فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
24

الخرافي في الرواية المغاربية المعاصرة رواية «الحيوانات» للصادق النيهوم نموذجا

العدد 24 - أدب شعبي
الخرافي في الرواية المغاربية المعاصرة  رواية «الحيوانات»  للصادق النيهوم  نموذجا
كاتب من المغرب

لاذت الرواية المغاربية المعاصرة بالمغرب العربي مثل نظيرتها بباقي البلدان العربية بالحكي الخرافي، رغبة منها في النهوض بالواقع الروائي المغاربي، متأثرة في ذلك بالمناخ التجديدي التأصيلي الذي بشرت به حركة التجريب التي أعلنت عن رغبة ملحة في خلق رواية مغاربية تتسم بالخصوصية والنضج، ليس على المستوى الدلالي فحسب، وإنما على مستوى المبنى الحكائي كذلك.

 

وإذا كان بعض الروائيين قد استلهموا التراث أوالتاريخ  فإن روائيين آخرين فتحوا عوالمهم التخييلية على حكاية الحيوان، لما تحمله من رصيد رمزي كثيف قمين بمنح التجربة الروائية زخما  فنيا وتعبيريا أسعفها في ترجمة رؤاها المختلفة، حول العديد من الأسئلة الثقافية والحضارية الشائكة.

في طليعة الروائيين المغاربيين المعاصرين الذين نشدوا بلوغ الأفق الجمالي الذي نتحدث عنه، هناك الروائي الليبي الصادق رجب النيهوم (1937م - 1994م).
تنقل النيهوم بين الولايات المتحدة ولبنان  وسويسرا، وبها اشتغل أستاذا في جامعة جنيف إلى أن توفي سنة 1994م(1). خلال تنقلاته العديدة، ظل الروائي مهووسا بالتراث العربي الإسلامي.لقد عرف بجدته وجرأته، في  تناوله نصوص التراث. لقد استطاع أن يتحدى بكتبه الفكرية(2) العقل العربي المغلق على مفاهيمه التقليدية الاستسلامية، وذلك بعد أن عرى كل الغيبيات التي حولها(3).
وعلاوة على انشغاله بالتراث فكريا، اشتغل النيهوم على التراث أدبيا كذلك، وذلك عبر كتابة نصوص قصصية  وروائية  حاولت تجاوز النمطية السردية التي قبعت فيها القصة والرواية بالمغرب العربي، وذلك من خلال اجتراح أشكال فنية تستند إلى مرجعيات ثقافية تراثية تتسم بالتنوع والتعدد.

وبصرف النظر عن الإشكالات  المعجمية والإصطلاحية التي صاحبت «الحكاية الخرافية»(4)، فقد احتل هذا الشكل الحكائي التراثي حجر الزاوية في أعمال الصادق النيهوم، سواء أكانت قصصية أم روائية. فمنذ مجموعته الأولى «من  قصص الأطفال»، ومرورا برواية «القرود» التي قدم فيها الروائي  صورة ناقدة/هازئة عن الأنظمة العربية في علاقتها بإسرائيل، وانتهاء برواية «الحيوانات»؛ كشف الصادق النيهوم عن اهتمام كبير بالتراث عموما، وبالحكاية الخرافية خصوصا .
لقد حاول هذا الروائي، وخاصة في روايتيه«القرود» و«الحيوانات»، أن  يعرض  لعلاقة المثقف الليبي بالسلطة، وهي علاقة تضرب بجذورها في عمق التاريخ العربي. وفي هذا الإطار شكلت الخرافة مجالا فنيا أرحب اتخذه الروائي المغاربي، وقبله راوي الشعب، أداة ليس لتمرير رسالته السياسية/ المرمزة إلى أولي الأمر فحسب، وإنما اعتمده علاوة على ذلك، وسيلة لتحقيق لون من التعالق الفني بين الشكل الروائي  والموروث السردي العربي، تعالق سنحاول إبرازه، متخذين في ذلك من رواية «الحيوانات»(5)متنا للدراسة.

1 - توظيف السرد الخرافي:
تشكلت البنية السردية لرواية «الحيوانات» استنادا إلى فن سردي ضارب في القدم هوحكاية الحيوان، وهوفن له خصوصياته البنائية والجمالية التي استطاع مراكمتها خلال تطوره في الزمان والمكان.
لقد حرص الصادق النيهوم على منح تجربته الروائية نوعا من التفرد، وذلك عبر توسيع دائرة توظيف الموروث القصصي الحيواني. وعلى شاكلة النص التراثي القديم، جنحت رواية «الحيوانات» إلى تشييد عوالمها الحكائية ضمن رؤية فنية ترنوإلى التوفيق بين عناصر سردية تسترفد مقوماتها من الموروث الحكائي العربي القديم، وعناصر سردية أخرى تستمد مكوناتها من السرد الغربي الحديث.
وعبر المراوحة بين استلهام التراث والإفادة من منجزات السرد الحديث، استطاع النيهوم أن يجعل من نصه الروائي فضاء سرديا تحاورت فيه تشكيلات سردية تنتمي إلى قيم فنية متباعدة، بل وحتى متنافرة، ليس من حيث زمنيتها فحسب، وإنما من حيث السياق الثقافي الذي أفرزها كذلك  تنافر سنحاول كشفه،  وإبراز آليات اشتغاله، وذلك من خلال تركيزنا على البنى السردية الثلاث:
أ- بنية الافتتاح.
ب- بنية الاختتام.
ج- بنية العرض الحكائي.

