فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
59

من جماليات الشعر الشعبي الصوفي الحديث في منطقة الجلفة الشاعر سي احمد بن معطار – أنموذجا -

العدد 58 - أدب شعبي
 من جماليات الشعر الشعبي الصوفي الحديث في منطقة الجلفة  الشاعر سي احمد بن معطار – أنموذجا -
الجزائر

مدخل:

أدى الشعر الديني والصوفي في أثناء الاستعمار الفرنسي للجزائر دورا كبيرا، وشكّل مادة ثقافية ثرية، بالنسبة إلى الجماهير الجزائرية، لا سيما في المناطق البدوية البعيدة عن الحواضر الكبرى والمدن، واكتسب طابعا معرفيا وثقافيا وقدسيا بالنسبة للمتلقين في ذلك السياق التاريخي الذي عرف شح المادة الثقافية والمعرفية، وتضييقا على الحرف العربي وعلى التعليم بكل أنواعه.

كما «ارتبطت نشأة الشعر الشعبي الجزائري الحديث بنزعة وثيقة العلاقة بالدين لأسباب عديدة، اتصل أهمها بنشأة الشعراء الشعبيين نشأة دينية في زوايا العلم التي انتشرت هنا وهناك في الجزائر. وكذا حركت محنة الاستعمار في الشعراء مكامن العواطف الدينية التي لم يجدوا أفضل منها باعثا لأمجاد التاريخ الإسلامي كي يصبح وسيلة لتحريك الهمم ودفع الشعب إلى الثورة»(1)، إذن حاول الشعر الشعبي تحت نير الاستعمار أن يملأ بعض الفراغ الذي كان الأولى أن تملأه القصيدة الفصيحةـ يقول صالح خرفي في هذا السياق: «غير أن هناك وجها آخر للظاهرة الأدبية يمكن أن يخفّف من وطأة هذا الفراغ، وهو الوجه الشعبي لها فإنّا نجد في القصيدة الشعبية لهذه الفترة بالذات تصاعدا بقدر ما نجد في الفصيحة من تدهور، هذه الفترة التي تشهد مأساة الاحتلال، وترسيخ قدم المحتلّ بما يستتبع من اضطهاد ومطاردة فلول الثورات المتعاقبة، والتسلّط على الشعب الأعزل وإبادته فكرا وجسما وعقيدة. كانت القصيدة الشعبية المعبّر الأمين عن أبعاد هذه المأساة، وحين نعتمد هذا اللون من الأدب الشعبي وريثا للشعر الفصيح، فإننا نجد فيه من الأصالة والعمق والصدق موضوعا، ومن الشفافية والتماسك والرونق أسلوبا ما لا نجده في الشعر بلغته الفصحى»(2).

ولد الشيخ احمد بن معطار في هذه الفترة التاريخية الحاسمة ببادية زاغز في الزعفران في منطقة الجلفة خلال السنوات العشر الأولى من القرن التاسع عشر، حفظ القرآن ودرس مبادئ العلوم الإسلامية بزاوية سيدي علي بن اعمر بطولقة بسكرة، ثم انتقل إلى زاوية الشيخ المختار بأولاد جلال بسكرة، ووسع من معارفه في العلوم الإسلامية، حيث أخذ عن الشيخ المختار الطريقة الرحمانية رفقة المشايخ: عبد الرحمن بن سليمان، ومحمد بن أبي القاسم مؤسس زاوية الهامل، والشريف بن الأحرش .

بعد تخرجه من الزاوية التحق بعشيرته اولاد سي أحمد ليعلم القرآن الكريم والعلوم الدينية، وكان يقوم أيضا بفض النزاعات بفضل شخصيته القوية وكلمته المسموعة، وبلغت شهرته حاكم مدينة الجلفة آنذاك، فاستدعاه وعينه مكرها قاضيا عل المدينة، لكنه بعد فترة أقنع بذكائه الحاكم على أن يعفيه من المهمة .

توفي سنة 1873 حسب بعض الروايات ... ودفن بالمكان المسمّى عين الزينة التي تقع على بعد 7 كلم شمال الجلفة . بلغت قصائده 114 قصيدة تيمنا بعدد سور القرآن الكريم(3).

موضوعات شعره:

موضوع الوصف:

كبقية فحول الشعر الملحون الذين عاشوا في هذه الفترة الذهبية للشعر، ولع ابن معطار بموضوعة الوصف حيث بدت باقتدار موهبته الشعرية ولا سيما في تصوير الفرس الذي يبدو فيه الشاعر مضاهيا لوصف الجاهليين للفرس..

ومن هذه القصائد تلك التي يبدأها بوصف منطقته، ثم يعرج على موضوع الشكوى من الحالة المزرية التي آل إليها، حين أبدلته الدنيا بزهوها شقاء:.....

هـذا حــدْ بْــلادْنــا فـِــيهْ نْعــرَّفْ

ومْسـَـلَّـمْ عنهُمْ نْواحي في الــجِهَاتْ

قُولْ لْهُمْ مَنْ وَحشْكُمْ عُدتْ مْهَجَّفْ

كُل لَيْلَهْ نَا في مْنامي ثَمْ نْبَـاتْ

بــاغِي نـاس بْـلادْنـا عـنّي تعطــفْ

دين ْمع الدَّنيا شْهادَهْ في المَـمَاتْ

أبْقَى ياـ مرسُولْ في الجلفهْ مَوْقَـفْ

عـنْ بشَاقَا رَيَّحْ ثَـمَّ بـَـاتْ

تقُولُو فِي دُولْتَكْ رانِي نَسْخَـــــفْ

ِ غير نْكَافِي فِي ضْيَافِي باللَّقْطَاتْ

وازَّيْــنَهْ في تَـلْهَا عُـــدْت مْصَيَّف

غِير نْلَقَّطْ في حَصايَدْ بَالمَعْزَاتْ

عـاد عْيالِي في الْحَصَـايَدْ، ويْتَفْـتَفْ

بَعْدَ مّّّا كانُوا نْسايَا مَحْجـُوبَاتْ

الدنيا منْ عادْها تُغْدَى تَـهْدَفْ

بَعْدَ مَّا تَزْهَى تْوَلِّي بَالـحَسْراتْ

التَّرّاسْ يْجِيبْ الاَخبارْ يْشَـظَّفْ

يَبْطَى خبرُو ما يْفُك مْنَ النَّهْتـاتْ

ثم ينطلق الشاعر في وصف الفرس الذي يتمنّى وجوده، لكي يكون مُبلِّغاً عن حاله هاته:

اللهْ لاشيْهــــانْ بالسّيْر مْوَلَّـفْ

كُثْر الخَطْرَهْ والغَوازِي والحَرْكاتْ

اللِي ما يَعْيَى وعُمْرُو ما يَزْنَـفْ

يتْـقَطّعْ خَفّ الشَطَارَهْ في البَهْزاتْ

كَنـّـيْـتُـو طَيـَّارْ بجْنَاحْ يَرفْـرَفْ

وَالاَّ بَرْق اِذَا خْطَفْ بعْض الرَعْـــداتْ

بابُورْعْلى بْحورْ يْهَلْكُوه رْياح تْــزَفْ

ومْهَوّلْ فَصْل الشْتا والبَحْرِي صَاتْ

«مَشِينَةْ» دُخّانْ عْلَى العَاقَبْ تَــشْلَفْ

قُرْد رْصَاصْ يَتَلْعُوهْ اَرْبَعْ لَحْمَــاتْ

«سلْك قْرافْ» يْجِي مْن البُعْد مْكَلّفْ

ِغير سْويعَهْ في الهَوَا والكَلمه جاتْ

وإذا أردنا أن نقارن هذه الصور الجميلة المعبرة بما نجده في شعر الجاهليين فسنلفي قرابة بينها وبين صور امرئ القيس. إذ مما يشترك فيه الشاعران، أن كليهما يلجأ إلى إطلاق أجمل الصّـفات وأكملها على الفرس، في أثناء الحالة المزرية التي يعانيانها، فامرؤ القيس يعالج هموم الليالي الطّـوال التي تنغّص عليه حياته، والتي ترمز إلى معاناة الإنسان الجاهلي من قساوة الحياة ورتابتها وثباتها الممل . لهذا يقول سليمان العطار في قراءته لهذا الجزء من المعلقة: «ويضيق الليل على اتساعه وطوله عندما تصبح همومه هموماً اجتماعية تتكاثف على كاهل الفرد… ولابد من همة عالية قوية للنفاذ من هذا الهم وللخروج من الليل ومن جوف العير وتتمثل هذه الهمة في جواد فوق طبيعي»(4).

أما سي احمد بن معطار فيعالج همّ التشرد ومفارقة الأهل وقلة ذات اليد، ولهذا تجد الشاعر يعدد مظاهر الفقر والمعاناة التي يعيشها بطريقة مباشرة لا مداورة فيها:

عاد عيالي في الحصايد، ويتفتف

بعد ما كـانوا نسايا محجـوبات

الدنيا مـن عـادها تغدى تـهدف

بعد ماتـــزهى تولي بالـــحسرات

ومن ثم يصبح الفرس وسيلة للخلاص والتسلى من الهم والمعاناة(5). وإذا كان كذلك، فينبغي أن لا يكون فرساً عاديا كباقي الخيل بل إنه يصبح أشبه بفرس أسطوري عند امرئ القيس وابن معطار على حد سواء.

يقول امرؤ القيس مثلاً :

وقد اغتدى والطير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابــد هيكـل

مكر مفر مقبل مدبر معــًا

كجلمود صخـــٍر حطه السيل من عل

ويقول أيضـًا :

له ايطلا ضبي وساقا نعـــامة

وإرخاء سرحان وتقريب تتفـل

ويقول ابن معطار :

الله لا شيهان بالسير مولـــف

كثر الخطرة والغوازي والحركـات

اللي مايعيى وعمرو ما يزنـف

يتقطع خف الشطارة في البهـــزات

كـنيتو طيّار بجناح يرفــرف

ولاّ برق إذا خطف بعض الرعــدات

وكذا يتوافق الشاعران في بعض الاستعمالات اللغوية الجميلة - على اختلاف المستوى اللغوي بينهما-، التي تعكس بالإضافة إلى جمال اللغة مخيلة زاخرة غنية. فقد أعجب النقّاد القدامى مثلاً بقول امرئ القيس: «قيد الأوابد» أعجبوا بسعة المعنى وتركيزه وجمال الصورة مع الاقتصاد في اللفظ: «إذ أن سرعة الجواد الخارقة المتعددة في آن( مكر مفرٍ مقبلٍ مدبرٍ معاً) تجعله قيداً لكل الوحوش لأنه يدركها أينما كانت على وجه البسيطة، والقيد سكون وضيق يمثل حركةً واتساعاً»(6).

كما شدّ الدارسين قول امرئ القيس :

ورحنا يكاد الطرف يقصر دونه

متى ما ترق العين فيه تسفــّل

فهو يقصد «أنّه كامل الحسن رائع الصورة وتكاد العين تقصر عن كنه حسنه؛ ومهما نظرت العيون إلى أعالي خلقه اشتهت النظر إلى أسافله»(7).

نجد ما يشبه هذا تفرداً وجمالاً في قول ابن معطار:

اللي مايعيى وعمرو ما يزنـف

يتقطع خف الشطارة في البهـزات

فهذا الجواد بفضل سرعته الكبيرة الخارقة، واستعداده الدائم للانطلاق حين يجري يحسبه الرائي لأول وهلة وكأن أجزاء جسمه تتقسم قطعا تتلاحق تباعاً، فإذا كانت العيون تعجز عن إدراك حسن فرس امرئ القيس ؛ فإن البصر يزوغ عن إدراك جواد ابن معطار بوصفه جسما واحدًا، فيراه أشطارًا متلاحقة؟! وهنا مكمن الجمال والتفرد في الصورتين الشعريتين والتعبيرين اللغويين كليهما، مع القدرة على الاختصار وتطويع اللغة!(8).

