فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
49

توثيق الطب العربي الشعبي: الضرورة، الواقع و المنهج

العدد 49 - عادات وتقاليد
توثيق الطب العربي الشعبي:  الضرورة، الواقع و المنهج
كاتب من البحرين

يُعد الطب العربي بجانب الطبّيّن الصيني والهندي "الآيورڤدا" Ayurveda أحد أبرز المناهج الطبية في العالم وذلك لأنها الوريثة الشرعية لكل التجارب والمدارس الطبية لأمم العالم القديم من حوالي الهند شرقاً وحتى البلاد المطلة على المحيط الأطلسي غرباً، العربية جنوباً والاوروبية شمالاً؛ وهي بذلك تحمل تاريخاً يزيد عمر وثائقه المكتوبة مثل البرديات المصرية او الألواح البابلية على العشرة آلاف سنة؛ ومع أنه يمتاز بأكبر قدرٍ من التراث المدون بالحرف العربي دائماً واللغة العربية غالباً، إلا انه مغفولُ مجهول بين أهله، احتوشه العُجُم في الشرق والغرب ولا يزالون، بعد سلبه أهم ما فيه، هويته العربية.

مع زيادة المعرفة البشرية في علم الطب بحسب المنهج الغربي الحديث، وتطور الفكر النقدي حول أساليبه ومدعياته وهو ما عُرف بإسم "الطب القائم على البراهين" او الـ Evidence based medicine؛ عاد المجتمع العلمي لينتبه للتراث الطبي لدى الأمم قبل ان تنشأ مدرسته القائمة على الإختزالية Reductionism؛ والتي كانت تحمل تجارب سريرية لا يمكن إنكارها تاريخياً، كما لا يمكن تجاهل وجودها الاجتماعي شعبياً في كل العالم، والتي كانت تثبت جدواها في الأبحاث السريرية المحكمة، حتى وإن كان الباحثون يجهلون آلية أثرها البيولوجي بحسب منهجهم الاختزالي وأدواته.

من هذا المنطلق، نشأ في أعرق الجامعات الغربية تخصص حديث يسمى بالطب التكاملي او الـ Integrative medicine، يدرس طلابه بعد الطب الغربي الحديث، الأسس الفكرية والفلسفية للمناهج الطبية الأخرى، ويطلعون على آخر الأبحاث الطبية المختلفة عن مدرسة الطب الحديث، ليقدموا المناسب منه ضمن باقة الخدمات الصحية في كل مستوياته الأساسية والعلاجية والتأهيلية؛ ومع الأسف، في ظل غياب تام لمسمى الطب العربي، وشبه تام لمحتواه المعرفي الذي قدمه آخرون بعد استملاكه وسلب مسماه.

يفرض هذا الواقع دراسة الطب العربي من مختلف النواحي: السريرية، الاجتماعية والانثروبولوجية بل وحتى الاقتصادية والسياسية؛ وهو أدنى الأمل بالعمل بما أوصت به منظمة الصحة العالمية في كتابها "استيراتيجية الطب الشعبي" الذي نشرت الأول منه منذ أكثر من عقد (2002-2005) والثاني للأعوام (2014-2023)1،2؛ كما هي ضرورة قومية للحفاظ على الهوية العربية في اهم مجالاته وهو التراث الثقافي الغير مادي، إضافة الى انه تطبيق بأولوية قصوى للعديد من الإستيراتيجيات الوطنية للبحث العلمي الهادفة الى "التحول لإقتصاد قائم على المعرفة" ومن أبرز مصاديقه العلم متعدد التخصصات المسمى بالطب الإنتقالي Translational medicine والذي يمكن للطب العربي أن يكون ابرز أعمدته، وفي مجالات اكثر المشاكل الصحية شيوعاً مثل الأمراض غير المعدية3؛ ولهذا كان هذا الجهد إنارةً لما غفل عنه، ورسماً للمنهج المناسب في توثيق الجزء الشعبي منه.

اولاً: ضرورة توثيق الطب العربي الشعبي:
من الواجب قبل تناول موضوع توثيق الطب العربي الشعبي وأهميته، مناقشة الفرق بين الطب الشعبي والطب العربي، خصوصاً وان الأخير تعرض لانحسار عميق ادى لإنهيار مؤسسته العلمية إبان وبعد النكسة العربية نتيجة الغزو المغولي (616-656 هـ/ 1219-1258 م.)؛ وبحسب التعريف:

فالطب العربي كما يراه د. عبد الكريم شحادة هو "كل ما كتب باللغة العربية، في موضوع الطب والعلوم المتعلقة به، تحت ظل الحضارة العربية الإسلامية، بغض النظر عن الدين او الأصل الذي ينتمي اليه من كتب هذا العلم"4؛ اما الوثيقة الوطنية للأعشاب الطبية والطب التقليدي للجمهورية الاسلامية الإيرانية فيعرفه بـ " هو كافة العلوم والتجارب النظرية والعملية التي تشمل جميع التدابير الصِّحّية، المناهج، المعلومات والمعتقدات العاملة من أجل السلامة، الوقاية، التشخيص وعلاج الأمراض، وتنتقل في منطقة جغرافية معَّينة بشكل شفهي أو مكتوب من جيل إلى جيل آخر؛ وتتميز بقدرتها على مواكبة العصر مع حفظ أطرها الأساسية"5.

أما الطب الشعبي بتعريف منظمة الصحة العالمية فكان: "مصطلح شمولي يُستعمل للدلالة على أمرين: أنظمة الطب الشعبي: كالطب الشعبي الصيني، والطب الشعبي الهندوسي، والطب العربي اليوناني؛ وكذلك يستعمل ليشير إلى أشكال مختلفة من الطب الشعبي المَحلي"1، واصبح لاحقاً: "حصيلة مجمل المعارف والمهارات والممارسات القائمة على النظريات والمعتقدات والخبرات المتأصلة في مختلف الثقافات، سواء كانت قابلة للشرح والتفسير ام لا؛ وتستعمل في صيانة الصحة، وفي الوقاية من الأعلال البدنية والنفسية، وتشخيصها، وتخفيفها ومعالجتها"2.

