فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
53

الدرة المصونة في علماء وصلحاء بونة

العدد 53 - فضاء النشر
الدرة المصونة في علماء  وصلحاء بونة
كاتبة من الجزائر

جاء الكتاب التراثي « الدرة المصونة في علماء وصلحاء بونة» الصادر عن دار الوسام العربي / الجزائر، لأحمد بن أبي عبد الله قاسم البوني، والذي حققه وشرح حواشيه وعلق عليه كل من الأستاذين: محمد لخضر بوبكر، و الدكتور سعيد دحماني كبادرة قيمة لإحياء التراث وبعثه من جديد، باعتباره ذاكرة جماعية يسافر المرء منها وإليها، ويطيب له في الكثير من الأحيان الجلوس تحت ثرائها الوارف، والتلذذ بنعيم التقرب من الماضي ومعايشته ومحاكاته في الكثير من الأحيان. ولأن التراث هو واحد من أهم المقومات التي تعنى الشعوب بالحفاظ عليها وإبرازها وإعادة بعثها لتتعرف عليها الأجيال اللاحقة، كما أنه يعد ركيزة مهمة ينطلق منها أي شعب في النهوض بمستقبله، فمن لا ماضي له لا حاضر له، كان لا بد لمختلف الهيئات والجمعيات أن تعنى به، وهذا ما قامت به جمعية أحباب وتلاميذ حسان العنابي، التي تحرص كل الحرص على التعريف بتراث بونة * الزاخر، كوجه للسياحة الجزائرية الأصيلة، كما تعنى بالبحث في هذا التراث تأليفا، وتحقيقا وشرحا وتعليقا، وتعمل على إخراجه إلى النور، فبعد أن أصدرت هذه الجمعية مؤلفا بعنوان: القول المفيد في علماء وصلحاء بونة، توجت جهدها في التعريف بأعلام المدينة ومشايخها على وجه الخصوص بإصدار ثان تحت عنوان: الدرة المصونة في علماء وصلحاء بونة، وقد رأى هذا المؤلف النور برعاية من المجلس الشعبي لبلدية عنابة.

تبدأ رحلة الكتاب الشيقة بمقدمة ذكر فيها المحققان أن الدرة المصونة والمسماة أيضا بالألفية الصغرى لصاحبها الشيخ أبي العباس احمد بن الشيخ أبي عبد الله قاسم بن محمد ساسي بن إبراهيم البوني، من أصل منظومة كبرى يفوق عدد أبياتها 1400، وهي من أهم التصانيف التي الفت في طبقات علماء البلدة وصلحائها، سواء من أبنائها أو من الوافدين عليها للدرس والتدريس خلال الفترة الممتدة فيما بين القرن الخامس للهجرة والقرن الثاني عشر للهجرة، وبين المحققان أن اهتمامهما بهذا المخطوط إنما هو بغرض الانتفاع بها لما ورد فيها من أعلام. وقد قسم المحققان هذا العمل إلى قسم عني بترجمة حياة المؤلف اسما ونسبا ومولدا وشيوخا وتلامذة، مع جمع كل ما له من أشعار وأراجيز، ونظم مخطوطة. ثم قسم آخر تتبعا فيه رحلة الدرة منذ نظمها والى غاية وصولها إليهما.

بونة محطات تاريخية غارقة في التراث

يذكر المحققان أن المدينة مرت بمخاض تاريخي عنيف، حيث أن حضورها يمتد إلى القرن للأول للهجرة /السابع الميلادي، حينما كانت المدينة تسمى هيبون وأصبحت تسمى بونة في القرن الثامن للميلاد/ الثاني للهجرة، حيث أقحمت في هذا القرن في الرقعة المساسة من طرف ولاة القيروان، وعند سقوط الخلافة الأموية بدمشق وانتصار العباسيين بالعراق قامت بالقيروان الإمارة الأغلبية، حيث عززت المناطق الساحلية بعد أن بسطت استقلاليتها بشرق شمال أفريقيا، وعلى رأس المناطق الساحلية بونة.

ولأنها – بونة- جزء من مضارب قبيلة كتامة التي ساعدت عصبيتها الحركة الفاطمية، فإنها شاركت في انتصار عبيد الله مؤسس الدولة الفاطمية حوالي 910م. وتحت حكم الحماديين (405-518ه/1015-1152م) كونت «هيبون/بونة» منطقة مستقلة مسيرة في نهاية القرن الرابع للهجرة/ العاشر للميلاد، من طرف زاوي بن زيري، أحد مؤسسي الدولة الصنهاجية .ومع بداية القرن الخامس للهجرة كان تأسيس بونة الحديثة، حيث تبوأت المدينة مركزا استراتيجيا بوصفها ثغرا دفاعيا ومرسى تجاريا وحربيا.