أ- بنية الافتتاح.
أفصح الصادق النيهوم، ومنذ البداية، عن نيته في محاورة النص الحكائي الحيواني، والنص التراثي العربي بشكل عام، وذلك عبر اجتراح أهم طريقة من طرائقه السردية وهي جملة الافتتاح.
والجملة الافتتاحية « ذات مرة جاع الذئب»،(6)المستلهمة في رواية « الحيوانات» لم تستدع بغرض التأثيث أوالتزيين، وإنما استحضرت بهدف أداء جملة من الوظائف يمكن تحديد أهمها في النقط التالية:
•    الإخبار ببدء عملية السرد. ومن ثم فهي تؤدي وظيفة تنبيهية، ذلك أنها تروم لفت انتباه المتلقي إلى ما يقال.
•    إنها جملة تجنيسية تدل على النوع الأدبي. فبمجرد سماعنا أوقراءتنا لها ندرك أننا أمام عمل روائي يربط علاقة حميمية بنوع أدبي خاص هو«حكاية الحيوان».
•    وجملة « ذات مرة جاع الذئب»، فضلا عما سبق، هي جملة افتتاحية تعلن عن بداية السرد من قبل سارد مجهول ليس من الضروري أن نحاكمه بمنطق الصدق أوالكذب.
هكذا تغدوجملة الافتتاح انطلاقا من هذا الطرح، نهجا فنيا يقصد تهييء المسرود له لتقبل أية زيادة أونقصان في الشريط السردي. ومن ثم يضحي المتلقي « كأنه مدفوع بشكل غير مباشر، إلى تكملة ما ألفاه ناقصا، وملء ما وجده فارغا، والسموبما رآه مسفها هزيلا، وضحلا قليلا»(7).
بناء على ما سبق نستنتج، أن رواية «الحيوانات» أشرت منذ مقطعها الافتتاحي ذي الطبيعة التراثية المحضة، على حدوث لون من التفاعل النصي بينها وبين « حكاية الحيوان»، تفاعل لم يتوقف عند استلهام بنية الافتتاح فحسب، وإنما امتد ليشمل بنية الاختتام كذلك .

ب- بنية الاختتام:
اقترنت الافتتاحية بالاختتامية. وهما، كما يبدو، سمتان لازمتان للسرد العربي، العالم والشعبي على السواء. يقول عبد الفتاح كيليطوفي هذا الصدد «يمكن أن نستخلص (…) أن السرد الكلاسيكي والشعبي يحرص على احترام افتتاحية معينة تتكرر بصفة ملحوظة. وإن شيئا من التفكير يجعلنا نعتقد بأن السرد القديم يحترم كذلك خاتمة تؤكد نهاية الحكاية وتثبت أهمية الإطار»(8).  
في رواية«الحيوانات» كما في السرد الخرافي، اضطلعت بنية الاختتام بأداء جملة من الوظائف أبرزها الإعلان عن انتهاء الحكي، والعودة بالحكاية إلى الإيقاع الذي ابتدأت به: «نقف هنا، لكي نقطع الحديث، وكل واحد منا تحمله رجلاه، فهذا الصقر ينوي أن يقول شيئا بلسانه المسحور، لكي يغير الذئب رأيه»(9).
والاختتامية، فضلا عما سلف، هي آخر ما يقع في أذن المتلقي. إنها الحلقة التي تنسج المغزى لكل ما سبق من محطات، لذلك فهي تجنح نحوالنصح والإرشاد: «وليكن في ما جرى لأهل الغابة عبرة لنا، فلا أحد منا يقول ما يجعله يفقد رأسه، ولا أحد منا يسمع ما يجعل رأسه يفقده»(10).
وحاصل القول، فإن توظيف الرواية لبنية الاختتام لم يتم هوالآخر بمعزل عن استلهام بعض الأشكال السردية العربية القديمة، التي كانت تنتهي هي الأخرى باختتاميات مثل المقامات وحكايات المثل والقصص الشعبي.
   بيد أن استلهام هذه الأشكال لم يقتصرعلى بنيتي الافتتاح والاختتام فحسب، وإنما شمل بنيات سردية تراثية أخرى، أهمها بنية العرض الحكائي.

ج-بنية العرض الحكائي:
تموقعت هذه البنية بين بداية النص الحكائي ونهايته. فإذا كانت الافتتاحية رأس الحكاية، فإن بنية العرض الحكائي هي جسدها. إنها أساس الحكاية ولحمتها. ومن ثم فلا يمكن الحديث عنها في غياب هذه البنية، التي تعتمل داخلها مجموعة من المكونات السردية التي لم تتبلوربمنأى عن باقي أشكال الموروث السردي العربي.
في رواية « الحيوانات»، كما في السرد الخرافي العربي القديم، اتسمت اللعبة السردية بجملة من الخصائص يمكن تلخيصها على النحوالتالي:
•    تنسب رواية الأحداث إلى راومجهول الهوية، فلا اسم في النص يدل عليه. وهوعلى الرغم من هذا، يعد القناة الوحيدة التي تربط المتلقي بالمحكي.
•    على الرغم من تموقعه في بداية النص، وفي ثناياه (ننسحب، نتظاهر بأننا لم نكن)(11)، فإن دوره في تقديم النص لا يمكن نكرانه، ما دام هوالمصدر الوحيد الذي تعرفنا بواسطته على النص.
•    وفضلا عن هذا السارد، يمكننا الحديث عن راو، أوبالأحرى عن رواة آخرين داخل النص، تلقوا الحكاية سمعا عن الراوي مجهول الهوية، ليتولوا بعد ذلك مهمة سردها لنا /كمتلقين: « نجلس معا، وكل واحد منا معه أذناه: ذات مرة جاع الذئب».(12)
•    وبخلاف الوجود الافتتاحي للراوي الأول، احتل الراوي الثاني الموظف لضمير الجمع (نحن) موقعا مركزيا في النص، وذلك بحكم سيطرته على مختلف دواليبه. ومن ثم فهويمتلك شرعية سردية تستمد من امتلاكه للحكي، وقدرته على سرد ما تلقاه. وهوبهذا يتحول من وضعية التلقي إلى وضعية الإلقاء.
•    لقد جرت العادة أن ينسب  الراوي  في الموروث العربي القديم حديثه أوخبره أوحكايته، إلى راوآخر/ مجهول يتحمل المسؤولية في صحة ما يروى، إلا أن السارد في الرواية/ الحكاية الحيوانية«الجديدة»، وعلى الرغم مما سبق، لم يعتمد كثيرا على هذه التقنية. وكأننا بالصادق النيهوم يريد أن يقول لنا بأن الحكاية المعاصرة التي هوبصدد روايتها ليست حكاية خرافية قديمة، وإنما هي حكاية واقعية جديدة نسردها «نحن» لأننا عشناها، ونعيشها الآن، ونود ألا نعيشها مستقبلا. وبهذا فإن لفظة ال»نحن» تحررنا من شروط تحققها: (التحرر من الخوف، والثورة على الجلادين)، لذلك  فهي لا تحتاج إلى سند قوي يعضدها.  
نستطيع من خلال التتبع التحليلي لحضور السارد في رواية «الحيوانات « أن نقف على مدى التعالق الحاصل بين نص»الحيوانات» وحكاية الحيوان على مستوى السارد، حضورا وطبيعة ووظيفة. والتعالق المتحدث عنه هنا، لم يتوقف عند هذا الحد، وإنما تعداه إلى الرؤية السردية كذلك. وفي هذا الصدد جعل الصادق النيهوم من نصه  حكاية، أوبالأحرى سلسلة من الحكايات، تتقاطع  والبنية الحكائية لحكايات «ألف ليلة  وليلة» و«كليلة  ودمنة»، وهما كما نعلم من أهم النصوص السردية العربية التي وظفت «الإطار» كتقنية لنظم الحكايات وتوليدها.
الرواية إذن استلهمت الحكاية الإطارية، وعن هذه الحكاية تناسلت حكايات ثانوية/ صغرى وذلك في إطار نوع من الاطراد والترابط. إن التوالد المستمر في الرواية لم يسهم في إغناء إمكاناتها السردية فحسب، وإنما أسهم في توجيه المسارات الحكائية، وذلك وفق ما تقتضيه تحولات النص الدلالية.
من هنا نخلص إلى أن الصادق النيهوم قد ركن إلى استراتيجية فنية راهنت على المزاوجة بين مرجعيتين سرديتين أساسيتين هما: مرجعية تراثية وأخرى غربية. فبينما تستند المرجعية الأولى إلى المقومات الفنية للسرد العربي  القديم مجسدا في حكاية الحيوان أساسا، نجد المرجعية الثانية تستمد روحها من المنجزات السردية  كما تمثلها الرواية الغربية.
وانطلاقا من هذه المزاوجة الفنية بين هذين العالمين السرديين، تنهض رواية    «الحيوانات» مشكلة  نسيجا سرديا معقدا يقوم على جملة من العوالم الحكائية التي يمكن تحديدها على النحو التالي:


هذه إذن، هي أهم الحكايات التي يقوم عليها البناء السردي للرواية، حكايات تنتظم ضمن نوع من التوالد السردي الذي يقوم على بنية سردية كبرى (الحكاية الإطارية) وبنيات سردية صغرى (الحكايات الصغرى)، الأمر الذي أدى إلى تنوع الفضاءات، وتعدد الشخصيات، وتناسل الأحداث  في شكل تداعيات جمعت بين الحقيقة والخيال، والواقع والرمز، والتجسيد والتجريد الذي ينزع في بعض الأحيان، إلى توظيف العجائبي، وذلك على النحوالذي تمثله حكاية اختفاء الفيل .
ولئن تناصت رواية «الحيوانات» والنص السردي القديم، وذلك عبر توظيفها لخطاب الحلم(13)، واستلهامها لرواسب أسلوبية وسردية تراثية عدة كالتكرار(14)والإطلاق والتناقض، إلا أن هذا التناص لم يكن استنساخا ولا اجترارا، بقدر ما كان استيحاء واستلهاما، فالرواية عمدت إلى نسج طريقها الخاص المختلف عن ذلك الموظف في الموروث الحكائي القديم.
مما سبق نستخلص، أن الصادق النيهوم  اعتمد في بناء سرده على استراتيجية فنية رامت خلق نوع من التصادي الفني مع البنية السردية العربية عموما، والبنية السردية الخرافية خصوصا.
إلا أن التصادي هنا لم يكن جزئيا، فهولم يقتصر على عنصر سردي دون آخر، وإنما كان عنصرا بنائيا بامتياز، فقد استطاع أن يرخي بظلاله على جل العناصر الحكائية بما في ذلك عنصر الشخصية .

2 - شخصية روائية أم شخصية خرافية؟
شكلت شخصية الحيوان العنصر الأساسي في بناء المحكي الخرافي، ويستشف ذلك من خلال جملة من المؤشرات الفنية لعل أبرزها اتكاء النص الخرافي على الحيوان كمكون سردي  به تكتسي خصائصها النوعية الفارقة التي تميزها عن باقي الأشكال الحكائية الأخرى (الحكاية الشعبية، الحكاية المرحة، الحكاية العجيبة...).
انطلاقا من ذلك، اتسمت هذه الشخصية  بحضورها المهيمن في المتن الخرافي  والمتجلي في توجيهها لمسار الحكي بكل ما يعج به من أحداث، وأزمنة، وأمكنة.
وإذا ما نحن عدنا إلى رواية «الحيوانات» وجدنا أن شخصياتها تتماهى والشخصية الخرافية في الكثير من الخصائص، الأمر الذي يدفعنا إلى طرح أكثر من سؤال حول هوية هذا المكون الحكائي: هل نحن أمام شخصية روائية أم شخصية خرافية؟ أم أننا أمام مزيج «شخصياتي» هجين تمتزج فيه العناصر الروائية بالعناصر التراثية؟
ومهما يكن، فإننا سنحاول الإجابة عن هذين التساؤلين، وذلك من خلال التوقف عند النقطتين التاليتين:
•    البعد التراثي للشخصية.
•    البعد التخييلي للشخصية.

2 - 1 -البعد التراثي للشخصية:
عمد الصادق النيهوم إلى بناء شخصية روائية فريدة تتماهى والسرد التراثي،           وخاصة على مستوى الاحتفاء بالعنصر الخرافي، الشيء الذي أفرز لنا شخصية روائية اكتسبت ملامحها وسماتها انطلاقا من تعالقها الفني المباشر بالشخصية الخرافية، تعالق يمكن اختزال تمظهراته كالآتي:
•    الطابع العام للشخصية: تتسم الشخصية الروائية بطابعها العام، فهي لا تحمل اسما معينا يحيل إلى تكوين اجتماعي وثقافي معين؛ ومن ثمة فالشخصية المستلهمة في النص هي شخصية نكرة على الرغم من تقديم بعض الملامح التعريفية التي ترتكز إما على صفاتها النوعية: (أسد، ذئب، أرنب، فيل، جمل...) أوالطبقية (رئيس الحكومة، وزير الداخلية، وزير الثقافة، وزير العدل...) أوالعلائقية (أب/ أم / ابن/...).
إن عدم احتفاء المؤلف بتعريف الشخصية يبقى، في نهاية الأمر، شكلا من أشكال التأثر بالذائقة السردية الخرافية/التراثية التي لا تنظر إلى الشخصية في حد ذاتها، بل بما تمثله من نماذج إنسانية ترمز إليها.
•    الطابع النمطي والجاهز للشخصية: وعلى نحوما نجد في النص السردي الخرافي، اتسمت معظم شخصيات الرواية بطابعها النمطي. إنها شخصيات جامدة، غير نامية الأمر الذي جعلها أقرب إلى المقولات الفكرية منها إلى الشخصيات الروائية
•    تم بناء الشخصية الروائية على أساس التقابل بين شخصيات معتدية (مفترسة / قوية) وأخرى معتدى عليها (ضعيفة/ ضحية)، لذلك فمن الطبيعي أن يكون الصراع هوالنمط العلائقي المهيمن الذي يجمع بين هذه الشخصيات.
إن سيادة الصراع على نمط العلاقات في الرواية يمكن عده شكلا من أشكال الصراع الأبدي بين الخير والشر، والذي حاول القدماء تكريسه في محكياتهم السردية، بما في ذلك الحكاية الخرافية.
وعلى الرغم من لجوئه إلى رسم شخصية تراثية ؛ فقد نجح الصادق النيهوم في الازورار عن الموروث الحكائي، وذلك عن طريق « تحويل» الشخصية التراثية شبه الثابتة، إلى شخصية روائية متحركة/ حية/معاصرة، ليس من حيث ملامحها ولغاتها فحسب، وإنما من حيث رؤيتها النقدية العنيفة للواقع السياسي الليبي المعاصر كذلك،هذا الواقع الذي اتسم بسياسة  إقصائية  لا تتورع  في سبيل الاستئثار بالسلطة، عن ممارسة كل أشكال القمع والتنكيل.
وفي سبيل تشخيصه لهذه السياسة الليبية، لجأ الروائي إلى بناء شخصية روائية مستعينا في ذلك بالميكانيزمين التاليين:

•    المفارقة: يتجلى الطابع المفارق للشخصية في اكتسابها صورة جديدة مفارقة للصورة التي كونت عنها قبل استدعائها واستلهامها، وفي هذا الإطار عجت رواية «الحيوانات» بجملة من المفارقات يمكن تحديدها على النحو التالي:

 

 

  قول الشخصية  فعل الشخصية طبع/طبيعة الشخصية
العقرب يقول بأنه لدغ     الكلب يصبح رئيس الحكومة  الجمل يفقد تحت تأثير التعذيب ما عرف عنه من صبر
  الحمار يتولى إدارة الجريدة الرسمية  الخروف، رمز الوداعة، يقف شاهد زور أمام الفيل
 الجرذ تسند إليه وزارة الثقافة،
على الرغم مما  عرف عنه
من حب لقرض الكتب
 الخفاش يتحول إلى كائن نهاري



يظهر من هذا الجدول أن العوالم التخييلية  في رواية «الحيوانات»  تتأسس على سلسلة من المفارقات التي أسعفت المؤلف في رصد المنحى الازدواجي/المفارق الذي تعيشه الشخصية الروائية، بين واقع /كائن حابل بكل صنوف التهميش  والتعذيب، وواقع ممكن تنشد فيه ممارسة حريتها، والمساهمة في تدبير شؤونها، مما يقود في نهاية المطاف إلى تغيير أحوالها.

• الترميز:  وشخصيات الرواية تبقى بالرغم من كل ما سبق، كائنات من ورق، وهياكل صورية تعيش كما يعيش الإنسان، لكن بطريقة خيالية وافتراضية. بلغة أوضح، يمكن القول بأن استلهام الشخصية الخرافية لم يكن مقصودا في حد ذاته، وإنما لما ترمز إليه، فهي هنا تستحضر كنماذج بشرية حية تجترح بعض الحيثيات التي تدفع القارئ مباشرة إلى التفكير في الواقع الذي يعيشه .
هكذا إذن تكون الشخصية الروائية قد تحولت إلى صورة حية تعمل على تشخيص واقعها من خلال ثوب تراثي/خرافي اكتسبت من خلاله مختلف عناصر الرواية، زخما دلاليا وجماليا متميزا.
وعلى الرغم من أن استدعاء الشخصيات الحيوانية رمزيا في النصوص الأدبية ليس بالأمر الجديد، إلا أن حضورها في أدب النيهوم الروائي اكتسب خصوصية بالغة نابعة من قدرة هذا الأخير على ترهين هذه الرمزية وتجديدها وتحويلها، وذلك بما يتماشى وروح العصر.
وبهذا تكون شخصيات النص الخرافية قد اكتسبت جدة رمزية ودلالية يمكن إبرازأهم ملامحها، وذلك من خلال التركيزعلى الفيل الذي جعل منه الروائي بطلا «مخلصا» تحلقت حوله جملة من الحيوانات الرافضة للواقع، التواقة إلى التغيير. لقد ابتدأ «دعوته» السياسية منتقدا، لينتهي به المطاف متمردا وشهيدا. وما بين الدعوة  والشهادة، حفلت حياة هذه الشخصية بالكثير من التفاصيل الحياتية التي نمت عن رفضه، وإدانته، للواقع السياسي المعيش:« قال الفيل» « لا نأكل أحدا ولا نحب أحدا يأكلنا» قال الفيل مصليا « لا نأكل أحدا ولا نريد أحدا يأكلنا. لا نأكل أحدا ولا نترك أحدا يأكلنا.لا نأكل أحدا ولا ننتظر أحدا يأكلنا»(15).  
لقد ردد الفيل مقولته تلك طيلة الرواية. لقد  تحولت من كثرة تكرارها إلى لازمة أوشعار ثوري أفصحت من خلاله بعض الحيوانات عن رفضها، وتمردها، على السلطة القائمة الظالمة. لقد حرص الروائي على أن يجعل من هذه الشخصية  نموذجا للمثقف الليبي الذي كرس فكره وحياته لخدمة قضايا وطنه.
والفيل هنا بطل يمتلك خلفيتين اثنتين، الأولى تراثية، والثانية معاصرة.
تتمظهرالخلفية التراثية في تعالق شخصية الفيل فنيا، والشخصيات التراثية التالية:
أ-الشخصية الخرافية: أسندت الرواية للفيل صفات وأفعالا إنسانية انتهت بأمثال وعبر استهدفت تقويم السلوك السياسي للراعي والرعية.
والحقيقة أن ورود الشخصية الخرافية على هذا الشكل يعد امتدادا لتلك الشخصيات التي وردت في« كليلة ودمنة»، والتي ابتغى من ورائها ابن المقفع(106هـ - 142هـ) إصلاح الواقع السياسي العربي إبان القرن الأول الهجري.