والواقع هو أن كل هذه التعاريف حاولت تقييد العلم بالرؤية الاجتماعية المحدودة زماناً ومكاناً؛ والعلم لا يُحد بهما؛ فالطب العربي بقي حياً في الجامعات الهندية ليومنا هذا بإسم الطب اليوناني ولم يُحد بأفول الحضارة العربية الإسلامية، وكتبت مختلف الشعوب بلغاتها التركية والفارسية والأردية فيه وهو ما يثلب التعريف الأول قيوده؛ وانتقل في الجغرافيا القديمة بل رفد الطب الحديث في موطنه بينابيعه المعرفية وهو ثلب للتعريف الثاني؛ وكان الأجدى ان يُعرف برؤية ابيستمولوجية epistemology وهي "نظرية المعرفة" ليمكن وصف تطوره التاريخي بين الشعوب منذ البرديات المصرية، بغض النظر عن توقف انتقاله السليم إبان عصر الإنحطاط؛ وبحفظ إمكانية حذف ما قد تسرب اليه من شوائب لا تمت لنظريته الأصيلة بصلة؛ وليبقى قادراً على احتواء ما نتمكن اليوم من إضافته له لما تيسر لنا من تقنيات إنتاج وحفظ ونقل للمعرفة.

وعليه، فنحن امام مصادر متباينة من حيث الإلتزام بنظرية الطب العربي المعرفية؛ وصلنا جزء منه عن طريق التراث المكتوب القائم على أسس منطقية وخريطة معرفية معقدة المفاهيم؛ وجزء آخر عن طريق الممارسة الشعبية التي:

1. قد تكون متأثرة عن ممارسة الأطباء حينما كانت هذه المدرسة الطبية مزدهرة؛
2. او هي تجارب محلية لا تنافي أسس الطب العربي القائم على التجربة أساساً، كما هو الطب المبني على البراهين اليوم؛
3. وقد تكون ممارسات العوام التي تبرأ منها أعلام الطب العربي وحذروا منها، كما يجب ان نُحَّذِر منها اليوم بعد التعرف عليها بمناهج توثيق الممارسات الشعبية في مجال الطب.

مصاديق ما سبق متعددة في كل العلوم بل هي طبيعته الحيوية؛ ومنه في الطب العربي استنكار ابو بكر محمد بن زكريا الرازي لما ورد في التراث الطبي المكتوب لبعض آراء جالينوس في كتابه "الشكوك على جالينوس"؛ او استنكار الممارسات الطبية لدى العامة، مثل استنكار الزهرواي لممارساتهم في قوله: "و احذر كل الحذر من التغرغر أولا بما يحلّل، فإن ذلك تلف العليل بسرعة كما شاهدنا من فعل الجهال. وكثيرا ما تعرض هذه العلة فيبادرون إلى الماء السخن ويحملونها على العنق ويأمرونهم باستعمال الغراغر بالرّب والماعدس فيقتلون العليل بسرعة وقد شاهدت ذلك مرات" او بشكل عام دون ذكر جزئيات الممارسة مثل "و اعلموا يا بني أنه قد يدّعي هذا الباب الجهال من الأطباء والعوامّ ومن لم يتصفّح قطّ للقدماء فيه كتاباً ولا قرأ منه حرفا، ولهذه العلة صار هذا الفن من العلم في بلدنا معدوما، وإني لم ألق فيه قط محسنا البتّة"6.

بناءً على ما سبق فنحن في مواجهة ضرورة دراسة التراث الطبي العربي المكتوب بمنهج تصحيح النصوص؛ إضافة لضرورة توثيق الممارس شعبياً في مجال الطب في كل بلادنا، لمقارنته لاحقاً بالتراث الطبي المكتوب، او الاستفادة منه طبياً بالتوصية او التحذير او فتح ابواب جديدة للبحث والتعلم، للضرورات التالية:

1) توثيق الثقافة الشعبية الغير مادية:
مع أن الطب العربي تبلور للمعرفة العامة المشتركة بين شعوب العالم القديم، الا أننا نواجه في هذا الشأن "طبائع الإستملاك"، حيث نشهد "مآرب دفينة ومتجذرة، وهذه المآرب هي انجاز الاستملاك الجماعي لما لا يمكن استملاكه، بل مراكمة هذه الاستملاكات إلى حدها الأقصى" والتي تظهر بشكل "صورة حق الجماعة في الانتفاع بما استملكته واستحوذت عليه، وحقها كذلك في منع الآخرين المختلفين في الانتفاع او الاقتراب من هذه الاستملاكات"7؛ ومن امثلته في الطب العربي هو أن جعلوا العرب مجرد نقلة ومترجمين لا فضل لهم؛ فهذا المستشرق براون يقول: "لم يكن بين كل المسلمين الذين حققوا شيئاً في العلم ساميٌ واحد"؛ والواقع ان الساميين قوم هاجر من شبه الجزيرة العربية ليشكلوا كل الشعوب المحدودة شرقاً ببلاد فارس وغرباً بالبحر الأبيض وشمالاً بآسيا الصغرى، وبهذا تشمل بابل وآشور وما بين النهرين والشام بلغاتهم المرتبطة بالعربية مثل السريانية والعبرية؛ والتي ذابت فيما بعد ضمن شعب عربي واحد8؛ فيا ترى، من كتب من المسلمين في العلم ان لم يكن منهم احد في العراق والشام؟!