وابتداء من سنة 551ه/1157م أقحمت بونة نهائيا في إمبراطورية الموحدين، الذين طردوا الصقليين، وفي بداية القرن السابع للهجرة احتلت من طرف بني غانية آخر المنحدرين من المرابطين.

التراث اللامادي

رغم الدعوة الشيعية الإسماعيلية في القرن الثالث الهجري إلا أن السنة لم تفقد مكانتها، فقد استقبلت المدينة الكثير من فقهاء المالكية وعلى رأسهم الأندلسي أبي مروان عبد الله بن علي المشهور بتفسيره لموطأ الإمام المالك.

هذا ويذكر المحققان بأن المدينة عرفت أشياخا آخرين اشتهروا في العلوم الدينية ومنهم: احمد بن علي بن يوسف البوني، المتوفى سنة622ه/1225م. وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم التمتام خلال القرن الثامن الهجري، وأبو زكرياء يحي الكسيلي أثناء القرن التاسع الهجري وغيرهم. هذا وتزخر المدينة أيضا بتراث صوفي كبير.

التراث المادي:

ويتجلى من خلال التعمير الحضري والمباني والتعابير الفنية وأبرزها:

جامع أبي مروان: وهو أقدم مسجد بالمدينة وقد تعرض للتشويه وهدمت بعض أجزائه.كما تحتوي المدينة على جامع صالح باي وكنيسة اغستين وغيرها من المعالم الأثرية.

ترجمة الشيخ احمد بن قاسم بن محمد ساسي البوني:

ذكر المحققان أن المؤلف هو :الشيخ أبو العباس أحمد بن الشيخ أبي عبد الله قاسم بن محمد ساسي بن ابراهيم البوني التميمي، ولد ببونة حوالي 1063ه/1726م/ من كبار فقهاء المالكية وعلمائها بالبلدة وما جاورها، من أسرة ذات شأن وحظوة حيث كان لأفرادها علاقة مع الباشاوات العثمانيين في الجزائر، وقاموا بدور في ازدهار الحركة الفكرية، شأنهم في ذلك شأن العديد من أسر تلك الفترة خاصة عائلة الفكون، والمقري. تتلمذ على يد مجموعة من الشيوخ على غرار الشيخ سليمان الشليحي ويحيى الشاوي الملياني، واحمد العيدلي وغيرهم كثير . زار طالبا للعلم العديد من البلدان كالمغرب وتونس ومصر والحجاز، حيث كان يلتقي بمجموعة من العلماء الذين يقصدون البقاع المقدسة من مختلف الأقطار الإسلامية ليأخذ منهم علوم الحديث الشريف، ويطرح لهم ما لدية من علم، وله في ذلك كتاب سماه «الروضة الشهية في الرحلة الحجازية».

هذا ولقد كان لعلماء المشرق دور كبير في توجيهه، حيث لزمهم وأخذ عنهم مثل الشيخ عبد الباقي الزرقاني، والعلامة الأجهوري، والشيخ الشبراخيتي وخليل اللقاني المالكي .

هذا وللشيخ أشعار وأراجيز مثل أرجوزته التي أهداها إلى محمد بكداش باشا مهنئا إياه بفتح وهران سنة1120ه/1719م، ولافتا نظره إلى أحوال البلدة، وما يجري فيها من مظالم ومناكر وتطاحن على المناصب وجمع للأموال قال في مطلعها:

الحمــــــــد لله العلي

الأبـــدي الأزلـــــــي

ثم الصلاة والســــلام

كـل على نور الظـلام

محمد وآلـــــــــــــه

صلاة صب وآلـــــــه

أريد أن أخبركــــــم

أدام ربي نصركـــــم

بحــــــال هذه القرية

بالصدق لا بالفريــــة

قد صــال فيها الظالم

وهان فيها العـــــــالم

خربت المســــــــاجد

وقل فيها الساجــــد...