ب-الشخصية الدينية: وتتجلى من خلال تقاطع شخصية الفيل والشخصية الدينية، ولا سيما شخصية المسيح عليه السلام :
*«خائفة، قالت الفراشة: « وهل أصدقاؤك عددهم اثنا عشر؟»
«نعم» قال الفيل(16)».
 وعلى العموم، فقد اشتركت شخصيتا الفيل والمسيح في الكثيرمن السمات التي يمكن توضيحها على الشكل التالي:

الشخصية الدينية  الشخصية الروائية
 منقذ /مخلص  منقذ /مخلص
 له حواريون  له حواري: السنجاب
 صلب  صلب
 الخلاص الديني  الخلاص السياسي
 شخصية متفردة  شخصية متجددة


إن نظرة فاحصة للجدول أعلاه تقودنا إلى الوقوف على مدى حرص الروائي على استثمارالعنصرالديني في بناء شخصية روائية إشكالية، قادرة على تشريح واقعها، واستشراف مستقبلها الذي لن يكون إلا صورة مكرورة من واقع لا يكف عن إعادة إنتاج أزمته:« هذه القصة المألوفة نفسها. لقد عشناها ألف مرة(17)».
ج-الشخصية العجائبية: يظهرالعنصر العجائبي في النص الروائي من خلال لجوء الصادق النيهوم إلى أسطرة الشخصية الروائية، ولا سيما شخصية الفيل، وذلك من خلال الارتكاز على بعض الحيثيات الغرائبية المفارقة للواقع . ففي الفصل السابع من الرواية ابتدع السنجاب حكاية عجيبة حول حادثة اختفاء/ هروب الفيل: «اختفى»قال السنجاب «شهدت ذلك بنفسي. كنت جائعا وكنت أقضم قطعة من خشبته موقنا أن عصر المعجزات قد ولى. فجأة أرى نجما لامعا يشق السماء. بعد قليل يصبح النجم عربة. بعد قليل تقترب العربة وينزل منها جدك الأسد وجدك أنت يا حضرة الذئب».
 « جدي؟» سأله الأسد.
 «جدي؟» سأله الذئب.
«نعم قال السنجاب» وحتى جدك أنت يا حضرة الكلب، كلهم نزلوا من العربة وجاؤوا(18)إلى الفيل .اثنان منهم أخذا يلعقان حذاءه، أما جد الملك فقد أخذ يدق على طبلته ويدور حوله سبع مرات ويرقص».(19)  
ومهما يكن، فقد جاء استلهام العجائبي في المقطع السابق، وفي مواطن أخرى، في سياق التشخيص الروائي لغرابة الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي الذي يعيشه الإنسان الليبي.

2-2 -البعد التخييلي للشخصية:
وبموازاة مع العناصر التراثية السابقة، اعتمد الروائي في بناء شخصية «الفيل» على عناصر روائية معاصرة / مغايرة، عملت على شد أحداث النص إلى إفرازات اللحظة الراهنة بكل ما تزخر به من تناقض وعنف والتباس.
غيرأن عملية الترهين هاته، لم تتم من خلال الإدانة الضمنية أوالصريحة  للواقع فحسب، وإنما من خلال الاستدعاء الضمني لبعض الثورات  الشعبية المعاصرة أيضا(كالثورة الهندية التي تزعمها المهاتما غاندي)، ثورات شكلت من خلال نجاحها في الانتصارعلى قوى الظلم والطغيان، لحظة فارقة في التاريخ الإنساني المعاصر، حري  ب«متمردي» ليبيا الحديثة تأملها والسيرعلى نهجها: «هكذا أنت دائما مؤدب وكبير القلب لكن هذه الغابة ميراث لكبير المخالب. لعلك متأثر بفقراء الهنود».(20)    
إن الأفكارالثورية المومإ إليها في القول السابق، تشي بحدوث نوع من الصراع الاجتماعي بين طبقة الحكام وطبقة المحكومين، صراع لعب فيه «الفيل» دور«النبي» الملهم، والزعيم «الحكيم» الذي استطاع بأفكاره الجريئة ومواقفه الثابتة، توعية الحيوانات، وحثها على الثورة على حاكمها.
مما سبق نستخلص، أن المؤلف عمد إلى بناء شخصية روائية تستمد عناصرها التكوينية من سياقات مرجعية متنوعة. صحيح أن الهيمنة كانت للعنصرالخرافي، إلا أن ذلك لم يمنع من اكتسابها لبعض السمات المنحدرة من مرجعيات دينية         ورمزية وتاريخية وعجائبية وأدبية، بيد أن المرجعيات المتحدث عنها في هذا المقام قدمت نصيا وهي ممتزجة امتزاجا تاما بالعنصرالروائي؛ مما أكسب النص الروائي تميزا وتفردا ليس في المشهد الروائي الليبي فحسب، وإنما في المشهد الروائي المغاربي والعربي كذلك.
لقد عكست رواية «الحيوانات» هذه الحاجة الفنية الملحة إلى تجديد المعرفة بالتراث، وتحصين الوعي بالواقع والتاريخ، وذلك عبر التسلح بعقلية نقدية/ ساخرة/ قلقة / جريئة لا تتحرج في إخضاع كل المنجزات، بما في ذلك المنجز التراثي الديني، إلى سؤال العقل والنقد.
ومهما يكن الأمر، فإن المنحى التأصيلي الذي نتحدث عنه في هذا السياق لم يتم على مستوى  بناء شخصية تراثية فحسب، وإنما تم من خلال بلورة زمان ومكان تراثيين كذلك.  

3 - استلهام الزمان الخرافي:
   احتفت رواية «الحيوانات» بعنصر الزمان احتفاء خاصا، فالرواية /الحكاية تؤشر، منذ بنية الافتتاح،على زمنية محددة تتوزع على النحوالتالي:
1-3 -الزمان الماضي:
ويتجلى من خلال العبارة الافتتاحية «ذات يوم» التي تنم عن رغبة الراوي في رد ما يحكيه إلى الماضي. والزمان الماضي الذي يفترض أن أحداث الرواية/الحكاية وقعت فيه، اتسم بنوع من الضبابية والغموض. فالقارئ لا يدرك اليوم الذي تشير إليه العبارة الزمنية المفتوحة» ذات يوم». لقد أراد السارد من وراء «عدم تحديد الزمان تحديدا دقيقا إضفاء طابع الإطلاق على التجربة المعروضة بالقصة. فتصير العبرة التي تحملها صالحة لكل زمان ومكان»(21).  
هذا علاوة على أن من شأن عدم تحديد زمنية النص تحديدا دقيقا، وسمه بطابع سحري قمين بمنحه قوة جذب خاصة، فمتلقي هذا النص يحس وكأنه يسافر عبر الزمن، ليعيش وقائع وتجارب لم تكن لتخطر له على بال.

