فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
56

التراث العربي وتأصيل مفهوم الهوية في الفن التشكيلي الجماعات الفنية والملتقيات العربية نموذجاً

العدد 56 - آفاق
 التراث العربي وتأصيل مفهوم الهوية في الفن التشكيلي الجماعات الفنية والملتقيات العربية نموذجاً

المدخل:

تعتبر الجماعات الفنية التي نشأت في العالم العربي نقطة انطلاق حقيقية نحو التجديد في الفن التشكيلي العربي مع بدايات اربعينيات القرن العشرين، ويأتي ذلك كنتيجة للآثار الموضوعية للحركة الفكرية الداخلية والخارجية. فقد اعتمدت الحركة التشكيلية في منطلقاتها الأولى على المتغيرات الغربية وفقا لقواعدها وضوابطها الحضارية. الا ان عملية استلهام التراث الذي تكتنزه المنطقة قد تمت مع بدايات الحكم الوطني في البلدان العربية كالعراق ومصر وسوريا ولبنان وقد أملت التطورات الفكرية الحديثة في عدد من المجتمعات العربية إلى التعبير عن الحياة الجديدة، والانبعاث الفكري، فخاض الرواد في عمليّتي الابتكار والتجديد، مع تعزيز خطابهم الفني وتأصيله من خلال الخلفية الحضارية وارتباط التراث بالأصالة والهوية ومن ثم المعاصرة، ما فتح الباب أمام المهتمين في الفن للبحث في العلاقة بين الرسوم الشعبية والتراث العربي، الذي ترادف مع مفهوم الأصالة، وقد شكلا مجتمعين إشكاليات متعددة في الفن التشكيلي في العالم العربي خلال القرن العشرين.

يعتبر البعض أن التراث مسألة ضرورية وأساسية لفهم الحاضر، وأن على الباحثين النظر إلى مسألة التراث بموضوعية انطلاقاً من سياقاته المعرفية والتاريخية والاجتماعية، أما التعامل العقلاني فيتحقق من خلال نظرة عصرية له بإخضاعه لشروط وآليات العصر [بلواهم 2007 ص 12]. لذا فإن انشغال المحيط العربي في البحث عن الإشكاليات الجمالية والمرجعية الفنية ودلالات الهوية في المنجز الإبداعي، طرحت تساؤلات اساسية (ما هي الهوية؟ وكيف نجدها؟)

فعلى الرغم من التنوع الأدائي للفنان العربي خلال القرن العشرين، إلا أنه أخذ يتحرك ضمن توجهات محددة، الهوية ودلالات الارتباط بالذاكرة الحية والمفقودة، حيث برزت دلالات المكان والزمان، والعائلة والأرض ومن ضمنها دلالات الارتباط بالاستشراق، والحضارات القديمة والفنون الإسلامية والزخرفة والحروفية والموروثات الشعبية والاستلاب والهجرة وضياع الهوية في ثنايا العولمة. دون أن ننسى أن الثورات والأحداث السياسية خلال القرن العشرين دفعت بالعديد من الفنانين إلى التمسك بالأرض والواقع واعتبار أن التعبير عن الثورات والحروب هو تعبير حي عن الهوية الحالية، كما أن تصوير الريف والقرى في الذاكرة هو تمثيل لها [سلطان 2013. ص 42-44].

لذا، طوّع الفنانون في العالم العربي أدواتهم ومفرداتهم التشكيلية والبصرية لصالح رؤيتهم تجاه الفن الحديث والمعاصر، وشكلت الموروثات الثقافية والشعبية مصدر إلهامٍ لعديد منهم منذ منتصف القرن العشرين، فهي الوعاء الحاضن لهويات الشعوب والحضارات والإنسان منذ القدم، وهي خزان المعارف التي تداولتها الأجيال بدءاً من الأداب والفنون والموسيقى والعادات والتقاليد وصولاً إلى أسلوب حياة كاملة تقترن بمفهوم نقل وتوارُث هذه الموروثات التي تقوم على ركيزتنين، الأولى: الشفوية، أي التي تحفظ في الذاكرة وتستمر وهي بذلك تمثل علم الفولكلور الذي عرف في القرن التاسع عشر، والمتخصص في دراسة الثقافة الشعبية للمجتمع. أما الثانية فهي تدوينية مكتوبة والتي تشكل مرجعاً لدراسة علم التاريخ.

غير أن النكوص إلى مرجعيات ثقافية مادية وغير مادية متعددة بدت للفنانين العرب مخرجاً للإشكاليات الفنية المطروحة في العالم العربي، ما جعله يسعى للمواءمة، في بعض الأحيان، بين ما صنعه التراث تلقائياً وبين اقتراح الفنان في استخدام مواد وأدوات تلامس صميم الثقافة الشعبية، كاستخدام الجلود، الحنّاء وغيرها من المواد التي تم إقحامها وتوظيفها بأسلوب حديث ومعاصر، فكانت النتاجات الفنية العربية مرادفة لمفهوم الحداثة، وفيما بعد أثمر ذلك اللقاح سياقات غير متناهية من النظم الفكرية والفنية والدلالية في مرحلة ما بعد الحداثة. ويبقى إدراك الجمالية للرسوم الشعبية في الفن الحديث والمعاصر خاضعاً ومتصلاً بالتطورات التي طبعت العصر منذ منتصف القرن العشرين ومهّدت بدورها إلى توظيف كل المدركات الشعبية في طروحات ما بعد الحداثة.

التراث الثقافي في العالم العربي:

استطــردت الـدراسـات في تعريف مصطلح الثقافة، فقد عرّفها عالم الأنتروبولوجا كلارك ويسلر Wissler.C على أنها «كل الأنشطة الإجتماعية في أوسع معانيها مثل اللغة والزواج ونسق الملكية والإيتيكيت والصناعات والفن» [الساعاتي 1983 ص: 35]. وهذا الإصطلاح يتفق ورأي ف. بواز F. Boas ، كما أن ليزلي وايت Leslie White يصفها على أنها « تنظيم خاص من الرموز»، في حين عرفها العالم الإنتروبولوجي إدوارد بورنث تيلر E. B. Tylor «هي ذلك المركب المعقد الذي يشمل المعلومات والمعتقدات والفن، والأخلاق والعرف والتقاليد والعادات وجميع القدرات الأخرى التي يستطيع الإنسان أن يكتسبها بوصفه عضواً في مجتمع» [المرجع نفسه ص: 35] على حسب ما جاء في كتاب تيلور في كتابه الثقافة البدائية (Primitive culture- 1871) وهو التعريف الأكثر شمولية.