آثاره ومصنفاته المخطوطة منها أو المطبوعة:

جاء في مقدمة الكتاب أن تأليف الشيخ أحمد بن قاسم البوني فاقت 175 عنوانا، ما بين مسهب ومختصر وغير منته، منظومة جلها في شكل أراجيز، ذات مواضيع متنوعة تتعلق في مجملها بالحديث النبوي الشريف والسنة المطهرة والقرآن الكريم، وقد وردت في كتاب « تعريف الخلف برجال السلف» نقلا عن مخطوط بعنوان : التعريف بما للفقير من التآليف ومن مؤلفاته:

- إتحاف الأقران ببعض مسائل القرآن

- فتح الباري في شرح غريب البخاري

- التحقيق في أصل التعليق الكائن في البخاري

- التحرير لمعنى الأحاديث من الجامع الصغير

- نفح الروانيد بذكر بعض المهم من الأسانيد

- نظم الخصائص النبوية

- تنوير السريرة بذكر أعظم سيرة

- رجز : الدرة المصونة في علماء وصلحاء بونة :

ويعرف هذا الرجز أيضا بالألفية الصغرى، وقد قسمه أحمد بن قاسم البوني إلى مجموعات معنونة لخصها قوله :

أي بعضهم وهو على أبواب

أربعة تهدي على الصواب

وزدت بـالتذييـل والتتمــة

حسـنا وخـاتمتنا المـهمــة

فقد خصص الباب الأول منه، لعلماء البلدة وصلحائها أو القريبين منها. وخصص الباب الثاني إلى صلحاء البلدة، أما الباب الثالث فقد خصصه لذكر الصلحاء والفضلاء من أهل القرن العاشر والحادي عشر، ممن دفنوا داخل البلد أو خارجه. كما ذكر فيه مجموعة من فضلاء قسنطينة وصلحاء وعلماء الجزائر والمغاربة والتونسيين.أما الباب الرابع فقد ذكر فيه شيوخه سواء من بونة أو من أهل القيروان وسوسة وتونس.

رحلة الدرة ومنهج تحقيقها:

ذكر المحققان أن أحمد بن قاسم البوني انتهى من نظم الدرة في غضون عام 1090ه/1679م استجابة لطلب أحد تلامذته، ومن ثمة انتشرت الدرة جهويا وخارج البلدة، حيث توزعت نسخ منها في أنحاء البلاد عن طريق طلبة العلم والزوار، خاصة في القطر التونسي الذي انتقل إليه احمد بن قاسم البوني للعلم والإقراء، وكذا في المغرب، ورغم أن الكثير من هذا التراث المكتوب استحوذ عليه الأروبيون حوالي القرن السابع للميلاد، إلا أن عودة الوعي الثقافي أواخر القرن التاسع عشر كان كفيلا لعودة الاهتمام بهذه الذخائرمن المخطوطات، ومن ثمة استأنفت الدرة رحلتها العلنية، إذ تمكن محمد ابن العربي بن محمد بن أبي شنب المتوفى سنة1328ه/1929م من نشرها بالتقويم الجزائري عام 1331ه/1913م، وبقيت الدرة يتيمة بعد أن توقفت رحلتها لتستأنفها مرة أخرى سنة 1423ه/2002م بصفة غير مباشرة، حينما اعتمدت للمقارنة بما ورد في متن مصنف آخر لأحمد بن قاسم البوني هو « التعريف ببونة افريقية بلد سيدي مروان الشريف»، وفي عام 1428ه/2007م نشرت النسخة ثانية.

الدرة المصونة في علماء وصلحاء بونة

وجاء فيها

بسـم الله الــرحـمـن الـرحيـم

وصلى على سيدنـا محمد وآلـه

يقول راجـي عفـو رب راحـــم

عن كـل ذنب أحمد بن قاسم

ابــن مـحـمـــد أي المسيتـــي

ثـم الـتميـمي بـلا تنكيـــت

الحمـد لله مجـيب الســايلين

ثـم صـلاتـه لتــاج المـرسلــين

مـحـمـد وآلـــــه صــحـــبه

وتـابـع لـنـهـجــه وحــزبــــه

صــلـــى علـيـه ربـنـا وسـلـم

و ءالـه وصحـبه شهـب السما

لذاك رام مني بعض الأذكيا

توسلا بذكر بعض الأزكيـا..