جدول 1: أمثلة لأدوية اكتشفت من مشاهدة الإستخدام الشعبي للنباتات

الإستخدامات، ومصدر اكتشافه النبات الدواء
من أشهر مضادات الإلتهاب و مسكنات الألم؛ إستخدم نبات الصفصاف لذات الغرض منذ آلاف السنين. Salix alba L. Salicylic acid (Aspirin®)
أشهر مخدر و اكثرها استخداما حتى اليوم، استخدم نبات الخشخاش لذات الغرض من آلاف السنين. Papaver somniferum L. Morphine
من أشهر المسكنات، مستخدمة في الكثير من الأدوية؛ إستخدم نبات الخشخاش لذات الغرض منذ آلاف السنين. Papaver somniferum L. Codeine
من أشهر الأدوية القلبية؛ استخدمت انواع نبات القمعية لذات الغرض من القدم. Digitalis sp. Digoxin (Lanoxin®)
من أشهر الأدوية المضادة للملاريا، تعرف عليه العالم من مشاهدة استخدام سكان امريكا الجنوبية له لمعالجة الحميات. Cinchona calisaya Wedd. Quinine
اكتشفته السيدة تو يويو لعلاج الملاريا المقاومة من مصادر الطب الصيني، و فازت بجائزة نوبل عام 2015 م. لذلك؛ ذكر ذات الأثر المذكور في الطب الصيني حوله في مصادر الطب العربي (انواع نبات الشيح). Artemisia annua L. Artemisinin
من اشهر ادوية مرض النقرس؛ استخرج من نبات السورنجان المذكور في الطب العربي لذات المرض. Colchicum sp. Colchicine


وتلا اولئك الهنود الذين يَدرسون المصادر العربية ويسمونه اليوناني، وقد وصل بهم الأمر أن جعلوا "معايير تعليم الطب العربي" المؤلف بتوصية من منظمة الصحة العالمية باسم "الطب اليوناني" وهم فيه يخطون al-maakool wa al-mashroob للتعبير عن المأكول والمشروب! وعلى غلافه مخطوط مكتوب بالحرف العربي!9 اما في مشروعهم المكتبة الرقمية للمعارف الشعبية TKDL يعترفون بأن الطب "اليوناني" يعود للشعوب العربية سيما المصري والعراقي منذ ما يزيد على الستة آلاف عام؛ ومع ذلك، سجلوا حقوق الملكية الفكرية لـ 175.150 وصفة مستخرجة من كتب العلماء العرب مثل ابن البيطار وابن النفيس كتراث هندي!.

أما الفُرس فصاروا يقولون بأن الطب الفارسي إنتقل من بلادهم لليونان إبان فتوحات الإسكندر المقدوني؛ وعليه قالوا بأن الطب اليوناني الذي استقى منه العرب لاحقاً ليس إلا طباً فارسي الأصل10؛ اما طب الشعوب السامية العربية في العراق والشام وحتى مصر، فإستملكوها بقولهم أنها فارسية كون تلك الشعوب خضعت لإمبراطوريات فارسية وتأثرت بتلك الثقافة فترة! وكأن الإسكندر لم يأت على غير بلادهم، ولم ينقل غير تراثهم؛ وأنهم معدن كل فضل ومعرفة عند شعوب العالم القديم.

لهذه الضروريات تحث منظمة الصحة العالمية على "الحاجة الى حماية حقوق الملكية الفكرية للشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية وتراثها في مجال الرعاية الصحية. مع ضمان رعاية البحوث والتنمية والابتكار" وكذلك على توثيقها بسبب أنه "لا يزال يخشى ان تُفقد او تضيع المعارف التقليدية في مجال صيانة الصحة وتقديم الرعاية الصحية في بعض البلدان"2.

2) الحاجة العلمية والعملية
لكشف أدوية جديدة:
على الرغم من تقدم الطب الغربي بالمنهج الاختزالي ظاهراً، وبريق ممارساته عند الشعوب المنكوبة غالباً، إلا أنه كان ولا يزال يعاني الكثير من النقص والحاجة وليس له إلا الإقرار والإعتراف بهما، هذا النقص بين ظاهر في معظم الامراض مثل عجزه امام مواجهة الجراثيم التي تصبح مقاومة للمضادات الحيوية الموجودة يوماً بعد آخر دون وجود أسلحة جديدة لمحاربته، كما نشهد عزوفاً اجتماعياً بارزاً عن العلاجات المتوفرة بسبب الأعراض الجانبية المختلفة؛ لهذا يُعد البحث العلمي لإستكشاف الأدوية او الـ Drug discovery من المجالات الهامة في البحث العلمي لدى الدول المتقدمة ولكنه يستنزف زمناً طويلاً ويتطلب ميزانية هائلة، حيث تقدر تكلفة كشف دواء جديد واحد –بحسب اساليب الطب الغربي الاختزالي- حوالي 800 مليون دولار، وتستغرق زمناً يتراوح بين العشرة الى السبعة عشر عاماً11،12؛ ولهذا ليس من الرائج ترخيص الكثير من الأدوية للتسويق، فمثلاً كان اكبر عدد من الأدوية التي سُمح لها بالتسويق في العقد الأخير، عام 2018م؛ وبلغت 64 دواءً فقط13.

امام هذه الأزمة، يبحث العلم عما يقلل التكاليف المالية والزمنية اللازمة، ومن اجدى ما وجدوه هو البحث في ينابيع مناهج الطب الشعبية اولاً للحصول على ما تمت تجربته لقرون وثبت بالتجربة جدواه منذ عصور، وان أنكروا فضل الشعوب عليهم بداية وتآمروا عليه نهاية؛ الا أن تاريخ ممارساتهم واضح فالكثير من علاجات الطب الغربي لم تكن غير إعادة تصدير لما اقتبسوه اولاً فـ "الغربين انفسهم في اول عهود الاستعمار، كانوا يلجأون عند المرض الى الأطباء المحليين من الأهالي، وذلك حسب أوامر إدارتهم، بزعم أن هؤلاء الأطباء أدرى بالأمراض المحلية"14؛ ولا يزال اهتمام الباحثين ومراكز الأبحاث لديهم بما عند شعوبنا غير خاف وان حاولوا "إخفائه"؛ يبين الجدول1 أمثلة لبعض الأدوية الرائجة الإستخدام اليوم، والتي استخلصت من التجارب الشعبية.

3) سوق المنتجات العشبية:
تجارة الدواء من أهم مصادر الدخل لدى الدول المتطورة منذ عقود؛ وتبرز الدراسات الحديثة نمواً مطرداً لتجارة الأعشاب الطبية، الأدوية العشبية والمنتجات الطبيعية، وهي فرصة تمكنت فيه الدول النامية من دخول سوق المنافسة؛ مع انه من الصعب تقدير الحجم الحقيقي لسوق هذه المنتجات، الا ان التقديرات تشير الى ان قيمة إنتاج الدواء بحسب الطب الصيني بلغ 83.1 بليون دولار عام 2012، اما في كوريا فقد بلغت 4.4 بليون دولار عام 2004؛ اما في المملكة العربية السعودية فقط بينت احدى الدراسات أن متوسط ما يدفعه كل فرد في العام لقاء خدمات الطب الشعبي يقدر بـ 560 دولار2.