وفي العالم العربي يربطها الفلاسفة المعاصرون بالحضارة العربية، يشير محمد عابد الجابري إلى أن الثقافة العربية مرهونة ومرتبطة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهي تشكل حلقة الوصل بين كل تلك الوضعيات والفكر العربي الراهن. وهذا الدور الذي تقوم به هي عملية منتجة «لأنها لا تنقل التأثير كما هو، بل تنقله كنتائج، وبالتالي كمؤثرات... فتتحول إلى معطيات ثقافية» [الجابري 2010. ص: 69].

ويحدد حازم خيري مصدر الثقافة العربية، في أربعة عناصر أساسية وهي الإسلام، اللغة العربية، العادات والتقاليد، والثقافات الفرعية الأخرى.

فلقد شكّل الإسلام، بما قدمه للثقافة العربية وللتغيرات التي طالت الفكر العربي مع دخوله المجتمع العربي وبعد وفاة الرسولﷺ، وما حملته العقيدة من رفض قاطع من جهة وقبول صريح من جهة أخرى لبعض سلوكيات المجتمع آنذاك، وانعكاس الدين على طبيعة النظام السياسي، شكـّل الحداثة البكر في حياة العرب، حالة ثقافية وفكرية جديدة أحدث ثورة على المفاهيم التي سادت قبل الاسلام. وكان من دوره أن كرّس اللغة العربية التي انتقاها لتكون لغة القرآن الكريم وباعتبارها حاضنة للفكر العربي.

وإلى جانب الإسلام واللغة، تأتي العادات والتقاليد لتبدو وكأنها تشكل إرثاً ثقيلاً على عاتق الثقافة العربية، مع أنها إحدى مقومات هذه الثقافة، والحافظة لجوهر هويتها، وبالرغم من الالتصاق المتين بينها وبيننا إلا أنها، اليوم، إحدى أسباب الجمود الثقافي، فارتباط العادات والتقاليد بالاغتراب الثقافي يجعلنا عاجزين عن اختبارها والتصدي لمشكلاتها في هذا العصر المتغير، للتمسك بما يتلاءم مع معطيات العصر ويتوافق مع التحولات الفكرية التي طالت كافة شرائح المجتمع [خيري، 2006. ص: 28]. ولا يختلف الامر كثيراً عندما نراقب إسهامات الثقافات الأخرى في تكوين ثقافتنا، فلا ثقافة تولد من دون تفاعل الحضارات والثقافات المجاورة. لقد بات تفاعل الثقافات من اهم مكونات التطور والتقدم الثقافي في عصر انفتحت فيه كافة المعارف والعلوم على بعضها، وانسحبت الجغرافيا من قائمة معوقات الانفتاح الثقافي. إن المجتمع العربي يزدحم بالثقافات المتعددة، فعلى سبيل المثال لا يمكن إزاحة الثقافة الكردية من ثقافة المجتمع العراقي، أو الثقافة الأرمنية من ثقافة المجتمع اللبناني، والقائمة تطول، ولا ننسى الحضارات القديمة التي تحدّرنا منها ودورها في تكوين ثقافة فاعلة [خيري. 2006. ص: 18].

إن المقومات الأربعة السابقة هي التي كونت ثقافة العرب، وهي التي تمحور حولها عدد كبير من النتاجات الفنية التي تشير إلى مرحلة البحث عن الذات والخروج من الكلاسيكية المفرطة. فكان استلهام التراث يجول في الموروثات الثقافية(1) المادية وغير المادية، ما فتح المجال للغوص في التجريب وتحديث الشكل وتطويعه بما يضمن استمراريته وبما يتلاءم مع روح العصر، بهدف كتابة تاريخ جديد لفنوننا العربية، وإيجاد روابط تجمع بين التوجهات الفنية للرواد والثقافة الجديدة، وذلك من خلال «العلاقة الوثيقة بين الذاكرة الجماعية والمخيلة الإبداعية والتحرر من قيود الموضوع كمشهد تصوّري (أو كمنجز تجسيدي) وإعطاء اللون او الصورة أو الوثيقة أو التشييد معان جغرافية- رمزية تعكس دلالات الانتماء إلى المحيط العربي من خلال علامات الارض وهوية الأمكنة وإشاراتها التراثية والحضارية» [سلطان، 2013. ص: 28].

القرن العشرين والنكوص الثقافي في العالم العربي:

شهدت الحركة التشكيلية في العالم العربي خلال القرن الماضي، تحولات ومراحل انتقالية متعددة، بدأت مع اكتشاف الفن الغربي والتأثر به وبناء وسط تشكيلي في العالم العربي، ولكن ما لبث أن وجّه المثقفون أعينهم نحو التراث، كما أسلفنا، وعقد صلات وصل جديدة معه سعياً لخلق ثقافة مستقلـّة حديثة تجد جذوراً لها في التقاليد السائدة ومغايرة عن ثقافة المستعمر، محاولين التمايز عن الآخر الغربي. ويعود السبب في ذلك إلى أمرين، أولهما، أن القرن العشرين حمل أحداثاً كبيرة في أوروبا، تعرّض الفن الغربي على أثرها لكثير من التقلّبات التي انعكست في تغيير مساره، والسبب الثاني يعود إلي رغبة العرب في إيجاد فنٍ عربيٍ خاصٍ للمشاركة في الحركة الفنية العالمية، وخلق ذلك لديهم إشكالية استلهام مفاهيم الفن الغربي وفكرة التقدّم والحداثة والتي ولّدت يقيناً عربياً أن كل ما يأتي من الغرب يفترض الأخذ به لأنه طليعي. لكن تلك التغيّرات لم تكن بهدف ضروريات حياتية، بل لبلوغ الحداثة وهو ما جعل المثقّفين يطلقون، بسهولة، عناوين مدارس واتجاهات أوروبية لا تلبي، عمقاً، الفكر التصميمي الذي يدل عليها، كالانطباعية، التكعيبية، السوريالية، والتجريدية وغيرها من المدارس والاتجاهات الفنية.