شعر الغزوات:

وقد اتخذ هذا الشكل طريقة النثر والشعر في وروده عند الرواة الشعبيين المحترفين، الذين كانوا يرددونه في فترة الاحتلال الفرنسي بصورة خاصّة. وولع بنظمه الشعراء الشعبيون أيضا، وهكذا ارتبطت روايته والاهتمام به في الجزائر بعصر ضعفها، وسطوة المستعمر الفرنسي على الشعب تقول روزلين ليلى قريش في كتابها «القصة الشعبية الجزائرية ذات الأصل العربي» ما نصّه:

«أمّا المدّاح فله يرجع الفضل في انتشار قصة البطولة ورواجها في الأوساط الشعبية الجزائرية أثناء فترة الاحتلال الفرنسي، حيث لعب دورا هاما وبعيد المدى في تدعيم الشعور الوطني، اشتهر في ذلك الوقت بعمله القصصي عند أبناء جلدته . وكان ينتهز أيّة فرصة من ليالي رمضان أو الوعدات والمبيتات والولادة والختان ليلهج بمآثر الأجداد الغابرين وبطولات الفرسان البواسل التي سجلت في المغازي خاصّة، وكان يمدح في الأسواق والمقاهي الشعبية أو خارج سوق المدينة وفي مفترق الطرق لئلاّ يكون محط أنظار الأجانب، ولم تنحصر شهرته في بيئته الاجتماعية الخاصة، بل استطاع أن يثير في نفوس بعض المحتلّين الدهشة والإعجاب، فقال أحدهم يصف تأثير المدّاحين على الجماهير الجزائرية في الربع الأول من القرن العشرين: «وقد أحيوا الشعور القومي بالأخوة الحقيقية التي تتعدى حدود القبيلة .. وقد حوّلوا الشعور القومي البسيط إلى روح القومية الناشئة التي ستزدهر تحت تأثير رجال الحركة الإصلاحية نحو الوحدة القومية والحرّية السياسية»(9).

ولهذا فليس من الغرابة أن المستعمرين الفرنسيين كانوا يتوجسون خيفة من هذا النوع من الأدب الذي كان من شأنه أن يحيي في الجماهير الأحاسيس القومية والدينية التي عملوا طويلا من أجل أن يقتلوها في أذهان الناس، خاصة إذا علمنا أن أهم الموضوعات التي ركزت عليها المغازي هي موضوعات البطولة وصراع المسلمين مع الكفار؛ وأنّها اتخذت من شخصيات النبيﷺ وعلي وجعفر بن أبي طالب ، وغيرهم محاور تدور حولها حكايات هذه المغازي .

ولهذه الأسباب لم يطمئن المستعمرون لها وتنبّهوا إلى خطرها، في هذا السياق يذكر محمد الفاسي مثلا هذه الحقيقة في المغرب فيقول: «وقد كان رجال الاستعمار أيام الحماية يمنعون إنشاد هذه القصائد في الأسواق، وكان المراقبون إذا تقدم لهم أحد «المداحين» بطلب الإذن في السفر للتجول في المدن والقبائل قصد ترويج بضاعته أوّل ما يسألونه عنه: هل يحفظ الغزوات؟ فإذا أجاب بالنفي أعطي الإذن وإلاّ منع، لأنهم كانوا يخشون بعث العاطفة الوطنية والدينية في النواحي التي كانت ما تزال بعيدة عن أثر الدعوة الاستقلالية»(10).

أمّا المصادر التي كان يستقي منها الرواة والأدباء الشعبيون مادّتهم التاريخية فهي بـعض الكتب التاريـخية التي تـنسب لبعض المؤرخين المعروفين، كالواقدي مثلا (207هـ) صاحب كتاب المغازي، والذي ينسب إليه أيضا كتاب « فتوح افريقية».

ومن الشعراء الذين كان لهم مساهمة في هذا الفن الشاعر أحمد بن معطار إذ إن له نصا شعريا رباعيا يسمّى غزوة بدر، يبدأه بمدح النبي - صلى الله عليه وسلم – فيذكر شمائله وصفاته، ثم يعرّج على مراحل دعوته حتي يصل إلى حادثة «غزوة بدر الكبرى» فيتوسع في ذكر أسبابها وملابساتها . يقول الشاعر واصفا غزوة بدر :

جـا للمديـــنة حبيـبي

وحمـاوه الانصـار و قـعد

واجتمعوا عن دين ربـي

مهـاجر وأنصـار توكـد

جاهم خبر نتاع غصب

من مكّـة مولاه قاصـد

بتـجارة قـريش يبنــي

«باسفيان» ومـال مجهد

والعير بـالاجمـال تحـبي

سـايقـــها للشـام هـوّد

اشّـَرْ لاصْحابـو الـنبـي

نـا منكم في الراي واحد

الأصحاب بغوا النهب

قـالـوا لـو: بيـها اسّـجهد

ساروا ثلاثماية صاحب

عشرة والخمسة العدد

والخـبر لمكـة قريـب

راح لـهــم نـــذّار عـــوّد

قام بـريحـو نـاض ينـبي

واجتمعـت قـريش......

قـال ابـاجـهل: آ حـبابي

هـذايـا نـا لـيه نقـصــد

عشر ماية خوذوا عقابي

نصفى «بدر» يكون موعد

للسـحار يبـان غلـبـــي

ونجـيبـوه يطـيع يسجــد

والواضح هنا أن الشاعر يسعى من خلال نقله لأحداث غزوة بدر هذه القصيدة (الغزوة) إلى إرضاء الشعور الديني للمتلقين وتكريسه لديهم، وهو يتكئ على التاريخ الإسلامي، شأنه في ذلك شأن قصص المغازي التي تعتمد «على موضوعات مستمدة من التاريخ العربي الإسلامي، وبالذّات من الأعمال الحربية التي قام بها الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصحابته، وكذلك بعض الشخصيات البطولية العربية الأخرى مثل عنترة، ويمثّل أدبا ملحميّا يتغنّى بالبطولات الحربيّة»(11). ويتّفقان أيضا على التّركيز على الصراع بين المسلمين والكفّار، والتغنّي بانتصار جيش المسلمين الذّي يظهر هنا في قول الشاعر:

وتوفّت سبعين حـربـي

وابـا جهل ابقـى ممـرمـد

ومثلُها جـابـوه مسْـبـي

ردم الكفر الدين وصْعد

وطلع سور الدين جابـي

سور الكفر اهواه و تْهد

كما أنّ القصيدة تشبه القصّة الغزوة في إصباغ النص بصبغة مسرحية تبدو في التركيز على الحوار الذّي يطبع النصّ بطابع أقرب إلى الواقعية التّي تجعل المتلقّي يتمثّل الحادثة وكأنّها تحدث أمام عينيه... فتتوالى في القصيدة المقاطع الحوارية التّي تؤدّيها جماعة أو شخصية معروفة بعينها، كما نلفي مثلا في قول الشاعر :

والأصحاب بغوا النهب

قـالوا لــو: بيـها اسّجْـهد

وقوله :