هذه السوق الضخمة تعني ان لم يستخدم العرب منتجات بلادهم ويسوقوه، فسيكونون مستهلكين مجدداً لمنتجات الآخرين؛ وان لم يكن لهم دور في إبراز ما في تراثهم من كنوز فسيقوم الآخرون باستغلال ذلك والانتفاع به.
من أهم ميزات منتجات الطب العربي التي يثبت استخدامها شعبياً انها ستكون معفاة من الدراسات الأساسية والسريرية الحديثة والمكلفة، وستُعد آمنة حتى يثبت خلاف ذلك، وذلك بحسب المعايير التي وضعتها منظمة الصحة العالمية في استيراتيجيتها؛ والخطوة الاولى لاستغلال هذه الفرصة هي البدء بدراسات "توثيق" الممارسات الشعبية.

4) الإستقلال والأمن الدوائي:
تنفق كل بلادنا الشرقية –بل البشرية- ملايين الدولارات على شراء الأدوية من بلاد اخرى او بالأحرى الشركات العابرة للقارات والتي ليست الا الوجه الكالح للإمبريالية التي امتازت بالاستهتار بحياة الناس عبر إجراء التجارب البشرية في بلادنا المنكوبة، واحتكار العلم بل وحتى تجنب تصنيع الأدوية الأرخص والأجدى ان كانت لا تُدر المال؛ وحينما يصبح الطب "سلعة"، ويُحترف "صناعة المرض" وتصديره بأشكال مختلفة؛ على كل راسمي السياسات الصحية ومنظمات المجتمع المدني وكل الباحثين العمل من أجل "الأمن الدوائي" لأوطانهم وشعوبهم؛ وحيث أن "العلم الطبي أصبح مقيداً بالقوانين التي تفرضها الإمبريالية وإسلوب الإنتاج الرأسمالي مثل قانون الملكية الفكرية وحيازة البحث وحقوق الطبع وقانون براءة الإختراع وقانون سرية التجارة وقانون العلامة التجارية" ليكون "العلم حسب ما تطور في العصر الرأسمالي لم يعد ملكية عامة بل ملكية خاصة، وأصبحت مصدراً لتفاقم الفوارق الطبقية" للعقلاء ان يتسائلوا كيف "تضع الشركات مصالحها الخاصة فوق مصالح المجتمع وقبل مصالح المواطنين في سعيها نحو المزيد من الأرباح" وما هي "المسؤولية الإجتماعية للعلم والعلماء"15،16؟

لا شك أن بقراط كان سعيداً حينما لم يُدرك زماننا وإلا لما تمكن أن يكتب "عالجوا كل مريض بعقاقير أرضه"17، يقتدي به الأطباء حتى عقود قليلة مضت؛ ولعل توثيق المتبقي من هذه الممارسات يرسم اولويات البحث حول الأعشاب لكل رقعة من بلادنا؛ ومن ناحية اخرى لعل دراسة الخواص العلاجية للنباتات في بلادنا توفر مصادر محلية للمواد الأولية لأدوية رائجة نستوردها من بلاد اخرى.

5) تعزيز معارف الطب عامة والعربي خاصة:
بغض النظر عن المكتشفات الأثرية مثل البرديات المصرية او الألواح البابلية والسومرية؛ يُعد طبيب جيش الاسكندر المقدوني، ديسقوريدس پدانيوس العين‌زربي (40-90م.) أهم باحث جمع المفردات العلاجية للشعوب الشرقية في كتابه المعروف بالحشائش، واستقى منه كل من أتى بعده ومنهم العرب؛ يقول ديسقوريدوس هذا عن نهجه في تأليف كتابه "و يتحقق أن جلّ ما أثبتناه فيه من الأدوية إنما عرفناه تجربةً ومشاهدة، وما لم تتّفق مشاهدته أخذناه بالأخبار المتواترة عن الثقات ومِن البحث والمسألة لأهل البلاد والرساتيق النائية عنا والدانية منا، مع التجربة لها ليكون تعليمنا هذا تاماً"18؛ ومع أن هذا الكتاب كان الأكثر تأثيراً في علم الصيدلة العربي، إلا أنه يبقى جهدا فرديا، يقول عنه داوود الأنطاكي (1008 هـ/1599م): "فقد أتقن السلف رحمهم اللّه تعالى ذلك حتى وجدناه مهذبا مرتبا، فنحن كالمقتبسين من تلك المصابيح ذبالة والمغترفين من تلك البحور بلالة، وأول من ألف شمل هذا النمط وبسط للناس فيه ما انبسط ديسقويدوس اليوناني في كتابه الموسوم بالمقالات في الحشائش، ولكنه لم يذكر إلا الأقل حتى إنه أغفل ما كثر تداوله وامتلأ الكون بوجوده"17؛ اما البيروني ( 362-440 هـ/ 973-1048م) فيقرر: "كل واحد من الأمم موصوفة بالتقدم في علم ما او عمل؛ واليونانيون منهم قبل النصرانية موسومون بفضل العناية في المباحث وترقية الأشياء الى أشرف مراتبها وتقريبها من كمالها، ولو كان منهم ديسقوريدس في نواحينا، وقصر جهده على تعرف ما في جبالنا وبوادينا لكانت تصير حشائشها كلها أدوية، وما يجتنى منها بحسب تجاربه أشفية، ولكن نواحي المغرب فازت به وبأمثاله وأفازتنا بمشكور مساعيهم علماً وعملاً. وأما ناحية المشرق فليس فيها من الأمم من يهتز لعلم غير الهند"19.