إزاء هذه التبدلات العميقة في رؤية الفنانين العرب، والتساؤلات العميقة حول هوية اللوحة العربية، والصراع الحاصل بين التقليد والتجديد، أو بين التراث الشرقي والحداثة، وطرق استيعاب التيارات الفنية المعاصرة، التي استحوذت على اهتمام الفنانين العرب في العقود الوسطى من القرن الماضي، كان للمعطيات دورٌ في بلورة فن عربي إنطلاقاً من فكرة تبنّي الأفكار الغربية، والانتقال إلى محاولات الاندماج والتلاقي مع الموروث وتقديمه بأسلوب عصري في اللوحة العربية (أي تحديثه)، فما هي المؤشرات والمرجعيات التراثية التي قام عليها الفن الحديث والمعاصر في العالم العربي؟

وتختلف التوظيفات الشكلية للموروثات الشكلية، فهي ذات دلالات تعبيرية وجمالية شكّلت مرجعاً بصرياً هاماً لعديد من الفنانين العرب تلتقي والتوجهات المعاصرة، فجلّ المفردات التشكيلية الشعبية ترتبط بالوجدان والأساطير والقصص المتداولة منذ أجيال، والتي فتحت المجال لأن تكون الفنون الشعبية في الموروثات الثقافية معادلة لمسألة الأصالة في الفن لا سيما وأنها تجمع في طياتها على مفهوم التراث ومسألة الهوية/ الأصالة ومسألة الحداثة الفنية.

إن مصطلح الأصالة الفنية وما يحمله من أسئلة وارتباطات بروح التقليد الإنساني، أو الرجوع إلى الفنون القديمة و الحضارية أو ارتباط الأصالة بمفهوم الالتزام هي تساؤلات طرحها الفنانون والأدباء في لقاء عقدته منظمة الأونيسكو في باريس عام 1959.

إن كثيراً من الفنانين انحازوا إلى الحرف واللغة بما في ذلك الشعر والأدب، ومنهم من أثار الفكر الصوفي وفلسفة الإسلام فلجأ إلى الفن الإسلامي منبع التجريد الهندسي، فكان الحرف العربي، هو الخيار الأساسي لما له من رموزيّة تجريدية في الإسلام، وأهميّته تكمن في ما له من خاصيّة قدسيّة، فهو «الوعاء الواقي للشرائع والقوانين السماويّة والدنيويّة التي سنّها الإسلام» [قديح 1990. 47-59]، والخط العربي عبّر عن التوجّه المركزي للفكر العربي للمسلم وفي تقديس الله، فهو تعبير عن «التبتـّل والهيام بالحضرة الإلهيّة»[عطوان. 1995].

وهناك مجموعة أخرى اختارت موضوعات الحياة اليومية والإجتماعية والمكان التي يخص مجتمعا دون آخر في حين نحا آخرون إلى استلهام رموز الحضارات القديمة التي سكنت المنطقة منطلقين من المتاحف التراثية لكل بلد (كالحضارات الفرعونية، السومرية، الفنيقية... وغيرها)، دون أن ننسى أن الأساطير (مثال، أسطورة كلكامش) شكلت منبعاً هاما ومحفزاً للفنون المعاصرة عند كثير من الفنانين العرب.

والرموز الشكلية تحمل مضامين دلالية هامة، كالإشارة إلى القوة والحياة (رمز الشمس)، رموز سنابل القمح والنخيل تشيران الى الخصوبة والرزق، السيف يشير إلى البطولة والشجاعة، وقد زخرت اللوحات العربية التي أشارات إلى السيف في رسوماتها من المنمنمات حتى اللوحات الحداثوية في الفن التشكيلي في القرن العشرين. والكف يرمز إلى إبعاد الحسد والعين، بالإضافة إلى الأشكال الهندسية وما تحمله من دلالات سحرية وفيما بعد ارتبطت بالفكر الإسلامي فكانت أحد المرتكزات الأساسية للزخارف الإسلامية وفي القرن العشرين بات يشكل قمة التجريد الهندسي ومرجعا حداثويا مهما في الفن. دون ان ننسى الرموز الشكلية الحيوانية [الطيلوش. موقع إلكتروني].

ان الرموز الفنية تحافظ على معناها ومستوى تعبيرها طالما بقيت كما هي، لأنها ترتبط بالمدلول، هي «علاقة عضوية لا تفرض عليه من الخارج، أو باللاصطناع وإلا تحول الرمز الفني الأصيل أو العمل الفني كله على العموم إلى إشارات مصطنعة تضعف من العمل الفني ومن أصالته» [محمد. الملتقى الوطني الرابع]، وبالتالي فإن الإشارة تدل على الوجود المادي، في حين أن الرمز يرتبط بالمعنى الإنساني، وأن إحداث أي تغير أو استبدال سيؤدي حتماً إلى تغيير الدلالة. والرموز الشعبية Folk Symbols هي «دلالات شكلية نابعة من فطرية التعبير، ومعاني مصاغة في أشكال أصبحت علامات تدل على عادات وتقاليد كل شعب» [عبد الله. 2018]. اما العلامة فهي وبحسب فريديناند دي سوسير Ferdinand de Saussure «وحدة ثنائية المبنى تتكون من الدال والمدلول» معاً [محمد. ص 136].

اوتستمد الأشكال البصرية أهميتها وقوتها من كونها حصيلة تفاعل الإنسان مع الزمان والمكان، ومن عمليات الاتصال والتواصل الناتجة عن مجموعة العلاقات الإنسانية. أما العالم العربي فإن الاتصال الحاصل بفعل التقارب والتدخل الجغرافي ووحدة التاريخ أثرى القيم التراثية للفكر الشعبي السائد في مجتمع ما، لأنها قادرة على ابتداع الرموز الإشارات، وبالتالي فإن المجتمع هو من يصطلح عليه ويحدد معناه. ويطلق الباحث أكرم قانصو مصطلح التصاوير الشعبية على الدلائل الشكلية التي يصفها بأنها فن فطري تخضع لتقاليد متناقلة بين عامة الناس الذين يتمتعون بثقافة عادية. وتبقى قيمة الرمز قائمة ضمن هذا المحيط، ومتى خرج منه فقد قيمته ومعناه. أما المفردة التشكيلية الشعبية فتتميز بأنها لا تخضع لمقاييس الفن الأكاديمي، وهي أشكال ترتبط ببيئة الفنان والثقافة الطاغية في المجتمع.