قـال با جهل: يا احبابـي

هـاذايـــا نـا لـيه قاصـد

عشر ماية خوذوا عقابي

نصفى «بدر» يكون موعد

وتستمد القصيدة جانبا من وظيفتها من واقعيتها التي ترتبط بالسياق التاريخي التداولي الذي أبدعت في إطاره، وهو نهايات القرن التاسع عشر الميلادي حيث توق الناس إلى معرفة تاريخهم الإسلامي المجيد، وحاجتهم إلى دفقة من الروح البطولية التّي تحيي فيهم روح الشهامة والوثوب إلى الجهاد والدفاع عن الوطن . لاسيما وأنّ هذه النّصوص تركّز على المواقع التّي تشهد انتصار المسلمين الأوائل وتبوُؤهم لمكان السيادة. ولهذا فإنّ هذه العناصر الواقعية في نصوص المغازي سواء كانت شعرية أو قصصية، «تتمثل في إسقاط الرواة مضامين روايتهم على الواقع المعاش لجمهورهم، فالمغازي تتحدث عن مواجهة تقع بين مسلمين وكفار. ومن المؤكّد أنّ جمهور المستمعين - وهو يستمع إلى هذه المغازي - يحدث عمليّة زحزحة للأحداث التاريخية، فتصبح كأنّها تصوّر هي بنفسها واقعه . وفي هذه الحالة يصبح هو امتداداً لجيش المسلمين الأُول، ويصبح مستعمر بلاده صورة مكرّرة لجيش الكفّار »(12) .

وهكذا يصبح التناص مع التاريخ الإسلامي العربي في هذه القصائد الغزوات أو حتّى الحكايات الغزوات تناصاً هادفا، وذا وظيفة شعرية رمزية تأويليّة، فالشاعر والقاص يؤوّل واقعه المعاش، ويرمز له لأنّه لا يستطيع أن يصرّح مباشرة بضرورة مصارعة الكفّار الفرنسيين، فيلجأ إلى التاريخ يستدعي أحداثه ليفلسفها، فيغيب النصّ التاريخي بإحداثياته في اللحظة نفسها التي يقال فيها لصالح نص ينتجه السياق الجديد الآني .. وتصبح عملية تعاطي المستمع المتلقّي للنصّ هي الفاعلة، وهي التي تعطي النص قيمته وأهميته .

موضوع التصوف:

من المضامين التي ترددت كثيرا في شعر ابن معطار ودلت على نزوعه الصوفي، وتأثره بالثقافة الصوفية، ميله إلى وصف النبي الكريم وفق ما كان يسميه الصوفية الحقيقة المحمدية «وهذا الغلو لا يفهم إلا إذا عرفنا أنه يرجع إلى أصل من أصول التصوف وهو القول بالحقيقة المحمدية، والحقيقة المحمدية هي العماد الذي قامت عليه ( قبة الوجود) كما عبر ابن عربي، هي صلة الوصل بين الله والناس، فهي القوة المدبرة التي يصدر عنها كل شيء»(13).

يظهر هذا المعنى في قول الشاعر مادحا النبي :

فضلو ربي فوق كل نبي ينـالـوا مـنو الـمــــدد

هـو قبضة من نور ربي قال تكون كانت أحمد

آدم مـا هــو لـيه آب سابـق مـن قـبلو مبـعد

فـسبحـان الله ربــي يفـعل مـا يشـاء يـريـد

يتفكر من ليه قلبي في الـدنيــا قــداه أمـد

لــولا هـو يا احبابي مكانش ذا الكون يوجد(14)

ويقول في القصيدة نفسها:

فضْلُو فوق كـــلْ نَبِــي ينـــال منو المَــــدَدِ

يتفكـر مـن لـيه قلـب مـا يخلق ربـي الـواحـد

في الســما قــدره لــربـي مسموكه بغير عمد

والنجـم اللـي يبـان ثقـبي والشمس البيضا توقد

هـذوكـا مـن نـور حـبي طـه بولـنوار الامـجد

....

للـــدنيـــا هــــو الآب وتـوخـر لـن صـار ولد

كــان الا نــور مخـــبي ينتـقل مـن حـد لحـد

أما المضامين الظاهرة بقوة في شعر الشاعر والتي تدل دلالة قوية على انتمائه الصوفي وتمكنه من مصطلحات الصوفية ورموزهم فهي واضحة في قصائد مدحه لشيوخه على غرار الشيخ المختار شيخ زاوية اولاد جلال أو مدحه للشيخ محمد بن أبي القاسم شيخ زاوية الهامل الذي كان في الوقت نفسه زميلا له في الدراسة في الزاوية.

الصورة الشعرية في شعر ابن معطار:

على الرغم من أن الشعراء الذين غلب عليهم موضوع الدين والتصوف يوصفون أحيانا بأنهم بعيدون عن التميز الفني ولاسيما حين يتعلق الأمر بالصورة الشعرية، إلا أن ما يثبت عكس ذلك هو ما نلفيه من تميز في هذا الجانب الفني في شعر ابن معطارالذي نحسّ في بعض صوره إضافة وحيويّة، فإنّنا نلفيه مثلا حين وظّف صورة معروفة في قصيدة له يمدح فيها شيخة زاوية الهامل (زينب) وهي تشبيه الحاجب بالنون، أضفى عليها جدّةً وتفرّدا من خلال أنّه جعل منها صورة أكثر تركيباً وتعقيداً ليحميها من النمطية الساكنة، وليحرّك بها مخيّلة المتلقّي ويصنع جوّاً من الدهشة بالصورة . وكأنّ الشاعر أدرك ضرورة أن يحافظ على الصورة نفسها حين يصف الحاجب، لأنّها ترسّخت في ذهن المتلقّي وأصبحت تقليداً واجب الحضور، لكنه أدرك أيضا أن الشعرية تقتضي تجديداً ومغايرة حتى ولو كانت بسيطة إذ إنّ «القصيدة لها معنيى بعلاقتها مع التقاليد الأدبية التّي تجعلها ممكنة»(15)، لكن هذا لا يعني عدم إمكانية الخلق المتجدد الذي يعطي الشعر حياته المستمرة، لأنّ اشتغال العمل الأدبي هو نوع من الحوار الذي يأخذ من السابق ويعطي الجديد في آن. ولهذا يقول الشاعر في وصف الحاجب :

والفـم نظـيـف ومفلّــج والحاجـب نـون تتعـوج

خــــــط مــخـــــــوّج جات في علوان من خارج

عــرّقـــها سـيّد مـترمّـج قــلمـــــــــــــو درّجْ

مهوش مريـض و مفولـج مــــدادو زيـن ممـتزج

علك وعفصة معاهم زج .......................