و عليه، فتوثيق الإستطبابات الشعبية للنباتات ضروري لتعزيز المعارف الطبية لأنه:
1. قد، بل ان التراث المكتوب لا يزال قاصراً لم يتناول كل نباتات بلادنا وقد تُستكشف عبر استطباباتها المحلية؛
2. غفل السلف عن ذكر الشعوب صاحبة التجربة، وقد نتمكن من رسم خريطة "استطبابات" بحسب الجغرافيا، قد تكون هذه "الاختيار الأمثل" لكل منطقة بحسب تغيير المواد المؤثرة في النباتات بحسب البيئة؛

6) ضرورات الدراسات اللغوية:
مع ان التراث الطبي العربي المكتوب يقدم كماً هائلاً من المقترحات العلاجية التي تُعد أفكاراً باكرة للبحث العلمي؛ إلا أن من أهم العقبات فيه جهل المجتمع العلمي اليوم بأعيان النباتات التي ذُكرت في تلك المصادر؛ وقد تبين من نتائج أطروحة ماجستير في علم التصنيف النباتي إننا قادرون على استخراج الإسم العلمي لأربعة وعشرين بالمئة من النباتات المذكورة في المصادر القديمة، ونجهل على وجه التحديد 74 % منها؛ تقترح هذه الدراسة الإستعانة بالدراسات اللغوية لحل هذه الإشكالية. ولا شك ان جمع المسميات المحلية سيكون لها ابلغ الأثر في هذا النوع من الدراسات20.

جدول 2: الدراسات المرتبطة بالطب العربي (المكتوب والشعبي) في مجلة الثقافة الشعبية

العنوان النبات الدواء التاريخ
1 ممارسات وتصوّرات للمرض في المجتمع التونسي المعاصر احمد خواجة 3 (11) خريف 2010
2 الطب الشعبي في البحرين «آخر العلاج الكي» [كلمة التحرير] 4 (12) شتاء 2011
3 الطب الشعبي في البحرين زينب عباس عيسى 4 (12) شتاء 2011
4 النباتات الطبية من الموروث الشعبي إلى بناء الحضارة الإنسانية فوزية سعيد الصالح 5 (16) شتاء 2012
5 الأدوية النباتية وأهميتها على صحة الإنسان يعرب نبهان 6 (21) ربيع 2013
6 إثنوغرافيا الطب التقليدي حالة معالج تقليدي لمرض العصب الوِركي وسط المغرب يونس لوكيلي 6 (23) خريف 2013
7 الوصفات العلاجية الشعبية في منطقة الغرب الجزائري علي عمار 7 (25) ربيع 2014
8 الطب الشعبى في تونس وعلاقته بجسد المرأة عبدالرزاق القلسي 9 (34) صيف 2016
9 طقوس العلاج الشعبي بالمغرب ادريس مقبوب 9 (34) صيف 2016
10 الطب الشعبي في الأحساء احمد عبدالهادي المحمد صالح 9 (35) خريف 2016
11 تعقيب على مقال «الطب الشعبي في البحرين» محمد سعيد العطار 10 (36) شتاء 2017
12 التجربة و الطب الشعبي لدى ابن الجزّار حمادي ذويب 10 (37) ربيع 2017
13 الزار في السودان: علاج نفسي شعبي امامة محمد الخير عكاشة 11 (43) خريف 2018



ثانياً: واقع دراسات توثيق الطب العربي الشعبي
تُعد دراسات الطب الشعبي او الـ Ethno medicine بشكل عام متداخلة التخصصات؛ لأنها اندماج بين الدراسات التاريخية والاجتماعية والحيوية، وتشمل الحيوية الجوانب الطبية والنفسية وبل علوم مثل التصنيف النباتي plant systematic؛ والواقع هو ان هذا النوع من الدراسات بحاجة لفريق من مختلف هذه التخصصات، إضافة لتوفر خطة علمية وأهداف واضحة، ودعمٍ من المؤسسات الأكاديمية - وكلها نادرة في بلادنا- ويتضح جلياً في نُدرة دراسات توثيق الطب الشعبي العربي في قواعد بيانات البحث العالمية والمحلية.

فعلى سبيل المثال: كمياً، تم البحث عن الكلمات "طب"، "علاج"، "مرض"، "صحة" في كل مقالات مجلة "الثقافة الشعبية" والبالغ عددها 813 مقال، فتبين ان الدراسات المرتبطة بهذا الجانب هي 13 دراسة (انظر الجدول 2)، اي ما نسبته 1 % فقط، مع أنها من اكثر مجالات الثقافة الشعبية أهمية، وفيه من المحتوى الشئ الكثير؛ اما كيفياً، فكل هذه الدراسات كُتبت عبر مؤلف منفرد، ولهذا جاءت بمنظار تخصص واحد في أفضل الحالات، والأغلب انه لم تراعى فيها المنهجية العلمية المعمول بها في هذا الشأن؛ لأسباب متعددة منها فقدان التعليمات المنهجية في هذا الصدد، والأهم: عزوف المجتمع العلمي الطبي عن الدراسات الميدانية في هذا الجانب، وفقدان التأهيل العلمي لهذه الدراسات في سائر التخصصات المرتبطة –إن افترضنا توفرها لدى الأكاديميين في المجال الطبي-؛ ولهذا تبرز أهمية توفير حلول محلية بحسب الواقع لدينا.

ثالثاً: منهج توثيق الطب الشعبي العربي
تُعد دراسات توثيق الطب الشعبي من الدراسات الأصيلة Original article غالباً؛ ولها تصنيفات متعددة بحسب الهدف او مصدر البيانات او منهج تحليل البيانات، أهمها دون تلك التفاصيل:

1. دراسات التعرف على العلاجات المحلية لعلاج مجموعة واسعة من الأمراض؛
2. دراسات التعرف على العلاجات المحلية لعلاج مرض محدد؛
3. دراسىات التعرف على الإستطبابات بنبات ما في منطقة او مناطق محددة؛
4. دراسات حفظ ذاكرة المرض لدى مجموعة إثنية محددة؛
5. دراسات علم الظواهر او الـ phenomenology وهي الظواهر التي تشعر بها مجموعة محددة، المرضى مثلاً في منطقة معينة إزاء تجربة ما (مرضية او علاجية)؛
6. تقارير الحالات Case report ومن أمثلته توثيق أثر مداخلة علاجية بآثار سلبية او ايجابية على شخص او عدد قليل من الأشخاص؛
7. دراسة الجذور الثقافية لسلوك معين لدى مجموعة إثنية؛
8. الدراسات التاريخية.