2-3 -الزمن الحاضر:
وعلى نحوما نجد في الحكاية المثلية، اقترن «الزمن الحاضر» في رواية «الحيوانات» بالحكاية الإطارية، التي تنفتح على صوت السارد وهويتوجه بحكيه نحوجماعة من المستمعين المتحلقين حوله، موظفا في ذلك ضميرالجمع المتكلم: «نجلس معا، وكل واحد منا معه أذناه»(22).    
إن الفعل « نجلس معا» الوارد في كلام السارد يكتنز دلالتين اثنتين هما:
•    دلالة سردية: وتتمظهر من خلال تعويم السارد لضمير ال(أنا) داخل ال(نحن). ومن ثم فهويحاول التملص من تحمل المسؤولية في صدقية ما سيروى، وإعداد القارئ ليس للتلقي والتفاعل فحسب، وإنما للمشاركة في بناء الحكاية وروايتها كذلك.
•    دلالة زمنية: تتجلى في إحالة الفعل «نجلس» على الزمن الحاضر/الآن، حيث تبتدئ الحكاية، ويشرع الراوي في سرد وقائع ابتدأت (ذات يوم)، وانتهت (ذات يوم).
وبعد توقف الحكاية، يعود السارد بمتلقيه إلى الحاضر:«ودعونا الآن نفترق على خير، قبل أن نجتمع على غيره»(23).

3-3 -الزمن المستقبلي:
ويستشف من بعض المؤشرات الزمنية الدالة على زمن المستقبل. فشخصيات الرواية لا تكتفي بنقد الواقع السياسي فحسب (استبداد الأسد  وحكومة الكلب)، وإنما تقوم بالإضافة إلى هذا، ببناء توقعات واستشرافات صدرت عن «ذوات حيوانية» نالت نصيبها الكافي من الثقافة والتجربة (مثلا: الفيل، السنجاب، البومة)، ذوات تمثل  تيارين سياسيين واجتماعيين متصارعين: الفيل والسنجاب من جهة، والبومة من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى أن هذه الاستشرافات/النبوءات اتسمت بلون من الوثوقية، فقد جاءت حابلة بصيغ تأكيدية/قاطعة منها: « فما أرى لكم...سوى»، « لن تطلع»، «حتمية الصراع»، «حتمية أخرى»....
وعلاوة على اتصافها بالتنوع والتعدد (الماضي- الحاضر- المستقبل)، اتسمت البنية الزمنية في رواية «الحيوانات» باستلهام الصادق النيهوم الواضح لرمزية التشكيل الزمني الموظفة في الموروث الحكائي العربي، ولا سيما في حكاية الحيوان.
وإذا كانت وظيفة الزمان في النص الحكائي، هي تأطير فعل الواقعة السردية، وذلك عبر إفراغها في زمنية معينة: صباح/مساء، نهار /ليل، صيف/ شتاء، ربيع/خريف...فإن وظيفته في رواية»الحيوانات»، تتجاوز البعد التأطيري/الأحادي، الذي يتناغم والبعد الطبعي للزمن (النهار زمن السعي والكد، والليل زمن الراحة  والنوم). وبذلك فهي تؤسس لوظيفة رمزية تخرج عن الحدود الفيزيقية للزمان.
لقد ارتبط الليل في الذاكرة الإنسانية بالراحة التي تأتي بعد يوم طويل وشاق. إلا أن ليل»الحيوانات» يختلف عن «الليل الطبيعي»، وذلك بشكل جعله زمنا «عدوانيا» اقترن  بالتهميش والإقصاء والموت. لقد تحول ليل الفيل وأصحابه إلى ليل آخر، غير مألوف، يرتبط طوله وقصره بحسب متغيرات نفسية وفكرية، وليس بحسب عوامل طبيعية (تعاقب الليل والنهار). هكذا يبدو»الليل» المتحدث عنه طويلا بدون  آخر، فالشمس «لن تطلع على أرض خائفة إلى هذا الحد»(24).     
هكذا إذن، يصبح  طلوع الشمس بما يحمله من نور يبدد الظلام، ويذهب القر، معادلا موضوعيا للرفض والتمرد على واقع سياسي واجتماعي وثقافي ليبي بلورت تفاصيله بعيدا عن إرادة الشعب الليبي المقهورالمغلوب على أمره.
لعله قد تبدى لنا مما سلف، أن اشتغال الصادق النيهوم على مكون الزمن لم يتم بمعزل عن استلهام البنية الزمنية للنص السردي القديم، إلا أن هذا الاستلهام لم يتوقف عند عتبة المحاكاة، وإنما عمد، وفي قصدية فنية واضحة، إلى نسف هذه البنية، فاسحا لذاته حرية أكبر ليس في بعث النص التراثي فقط، وإنما في تطويعه وإعادة بنائه كذلك. وفي هذا الإطار، قام الصادق النيهوم بالتأسيس لزمنية روائية خاصة لا يقتصر دورها السردي على تأطير النسيج الروائي، على نحوما نجد في النص الحكائي القديم فحسب، وإنما تسهم في توجيهه وبنائه كذلك. فالزمن هنا، يفرض حضوره الوازن، وذلك عبر ممارسة سطوته وخاصة على الشخصية الروائية، الأمر الذي حوله من مجرد» إطار زمني» إلى «رمز زمني» ومعادل موضوعي لمرحلة سياسية معينة (الليل يرمز إلى الموت  والإقصاء، والنهار يرمز إلى النشاط والحياة والتمرد).
وحاصل القول، فقد أسهم استلهام البنية الزمنية لرواية «الحيوانات» للموروث السردي في الرفع من إمكاناتها الفنية، مما جعل منها نصا حواريا  مفتوحا قادرا على إدراك وتمثل إكراهات اللحظة الحاضرة، وذلك من خلال علاقاتها  المتشعبة والمعقدة  بما مضى (التاريخ)، وبما سيأتي (المستقبل) .
وعموما، فإن الرفع من القدرة التعبيرية للرواية لم يتم من خلال الاشتغال على مكون الزمن فقط، وإنما تم من خلال مكون المكان كذلك.

