فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
5

حوار الحضارات: البيئة والقيم

العدد 5 - آفاق
حوار الحضارات: البيئة والقيم
كاتب من المغرب

تتعدد أسباب الصراع بين الحضارات والثقافات. فبالإضافة إلى الأسباب السياسية والاقتصادية، تحضر الأسباب التاريخية والدينية بشكل كبير، والتي تهم في مجملها المجال الدولي، لكن عوامل التنافر لا تعود فقط إلى المجال الأخير، بل ترتبط كذلك, في جزء منها، بالمجالات الداخلية الوطنية والإقليمية.

وتبعا لذلك، فإن الحوار بين الحضارات والثقافات بقدر ما يرتبط بالمجتمع الدولي، فإنه يرتهن، بشكل جوهري، بالفضاءات الوطنية. فمن المؤكد أن الحوار بين الحضارات يهم بالدرجة الأولى الأنظمة والشعوب المختلفة والمتمايزة ثقافيا، والتي تجد ذاتها أمام مجموعة من العوامل، التاريخية والثقافية والسياسية والاقتصادية، تؤطر علاقاتها مع الدول والشعوب الأخرى سواء تعلق الأمر بالاختلاف والصراع، أو تعلق الأمر بالتعاون والتنسيق. ولكون هذه العلاقات تتأثر بالتفاعل القائم بينها، كما تتأثر بالأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، والمرتبطة بطبيعة المؤسسات السائدة وطنيا وبالقيم الثقافية، فإن أي حوار بين الحضارات والثقافات يتأثر بالبيئة الداخلية، بما تتضمنه من مؤسسات وتاريخ ودين وثقافة وتطلعات.

الفقرة الأولى: البيئة الدولية والبيئات الوطنية وأهمية الحوار بين الحضارات

 لماذا الحوار بين الحضارات والثقافات؟

إن الإجابة عن هذا التساؤل تقتضي استحضار مجموعة من التحولات والاختلالات التي تسود العالم، سواء تعلق الأمر بالساحة الدولية أم تعلق الأمر بالفضاءات الوطنية. ونشير هنا على سبيل المثال لا الحصر إلى الظواهر التالية: 

أولا: مفارقات:

يعيش العالم، خلال السنين الأخيرة، مفارقة لافتة للانتباه بين ثورة معلوماتية وتكنولوجية واقتصادية قائمة أساسا على الاعتماد المتبادل، وتقليص المسافات، وتجاوز الحدود وتوحيد العالم في سوق واحدة من جهة، وبين انبعاث الخصوصيات الإثنية والعرقية، وعودة الهويات الدينية والثقافية المحلية والإقليمية، وتزايد تأثيرها في الساحة الدولية من جهة أخرى.

هذه المفارقات، المجسدة واقعيا، تكتسب مناصرين لها بشكل متزايد في الدول الغربية والإسلامية على حد سواء. فعلى سبيل المثال، يطرح صامويل هنتغتون في كتابه الأخير الصادر، سنة 2004، تحت عنوان: «من نحن؟ التحديات التي تواجه الهوية القومية الأمريكية»، فرضية التهديد الذي يشكله المهاجرون المكسيكيون واللاتينيون للثقافة القومية الأمريكية، ويذهب فيه إلى ضرورة تأكيد الهوية الأوربية البروتستانتية لأمريكا وحمايتها1. وتشهد الدول الأوروبية نقاشا مماثلا، مع تزايد عدد المهاجرين الذين يحملون جنسيتين وولاءين مختلفين. كما انتشر النقاش نفسه في دول الخليج العربي، إذ يكثر الحديث عن التهديد الآسيوي للهوية العربية الإسلامية، إضافة إلى التهديد الغربي2.

ثانيا: صراعات:

بالإضافة إلى الصراعات السياسية والاقتصادية، يشهد العالم عدة صراعات ذات طابع إثني وديني، فالعمليات الإرهابية في تزايد مستمر منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، وموجة العداء والكراهية وعدم التسامح تتعدد صورها؛ فمن ظاهرة الإسلاموفوبيا في الدول الغربية، إلى ظاهرة الغربوفوبيا المنتشرة في الدول الإسلامية، إلى العديد من التمظهرات الثقافية والرمزية التي تؤجج الصراع، مثل الرسوم المسيئة للرسول، والأفلام المحرضة على الكراهية: كفيلمي «الخضوع» سنة 2004، و»فتنة» سنة 2007، وتصريحات السياسيين والمثقفين، كتصريح بوش الإبن بعد أحداث 11 شتنبر، بشن حرب صليبية، وتصريح برلوسكوني بأفضلية الحضارة الغربية. كما ذهب المستشار الألماني السابق شرودر إلى أن المعركة هي في سبيل حضارتنا، واعتبر هنتغتون أحداث 11 سبتمبر هجوم برابرة مبتذلين ضد المجتمع المتحضر في العالم كله3.  كما لجأ الرئيس الإيراني الحالي في العديد من التصريحات إلى لغة مماثلة.