يتضح مما سبق اننا نواجه دراسة يجب ان يراعى فيها منهجية البحث او الـ Methodology بشكل صحيح ودقيق لتكون مفيدة، سيما وان الخلط بين أنواع هذه الدراسات ممكن بل لازم في الكثير من حالات توثيق الطب العربي؛ ولكن ونظراً إلى أن الهدف من هذا المقال هو إعداد إرشاد أولي، قابل للتنفيذ عملياً لشريحة واسعة من القراء، سنكتفي ببسط النوع الأول من الدراسات وهو "دراسات التعرف على العلاجات المحلية لعلاج مجموعة واسعة من الأمراض"؛ وفيما يلي خطوطات عملية لإجراء مثل هذه الدراسات:
كما سلف، تُعد هذه الدراسات من النوع الأصيل، ويجب قبل البدء بها الانتباه لعدة أمور وهي:

1. التصميم الصحيح للدراسة: وتتم بتعرف الباحث بشكل عميق على موضوع البحث وحيثياته؛
2. التعرف على أدب البحث العلمي وكتابته، فالكتابة العلمية ليست قصة قصيرة او شعارات بلا أدلة وبراهين، بل هي أسلوب منظم، ترتبط كل أجزائه بشكل منطقي وتسلسلي، لتصل لنتيجة هي هدف البحث؛
3. البحث العلمي ليس مجرد جمع بيانات، بل الهدف من جمع البيانات هو تحليلها ومناقشتها للوصول لتوصيات ونتائج. وعليه يتكون البحث العلمي من:

1) العنوان:
يجب أن يكون واضحا صريحا دون إضافات وشعارات، مثلاً: "دراسة الإستطبابات الشعبية للنباتات في البحرين" او "ذاكرة مرض السكلر (فقر الدم المنجلي) في البحرين"؛ يلاحظ أن عنوان البحث العلمي لا يحوي شعارات وإضافات؛ فمثلاً "معجزات التداوي بأعشاب الأمل في جزيرة الأحلام: البحرين" او "التآمر الإستعماري الخبيث على شعب البحرين المضطهد المسكين" ليست عناوين علمية مناسبة.

2) المقدمة:
يجب أن يبين الباحث الهدف من البحث في مقدمته ليجيب عليه في النهاية؛ يتم بسط العنوان في المقدمة بشكل مناسب، مثل أن تكون سبب البحث عن مرض مستوطن في ذاكرة مجموعة إثنية، كمصداق: فقر الدم المنجلي (السكلر) في البحرين؛ او علاجات مرض ما يعجز الطب الرائج عن تقديم حل له، او أهمية البحث عن الممارسات العلاجية في منطقة ما، كمصداق: إشتهار البحرين تاريخياً بعلاقات واسعة، ومركزاً لتجارة الدواء في العالم القديم جعلته مركزاً لتجمع تجربة بشرية؛ يجب ان يطلع القارئ بعد قراءة المقدمة على هدف البحث، ضرورته والجوانب المختلفة المرتبطة به.

3) منهج البحث:
في هذا النوع من الدراسات، يجب ذكر عدة أنواع من البيانات:

1. بيانات وصف المنطقة الجغرافية: يجب أن تكون هذه البيانات بحثية يتوصل بعدها القارئ الى صورة كاملة عن تلك المنطقة، واهم البيانات في هذا الجزء: الموقع الجغرافي بالطول والعرض، الارتفاع عن سطح البحر، خريطة المنطقة، نوع المناخ، الغطاء النباتي وكذلك معلومات اثنية عن السكان؛
2. المجموعة الإثنية التي يتم جمع البيانات منها، وكذلك وصف كيفية اختيار المشاركين من هذه المجموعة وأداة جمع البيانات؛
3. جمع النباتات والتعرف عليها.

لاحظ أن أداة جمع البيانات (الاستبيان) يجب أن يحوي معلومات مناسبة للتحليل وللدارسات اللاحقة، مثل المعلومات الديموغرافية لمصدر البيانات وأهمها: الجنس، العمر، المستوى التعليمي، ونوع العلاقة بالطب الشعبي (شخص عادي، ممارس محلي، طبيب، الخ.)؛ وكذلك البيانات المتعلقة بالمداخلة العلاجية (الأعشاب)، وهي الأسماء المحلية للعشب، الإسم العلمي للعشب، الجزء المستخدم من العشب (اوراق، زهور، جذور، الخ)، الاستطبابات او الفوائد العلاجية المتوخاة، كيفية إعداد الدواء، جرعة الدواء، كيفية استعمال الدواء، مصدر هذه المعلومات لدى المصدر (تجربة شخصية، قراءة في مصادر حديثة، مصادر قديمة، شفاهةً عن السابقين، الخ)؛ استدلال المصدر على جدوى الممارسة (حديث نبوي، اثر ضد السحر، تجربة شائعة، استنتاج منطقي: دواء حار يفيد المرض البارد)؛ وأي بيانات اخرى متعلقة بالموضوع. انظر الملحق "استبيان توثيق الطب الشعبي العربي – استطبابات الأعشاب" كمثال.

اما النباتات، فيجب ان تُجمع من البيئة المحلية، تُجفف وتُرسل لمعشب Herbarium للتعرف على اسمها العلمي؛ هذه التوصية هي الأساس المتبع والموصى به في الإرشادات –القديمة-، ولا تزال واجبة في حالات توثيق الطب الشعبي في بعض البلاد مثل الأفريقية حيث لا تزال الكثير من النباتات غير معروفة اساساً، او متشابهة جداً بحيث لا يتمكن غير المختص على التمييز بينها كما في الهند؛ ولكن لأن تجفيف النباتات يتطلب تدريباً وأدوات خاصة وستستغرق من الزمان الكثير؛ بما يمنع قيام هذه المشاريع من الأساس، لذا نقترح الاستعانة بالتقنيات الرقمية المتوفرة، حيث يتم عرض صور النباتات على المشاركين واستخلاص البيانات منهم، كما يمكن الاستعانة بكتب الغطاء النباتي المصورة لذات الغرض، فـ "ما لا يُدرك كله، لا يُترك جله"، وقد أثبتت تجارب سابقة جدوى هذا المقترح21.