الجماعات الفنية وآليات استلهام التراث الشعبي:

ولدت جماعات فنية متعددة في مختلف الدول العربية مع تزايد البحث في الأساليب الفنية الحديثة وإطلاق العنان لحرية التعبير، وكانت في معظمها تدعو إلى التجديد والحداثة أو التوفيق بينها وبين الموروث الثقافي. وبذلك تحول البحث عن الذات إلى البحث في أساليب جديدة مختلفة عن السابق، وسار في اتجاهين، الاول، يبحث في الواقع الاجتماعي والسياسي والطبيعة والرمز، والثاني راح إلى الموروث التاريخي المحلي والإسلامي. كما أن البحث في خصوصية ذاتية أخذ شكلين، أحدهما أخذ يبحث في تكوين خصوصية محلية كخصوصية مصرية أو عراقية في الفن، وأخرى خصوصية قومية عربية منطلقاً من التراث العربي والعمل على تقديمه بأسلوب حداثوي غربي. وإقامة مصالحة بين الحضارتين التشكيليتين [مظفر 2008.ص 589] فتظافرت الجهود وبدأت التنظيرات الفكرية والأدبية ترافق الأداء التشكيلي للفنانين مع تأسيس الجماعات الفنية.

وقد نشأت في مصر جماعة الخيال 1928، على يد محمود مختار (1891-1934) ومن أعضائها محمود سعيد (1897-1964)، راغب عياد (1897-1964)، يوسف كامل (1891-1973)، محمد ناجي (1888-1956)، أحمد صبري (1889-1955). وفي عام 1934 تأسست جماعة رابطة الفنانين المصريين على يد حسين محمد يوسف (1910-1975)، إبراهيم جابر (1902-1972) وغيرهم. وهي تدعو إلى العودة إلى الجذور، حيث لم يكن هناك وجود فن قومي من دون العودة إلى الماضي، والاعتقاد بأن إعادة قراءة التراث والإرث الثقافي العربي يتيح المجال أمام التحديث في العالم العربي. وبما أن الإرث الثقافي الحضاري تم إدخاله في عدة مجالات فقد عمل مختار على إدخاله في مجال الفنون التشكيلية. وتشكل منحوتة «نهضة مصر» لمحمود مختار مثالاً بارزاً، فعلى الرغم مما تحمله من كونها رمزاً من رموز التحرر والنضال والاستقلال، إلا أنها تعكس أسلوبه وكأنه يجمع بين الفن الفرعوني والكلاسيكية الجديدة، الأسلوب الذي تعلمه واختبره في فرنسا، ومع أنه عاد إلى الفنون الفرعونية إلا أن المسحة الغربية كانت ظاهرة في أدائه التشكيلي، لأن الهمّ الأساسي هو إضافة مسحة محلية على هذا الفن الغربي المستورد. فهي تمثل «أبو الهول برأسه المرفوع كنمرٍ متحفـّزٍ للوثوب، رمزاً لمصر بكل تاريخها. إلى جانب أبي الهول للجهة اليمنى، تنتصب فلاحة أماطت عن وجهها الحجاب، رمزاً لمصر الآخذة بالحداثة» [يوسف. ص: 75]. ولقد حدّدت هذه المنحوته أسلوب مختار النحتي فيما بعد، ورسمت مرحلة فنية لاحقة في مصر. إنها رمز يربط الثقافة المحلية وماضي مصر بتقنيات الفن الحديث، وتحمل في طياتها رفضاً للوجود الاستعماري على أرض مصر.

ومن ثم جاءت جماعة المحاولون 1934 التي انبثق عنها جماعة «الفن والحرية» 1937 وهي جماعة أدبية يسارية المنهج والإتجاه [قاسم، 2017، صفحة 65]، على يد جورج حنين (1914-1973) وتعتبر هذه الجماعة بمثابة استجابة لما كان يطلقه أندريه بريتون Andre Breton حول مسألة حرية الفن (من أجل فن حر مستقل) 1938، وهذه كانت بداية السوريالية في مصر.

أما جماعة الفن الفطري أو الشعبي 1934 فقد كانت تهدف إلى الحفاظ على التراث والفنانين الشعبيين والموهوبين الذين لم يتعلموا الفن، في حين سعت جماعة الفنانين الشرقيين الجدد 1937 إلى إيجاد نسق تحديث الفن الشعبي، ومن أبرز المنتمين لها كامل التلمساني (1915-1972).

وفي الأربعينيات، مع تصاعد مسألة الأصالة ولدت جماعة الفن والحياة 1946 وقد رفض مؤسسوها الأسلوب الاكاديمي على النهج الغربي ونادت بالاهتمام بالفن القومي ومناهضة المذاهب الفنية الغربية والحفاظ على الهوية المصرية من خلال استلهام الطبيعة المصرية.

وتزامن وجود جماعة الفن والحياة، جماعة الفن المعاصر 1946 التي بدورها نادت بالإستعانة بالتراث الثقافي في الفن، وتصوير الحياة الشعبية واهتمت بالموروث الشعبي الأسطوري [عقيل 2018]، وقد مهدت لتأسيس جماعة الفن المصري الحديث في العام نفسه، التي دعمت المواضيع الشعبية وكان من بين أعضائها حامد عويس(1919 - 2011)، حامد ندا (1924 - 1990) ويوسف كامل (1891 - 1973). وكان الهدف من هذه الجماعة أن تقيم توازناً بين المبادئ التي أتت بها جماعة الشرقيين الجدد وجماعة الفن والحرية (1939).

واستمرت الجماعات الفنية في الظهور في ستينيات القرن المعرض حيث تأسست جماعة الفنانيون الخمس عام 1962 فرغلي عبد الحفيظ (1941)، رضا زاهر، نبيل السيد الحسيني (1939)، علي نبيل وهبة (1937)، عبد الحميد الدواخلي(1940-1991) وقد قدموا طروحات لتطوير الخامات والاهتمام بالبيئة والتراث المصري. وبعدها أتت جماعة المحور 1981 تدعو للحفاظ على الهوية.

مع كثرة الجماعات الفنية في مصر المنادية بالتراث المصري، توسّعت مروحة الاتجاهات الفنية، فكان الاتجاه التقليدي، واتجاه استلهام التراث الفرعوني، والاتجاه الشعبي، والفطري، والتعبيري الاجتماعي، والتجريدي الإسلامي[اسكندر وآخرون 1998].