إن تصاعد موجة الخوف المتبادل بين الحضارتين الغربية والإسلامية مؤطر أساسا بطرحين متناقضين؛ يمثل الأول الغرب الذي يقدم نفسه بوصفه نموذجا أمثل يحتذى به في السياسة والاقتصاد ونمط الحياة، مستخدما، في ذلك مختلف الوسائل، بما فيها الحرب والعنف، والثاني يمثله العالم العربي الإسلامي الذي يقدم ذاتية مضادة قائمة على التفوق الروحي والتميز والأفضلية الدينية وامتلاك سبل الهداية والنور4.

 

ثالثا: اختلالات على مستوى القيم الأخلاقية والثقافية العالمية

إن التحولات العالمية, اقتصاديا وسياسيا وتكنولوجيا، أفرزت العديد من الاختلالات على مستوى القيم الثقافية، تذكي الصراع بين الحضارات. ويمكن التركيز في هذا الإطار على مثالين:

1-الحضور المكثف للأحكام المسبقة:

لقد أصبحت الأحكام السلبية الجاهزة المتبادلة بين الحضارات والثقافات أكثر كثافة، بفعل الصورة والإعلام والصراعات الرمزية، فصورة المسلم في الدول الغربية ترتبط بالجهل والاستبداد، والعنف والإرهاب واللاعقلانية والنزعة الغرائزية، وبالمقابل ترتبط صورة الدول الغربية في الوعي العربي الإسلامي بالكفر والإلحاد والانحلال الأخلاقي، والاستعمار والعدوانية.

2-تضخم أوهام البطولة والشهرة:

إن مسرحة الأحداث والأزمات الدولية والوطنية، وانتشار فلسفة تقديس الكارثة، وتنامي الأسواق الافتراضية للأفكار المتطرفة عبر الأنترنيت، التي توجه الأنشطة الإرهابية، وتشجع على الصراع، أدت إلى انتشار ثقافة تضفي نوعا من الهالة حول الأعمال الإرهابية والعنصرية، وأعمال الكراهية ضد الآخر. إذ إن  العديد من المؤججين للصراع الحضاري يبحثون عن منافذ لتحقيق ميولات الغرور والتبجح لاكتساب صفة البطولة5، والملاحظ أن جزء كبير من الأعمال الإرهابية والعنصرية تأتي من قوى مغمورة أو مهمشة عالميا (مخرجون متواضعون، جرائد محدودة الانتشار، إرهابيون مهمشون سياسيا واجتماعيا).

هذه التناقضات والمفارقات، التي تدل على الاختلالات البنيوية على المستوى العالمي، وعلى مستوى الوعي الإيديولوجي للأطراف الفاعلة في الساحة الدولية، تحتم ضرورة الحوار بين الحضارات والثقافات. لكن حوار بأي شروط؟

الفقرة الثانية: متطلبات الحوار بين الحضارات والثقافات

ظهرت محاولات عديدة، منذ الثمانينيات من القرن الماضي، حاولت الدفع بفكرة حوار الحضارات إلى مجالات أوسع، غير أن هذه المحاولات ظلت محدودة في نتائجها وآفاقها، مما يقود إلى التساؤل عن الشروط والمبادئ الكفيلة بتدعيم الحوار واستمراريته وفعاليته.

وقبل التطرق إلى بعض هذه الشروط، نشير إلى الملاحظات التالية:

- إن الحوار يطرح علاقة الأنا بالآخر.

- إن الحوار يرتبط بالمحيط الدولي، كما يرتبط بالمحيط الوطني.

- إن الحوار بين الحضارات يتأثر بالاقتصادي والسياسي والثقافي والديني.

- إن الحوار يتجسد من خلال الخطاب ومبادرات ملموسة، لكنه يتدعم كذلك بالممارسة.

- يفترض في الحوار أن يكون منهج القوي والضعيف على حد سواء.

وانطلاقا مما ذكر، يمكن تحديد متطلبات الحوار بين الحضارات والثقافات، في الشروط التالية:

 

أولا: الاعتراف بالآخر

مادام الحوار بين الحضارات والثقافات يطرح علاقة الأنا بالآخر، فإنه لا يمكن دون الإيمان بقيمة الاختلاف، وتبنيها في الخطاب والممارسة، والاعتراف بالآخر باعتباره كيانا منفصلا عن الأنا، له سلبياته وإيجابياته، وبحقه في الوجود، وبالاحتفاظ بخصوصيته، وبدوره التاريخي. فالاعتراف الواعي المتبادل بين الحضارات والثقافات يعد أساس كل حوار وتفاعل إيجابي.