4) نتائج البحث:
بعد عرض البيانات الديموغرافية للمشاركين بشكل كامل، يجب عرض البيانات التالية في جداول متعددة بحسب ما يناسب كل دراسة:
1. بيانات النباتات او الأدوية الشعبية: وتحوي الاسم او الأسماء المحلية للنبات، الإسم العلمي، العائلة النباتية، الاستخدام بحسب الطب الشعبي، طريقة إعداد الدواء، الجزء المستخدم من النبات، طريقة الإستخدام، نوع النبات من حيث التوطن في المنطقة.
2. إحصائيات الاستخدام: أهم الإحصائيات اللازم محاسبتها هي:
- نسبة تواتر الذِكر الى الإستخدام او Frequency of citation of use (FC)؛
- القيمة الإستخدامية او Use value (UV)؛
- القيمة الإستخدامية للعائلة النباتية او Family Use value (FUV).

أ) نسبة تواتر الذِكر الى الإستخدام = عدد المشاركين الذين ذكروا استخدام النبات (س) ÷ عدد المشاركين.
تُستخدم هذه المعادلة حينما يهدف الباحث لإستخراج أهمية الأسلوب العلاجي لكل مرض؛ مثلاً عندما يكون مجموع المشاركين 100 شخص، يصف 80 منهم النبات (س) لعلاج المرض (ب)، و30 منهم النبات (ص) لعلاج المرض (ب)؛ فهذا يعني أن قيمة النبات (س) لعلاج المرض (ب) هي 80، بينما قيمة النبات (ص) 30 في مجتمع الدراسة.

ب) القيمة الاستخدامية = مجموع عدد الاستخدامات التي ذكرها كل واحد من المشاركين ÷ عدد المشاركين.
تُستخدم هذه المعادلة حينما يهدف الباحث لاستخراج أهمية النبات من حيث استخداماته العلاجية بشكل عام؛ وتحسب لكل نبات على حدة.

ج) القيمة الاستخدامية للعائلة النباتية = مجموع القيمة الاستخدامية لكل نباتات عائلة نباتية ÷ عدد النباتات في تلك العائلة النباتية.
تُستخدم هذه المعادلة لحساب القيمة السريرية لكل عائلة نباتية.
الجزء الأخير من النتائج التي يجب استعراضها، هو البراهين المتوفرة حول كل استخدام سواء كانت موافقة للاستخدام المحلي او مخالفة له، وتشمل الدراسات السريرية او الحيوانية او الكيميائية، وكذلك المعطيات السريرية المتعلقة بأمن الدواء ذاتياً او التداخل الدوائي. ستكون هذه البيانات مفيدة في مناقشة النتائج.

5) المناقشة والتوصيات:
يُعتبر هذا الجزء من أهم الجهود العلمية للباحث، وكلما كانت المناقشة شاملة لجوانب متعددة، كانت فائدة المقال أكبر؛ وتشمل هذه الجوانب ما يتعلق بأمور التعرف على النبات (مثلاً: هل كل النباتات المستخدمة معروفة بشكل جيد)، الغطاء النباتي (هل يستخدم السكان نباتات محلية ام مستوردة، هل يتم اجترار الطبيعة لاستخدام النبات، الخ)، الأمور الثقافية (ما هي مصادر المعالجين للتوصيات العلاجية)، الأمور الاقتصادية (هل العلاجات المحلية أرخص)، وكذلك الملاحظات الصيدلية حول النباتات، ويمكن تصنيفها إلى:

أ) ثبت بدراسات سريرية محكمة أن النبات المستخدم محلياً مؤثر، ويمكن التوصية باستخدامه.
ب) لم يُدرس أثر النبات المستخدم محلياً بشكل سريري، ولكن ثمة دراسات حيوانية او كيميائية تقترح أن يكون مؤثرا، ستُعد هذه فرصة للمزيد من الأبحاث، ستحظى هذه النباتات بفرص أعلى للبحث السريري.
ج) لا توجد أية دراسات حديثة حول أثر النبات، ولذا سيلزم المزيد من الدراسات الأساسية (حيوانية، كيميائية)، قبل الدراسات السريرية.
د) الدراسات المتوفرة تنهى عن استخدام النبات لخطورته مثلاً.

رابعاً: اين نحن؟ وما هو التالي؟
تحظى مناهج الطب المختلفة بإهتمام لافت في كل العالم رسمياً وشعبياً، بل يُدَّرس الكثير منها في الجامعات العالمية ليتخرج طلابه كممارسين لذات المنهج بشكل رسمي، معترف بعملهم يجتمعون ليرتقي علمهم، إلا الطب العربي في موطنه لا أهل له؛ ولكأننا نقرأ ما كتبه مصطفى الجاد سابقاً "هل هناك ثمة مؤامرة ترتكب ضد حركة توثيق تراثنا الشعبي العربي؟ انا لا أستطيع أن أجد مبرراً واحداً يجعلنا حتى الآن لا نملك أرشيفاً عربياً موحداً لتراثنا الشعبي العربي، وإذا كانت حركة توثيق التراث تتقدم دائماً للأمام في كافة أنحاء الكرة الأرضية .. فإن المجتمع العربي لا يلبث أن يتقدم خطوة إلا ويجد العراقيل التي تكبله عن التقدم"22.

