَلَعَلَّهَا نَوْعَانِ، فَلَا تَخَالُفَ"24.

ولعلَّهم سموها بذلك؛ لأنَّ كلَّ لاعبٍ ينقل أحجاره من حفرة إلى أخرى بطريقة منظمة، فالنقل هو عمادها مهما اختلفت صورها وأشكالها. وقد ضبطت الكلمة بصور شتَّى لكلٍّ منها وجه، حيث وردت في بعض المصادر (الـمِنْقلة) كأنها اسم آلة، ووردت (الـمُنَقَّلَة) كأنها اسم مفعول، ووردت (الـمَنْقَلَة) كأنها اسم مكان، فهي أرض النقل وموضعه، وأنا أميل إلى الأخير، فقد ذكره صاحب التاج وعلله قائلًا: "وَأَرْضٌ مَنْقَلَةٌ: ذاتُ نَقَلٍ، وَبِهِ سُمِّيَتْ الـمَنْقَلَةُ الَّتِي يُلْعَبُ بِهِا"25.

10 ) الهفّ:
وهي تسميةٌ شائعةٌ في بلاد المغرب العربيِّ، وفي التاج: "وهَفَّهُ: حَرَّكَه ودَفَعَه"26، فلعلها سميت بذلك نسبة إلى تحريك الكلاب بسرعة من عين إلى عين، والمادة تدور حول معاني الخفة والحركة السريعة.
ثالثًا: دَلالاتٌ مُعْتَبَرَةٌ:

1 ) الحكم الشرعيُّ:
لعلَّ القارئ الكريم لاحظ أنَّ أكثر النقول السابقة في مسألة التسمية من كتب الفقه لا من كتب اللغة؛ مما يوحي باهتمام بالغ لدى الفقهاء بهذه اللعبة، حيث تحدثوا عنها في باب الملاهي لمعرفة أهي من اللهو المباح أم من اللهو المحرم؟ وفي باب الشهادات لمعرفة هل تقبل شهادة لاعبها أم تُرَدُّ؟ وفي باب الصور لمعرفة أقطع الشطرنج من قبيل التماثيل المحرَّمة أم لا؟

وواضح أنَّ أمْثَلَ ما تُقاس عليه لعبة السيجة هو الشطرنج؛ فهما متقاربان جدًّا في طريقة اللعب، ولا تختلف اللوحة الخشبية للسِّيجَة كثيرًا عن لوحة الشطرنج، ولذا سميت تارة بشطرنج الفلاحين أو القرويين، أو المغاربة أو المسنين.
ومن عبقريَّة الفقه الإسلامي أنَّ فقهاءنا الأماجد ميَّزوا بين الألعاب التي تعتمدُ على مجرد الحظِّ مثل النرد أو النردشير أو الطاولة، والألعاب التي تعتمد على مجهودٍ ذهنيٍّ كالشطرنج، أما الضرب الأول القائم على الحظِّ المطلق فالجمهور على تحريمه؛ لأنَّه يشبه الاستقسام بالأزلام، وأما الضرب الثاني القائم على الرياضة العقليَّة فأغلب الفقهاء على التحليل بشروط؛ لأنَّه ضرب من الرياضة والتدبير، فأشبه المسابقة بالسهام، وقد نقل ابن حجر الهيتميّ (974هـ) اختلاف الفقهاء في حكمها، وانتهى إلى وضع الضابط قائلًا: "وَالحَقُّ أَنَّ الخِلَافَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ جَدْوَى؛ لِأَنَّ الضَّابِطَ إذَا عُرِفَ وَتَقَرَّرَ أُدِيرَ الأَمْرُ عَلَيْهِ، فَمَتَى كَانَ الـمُعْتَمَدُ عَلَى الفِكْرِ وَالحِسَابِ فَلَا وَجْهَ إلَّا الحِلَّ كَالشِّطْرَنْجِ، وَمَتَى كَانَ الـمُعْتَمَدُ عَلَى الحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ فَلَا وَجْهَ إلَّا الحُرْمَةُ كَالنَّرْدِ"27.