4 -البعد الخرافي للفضاء:
وكما هوالشأن في بنية الزمان، تأسست بنية المكان، هي الأخرى، انطلاقا من ارتباطها العميق بالمحكي الخرافي. وفي هذا الصدد صاغ الصادق النيهوم بنية مكانية خاصة استطاعت أن تجمع، وفي شيء من التوليف الفني المبدع، بين قيم مكانية تراثية وأخرى معاصرة، الأمر الذي أكسبها دلالتين اثنتين: الأولى تراثية  والثانية معاصرة.
وإذا كانت الدلالة الأولى قد اعتمدت في تشكلها على نمط العلاقة/العلاقات التي ربطتها بالموروث السردي، فإن الدلالة الثانية راهنت في انبنائها على مدى قدرتها على تحيين الزمن الخرافي المستلهم وترهينه، وذلك بفضل استراتيجية فنية رام الصادق النيهوم من ورائها، عدم الانجرار اللاهث وراء صدى التراث. لقد اجتهد في نقده وإعادة تشكيله، وذلك على النحوالذي يسعف في بلورة فهم عميق   ومقاربة جدية  وجديدة للمنظومات السياسية والاجتماعية والثقافية في البلدان المغاربية  عموما، وفي ليبيا خصوصا.
إن ملاحظة فاحصة لرواية»الحيوانات» تجعلنا نقف على ازدواجية المكان بين مكان تراثي له علاقة بالشكل الحكائي المستلهم، ومكان آخر روائي له ارتباط بالواقع السياسي في ليبيا في العقدين السبعيني والثمانيني من القرن العشرين. فما هي السمات الفنية التي ميزت كل نوع ؟ وما العلاقة / العلاقات التي ربطت بينهما؟ وكيف ساهم استلهام الموروث في الرفع من القيمة التعبيرية للنص الروائي المدروس؟

1-4 -الفضاء الخرافي:
وعلى شاكلة النص الحكائي الخرافي اتسم المكان  في رواية» الحيوانات « بتنوعه الملحوظ، فهويشمل البيئة الطبعية/ الحيوانية بكل ما تزخر به من غابات،  وأراض، وصحارى، وجبال، ومستنقعات، ومياه، وأشجار، وحيوانات. أي أنه يشمل مختلف مظاهر الطبيعة الجغرافية التي تعيش فيها الشخصيات بمختلف أصنافها (طائرة، متسلقة، زاحفة، بحرية)، وطباعها، ومواقفها مما يجري من أحداث جسام.
وعموما، فقد تحركت الشخصيات الحيوانية في عدة فضاءات أساسية أبرزها الغابة. والغابة المستحضرة في السياق الروائي تختلف عن تلك الموظفة في الحكاية الخرافية أوالمثلية، فهي لم تعد ذلك الحيز الجغرافي الذي تتعايش فيه الحيوانات أوتتصارع على نحوما نجد في حكايات «كليلة ودمنة»، وإنما غدت فضاء اتسم فنيا بجملة من الخصائص والأبعاد.
لعل أول صورة يكونها قارئ الرواية/الحكاية عن الغابة هوطابعها الغامض. فعلى الرغم من اقتران الكلمة ب(ال)، إلا أن ذلك لم يبدد غموضها، إذ أنها لم تكشف طبيعة هذا الفضاء ولا سماته، الأمر الذي جعل الذئب يتساءل في فاتحة الرواية عن طبيعته قائلا: «ما هي الغابة؟»(25).
والغابة فضلا عما سبق، هي فضاء عدواني بامتياز، فقد اقترن عند الحيوانات، وخاصة تلك التي ناصبت الأسد وحكومته المتسلطة/ اللاديمقراطية العداء،بالتهميش. ولتوضيح هذه النقطة نورد المثال التالي :

•    « هكذا أنت دائما مؤدب وكبير القلب لكن هذه الغابة ميراث لكبير المخالب. لعلك متأثر بفقراء الهنود»(26).
من المثال السابق يتضح أن فضاء الغابة/الوطن، هوواقع مكاني ارتبط في ذهن الفيل ومناصريه، بسيادة قانون الغاب، حيث لا سيادة إلا ل«كبير المخالب» ومن معه. لذلك كان من البدهي أن يتحول فضاء بهذه السمات إلى فضاء عدائي تصادر فيه حقوق الشخصية في إدارة شؤونها، وبلورة مستقبلها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
هكذا إذن، تقدم الغابة في رواية «الحيوانات» فضاء روائيا  تخييليا يتميز عن الفضاء المستوحى (الغابة في النص التراثي) ليس من حيث ارتباطه بالشخصية فحسب، وإنما من حيث مساهمته في صياغة المغزى / المقصد النصي كذلك.
ولئن ارتبطت الغابة، كفضاء، بالتهميش والإقصاء، فقد شكلت الصحراء امتدادا مكانيا مفتوحا يمنح الشخصية الفرصة للانفلات من كل ما قد يربطها بالمكان الأم (الغابة) من التزام سياسي أواجتماعي. ومن ثم يغدوالفضاء الصحراوي، بناء على هذا الطرح، مكانا أثيرا فيه، ومن خلاله، تتخلص الشخصية المأزومة من ضغوطها النفسية، وذلك عبر مراجعة الذات والإفصاح عما يخالجها من هموم وانكسارات أوجدتها تركيبة سياسية  واجتماعية وثقافية، لا تتردد في مصادرة الحقوق، ووأد الأحلام في مهادها.
وبموازاة مع الفضاء التراثي، يمكننا الحديث في الرواية عن فضاء آخر هوالفضاء الروائي.