ولم تكن تجربة العراق بعيدة عن مصر، إذ ترأس الفنانون القادمون من أوروبا الجماعات الفنية، فكانت جماعة الرواد 1950 بزعامة فائق حسن (1914-1974) ومن مؤسسيها الفنانون اسماعيل الشيخلي(1924-2002) ومحمود صبري (1927-2012)، وكاظم حيدر (1932-1985)، وقد اتسمت أعمالهم بالتجريب وعدم وجود أسلوب فني يجمع أعضاء الجماعة، وانضم إليهم فيما بعد جواد سليم (1919-1961) الذي ما لبث أن انفصل عنهم مؤسساً جماعة بغداد للفن الحديث 1951 مع جبرا ابراهيم جبرا (1920-1994) وشاكر حسن آل سعيد (1925-2004) الذين عرضوا مسألة التوفيق بين التراث العربي والمعاصرة، ومحاولة ربطها بأساليب جديدة وقيم فنية حديثة. وفي بيانهم الأول عام 1955 دخلت على العمل الفني مفاهيم جديدة منها، «الشخصية المحلية» و«المنهج الجماعي» و«التاريخ الوطني» وهي عناوين أثارت مسألة العلاقة بين الانتماء التراثي والمسؤولية الوطنية [العزاوي 2002 ص: 153].

ويعد نصب الحرية(2) لجواد سليم خلاصة تجربته الفنية والأهم على الإطلاق في مجال النحت، ويمكن للباحث استشفاف تأثير الحضارات القديمة (السومرية والبابلية) وأساليب الفن الحديث إلى جانب تأثير الحضارة الإسلامية.

تمكن جواد وشاكر من خلال مبادراتهما في تغيير مسار الحركة التشكيلية في العراق وفي العالم العربي كافة. فما قدماه مع جماعة بغداد للفن الحديث، من حيث التطلّع إلى التراث وإعادة قراءته من جديد ومحاولة مزاوجة الفن الحديث بالتراث، فتح المجال للبحث في الموروث الثقافي والحضاري بشكل عام. فكانت الشرارة الأولى التي انطقت في العالم العربي للتأكيد على هوية عربية في الفن.

وفي عام 1953 تأسست جماعة الانطباعيين مع حافظ الدروبي(1914-1991) الذي حاول المزاوجة بين الأسلوب الانطباعي الغربي مع الروح الحضارية المحلية.

اما فترة الستينيات فقد امتازت بإستغنائها عن أي وعي نظري واضح في الفن مفضلة ظهور العديد من الجماعات الفنية التي كانت تُعنى بالبحث عن التقنية، على حساب الالتزام الفكري فظهرت جماعة المعاصرين عام 1965 وجماعة المجددين في نفس العام والتي تميل إلى التعبير عن حالات اللاوعي وعن الحالاتت النفسية. وبدا أن التراث رافداً هاماً في العملية التعبيرية والإبداعية مع جماعة الرؤية الجديدة. بالإضافة إلى جماعات أخرى برزت محلياً في الفترة نفسها، منها جماعة 14 تموز، وجماعة حواء وآدم، وجماعة المدرسة العراقية الحديثة في عام 1966. ثم جماعة الزاوية وجماعة الحدث القائم، وجماعة تموز عام 1967. كما ظهرت جماعة البصرة، وجماعة البداية عام 1968. أما في عام 1969 فقد ظهرت فيه كل من جماعة (الفنانين الشباب) و(13 تموز) و(الفن المعاصر).

في حين ارتفع رصيد الجماعات في 1970 إلى ثمانية هي: (جماعة نينوى للفن الحديث) في الموصل و(جماعة السبعين) و(جماعة المثلث) و(وجماعة الدائرة) و(جماعة الظل) و(جماعة فناني السليمانية) في السليمانية و(جماعة باء) و(جماعة النجف) في النجف.

ومع عام 1971 برزت ثلاث جماعات فنية هامة: جماعة البعد الواحد مع شاكر حسن آل سعيد وجميل حمودي (1924-2003) ومديحة عمر (1908-2005) وكان هدفهم كشف معالم الحضارة العربية واستلهام الحرف العربي لأنه جزء من التراث العربي، وإعادة النظر إليه كشكل وليس كرمز له بعد دلالي كما جاء في بيان الجماعة، مضيفين أهمية الحرف في أن يقيم علاقة بين الفن والأشياء المحيطة مع التطلع إلى مبادئ مدرسة الباوهاوس، ونشر الأبحاث في مجال الحرف في مختلف الدول التي تتشارك والعراق في التراث نفسه [آل سعيد 1988].

لقد كان تأثير هذا البيان واضحاً على الفنانين العراقيين والعرب الذين اشتغلوا على اللوحة التجريدية، وقد بدا ذلك واضحاً في أعمال أعضاء الجماعة.

كما أن أسلوب شاكر حسن في الحرق والتلطيخ انتقل بشكل سريع إلى طلابه، لا سيما هناء مال الله (1958) التي برعت به ونقلته إلى الغرب وهي التي تنتمي إلى جيل الثمانينيات، الذي تتلمذ على يد شاكر حسن آل سعيد، الذي أطلق العنان للمواهب وخلق مسارات جديدة مستمدة ومتأثرة بالتراث الحضاري للعراق. لا سيما استحضار الرموز والأشكال من فنون بلاد الرافدين. فالبحث عن هوية في الفن بدأ عام 1950، مع رائد الفن الحديث في العراق جواد سليم، وهذا التوجه في الفن لم يتوقف بعد وفاة جواد أكمل ضياء العزاوي (1939). ذلك الجيل الذي ارتهن فنه بما آل إليه الواقع في العراق، فوسط الخراب والدمار الذي حل بالوطن نلاحظ أن معظم الفنانين اتجهوا إلى تعزيز الاهتمام بالتراث والهوية، وزيادة البحث في التقني والفكري في الفن، لأن الأحداث ضاعفت من أزمة الفنان في تأمين ما يلزمه من أدوات ومواد للفن، ما دفعه للاستفادة من بعض المواد الجاهزة، أو إيجاد عناصر جديدة في العمل الفني. وهذا البحث في الفن والتقنية استمر مع الفنان حتى بعد خروجه من العراق.