وكأن هذا النوع من الصور بما «ركّب عليه من معنى، ووصل به من لطيفة... صار بما غيّر من طريقته، واستؤنف في صورته، واستجد له من المعرض، وكسي من دلّ التّعرّض، داخلاً في قبيل الخاص الذي يتملّك بالفكرة والتعمّل، ويتوصّل إليه بالتدبّر والتّأمّل»(16). فقد ولد الشاعر من الصورة القديمة صورة جديدة بما أضاف عليها ووصل بها من صورة الخط الجميل الواضح المبني، الذي كتبه بتأنّق وتأنّ (عرّقْها) كاتبٌ مجدٌ قد درج قلمه على التفنّن في الكتابة، كاتب ليس مريضا وليس به عجز وخلجة في يده تمنعه من إتقان رسم الحرف (حرف النّون )...

والحقّ أنّ صورة النون مستمدة من التراث الشعري العربي القديم الذي ربّما كان الهلاليون هم قناة توصيله إلى هؤلاء الشعراء جيلاً بعد جيل . والمعروف أن الهلاليين أبدعوا في النحو الفصيح والشعبي، وقد ورد ذكر النون وصفا للحاجب في قول شاعرهم عمره بن مروان في قصيدة تتخلل السيرة الهلالية المكتوبة(17):

كشفت قصائد غمرة عــما بـدا

والـدمع من فـوق الخدود ترددا

مـذ بانــت الحسناء بات تعقّلـي

مـن أيـن لـي يا صـاح أن أتجـلدا

برحت فؤادي حينما خطـرت علي

قلـبي وقد أضحت لها روحي قدا

الشعر منـها مـثل لـيل حالـــك

يحكي غـراباً من البلاقع أسودا

وحواجب كـالنون فـوق عيونـها

مرسومة سودا تضاهي الإثمـدا

كما نجد تشبيه الحاجب بالنون في الشعر الجاهلي عند عنترة بن شداد وذلك في قوله(18):

له حاجب كالنون فوق جفونه

وثغر كزهر الأقحوان المفلّج

ويسير الشاعر في المنوال نفسه مع صورة أخرى كانت معروفة عند شعراء الملحون وحتى الفصيح، وهي صورة الغزال المتوجس الخائف التي طالما أطلقت على المرأة، فهي عند ابن معطار ليست صورة صامتة ثابتة جامدة، بل هي بالعكس تنضح حيوية وحركة وحياة، كي تحمي الصور من التكرار، وكي تحقق هدفا آخر تواصليا، يدعم الوظيفة الاتصالية التي تعني متلقّي القصيدة، ويتنبّه الإمام عبد القاهر الجرجاني لهذا الملمح في اللغة المجازية، الذي هو التمثيل حين يقول :

«وإذا بحثنا في ذلك وجدنا له أسبابا وعللا، كلّ منها يقتضي أن يفخم المعنى بالتمثيل وينبل ويشرف ويكمل. فأوّل ذلك وأظهره أنّ أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها بصريح بعد تعنّي، وأن تردّها من الشيء تعلمها إيّاه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم..»(19).

تبدو هذه الصورة في قصيدة الشاعر في مدح زينب بنت بلقاسم شيخ زاوية الهامل(20):

زيـنب وصيلـها يـزيــان

شـريفة عـاشقة الايمـان

اعطاها الله تقى واحسان

وعــــقـــــــــــل ارزان

تكره طاعة الشيطــان

احفظـها عـالـي القــدره

احفظـهـا ربنـا الـرحمــن

علـى الشيطـان منصـوره

يـا بنت الـوالي الشـايــع

نــــورو ســــاطـــــــع

كالبدر اللـي جمـل وطلـع

ضيّــــــو شـعـشـــــع

مكـان سحاب وترفّــع

ليلـة ربعـه مـع العــشره

نـور الإيمـان يـاســـامـع

يكون ضـوا مـع القمـره

يـا بنت الوالي الكـامـل

لـــون غـــــزيّـــــــــل

الريـم اللـي يعـود جــدّل

قـــرنـــــــــو خــــلّـل(21)

حـذري للـناس مـا يمهـل

ولّــــــــى يـســــــاول

مــا يـامنشِ المـتخـتّـــل

يفلى الاقناش في الصحرا(22)

ديمــا في ادوارهــا عـازل

في الارض الخالية قـفره(23)

يـا بنت العـالــم الســيد

زيـــن مــفــــــــــــّرد

الـريم مـع امّـو شـــــارد

شــاف الصــايــــــــد

يقـانـص فيـه يتلـبّـــــد

مــــنّـــــــــــو بـعَّـــد(24)

عنـدو بـارود مــــن دمـد

مــعمّــــــــــر بــالــيد(25)

ثلث لحـــمات لا زايد

ورصاص كثير متـــعدد(26)

مـــا هــــــوش واحــــد

جـا في قرطـاس يتلمّــــد(27)

في سـوري فايقـة في القد

ليـــــــــــس تــــــزوّد(28)

مـا يخـطيش منـين يقـــد

يضرب عن شوفة النـظره

هــذا الشـراد مـا ينـــشد

قـلب الصــيّاد بـالحـذره(29)

ولكن هنا تصبح صورة الغزال المتوجّس أكثر حيوية وتركيبا، وتكتسب بعدا دراميا، خاصة حين يتعرّض لمنظر يكاد يكون حيا حين يشاهد الغزال - وهو في أثناء رعيه مع أمّه- الصيّادَ متحيّنا الفرصة للفتك به، فيهرب منه . وهنا يصف الشاعر الصيّاد وقد حضّر كلّ معدّاته، وربما اكتسبت الصورة دورا رمزيا دلاليا إذ التركيز على هذه الصورة، وذكرها مرتين تصبح له دلالة العفّة وصون الشرف الذي هو تاج المرأة وأحسن خلق يزينها، لا سيما وأنّ زينب في نظر الشاعر :

زيـنب صـــيـلها يـزيـان

شريفة عاشـقه الايمان

اعطـاها الله تقى واحسان

وعــقــــــــــــل ارزان

تكـره طاعة الشيطــان

احفظها عـالــي القـدره

احفظــها ربّنــا الـرحمـن

علـى الشيطان منصوره

كما يصبح هذا الرمز نضّاحا بالدلالة حين يصوّر الشاعر الغزال وحيدا منعزلا في الصحراء :

ديما في ادوارها عازل في الأرض الخالية قفره

ففي هذا السياق بالضبط تصبح الصورة دالّة على البعد الصوفي الذي يعني ميل هذه المرأة (زينب) إلى العزلة الصوفية، وهكذا فإنّ الشعراء يمتحون في «اختياراتهم للألفاظ، والمجازات، والصور، والصيغ اللغوية، وأسلوب التعبير من منبع واحد تقريبا، لكنّ هذه الأبيات تعرض أيضا الأسلوب الفرديّ وذوق الشاعر في طابعه المتميّز وطاقاته الأدبية..»(30).