وبعيدًا عن الخوض في لُجَج الاختلافات الفقهيَّة في تلك المسائل التي دارت حولها أبحاث فقهيَّة معمَّقة، وكُسِرَتْ عليها مؤلفاتٌ كثيرةٌ في القديم والحديث، وأخذتْ حظًّا كبيرًا من تقارع الأدلة وتمحيص الروايات؛ فالذي تطمئنُّ إليه النفسُ ما استقرَّ عليه كثيرٌ من الفقهاء من أنَّه لم يثبت في تحريم الشطرنج (والسِّيجَة تقاس عليه) حديث صحيحٌ ولا حسنٌ، ولذا اختلف فيه الصحابة أنفسهم، فضلاً عن الأئمَّة الأربعة، وبالتالي اتجه جلُّ الفقهاء المعاصرين إلى الإباحة؛ إذ لم يرد دليل قاطع بالتحريم، ولكَّنهم وضعوا لحِلِّ كلِّ رياضةٍ بدنيَّةٍ أو عقليَّةٍ ثلاثة شروط هي28:

- ألَّا تؤخَّر بسببها الصلاةُ عن وقتها، فإنَّ من أكبر مضارِّ اللهو سرقة الأوقات، وتأخير الصلوات، وكثيرًا ما رأينا مشجعي كرة القدم يهرعون إلى الملعب يوم الجمعة قبل الصلاة؛ لمشاهدة مباراة تقام بعد العصر أو بعد المغرب، ولا ينهضون لأداء شيءٍ منها، حرصًا على مقاعدهم.

- ألَّا يُقَامر عليه، فإذا دخله قمار، ولو على شيء يسير، كأنَّ يدفع المغلوب ثمن المشروبات، أو أجر المكان والأدوات أو نحو ذلك دخل في دائرة الحرام؛ لأنَّه صار من الميسر.

- ألَّا تخالطه معصيةٌ كالفحش في الكلام، وإطلاق الأيمان الكاذبة، وإزعاج الجيران ونحوها، فكثيرًا ما نرى اللعب ذريعةً لمثل هذه الموبقات، وأصول الشريعة تقضي بسدِّ الذرائع.

أما إذا برئ اللعب من هذه الأمور الثلاثة فهو من قبيل الترويح المشروع عن النفس، وفيه ما فيه من تدريب الفكر، ورياضة الذهن، وتخليص النفس من أكدار العمل، وانفعالات الغضب.

2 ) الخصائص الفنيَّة:
تتمتع لعبة "السِّيجَة" بجملةٍ من الخصائص أعطتْها شعبيَّةً كبيرةً؛ وهو ما يفسِّر تنوع أسمائها، وظهور اللون المحلي في بعض مصطلحاتها؛ وأهمُّ تلك الخصائص:
- السهولة: حيث يُعِدُّ اللاعبان مجموعةً من الحُفَرِ الصغيرةِ في الرمل أو التراب. وفي الأماكن التي تحظى فيها اللعبة بشيء من الاستقرار يقومون بالحفر على الصخور، أو على لوح خشبيٍّ أشبه ما يكون بلوح الشطرنج، والأحجار التي يلعب بها غالبًا ما تكون من الزلط الأبيض والأسود، وأحيانًا من قطع الطوب الأحمر والأبيض، وفي الحقول يستخدم نوى التمر أو المشمش أو الخوخ ونحوها، وعلى البحر يستخدمون القواقع بأشكالها المختلفة، وكلها أدوات ميسورة، لا تكاد تكلِّف شيئًا.
- المرونة: حيث يختلف عدد العيون باختلاف الزمان والمكان ومستوى اللاعبين، فكلما ازداد عددها اشتدت صعوبة المواجهة، وطال زمن الدور، فهناك ما هو مكوَّنٌ من 9 عيون: 3×3، وهناك فهناك ما هو مكوَّنٌ من 15 عينًا: 5×3، وهناك فهناك ما هو مكوَّنٌ من 25 عينًا: 5×5 ويسمونها الخمساويَّة، والمحترفون يمارسون على سيجة مكوَّنة من 49 عينًا: 7×7 ويسمونها السبعاويَّة، والأشدُّ احترافًا يجعلونها 81 عينًا: 9×9 ويسمونها التسعاويَّة، وهي قليلة.
- تكافؤ الفرص: حيث يضع اللاعبان الأحجار بطريقة منظَّمة بناءً على خطةٍ مرسومةٍ للعب في ذهن كلِّ واحد منهما، فيبدأ الأول بوضع حجرين، ثم يضع غريمه حجرين، وهكذا حتى تمتلئ جميع العيون ما عدا العين الفرديَّة التي يتعين أن تكون الحركة الأولى إليها؛ لأنها الوحيدة الخالية. ويتمتَّع اللاعب الأول بميزة البدء بالضربة الأولى، التي توقع عادة خسائر فادحة في "كلاب" الخصم، أو تحاصره حصارًا محكمًا، بأنْ تغلق طريق الحركة أمامه، فيسأله الخصم أن يفتح له طريقًا، فيختار هو المكان المناسب له لإيقاع المزيد من الخسائر به، مع استمرار إغلاق طريق الحركة، وهو ما يتسبب عادة في استسلامه وإعلان هزيمته من ضربة واحدة أحيانًا. ولـمَّا كان الثاني يضع "كلابه" وفقًا لقراءته لخطة الأول، وعادة ما تلحق به خسائر فادحةً في ضربة البداية فإنَّ قانون اللعبة الموسَّعة يعوِّضُه عن ذلك، حيث يقضي بأنه إذا استطاع الثاني أن يحصن مجموعة من "كلابه" من مهاجمة الخصم مع وجود حفرة يتحرك فيها؛ فعلى الأول أن يخرج كلبين مقابل واحدٍ من تلك الكلاب المحصنة؛ حتى لا يصاب اللعب بالشلل؛ وعادةً ما يعول عليه اللاعب الثاني على خطة تحصين الكلاب؛ ليستفيد بهذه المبادلة.
- الجمع بين التضييق والتوسُّع؛ حيث تختلف السيجة عن الشطرنج تضييقًا في مجال الحركة؛ لأنَّ اللاعب يقوم بتحريك الكلاب إلى العين الخالية المجاورة في أيٍّ من الجهات الأربع، ولكن لا يجوز القفز على أحجار الخصم، ولا التحريك بطريقة انحرافيَّة من جهة الزاوية (Diagonally). كما تختلف عنه توسُّعًا في أنَّه لا يوجد عددٌ محدَّدٌ لمرات النقل، حيث يؤكل كلب المنافس إذا وقع بين كلبين لصاحب النقلة، فيخرج من على اللوحة مباشرة، ومن حق اللاعب أن يواصل أكل كلاب الخصم في لعبة واحدة ما دام ملتزمًا بقواعد النقل، أي الانتقال المباشر إلى جهة من الجهات الأربع دون قفز أو انحراف.