وبالإضافة إلى جماعة البعد الواحد برزت جماعة الأكاديميين وكان هدفها التأكيد على أسلوب الأكاديمية العراقية، أما جماعة الواقعية الحديثة فقد أكدت على واقعية نقدية سعت من خلالها إلى بناء حضارة محلية. وفي الثمانينيات برزت جماعة الأربعة التي دمجت بين الواقع والخيال والأسطورة.

كل ذلك يشير بأن تصاعد الاهتمام بمسألة التراث كان سعياً لتلمّس أصولنا التقليدية، ولإدراك القيم التي أسهمت في عملية التطور الحضاري، فاستلهام الحرف العربي كان الوسيلة الوحيدة في مواجهة الثقافة الغربية خاصة في تجربتي مديحة عمر وجميل حمودي اللذين اشتغلا بالحرف منذ أواخر الأربعينيات. فاللوحة الحروفية، تجمع بين القيم الجمالية للخط العربي وقيم التشكيل الحديث وهي منبثقة من تيار المدرسة التجريدية ( الخطية، الهندسية، اللونية)، فتعالى التجريد مقابل تراجع اللوحة التشخيصية، وتوضّحت معالم الحروفية في خمسينيات القرن الماضي. إذ تنامت هذه الحركة في لبنان مع الفنان وجيه نحلة (1932-2017) الذي حاول أن يؤسس تيارا حروفيا كلاسيكيا، كان يستدعي الحرف دون أن «يكيّفه مع أشكال الفن الحديث»، لكن ما لبث ان حوّل الحرف إلى عنصر أساسي في فضاء لوني غني بالحركة في نمط تجريدي حديث.

إن تجربة نحلة في الحروفية والتجريد بدأت منذ أواخر الخمسينات وامتدت لعقود، مرّت خلالها لوحته بعدة مراحل. فلقد كانت حروفياته تختزل في الحرف بشكل بدائي وفطري يشبه إلى حد كبير اللغات الشرقية القديمة التي كانت فيه الكلمة والحرف عبارة عن رمز لشيء أو مخلوق أو موضوع، لذا توالفت في أعماله التجريبية المبكرة... توالفت في البناء العضوي العام للوحة الحروفية بالقرب من تجسيد رمزي مقتصد لأشخاص في مساحة هندسية محددة، غالبا ما تكون مربعا أو مستطيلا مسطحا يغيب عنه البعد الثالث. وأحيانا كان يقسم بناء اللوحة إلى جزأين: علوي وسفلي تتداخل فيه الحروف بالجسد الإنساني. وفي منتصف الستينات دخلت حروفه في لعبة اللون والضوء، وجدلية العلاقة بين الحرف وحدود اجساد شخوصه، بحيث تتجسد في وحدة هندسية صوفية تشبه الفن البوذي والهندي المطعم بالإسلامي.

ولقد كان ظهور الجماعات الفنية قليلاً في لبنان، وفي مراحل متأخرة مقارنة مع بعض الدول العربية، فقد ظهر (التجمع الشرقي) في بيروت عام 1967، وكان من أعضائه البارزين: منير نجم (1939-1990)، عادل الصغير (1930) الذي اعتمد في أعماله على التراث العربي أكثر من استلهامه التراث البيزنطي، فانحاز إلى التجريد الإسلامي ومن ثم العربي، وذلك بفضل دراسته العلوم السياسية والفلسفة، حيث انحاز إلى الحروفية والخط العربي. وفي عام 1969 أصدر رفيق شرف (1932-2003) منشوراً سرياً يحمل رفضه لفن الغرب، لاعتباره لغة جديدة غريبة عنه، فهي لا تتوجه إليه ولا تخاطبه. وقد عرف شرف بإستلهامه مواضيع من التراث الشعبي وتحديداً رسومات عنترة وعبلة، التي جمع فيها بين الأسلوب الفن الغربي وطريقة فن المنمنمات العربي والواسطي. [قديح 2017 ص. 116]

وفيما بعد كان تجمع الفنانين العشرة في طرابلس 1974، وكان هدفهم استلهام المنابع التراثية للبيئة المحلية الشرقية الاسلامية بروح معاصرة ومن بينهم، محمد عزيزة (1949) وعدنان خوجة (1948).

الملتقيات العربية والبيناليات الفنية:

إن الدعوة إلى تحقيق الأصالة في الفن لم تكن تعني، بحسب عفيف بهنسي، إلى إحداث توافق بين المعاصرة والأصالة، فالأول يسعى إلى عالمية الفن في حين الأصالة تسعى إلى الحفاظ على الهوية المحلية، بل هي دعوة إلى إستجابة لأصالة متطورة تلبي طموحات الإنسان، أما المعاصرة فهي التطلّع إلى التجديد والإبداع [بهنسي، 1979 ص: 150] .

كما أن مسألة الهوية والأصالة أخذتا مساراً مختلفاً مع تطور الأحداث السياسية والإجتماعية في الوطن العربي، وأصبح الالتزام تجاه القضايا الراهنة وجهاً من وجوه التحرر والنضال في الفن. وهو ما دفع بالحركات الثقافية إلى عقد لقاءات عديدة لتأصيل الحركات الفردية والتلقائية للفنانين العرب ووضعها في بوتقة واحدة لها سمات مشتركة جامعة، يمكن صهرها لتأسيس إتجاه فني ملتزم في العالم العربي، ويشير بهنسي إلى أن ما أنتجه الفنانون العرب ينحصر في كونه ردة فعل رافضة للممارسات الغربية لذا فهم اختاروا مواضيع قومية، وأخرى مسحوبة من التقاليد الشعبية والفلكلورية للتعبير عنها.

إن كل ما حدث على الساحة العربية من أحداث سياسية واجتماعية دفع بحركة النقد إلى أن ترافق الممارسات الإبداعية والتظيرية للجماعات الفنية. فكانت بدايتها مع المؤتمر الدولي دفاعاً عن الشرق والغرب الذي أقيم بمناسبة افتتاح قصر الأونيسكو في بيروت حيث أقيم معرض فنيَ شارك فيه فنانون من لبنان والعراق ومصر وسوريا، وهي الفترة الزمنية المرافقة لأحداث نكبة 1948 في فلسطين.