وإذن فإنّ حركية الصورة وإبداع الشاعر في تركيبها وتعقيدها وإضفاء عناصر جديدة عليها تحميها من النمطية والرتابة، إذ إنّ الصورة لا تستمدّ دورها في التركيب الأدبي من خلال جدتها في نفسها، بقدر ما تظهر قيمتها بحسب سياقاتها والتركيب اللغوي الذي يعطيها أبعادا جديدة. وهذا ما لاحظه الجرجاني حين تطرّق إلى دور معاني النحو في خلق دلالة الصورة.

التناص في شعر ابن معطار:

من أنواع التناص عند ابن معطارالتناص القرآني الذي يعتمد على استدعاء شخصيات الأنبياء – عليهم السلام – قصيدته الشعبية «توسل الأنبياء» التي تتّكئ على القرآن الكريم في التوسل بهم، فيرتبط كل نبي كريم من الأنبياء – عليهم السلام - بقصة قرآنية واردة في الكتاب العزيز، يقول الشاعر(31):

لا إلـه غــيرك مـعبــود

يـا ذا الفضل ـيا ذا الجود

أي خـالق كـل موجـود

اللـي لا مثــــلك شبيه

بديت باسمك يا مولايا

بشاو نظـم بعض عنـايـا

يـا العالـي كـون معايـا

تم مقصودي بـالتسهـيل

أنت المالك وأنا عبـدك

لا نرجـى فضــل غـيرك

أنت واحد ما لك شريك

اللي لا غـيرك فضيـــل

يـا إلـه الحــق الـحقـيق

أي شفــيــق يــا رفــيق

أي مفـرج كــل ضــيق

أي شــــافي كـل عليل

أي حنـــين يـا لطــيـف

يا اللي عن خلقك عطيف

غيثـني عـبدك ضعـف

مسلّك كــــل واحيل

فــرّج عنّـــي يــا قـديـر

سلّك عنّــي ديْن كْثير

مسلك يوسف من بير

كل عسر عنـدك سهيل

بـدل الـعســر بــاليـسر

كـل خـير يجيـني يجـري

بـرد اللـي يـريـد مكري

مــبرّد نـــــــارّ الـخـليل

يـا إلهـي ربّــي العـالـــي

جـود عـنّي واصلح حالـي

أنت شفيت اللي مبتالـي

كي أيوب النبي الفضيل

أي واجـد هــذا الـوجـود

أي مـولاي عنّــي جــود

اللّـي تبــت علــى داوود

مـدّنــي بــرزق جمــــيل

أي رحــيم يــا رحـــمـان

يـا ذا الجـود والإحســان

الــرادد ملــك سليـمان

جـود عـنّي عـبدك ذليل

أي مـــولاي يـــا دايـــم

الــلـي بكلــــش قــايـم

اللــي تـــبت علــى آدم

تـوب عـنّي قـبل الرحـيل

يحاول الشاعر في تعامله مع هذه المعاني القرآنية أن يتمثّل حياة الأنبياء الكرام، وأن يركّز على جانب معيّن من حياة كل نبيّ، محاولا في الآن نفسه أن يربط ذلك بذاته التي تبدو ظاهرة في القصيدة، خاصّة وأنّنا نحس صوت هذه الذات وإن كان خافتا، ونحس جوانب من معاناتها التي يسقطها الشاعر على مصاعب حياة الأنبياء ومعاناتهم في سبيل تبليغ دعوتهم. لا سيما وأنّ هناك علاقة ما بين النبيّ والشاعر: «فقد أحسّ الشعراء من قديم بأنّ ثمّة روابط وثيقة تربط بين تجربتهم وتجربة الأنبياء، فكلّ من النبيّ والشّاعر الأصيل يحمل رسالة إلى أٌمّته، والفارق بينهما أنّ رسالة النبيّ سماوية، وكلّ منهما يتحمل العبء والعذاب في سبيل رسالة»(32).

ويستمد النص بعضا من شعريته ومبرراته اشتغاله – بالإضافة إلى القدسية التي يضفيها عليه الاعتماد على النص القرآني – من السياق التداولي الذي يتداول داخله، وهو سياق يرتبط بوضع تاريخيّ معيّن (نهايات القرن التاسع عشر)، حيث سيادة الأمية وشحّ المادة الثقافية الدينية التّي تشكّل أهمّية كبرى في المجتمع المرتبط بعقيدته، الحانّ إلى كل ما يمكن أن يربطه بها في دفاعه عن هويته وثقافته ودينه، وفي غياب شبه كلّي للمؤسسات الثقافية والعلمية والدينية التّي يمكن أن تؤدي هذا الدور، عدا عن بعض الزوايا التي اقتصرت على مناطق دون أخرى ودور المساجد القليلة. وهنا يصبح النص الذي يستحضر هذه المعاني والشخصيات المستمدّة من النص القرآني مبهرا يشدّ المتلقين، لا سيما حين يحاول صاحبه أن يقيم مزاوجة بين الموضوع (استدعاء شخصيات الأنبياء وقصصهم) و بين الذّات (الدّعاء باتّساع الرزق وقضاء الدين وتسهيل الحوائج)، مع التركيز على إقامة نوع من التناسب بين حالات الذات والقصص المناسبة لها من النصّ القرآني، كما يظهر مثلا في قول الشاعر :