 غير أن فعالية قيمة الاختلاف على المستوى الدولي لا ترتهن بسيادتها على هذا المستوى فقط، بل ترتبط كذلك بسيادتها على المستوى الداخلي، أي بانتشارها كقيمة لدى الجماعات المكونة للدولة سواء كانت إثنية أو دينية أو سياسية أو لغوية. فمن العبث التفكير في حوار الحضارات، دون انتشار الاعتراف بالآخر داخل الثقافات والديانات والمجتمعات.

ثانيا: الإيمان بنسبية الحقيقة

الوصول إلى التعايش والسلام، وبناء فضاءات مشتركة تتسع لمختلف الثقافات كأهداف رئيسية لحوار الحضارات، يقتضي استحضار قيمة النسبية، والإيمان بأن الحقيقة المطلقة لا يملكها هذا الطرف ولا ذاك. فاعتقاد امتلاك الحقيقة المطلقة لا يساهم في تشجيع الحوار، بقدر ما يزكي الحقد والعداء، ولاسيما في ظل تصاعد التنوع الثقافي والاجتماعي.

وتتدعم قيمة النسبية على المستوى الدولي، بانتشارها على المستويات الوطنية، فالإيمان بثقافة الآخر وخصوصيته ليس شعارا فحسب، بل هو ممارسة، فالذي لا يؤمن بنسبية الأفكار على المستوى الوطني، لا يمكن أن يدافع عنها على المستوى الدولي، ولا يمكن أن يكون فعالا في حوار الحضارات، فتكوين مواطنين منفتحين على الثقافات الأخرى، يتطلب من بين ما يتطلبه، إيمانهم بنسبية الحقيقة على مختلف المستويات  والمرونة في طرح الأفكار.

 

ثالثا: المساواة بين أطراف الحوار

لكون الحوار بين الحضارات والثقافات، يحمل في طياته التعرف على الذات وعلى الآخر، ويهدف إلى تجاوز الرفض والعداء، وبناء سياق قائم على الرضا، فإنه يتطلب الإيمان بالمساواة بين الأطراف المتحاورة، وتجاوز الخلفية التسويقية للقيم، ومحاولة فرض التجربة التاريخية والحضارية على الآخر، فلا يمكن تصور حوار فعال بين الحضارات في ظل سيادة العجرفة والإقصاء، لأنه يرتكز أساسا على الآراء المتساوية، وأنه ليس ثمة رأي أفضل من رأي بالضرورة، كما يرتكز على الاستعداد لتفهم رأي وموقف الآخرين، المختلفين في الاعتقاد والتصرف.

ولتكون المساواة فعالة على المستوى الدولي، يجب أن تكون كذلك على المستوى الوطني.

رابعا: الفهم العقلاني للواقع الدولي

إن تعدد عوامل الصراع الدولي وأبعاده، وتشابك المصالح بين الدول، وتراكم الأحكام المسبقة المتولدة عن صراعات طويلة، التي تقف عائقا أمام حوار فعال بين الحضارات، تفرض ضرورة تبني العقلانية لفهمها وتفكيكها، ولإنجاز نقد مزدوج للذات والآخر، وللتعامل مع الثقافات والحضارات الأخرى.

فاللجوء إلى العقل والاحتكام إليه في تفسير الظواهر العالمية، وفي فهم تاريخ الحضارات الإنسانية، والكشف عن التفاعل القائم بين الحضارات المختلفة، والتخلي عن أوهام التفوق والعواطف، وتجاوز آثار الإيديولوجيات المتطرفة لدى مختلف الأطراف، يعتبر الكفيل بوضع أسس صلبة لإمكانية الحوار وتقدمه وترسيخه.

ولا يمكن أن تسود العقلانية في الحوار بين الحضارات، إلا إذا كانت قيمة راسخة ومنتشرة في مختلف خلايا المجتمع في الأسرة، والمدرسة، والمناهج التعليمية، وفي الصراع السياسي الداخلي، ولدى البيروقراطية ونخب الدولة.

 

الهوامش

1ـ هنتغون صامويل، التهديد اللاتيني، foreign policy ، النسخة العربية، مارس/ أبريل 2004، ص ص. 20ـ 35.

2- الكواري حمد عبد العزيز، الهوية المأزومة، مجلة الدوحة، السنة الأولى، عدد 6، 2008، ص ص. 4ـ 7.

3- سعدي محمد، مستقبل العلاقات الدولية، من صراع الحضارات إلى أنسنة الحضارة وثقافة السلام، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الآولى، 2006، ص ص. 326ـ 334.

4- سبيلا محمد، الحوار بين المسيحية والإسلام، حوار العرب، عدد 15، 2006، ص ص. 8ـ 9.

5ـ سايجمان مارك، جيل الإرهاب المقبل، foreign policy ، النسخة العربية، مارس/ أبريل 2008، ص ص. 26ـ 27.

أعداد المجلة