تلاه البينالي العربي الأول لفنون دول البحر الأبيض المتوسط الذي أقيم عام 1955 في الاسكندرية بمناسبة العيد الثالث لثورة يوليو 1952(3)، في هذا البينالي وفي دورته الأولى اقتصرت المشاركة على ثلاث دول عربية لبنان، سوريا ومصر بالإضافة إلى اليونان وإسبانيا، فرنسا، إيطاليا، يوغوسلافيا، لكن في دورته الثانية 1957 ارتفع عدد الدول العربية المشاركة إلى عشرة دول(4) حيث ارتفع نصيب الدول العربية المشاركة إلى خمس. واستمر بينالي الإسكندرية بنشاطته.

لكن المؤتمرات الدولية والملتقيات سعت إلى طرح مسألة الأصالة والهوية على نطاق واسع، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، انعقاد مؤتمر الأدباء العرب 1958 في الكويت، وكان مؤتمران متتاليان لمنظمة الأليكسو (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم) 1971 في القاهرة تحت عنوان (الأصالة والتجديد في الثقافة العربية المعاصرة)، وفي ديسمبر 1971 في دمشق المؤتمر العربي الأول للفنون الجميلة، وعالجت قضية التراث والأصالة. وأسس هذا المؤتمر لاجتماعات أخرى حيث تلاه «المهرجان العربي الأول للفن القومي التشكيلي»، الذي أقيم في دمشق 1972 تحت شعار الفن التشكيلي في معركة المصير، شارك فيه فنانون من عشرة دول عربية، عرضوا أعمالهم وناقشوا مسؤولية الفنان في قضايا مجتمعه، وتم البحث في الفن الملتزم والفن القومي ومهرجان الواسطي حيث دخلت هذه المسألة في صلب اهتمام المفكرين والفنانين العرب. وعادت مسألة الأصالة والتجديد في الفن إلى الواجهة مع مؤتمر اتحاد التشكيليين العرب الأول عام 1973، ومعرض السنتين في بغداد من العام نفسه، حيث اعتبر هذا المعرض الشرارة الأولى لتعددية المنجز التشكيلي العربي الحديث. ومن ثم كان ملتقى الفنون العربية في منطقة الحمامات في تونس الذي دعت له منظمة الاونيسكو 1974 حيث أطلق ثروت عكاشة (1921-2012) صرخة لإنشاء مركز لتأصيل التراث في الفن في العالم العربي وقد تبنت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم هذا الطلب 1975 أثناء مؤتمر الفن التشكيلي في الوطن العربي الذي انعقد في دمشق، وتحدد مقرّ المركز في الرياض لكنه لم ير النور بعد [بهنسي، ص: 161]. وفيما بعد تم الاعلان عن اتحاد الفنانين لدول المغرب العربي في الجزائر

إلى جانب هذه اللقاءات الفكرية، تم تنظيم عدة معارض فنية داعمة لتوجهات اللقاءات والمؤتمرات العربية التي تناولت الالتزام والأصالة والتجديد في الفن، كما حدث في مهرجان الواسطي، والمهرجان العربي الأول في دمشق، وكذلك المعرض الذي رافق المؤتمر الأول لاتحاد التشكيليين العرب في بغداد معرض السنتين، حيث كان الأول في بغداد بين 15/ 3/ 1974 و 4/ 4/ 1974. والمعرض الثاني في الكويت عام 1975 ثم في الرباط بين 27/ 12/ 1976 و27/ 1/ 1977. وفي عام 1978 أقامت الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية التي تأسست عام 1967 معرضاً فنياً استنهضت فيه القيم الجمالية والفكرية للموروث المحلي والعربي الإسلامي، فجسدت المعروضات الفنية مجمل الأعراف والتقاليد والحكايات والأساطير والحرف الشعبية ذات النفس الشعبي الملتصق وجدانياً بالفنان والمجتمع.

وتتالت المعارض فيما بعد فكان معرض السنتين للفنانين العرب في العاصمة الاردنية 1982، وبينالي القاهرة الدولي الاول عام 1984، وبينالي دول التعاون الخليجي الأول في الرياض عام 1989، ومسقط الدولي 1991، والشارقة. ولم تكن تلك البيناليات والمعارض تغوص في استلهام التراث بل تخطت هذه المسألة لتعود وتنخرط في موجة فنون ما بعد الحداثة خاصة في بينالي الشارقة عام 2003 [سلطان. ص: 48]

استنتاجات البحث:

إن قضية التراث طرحت في المشرق والمغرب العربي على حدٍ سواء، باعتباره مرآة تعكس ماضينا، فكان بالنسبة للعديد من الفنانين لكأنه قوة تدفع بتوجهاتهم نحو إثبات ملامح الشخصية العربية في زمن الحاضر والراهن. وهو ما حث عليه المثقفون لإعادة إحيائه. لكن هذا لا يعني أن الفنانين العرب أجمعوا على ضرورة الاستفادة من التراث بل على العكس، فقد برزت مواقف تعلن التخلي عنه.

إن تنوع وتعدد الجماعات الفنية وما تبعها من ملتقيات فنية تشير إلى محاولة الفنان العربي على التأكيد على أصالته وصدق إحساسه وانتمائه إلى وطنه، وهو موقف سجله الفنان في تحديد مكانة الالتزام السياسي والاجتماعي في نتاجه الفني، الذي يعتبر توثيقاً للبعد الوطني والمفاهيم والأفكار التي كانت سائدة في مجتمع ما، وهي تفرض علينا اليوم إعادة النظر إلى الموروثات بكل أطيافها بعين معاصرة وإعادة الاعتبار لها والتأكيد على الهوية الثقافية والعمل على حمايتها من التفكك والاندثار. «فما صنعه التراث تلقائيا يحاول التشكيلي أن يوظفه فكريا وفق رؤاه التشكيلية التي تتلون مع الأسلوب وبالتالي تخرج من أطرها الضيقة نحو العالم دون أن تفقد خصوصيتها أو تنفصل عن بيئتها». [العبيدلي. 2015]

سعى الفنان إلى تفعيل هذه المصالحة وفق خطابات جمالية وتوثيقية تمثل علامات ذات خصوصية، انتهج فيها تقنيات غربية حديثة لمضامين تراثية، فأتت نتاجاته تجمع ما بين التقنية والموضوع.

 الهوامش

1. ينقسم مفهوم الموروث الثقافي إلى المادي وغير المادي الموروث الثقافي المادي هو تلك المضامين المحفوظة ماديأ في صيغ ملموسة كالكتب، الرسوم، العمارة، الأثار والصناعات والحرف الشعبية وغيرها. اما الموروث الثقافي غير المادي فهو كل ما هو منقول شفاهياً مثال، اللغة، الحكايات، الأساطير، الموسيقى، الامثال، العادات والتقاليد والمعتقدات، وقد اطلق على هذا النوع من الثقافة مصطلح فلكلور أي حكمة الشعب أو معرفة الشعب.