فــرج عـــنّي يــا قـديـر

سلّـك عنّي ديْن كْثير

مسلّك يوسف من بير

كل عسر عـندك سهيل

فتصبح القصيدة في سياقها التاريخي الاجتماعي أشبه بالمنظومة العلمية الدينية الحاملة لقدر من المعرفة الدينية التاريخية، وفي الوقت نفسه تحاول أن تحمي النص من غلبة التقريرية عليه بالاتكاء على حضور الذات التي تتماهى من خلال تجاربها في الإشارات القصصية القرآنية الواردة في القصيدة، ولكنّ الواضح على هذه التجربة أنّ الظاهر فيها أكثر هو أنّ «الاستلهام مجرّد تسرّب أو تمثّل للآية القرآنية كأحد روافد ثقافة الشاعر»(33) أكثر منه شيئا آخر، ويبدو أنّ قوّة هذا الرافد القرآني الذي يتّكئ عليه الشاعر وقيمته ومكانته الدينية في نفوس المتلقين هي التّي تعطي للقصيدة قبولها ومشروعية تداولها . ولم يكتف الشاعر بالاستمداد من القرآن الكريم بوصفه رافدا دينيا أساسيا، بل تعدّى ذلك إلى رافد ديني آخر يتبوأ مرتبة ثانية في هذا السياق هو الحديث الشريف حيث تتجلّى من خلال هذا التناص بعض ملامح ثقافة الشاعرومعارفه الدّينية، حيث يستمدّ من هذا المعين ويستلهم منه بعض المضامين التي لا توظّف بشكل مباشر صارخ، بل إنّها تحتاج إلى نوع من التأمّل وتشغيل الثقافة الدينية والذاكرة، لا سيما وأنّ «استشفاف النّصوص الخارجية في نصّ ما عملية صعبة في كثير من الأحيان، وبخاصّة إذا كان النصّ محبوكا وفيه حذق صنعة، ولكنّها مهما تستّرت واختفت فإنّ القارئ المطّلع لا يلبث أن يمسك بتلابيبها، ويرجعها إلى المصادر التي أتت منها، ولكنّ التّواصل نسبيّ يختلف من شخص لآخر»(34).

من أمثلة هذا التناص مع الحديث النبوي الشريف الذي لا يتبدّى صارخا إلاّ بعد بحث وتقص من القارئ، ما نجده عند أحمد بن معطار الذى وظّف في قصيدته:

الله لا تـراس يغـدى متكلف

مولى دعوة خير يغدى ببريات

قوله ـ صلّى الله عليه وسلّم: « إذا أبردتم إليّ بريداً فاجعلوه حسن الاسم، حسن الوجه »(35) . وقد كان النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكتبه إلى أمرائه، ويذكر الزمخشري في الفائق (8/75) في شرح الحديث: أي إذا أرسلتم إلي رسولا... (والبريد فى الأصل: البغل، وهي كلمة فارسية، أصلها بريده دم، أي محذوف الذنب؛ لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب، فعربت الكلمة وخفّفت، ثمّ سمّي الرسول الذّي يركبه بريد )(36)، ربّما من باب إطلاق الحالّ على المحلّ كما في المجاز المرسل .

والشاعر ابن معطار يستلهم معنى الحديث، ويفيد منه في قصيدته التي يعبّر فيها عن الاشتياق إلى الأهل والخلاّن والوطن فتبدأ القصيدة، وكأنّها أشبه برسالة، يقول الشاعر في مقدمتها وهي بيت القصيد :

الله لاتــراسْ يُغـــدى متـــكلّــــفْ

مــولـى دعــوة خـير يغـدى بـبريـات

زاكي عقلو مــايســب ولايقــذف

مبروك و مدروك ضارى بالخطرات

سمـح الوجـه سْمَايْمُو زيــن مـرهّف

كاسح قلبــــو عند ناسو بالخصلات

مـا هـو شـين مقبْحُو فُــمْ مْخَـالــَفْ

حتى النــور على حديثو في الكـلمات

مـركَب جَعْبَهْ علـى جَعْبَهْ تُـوقَــف

وجوّف من كرشو، مخروطة و خلات

راشَـقْ قـدمـو والمشَــطْ منّو قاصـف

ماشققش من اقــــدامو في العفسات

قاصف فخضو والصّدر واسع وكتف

قـاوي جهدو ما سقم، سالم صحّــات

اذا يمـشي خطـــوتـو فيــهـا يسـرف

سـيرة يـوم يديـــرها في اربع ساعات

ذا مرسولـي يـا بــني فـيه نــوصــف

حاذق سيس لـبق سيــــد بن سادات

يُغْــدالـي بــبريـتي خـــط مشـــرّفْ

فـيـها بسمــله وحمــدلــه وصـــلاة

ولا شكّ في أنّ الشاعر قد قرأ الحديث النبويّ السابق الذكر أو سمعه، فأفاد منه بوعي أو دون وعي، إذ إنّ عملية التناص معقّدة في أكثر الأحيان، والشاعر لا يتعامل مع محفوظه أو مصادر ثقافته بطريقة بسيطة آلية تعني الأخذ المباشر الواعي بالضرورة، بل هي تكتنز في الذاكرة، وتُستدعى عند الحاجة.. وقد امتصّ الشاعر هذا المعنى من الحديث، ووظّفه لا باعتباره إشارة بسيطة أو إلماحا، بقدر ما أفاد منه في بقية قصيدته وهيكلها، حيث أصبح هذا المعنى وهو اختيار الساعي حسن الوجه مقطعا أو وحدة موضوعية قائمة بذاتها؛ تُتّخذ مقدمة للقصيدة وجزءا من بنيتها العامّة لاسيما وأنّ القصيدة من الطوال. فحين نقرأ هذا الجزء من القصيدة، ونلاحظ هذا الإمعان فى وصف الرسول من حيث حسنُه وجمالُ وجهِه وسماتِه واكتمالِه قوةً وشجاعةً ورجولةً، لا نجد تفسيرا مقنعا لكلّ هذا التركيز إلاّ أنْ تكون ظلال هذا الحديث حاضرة حين أبدع الشاعر هذا الجزء من القصيدة. وقد وفق الشاعر فى أن يجعل من توظيف الحديث عنصرا فاعلا فى بنية القصيدة، إذ لم يكن القصد إحالتنا إلى هذا المعنى، بل كان القصد هو رفد تجربة الشاعر بهذه الدلالة التي تصلح أن تكون مقدمة للقصيدة؛ تحقق وظيفة الاستهلال الحسن المبهر من جهة، المتماهي مع الوحدات الموضوعية التالية لمقدمة القصيدة حيث يصبح المرسول المذكور فيها،والذّي وصفه الشاعر باقتدار دالاّ على المكانة الكبيرة التّي يتبوّؤها قوم الشاعر في نفسه، وكذا على مدى شوقه الكبير إليهم الذي دفعه إلى أن يرسل إليهم هذا الرجل المتميّز بكلّ هذه الصفات.

الهوامش

1. أحمد قنشوبة، الشعر الشعبي في منطقة الجلفة (1940 /1990) دراسة فنية تحليلية، ماجستير غير منشورة، جامعة الجزائر، إشراف: الدكتورة ليلى قريش، 1997/1998، ص 163.

2. صالح خرفي، المدخل إلى دراسة الأدب الجزائري الحديث، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1983، ص 104.

3. علي النعاس وعبد القادر زياني، تنبيه الحفاد بمناقب الجداد بمنطقة الجلفة وضواحيها، دار الكتاب الحديث، القاهرة، 2004، ص 28-29.