3 ) الشُّهْرةُ العالميَّة:
على الرغم من شعبية لعبة السيجة وبساطتها فقد حققت كثيرًا من الشهرة العالمية رصدناها فيما يلي:
أن تسمية "السيجة" لم ترد إلا في المصادر الأجنبيَّة للرحالة الغربيين الذين جاسوا خلال ديار العرب في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ب-أنَّ علماء الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801م) رصدوا اللعبة، ولاحظوا اهتمام المصريين بالألعاب العقليَّة مثل الشطرنج والمنقلة (السيجة)، يقول شابرول (Chabrol De Volvic 1773-1843): "تتفق ألعاب الشرقيين مع حدَّة طباعهم، ونستطيع أنْ نتعرف فيها على ذوق شعب مولع بالتفكير، يعجبه أن يتأمل حتى وهو يمارس ضروب اللهو التي يهواها"29.
ج-أنَّ الغربيين الذين رصدوها ومارسوها دعوا إلى نشرها في أوربا وأمريكا30.
من المحتمل أن تكون شركة (SEGA)، لألعاب الفيديو التي أنشئت عام 1940م في أمريكا، ثم سجلت في اليابان عام 1952م، تحت مسمى ألعاب خدمات اليابان (Service Games of Japan)، قد اختارت لنفسها هذه التسمية نظرًا إلى لعبة السيجة العربية الأصيلة.

أن تلك اللعبة التي يمارسها البسطاء في أحضان الطبيعة الحالمة في براءة وعفوية أصبحت محلًّا لدراسات علمية جادَّة، ولم يعد مستغربًا أن تقرأ في تحليليها عبارات غليظة مثل تلك القراءات الـ(سوسيوأنثروبولوجية) (Socioanthropological)، والــــــقـــــراءات الـ(سيكوسوسيولوجية) (Cycososological).
وأخيرًا، فمن المؤسف أنَّ هذه اللعبة مهدَّدةٌ بالانقراض، على الرغم مما تعكسه من رُقيٍّ حضاريٍّ، ومرونةٍ متكافئةٍ، وما تقدُّمه من تسليةٍ هادفةٍ، وما تصوِّرُه من طابعٍ إنسانيٍّ صبغ الحياة العربيَّة بصبغة فريدةٍ بعيدًا عن دمويَّة الرومان، وماديَّة الغرب، وهي في الوقت نفسه لا تتعارض في الأعم الأغلب مع مبادئ الإسلام، فكبار السنِّ يمارسونها ما بين صلاتَي العصر والمغرب دون أنْ تلهيهم عن الصلاة، أو توقعهم في مقامرةٍ، أو تجعلهم يتلبَّسون بشيء من المعاصي. ومما يساعد على انقراضها أنَّ أصحابها لم يطوِّرها كما طُوِّر "الشطرنج" القريب منها؛ حيث ألِّفتْ حول طرائق لعبه عشرات الكتب، وظهرت تطبيقاتٌ عديدةٌ على الهواتف الذكيَّة لممارسته.