وقد جاء في التحقيق أن أسرة البوني كانت تفتخر بانتمائها إلى بني تميم، وهي من البطون العربية المنتمية إلى القحطانيين، والتي انتقلت إلى شمال إفريقيا مع الفتح الإسلامي لها، ومنه انتقلت إلى الأندلس، مشاركة في رقيها وازدهارها.ومن ضمن العلماء الذين تطرق لهم صاحب الدرة ووضحهما المحققان: الشيخ أبو الحسن علي، عرف ب «فضلون البوني»، وهو من أعلام بونة فيما بين نهاية القرن التاسع الهجري وبداية القرن العاشر/ الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، وهو من أصول أندلسية، ولد ببونة ونشأ وتعلم ودرس ودرّس، ومنها انتقل إلى بجاية وقسنطينة حيث تتلمذ على يديه العديد، ونبغوا في الفلسفة والعلوم الدينية، ليستقر بعدها نهائيا بمسقط رأسه، مكونا كوكبة نيرة من العلماء الذين انتهجوا نهجه، وقد صنف هذا البوني جملة من التآليف والرسائل والشروح والمختصرات أهمها: كتاب على قدر كبير من الأهمية في تاريخ المدينة وعلمائها وصلحائها وأعيانها، الذين توفرت فيهم القدرات والمؤهلات الأدبية والفكرية أسماه «الكلل والحلل». ومنهم أيضا عبد الرحمن بن علي الأجهوري العلامة الفقيه الناسك، برع في الفقه وتتلمذ على يديه طلاب كثر. ومنهم الشيخ أبي مروان بن علي الشريف، من أشهر شخصيات بونة خلال القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر للميلاد. ولد بقرطبة، ومنها انتقل إلى اشبيلية بعد أن نال قسطا من العلم على يد مشايخها، من أمثال أبي محمد الأصيلي، وأبي المطرف بن فطيس... ارتحل إلى المشرق، وأقام مدة بالقيروان حيث شاهد مجالس العلم وشارك بها، وأجاز بعض من فيها، لينتقل بعد اضطراب أحوالها إلى بونة فيستقر بها، مواصلا نشاطه الفكري والأدبي والديني، لما وجده من إقبال منقطع النظير من أهاليها وعلمائها الذين شجعوه على الخوض في الفقه المالكي والتأليف فيه. وممن جاء ذكرهم في أرجوزة ابي القاسم شيخ الإسلام قاضي القضاة أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي، من أشهر علماء وأدباء المغرب زمن المرابطين، ألف في مقامه الشيخ أبو العباس المقري كتابا أسماه « أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض، وغيره مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض» ولد بسبتة سنة 476ه/1083م وتوفي بمراكش عام 544ه/1145م، وقد كان إمام وقته في الحديث والنحو واللغة، وكلام العرب وأيامهم. أخذ بسبتة عن الحافظ أبي علي الغساني، وروى بالأندلس عن أبي علي بن سكرة الصدفي، وأبي بحر بن العاص، و محمد بن حمدي كما تفقه عن أبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي، ومحمد بن عبد الله المسيلي و ممن اخذ عنه وحدث : عبد الله بن محمد الأشتري، وأبو جعفر بن القصير الغرناطي، وأبو محمد بن عبيد الله الحجري. وممن جاء ذكرهم في أرجوزة أيضا وتعرضا له المحققان بالشرح أيضا : الشيخ محمد بن عبد الرحمن أبو عبد الله بن أبي زيد المراكشي، الضرير، توفي الفقيه الحافظ الجليل المفتي .. من أهل بونة في آخر ذي الحجة تكملة سنة سبع وثمانمائة ،وكانت ولادته سنة تسع وثلاثين وسبعمائة ،وهو عالم صالح قارئ ناظم ناثر نحوي.

هذا وقد اعتمد المحققان على العديد من المراجع والمصادر في تحقيق هذه الكتاب النفيس على غرار كتاب» البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع» لمحمد بن علي الشوكاني، وكتاب «التحفة المرضية في الدولة البكداشية» لمحمد بن ميمون الجزائري.و» الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» لأبي الحسن علي بن بسام الشنتريني، وكتاب «ارشاد السالك إلى مناقب الإمام مالك « ليوسف بن حسن بن عبد الهادي، «المستطرف في كل فن مستظرف» لشهاب الدين محمد الأبشيهي. «تراث المغاربة في الحديث النبوي» لمحمد التليدي، «عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية» لأبي العباس الغبريني، «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» لأحمد بن محمد المقري التلمساني، ومعظمها كتب محققة.

* بونة أو ما يعرف حاليا بعنابة هي مدينة ساحلية تقع بأقصى الشرق الجزائري، وتزخر بالكثير من الذخائر التراثية، مثل المواقع الأثرية على غرار كنيسة القديس اوغستين

أعداد المجلة