لنعرف أين نحن في مجال توثيق تراثنا الطبي، يكفي أن نعرف أن له عدة جمعيات دولية مثل International Society for Ethno pharmacology ومقره في كلية الصيدلة بجامعة Graz بأستراليا، وكذلك جمعية Italo-Latin American Society of Ethno medicine ومقره قسم العلوم الصيدلية بجامعة سالرنو بإيطاليا، وكذلك جمعية The International society of Ethnobiology الناشط في أكثر من 70 بلدا؛ إضافة للعديد غيرها من الجمعيات ومراكز الأبحاث التي تصدر عشرات الدوريات المحكمة المرموقة عالمياً والمختصة في هذا الشأن (توثيق الطب الشعبي)، دون عشرات أخرى مهتمة بالجوانب السريرية للطب الشعبي.
أما التالي، فلا اعتقد أننا نواجه الكثير من الإشكاليات في المنهج او المفهوم، ولم تعد الحدود السياسية عائقاً امام العلم العربي بالثورة الرقمية التي كسرت الحدود بين الأشقاء في الوطن الواحد، فلم يعد صعباً مد الجسور بين جزرنا دون الإصطدام بجدران الساسة؛ يكفي ان يكون لباحثي الأمة "مشروع" وهو أدنى المشروع؛ وعملياً أرى:

1. تبني مشروع توثيق التراث الطبي بشكل غير مركزي من قبل مراكز البحث المهتمة بهذا الشأن في كل وطننا العربي، بحيث تكون لكل منها حرية الوصول لقواعد بيانات مشتركة؛
2. تعزيز "المشاركة الشعبية" في البحث العلمي، بحسب الأساليب المُجربة سابقاً تحت عنوان Citizen science، حيث يتولى الباحثون الهواة القيام بأكثر مراحل البحث تكلفة وهي جمع البيانات وإرسالها لقاعدة البيانات المشتركة، المذكورة آنفاً، او تتاح بشكل مفتوح المصدر بأي اسلوب آخر.
3. تخصيص جزء من دعم البحث العلمي للطب العربي بكافة فروعه، وكذلك تخصيص أولويات النشر للأبحاث المعنية بالطب العربي في الدوريات الطبية، الصيدلية، علوم الحياة والزراعة، إضافة للمجلات المعنية بالجوانب الإنسانية مثل الثقافة.

فهل سنشهد نهضة عربية، تبتعث كنوز حضارتنا العربية الزاهرة ذات يوم؟ نأمل ذلك.

الهوامش

1. منظمة الصحة العالمية. استراتيجية منظمة الصحة العالمية في الطب الشعبي 2002-2005. جنيف: منظمة الصحة العالمية؛ 2002. 
2. منظمة الصحة العالمية. استراتيجية منظمة الصحة العالمية في الطب التقليدي (الشعبي) 2014-2023. جنيف: منظمة الصحة العالمية؛ 2013.
3. Higher Education Council. Bahrain National Research Strategy 2014-2024 [Internet]. Bahrain: Higher Education Council; 2014. Available in: http://moedu.gov.bh/hec/UploadFiles/Final%20Research%20Strategy-%20En.pdf
4. شحادة، عبدالكريم. صفحات من تاريخ التراث الطبي العربي الاسلامي. بيروت: المكتب الاقليمي لمنظمة الصحة العالمية؛ 2005.
5. شوراي عالي انقلاب فرهنگي. سند ملي گياهان دارويي و طب سنتي [الوثيقة الوطنية للأعشاب الطبية و الطب التقليدي للجمهورية الاسلامية الايرانية]. تهران: شوراي عالي انقلاب فرهنگي؛ 2013.
6. زهراوى، خلف بن عباس. التصريف لمن عجز عن التأليف‏. صبحى محمود حمامى، تحقيق. الکویت: مؤسسه الكويت للتقدم العلمي، إدارة الثقافة العلمية؛ 2004.
7. كاظم، نادر. طبائع الاستملاك: قراءة في امراض الحالة البحرينية. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات و النشر؛ 2007.
8. حافظ، شادية توفيق. السريان وتاريخ الطب. القاهرة: نهضة مصر؛ 1993.
9. World Health Organization. Benchmarks for training in Unani medicine: benchmarks for training in traditional complementary and alternative medicine. Geneva: World Health Organization; 2010.
10. تاج بخش، حسن. تاريخ دامپزشكي وپزشكي ايران. تهران: دانشگاه تهران؛ 1372.
11. Tobinick EL. The value of drug repositioning in the current pharmaceutical market. Drug News Perspect. 2009; 22(2):119.
12. Samsdodd F. Target-based drug discovery: is something wrong? Drug Discov Today. 15 Jun ، 2005; 10(2):139–47.
13. Graul AI, Pina P, Cruces E, Stringer M. The year’s new drugs & biologics 2018: Part I. Drugs Today. 2019; 55(1):35.
14. أرنولد، داڤيد. الطب الامبريالي و المجتمعات المحلية. الكويت: المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب؛ 1998. (عالم المعرفة).
15. حنا، مازن. العرب و الطب الامبريالي. عمان: دار فضاءات للنشر و التوزيع؛ 2015.
16. ميلروز، ديانا. اﻷقراص المرة: تجارة الدواء والصحة والفقر في العالم الثالث. قبرص: ورشة الموارد العربية؛ 1992.
17. الانطاكي، داوود بن عمر. تذكرة اولي الالباب- الجامع للعجب العجاب‏. بيروت: مؤسسة الاعلمي للمطبوعات؛
18. العين زربي، ديسقوريدس بدانيوس. كتاب ديسقوريدس في هيولى الطب. الطباطبائي، محمود، تحقيق. طهران: مركز الدراسات الاخلاقية و التاريخية الطبية؛ 2012.
19. البيروني، محمد بن احمد. الصيدنة في الطب. زرياب، عباس, تحقيق. طهران: مركز نشر دانشگاهي؛ 1991.
20. Ghahreman A, Okhovvat AR. matching the old medicinal plant Names with scientific terminology. Ed. 1. Tehran: Unversity of Tehran; 2004.
21. المولى، هيتم يونس جاد. صون المأثورات الشعبية وسد الفجوة الرقمية. الثقافة الشعبية [انترنت]. 7(25). موجود في: http://www.folkculturebh.org/ar/index.php?issue=25&page=showarticle&id=466
22. الجاد، مصطفى. التراث الشعبي والجزر المنعزلة. الثقافة الشعبية [انترنت]. 2010؛3(10). موجود في: http://www.folkculturebh.org/ar/index.php?issue=10&page=showarticle&id=85

أعداد المجلة