الهوامش

1. Bolton, H. Carrington. (1890). Seega, an Egyptian Game. Journal of American Folklore. Vol. 3. No. 9. (Apr. - Jun., 1890). American Folklore Society. P. 134.
2. Lane, Edward William. (1908). The manners and Customs of the Modern Egyptians. London, J.M. Dent & Co.; New York, E.P. Dutton & Co. P. 357.
3. Vesna Bikic & Jasna Vukovic. (2010). Board Games Reconsidered: Mancala in the Balkans. EAN journal, Vol. 5 No. 1. P183-209.
4. نقلت كثيرٌ من المواقع عنه هذه المعلومة، وعزاها بعضهم إلى كتابيه: "تبوك قديمًا وحديثًا"، و"تبوك المعاصرة والآثار حولها". وقد راجعت الكتابين فلم أجد هذه المعلومة، فتواصلت مع المؤلف، فأكَّد لي أنَّه شاهد هذه الآثار -وهو من أعيان تبوك، وأهل مكة أدرى بشعابها –وأنَّه دوَّنها في بعض كتبه، ووعد بتصوير موضعها حال الوقوف عليها، ولكنَّه لما يرسلها بعد.
5. عليوة، علي. (2018م). قراءة سوسيوأنثروبولوجية للألعاب الشعبيَّة الترويحية (لعبة الخربقة أنموذجًا). على الرابط:
(آخر زيارة 30/3/2019م) http://www.univ-soukahras.dz/en/lab//pub/1625
6. ابن أبي الصلت، أمية. (1974م). ديوان أمية بن أبي السلط. جمع وتحقيق ودراسة: عبد الحفيظ السطلي. دمشق: المطبعة التعاونية. ص341.
7. الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر. (1399هـ/ 1979م). الفائق في غريب الحديث والأثر. تحقيق: علي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم. بيروت: دار الفكر. 3/183.
8. الزبيدي، السيد محمد مرتضى الحسيني (1410هـ/ 1990م). تاج العروس من جواهر القاموس. ج26 تحقيق: عبد الكريم العزباوي. الكويت: وزارة الإعلام، سلسلة التراث العربي. 26/338-339.
9. ابن الأثير، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الشيباني. (1399هـ/ 1979م). النهاية في غريب الحديث والأثر. تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمد الطناحي. بيروت: المكتبة العلمية. 4/47.
10. الأصبهاني، أبو الفرج علي بن الحسين القرشي. (1429هـ/ 2008م). الأغاني. تحقيق: إحسان عباس، وإبراهيم السعافين، وبكر عباس. ط3. بيروت: دار صادر. 12 / 77 - 78. وقد وقعت فيه الكلمة محرفة (القِوَق)، وكذا في طبعة الساسي التي صححها الشيخ أحمد الشنقيطي: (11/18)، وطبعة دار الكتب المصرية: (12 / 116)، وطبعة دار التراث العربي: (12 / 347) المعتمدة على طبعة دار الكتب المصريّة؟!!
11. الزبيدي. (1410هـ/ 1990م). تاج العروس من جواهر القاموس. (مصدر سابق). 26 /339.
12. الشافعي، أبو عبد الله محمد بن إدريس. (1422هـ/ 2001م). الأم. تحقيق: رفعت فوزي عبد المطلب. مصر، المنصورة: دار الوفاء. 7/515.
13. الشيرازي، أبو إسحاق إبراهيم بن علي. (1412هـ/ 1992م). المهذب في فقه الإمام الشافعي. تحقيق: محمد الزحيلي. دمشق: دار القلم. 5 / 603.
14. ابن بطَّال، أبو عبد الله محمد بن أحمد الركبي. (1411هـ/ 1991م). النظم المُسْتَعْذب في تفسير غريب ألفاظ المهذَّب. تحقيق: مصطفى عبد الحفيظ سالم. مكة المكرمة: المكتبة التجارية. 2/367.
15. الشافعي. (1422هـ/ 2001م). الأم. (مصدر سابق). 7 / 515.