2. نصب الحرية هو (بطول 50 مترا) وعلو منحوتاته ثمانية امتار، وهو اضخم نصب قام بعمله فنان عراقي، وقد استغرق تنفيذه سنة ونص. ويتألف من اربع عشرة وحدة من البرونز، في كل منها. يوجد شخصين او اكثر. وهو يروي قصة مسيرة الانسان نحو الحرية وعلاقته بالطبيعة مستفيدا من النحت السومري القديم مع اضافات حداثية قام بها جواد سليم ، هذا الفنان الذي كان له اطلاع شاسع على الفنون الحديثة وقد اثر فيه الحركة الحداثية بعدما زار اوربا واطلع على فنونها.

3. ثورة يوليو 1952: هو انقلاب عسكري حدث في مصر على يد مجموعة من الضباط عرفوا باسم تنظيم الضباط الأحرار، ومن نتائجها طرد الملك فاروق وإعلان جمهورية مصر.

4. الدول العشر المشاركة في بينالي الإسكندرية في دورته الثانية، هي: مصر، إسبانيا، ألبانيا، المغرب، اليونان، إيطاليا، تونس، سوريا، لبنان، يوغوسلافيا.

المراجع:

- حازم خيري د. (2006). الاغتراب الثقافي للذات العربية. ط1. دار العالم الثالث. القاهرة. مصر.

- سامية حسن الساعاتي د. (1983) الثقافة والشخصية، بحث في علم الإجتماع الثقافي. دار النهضة العربية. بيروت.

- شاكر حسن آل سعيد (1988) . فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق. ج الثاني، ط1. دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد.

- رشيد إسكندر وكمال الملاخ وصبحي الشاروني (1998) الفن التشكيلي الحديث والمعاصر في مصر. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. ط1. تونس.

- ضياء العزاوي (2001). لون يجمع البصر. نصوص وحوارات في الفن التشكيلي. منشورات تاتش. المملكة المتحدة.

- عادل قديح د. (2017). المقاربة اللبنانية للحداثة التشكيلية (1875- 1975) (الطبعة 1). بيروت: Encyclomedia SAL.

- عفيف بهنسي. (1979). جمالية الفن العربي (عالم المعرفة، المحرر) (العدد 14). المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب. الكويت.

- محمد عابد الجابري د. (2010). إشكاليات الفكر العربي المعاصر. ط 6. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت.

- محمود قاسم (2017). الادب العربي المكتوب بالفرنسية. (1). E- Kutub Ltd. لندن.

- مهى عزيزة سلطان د. (2013). الهوية الراهنة للتشكيل العربي المعاصر. دار الأنوار. ط1. بيروت.

- مي مظفر (2008). حصاد القرن، المنجزات العلمية والانسانية في القرن العشرين، الأدب والنقد والفنون، المجلد الثاني، مؤسسة عبد الحميد شومان، عمان، الأردن.

- أبحاث ودراسات في الملتقيات العلمية:

- حسان عطوان. (1995). اللوحة الخطيّة، جمالية الخط العربي، مؤتمر الفن العربي بين التغيير والإبهام، الشارقة،

- الإمارات العربية المتحدة.

- كعوان محمد د. الرمز والعلامة والإشارة: المفاهيم والمجالات. ورقة بحثية مقدمة في الملتقى الوطني الرابع «السيمياء والنص الأدبي».

دوريات:

- عادل قديح د. (يوليو/ أغسطس 1990). حول البنية الجمالية للخط العربي. مجلة الوحدة. العدد 70- 71. المجلس القومي للثقافة العربية. الرباط.

- عزة أحمد محمد عبد الله. (2018). رؤية مستحدثة لبعض الرموز الشعبية المصرية وتوظيفها لإثراء المعلقات المطرزة. المجلة العلمية لجمعية أمسيا التربية عن طريق الفن.

دراسات جامعية:

- بلاسم محمد. الفن التشكيلي.. قراءة سيميائية في أنساق الرسم. أطروحة دكتوراه غير منشورة.

- عبد الحليم بلواهم. (2006/ 2007). قراءة التراث العربي الإسلامي. حسين مروة نموذجاً. دراسة جامعية أعدت لنيل شهادة الماجستير في الفلسفة. كلية العلوم الإنسانية والعلوم الإجتماعية. جامعة منتوري قسطنطينة. الجزائر.

مراجع إلكترونية:

- حميدة الطيلوش. الرموز الشعبية ومدلولها في الذاكرة الجماعية العربية. الموقع الإلكتروني:

- http://www.myportail.com/actualites-news-web-2-0.php?id=6436

- ريم العبيدلي ( نوفمبر 2015) التراث الشعبي.. أبعاد جمالية. الوطن. الموقع الإلكتروني:

- https://www.al-watan.com/Writer/id/8166

مراجع ألكترونية ورقية:

- حنان عقيل (9/ 4/ 2018). الجماعات الفنية رماد لوهج قديم. التكنولوجيا وغياب الرهان الثقافي أثرا على الفن المعاصر. جريدة العرب /لندن. العدد 10954. الموقع الالكتروني:

- https://i.alarab.co.uk/s3fs-public/2018-04/10954_0.pdf

- مجدي يوسف. من التداخل إلى التفاعل الحضاري . كتاب إلكتروني راجع :

- www.kotobarabia.com

الصور

- من الكاتب.

1. محمود مختار( نهضة مصر):

- https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%AD%D9%85%D9%88%D8%AF_%D9%85%D8%AE%D8%AA%D8%A7%D8%B1

2. جواد سليم (نصب الحرية).

- www.espionart.wordpress.com/2014/07/18/iraqs-modernist-monument-to-the-14-july-revolution/

3. شاكر حسن آل سعيد : . مجموعة المتحف الوطني الأردني في عمان.

- universes-in-universe.org/ara/nafas/articles/2008/shakir_hassan_al_said/photos/05

4. وجيه نحلة: 1978 تجريد

- https://www.mutualart.com/Artwork/Abstract/1ADA4FC0DAE8ED86

 

أعداد المجلة