4. سليمان العطار، شرح المعلقات السبع/تبسيط للشروح القديمة مع تحليل ودراسة، دار الثقافة، القاهرة، 1988، ص ص 46 - 47.

5. عبد الله الفيفي، مفاتيح القصيدة الجاهلية، النادي الأدبي، جدة، 2000، ص 53.

6. سليمان العطار، مرجع سابق، ص 48.

7. الزوزني، شرح المعلقات السبع، مكتبة المعارف، بيروت، 1414/1994، ص 53.

8. أحمد قنشوبة، الشعر الغض/ اقترابت من عالم الشعر الشعبي الجزائري، رابطة الأدب الشعبي (اتحاد الكتاب الجزائريين)، الجزائر،2006 ص...

9. روزلين ليلى قريش، القصة الشعبية الجزائرية ذات الأصل العربيّ، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1980، ص 106 .

10. عبد الحميد بورايو، البطل الملحمي والبطل الضحية في الأدب الشفوي الجزائري / دراسات حول خطاب المرويات الشفوية ( الأداء - الشكل – الدلالة )، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1998، ص64.

11. عبد الحميد بورايو، البطل الملحمي..، ص 63 .

12. عبد الحميد بورايو، البطل الملحمي..، ص 64.

13. زكي مبارك، التصوف في الأدب والأخلاق، المكتبة العصرية، صيدا بيروت، ص230.

14. الراوية سي احمد الكربوب،....

15. جوناثان كاللر، ما الأدب، وهل للأدب أهميّة ؟، ص 211 .

16. عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص 315 .

17. دون مؤلف، سيرة بني هلال الكبرى الشامية الأصلية، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني، ط 2، 1963، ص ص 606 – 607 . نقلا عن : أحمد الأمين، قصة حيزية، مرجع سابق، ص 169 .

18. نقلاً عن المرجع نفسه، ص 170 .

19. عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص 108.

20. روى لنا القصيدة المرحوم / أحمد الكربوب، في 25 ديسمبر 1998، في بيته بحي السعادة ( الجلفة) .

21. المقصود الغزال الصغير الذي بدأ يشبّ .

22. لا يأمن المتربّص به .

23. دائما يفضل البقاء وحيدا، في الأرض القفر.

24. يتحيّن الفرص ليقضي عليه، فإذا هويبتعد عنه .

25. دمّد : منطقة في مدينة مسعد ( الجلفة)، اشتهرت بصنع البارود.

26. يقصد ربما أصابع الصياد الثلاثة التي تضغط على الزناد .

27. بمعنى أن الرصاص من أنواع كثيرة، أنّه موضوع في قرطاس .

28. سوري: بندقية من نوع فرنسي- فاقة في القد: متفوقة في قدرتها على التسديد الى الهدف- ليس تزوّد: لا تبتعد عن هدفها .

29. أي أن كل ما ينشده قلب الصياد هو أن يصطاد هذا الغزال، لذا فهو حذر لألاّ يتنبّه الغزال لذلك.

30. P. Marcel Kurpershoek , Oral poetry and narrative from Central Arabia, Brill (Leiden. Boston. Koln ), 2002 , p163.

31. الراوي أحمد الكربوب .

32. علي عشري زايد، استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، 1417 / 1997، ص 77.

33. رجاء عيد، لغة الشعر / قراءة في الشعر العربي المعاصر، منشأة المعارف، الإسكندرية، 2003، ص 355 .

34. محمّد مفتاح، دينامية النص، ص 104 .

35. الحديث مذكور في كتاب : أبو حيان التوحيدي وابن مسكويه، الهوامل والشوامل، تح : أحمد أمين

36. السيد أحمد صقر، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1970 / 1951، ص 203 .

37. نقلا : عن المصدر نفسه .

أهم المصادر والمراجع:

- علي النعاس وعبد القادر زياني، تنبيه الحفاد بمناقب الجداد بمنطقة الجلفة وضواحيها، دار الكتاب الحديث، القاهرة، 2004

- أحمد قنشوبة، الشعر الشعبي في منطقة الجلفة (1940/1990) دراسة فنية تحليلية، ماجستير غير منشورة، جامعة الجزائر، إشراف: الدكتورة ليلى قريش، 1997/1998

- أحمد قنشوبة، الشعر الغض/ اقترابت من عالم الشعر الشعبي الجزائري، رابطة الأدب الشعبي (اتحاد الكتاب الجزائريين)، الجزائر،2006

- صالح خرفي، المدخل إلى دراسة الأدب الجزائري الحديث، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1983

- سعيد جاب الخير’ ابحاث في التصوف و الطرق الصوفية الزوايا والمرجعية الدينية في الجزائر’ وزارة الثقافة الجزائر 2013

- عبد القادر فيطس ’ الشعر الديني الملحون الجزائري قضاياه الموضوعية وظواهره الفنية ج 1 ’ وزارة الثقافة الجزائر 201

- أخذنا قصائد أحمد بن معطار عن الراوية المرحوم أحمد الكربوب، في بيته بحي السعادة بالجلفة في 25 -26-27 / 12 / 998

- مصطفى علي الجوزو، من الأساطير العربية والخرافات، دار الطليعة، ط1، بيروت، 1397 / 1977

- صلاح مؤيد العقبي، الطرق الصوفية والزوايا بالجزائر / تاريخها ونشاطها، دار البراق، بيروت، 2002

- دون مؤلف، سيرة بني هلال الكبرى الشامية الأصلية، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني، ط 2، 1963، ص ص 606 – 607 . نقلا عن: أحمد الأمين، قصة حيزية

- عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز في علم المعاني، تح: محمد عبده ومحمد الشنقيطي، المكتبة التوفيقية، القاهرة، د.ت

- عبد الحميد بورايو، في الثقافة الشعبية الجزائرية التريخ والقضايا والتجليات، منشورات الرابطة الوطنية للأدب الشعبي لاتحاد الكتاب، دار أسامة للنشر، الجزائر، 2006

- أحمد بن معطار، ديوانه، تحقيق: الشيخ علي النعاس بن عبد الله، مطبعة رويغي، الأغواط، ط2، 2016

- P. Marcel Kurpershoek , Oral poetry and narrative from Central Arabia , Brill (Leiden . Boston . Koln ) , 2002

الصور

- من الكاتب.

1. https://i.pinimg.com/564x/57/b4/52/57b452317e83be336e79d0e4a799ce0c.jpg

أعداد المجلة