16. الخطيب الشربيني، شهاب الدين محمد بن أحمد الشافعي. (1415هـ/ 1995م). مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج. تحقيق: علي محمد معوض، وعادل أحمد عبد الموجود. بيروت: دار الكتب العلمية. 6/347. وانظر: الهيتمي، أبو العباس أحمد بن محمد الأنصاري. (1407هـ/ 1987م). الزواجر عن اقتراف الكبائر. بيروت: دار الفكر. 2/334. تيمور، أحمد. (1367هـ/ 1948م). لعب العرب. (مصدر سابق). ص20. وقد أشار إلى أنَّ اللفظ ليس في اللسان ولا في القاموس ولا شرحه. ونقل عن الشيخ مصطفى المدني في كتابه "المعرب والدخيل" قوله: ولم أجدها فيما وقفت عليه من كتب اللغة.
17.الجليدي، محمد العربي. (2017م). حكاية حب جبليَّة. حروف منثورة للنشر الإلكتروني. ص38. على الرابط:
(آخر زيارة 29/3/2019م) http://herufmansoura2011.wix.com/ebook
18. عليوة، علي. (2018م). قراءة سوسيوأنثروبولوجية للألعاب الشعبيَّة الترويحية (لعبة الخربقة أنموذجًا). على الرابط:
(آخر زيارة 30/3/2019م) http://www.univ-soukahras.dz/en/lab//pub/1625
19. Bolton, H. Carrington. (1890). Seega, an Egyptian Game. Journal of American Folklore. Vol. 3. No. 9. (Apr. - Jun., 1890). American Folklore Society. P. 134.
20. الهيتمي. (1407هـ/ 1987م). الزواجر عن اقتراف الكبائر. (مصدر سابق). 2 / 335.
21. ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم الإفريقي. (1414هـ/ 1993م). لسان العرب. بيروت: دار صادر. (مادة: شيز). 5 / 363؛ وبيت لبيد في ديوانه. لبيد بن ربيعة. (1962م). شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامريّ. تحقيق: إحسان عباس. الكويت: وزارة الإرشاد والأنباء (سلسلة التراث العربي: 8). ص290.
22. الزبيدي. (1410هـ/ 1990م). تاج العروس من جواهر القاموس. (مصدر سابق). 26 / 338.
23. المرار الفقعسي. (1973م). المرار بن سعيد الفقعسي: حياته وما تبقى من شعره. تحقيق: نوري حمودي القيسي. العراق: مجلة المورد: مجلد 2، عدد 2، ص168.
24. الهيتمي. (1407هـ/ 1987م). الزواجر عن اقتراف الكبائر. (مصدر سابق). 2/ 334 - 335. وسُلَيْم المذكور هو: أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي فقيه شافعي توفي غرقًا سنة 447هـ، له كتاب في الفقه الشافعي يسمى التقريب (يبدو أنَّه مفقود) وهو غير التقريب الذي ينقل عنه الغزالي وإمام الحرمين فإنَّه للقفال الشاشي. «انظر: ابن خلكان، أبو العباس أحمد بن محمد. (1971م). وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. تح: إحسان عباس. بيروت: دار صادر. 2 / 397».
25. الزبيدي. (1410هـ/ 1990م). تاج العروس من جواهر القاموس. (مصدر سابق). 31 / 31.
26. الزبيدي. (1410هـ/ 1990م). تاج العروس من جواهر القاموس. (مصدر سابق). 24 / 499.
27. الهيتمي. (1407هـ/ 1987م). الزواجر عن اقتراف الكبائر. (مصدر سابق). 2 / 335.
ينظر: سابق، سيد. (1397هـ/ 1977م). فقه السنة. ط3. بيروت: دار الكتاب العربي. 3/504-514؛ القرضاوي، يوسف. (1418هـ/ 1997م). الحلال والحرام في الإسلام. ط22. القاهرة: مكتبة وهبة. ص259-261؛ 28. الشثري، سعد بن ناصر بن عبد العزيز. (1997م). المسابقات وأحكامها في الشريعة الإسلامية: دراسة فقهية أصولية. الرياض: دار العاصمة. ص224 - 228.
29. شابرول، دي فولفيك. (1992م). وصف مصر (1) المصريون المحدثون. ترجمة: زهير الشايب. ط3. القاهرة: صندوق التنمية الثقافية. 1/155.
30. Bolton, H. Carrington. (1890). Seega, an Egyptian Game. Journal of American Folklore. Vol. 3. No. 9. (Apr. - Jun., 1890). American Folklore Society. P. 134

 

أعداد المجلة