4 - 2 -الفضاء الروائي:
ولئن أوغلت رواية «الحيوانات» في استلهام الفضاء الخرافي والاحتفاء به، فإنها لم تتوقف عند نسف هذا المكان وإعادة بنائه روائيا، وذلك بما يتناغم وحجم وطبيعة الإشكال المطروق؛ وإنما عمدت إلى ابتداع فضاءات أخرى / روائية اتسمت فنيا بطابعها الإنساني الواضح، المتجلي في الدلالة على واقع التردي الذي ميز المشهد السياسي الليبي، والعربي بشكل عام، وخاصة خلال المرحلة التي أعقبت حصول ليبيا على الاستقلال.
وعلى الرغم من تعدد هذه الفضاءات، فإن حضورها النصي كان شاحبا، فهي لم تستحضر إلا ك «ومضات مكانية» سريعة، إلا أن هذه الومضات  كانت أكثر دلالة وواقعية  في رصد  الصراع  السياسي الدائر بين جماعة الفيل وحكومة الكلب حول السلطة.
من التحليل السابق لبنيتي الزمان والمكان نستطيع تقرير النتائج التالية :
•    استلهم الصادق النيهوم الموروث السردي، وذلك عبر اجتراح  فضاءات اتسمت بإطلاقيتها وضبابيتها وغموضها . وهي سمات تذكرنا بالنصوص العربية الخرافية  التي جنحت في عمومها، إلى تأبيد محصولها الأخلاقي، وذلك من خلال تعمدها تحييد بنيتها الزمكانية.
•    حرص الصادق النيهوم في رواية» الحيوانات» على محاورة الفضاء الخرافي محاورة إيجابية وخلاقة، فهولا يتوخى محاكاة المحكي الخرافي محاكاة صورية جافة تقود إلى التكرار والاجترار، وإنما ينشد الدخول معه في نوع من الجدل الفني، لم يصبح المكان التراثي بمقتضاه ذلك المكان الفيزيائي ذا الأبعاد الثلاثة، وإنما غدا فضاء روائيا يتسم فنيا بخصبه وعمق دلالته، وبقدرته المستمرة على التأرجح بين الانفتاح والانغلاق، والألفة والعدائية، والبساطة والتعقيد، والحضور والغياب، والواقعية والأسطورية، وذلك بحسب ما يتطلبه السياق الدلالي للنص.
الفضاء التراثي المستلهم لم يعد إذن ذلك الفضاء الثابت، الجاهز الذي لا دور له سوى التأطير المكاني للنسيج السردي، بقدر ما أصبح فضاء روائيا اتسم، علاوة على ما ذكرناه، بوظيفة إيحائية ساهمت في هندسة النص، وبلورة مقاصده الدلالية والجمالية، مقاصد لم تكن لتتحقق لولا تلك العلاقة/البنائية العميقة التي أنشأها مع مختلف الأركان الروائية الأخرى. لقد لجأ الروائي إلى نسف الإطار التقليدي للمكان كعنصر مستقل بذاته ولذاته، وبنى على أنقاضه إطارا مكانيا جديدا التحمت فيه البنية الزمنية بالبنية المكانية، الأمر الذي أضفى على النص نوعا من الدينامية، دينامية ستصل ذروتها خاصة حينما ستتحول بنية المكان إلى فضاء/مرآة تواكب،  وتعكس في الآن ذاته، الكثير من التحولات / الانقلابات التي تخللت صراع الحيوانات حول السلطة. ولتوضيح هذه النقطة نورد الجدول التالي(27):

دوافع التحول   الفضاء المتحول إليه  الفضاء المتحول عنه الشخصية المتحولة
 تأسيس حكومة  الغابة  مجهول  الذئب
 طلب الأمان  الماء  الغابة  الخرتيت/الضفدع
 التحرر من الرقابة   الجحر  الغابة  العقرب/الثعبان
 الاختباء  الجبل / المغارة  الصحراء  الصقر
 الهروب من الواقع/ التنسك  الصحراء  الغابة  السنجاب
الإعداد للتمرد
على حكومة الكلب 
 البار/المقهى/
فوق الشجرة/تحت الشجرة
 الغابة  السنجاب، الخنزير، الجمل،
الثور،التيس،القط،الكبش،
الحصان، العصفور
الهروب من سلطة الأب والحكومة
والالتحاق بالفيل 
 الجبال  البيت  الأرنب رقم 9
الأرنب رقم 11

           


  إن قراءة تحليلية للجدول أعلاه تجعلنا نلحظ مدى الارتباط الوثيق للفضاء بالعناصر الروائية الأخرى، ولا سيما عنصر الشخصية. إن الانتقال من الغابة إلى الماء أوالجحر أوالجبل أوالمغارة أوالصحراء، وإن كان في الظاهر يشكل بنية حدثية، إلا أنه في مدلوله الفني يمثل تقنية روائية تقصد السارد من ورائها إفساح المجال أمام الشخصية كي تلج عوالم حكائية واقعية أوخرافية أورمزية أوعجيبة، تسعف  في تشريح الواقع السياسي الليبي، مسلحة في ذلك برؤية نقدية حادة لا يسع «المكان الخرافي» بحدوده الجغرافية الضيقة، استيعابها.

ومهما يكن، فقد وفق الصادق النيهوم  في أن يجعل من استلهام الموروث الخرافي أداة أسعفته في التأسيس لكتابة روائية جديدة قادرة على نقد النكسة السياسية والضمور الثقافي السائد في وطنه (ليبيا)، ومن خلالها كل البلدان المغاربية. وهوفي روايته لا يتوقف عند تشخيص الداء، وإنما يقترح الدواء أيضا (الثورة). وبهذا تغدوالكتابة عند النيهوم فعلا ثقافيا ثوريا وجدليا، يصدح بالحقيقة (السياسية أوالدينية أوالاجتماعية) المسكوت عنها، دون مواربة أووجل، الأمر الذي جعله يصطدم بذهنية عربية مغلقة جرت عليه العديد من المصاعب التي أرهقته حيا ( تهميشه ثقافيا، واضطراره إلى الهجرة قسرا إلى الخارج حتى وفاته، ومصادرة كتبه)، ولاحقته ميتا (تهميش كتبه).

و«الثورة» التي بشر  بها نص «الحيوانات» لم تكن سياسية فحسب، وإنما كانت فكرية وروائية أيضا. من هنا جاء اهتمامنا بهذا النص كنوع من إعادة الاعتبار لتجربة روائية مغاربية تم تقييمها إيديولوجيا لا نقديا، وذلك عبر إصدار مواقف تبلور جلها كردود فعل إزاء آراء الرجل السياسية والإيديولوجية .

الهوامش

1 - انظر: بوشوشة بن جمعة:الرواية الليبية المعاصرة: سيرورة التحولات ومعجم الكتاب، المغاربية للطباعة  والنشر، (د . م)، ط 1،2007،ص :199.
2 - من مؤلفات الصادق النيهوم الفكرية نذكر:
•    فرسان بلا معركة: دار الحقيقة، بنغازي، 1973م.
•    صوت الناس:أزمة ثقافة مزورة، رياض الريس للكتب والنشر، لندن/بيروت، 1987م.
•    محنة ثقافة مزورة:صوت الناس أم صوت الفقهاء،رياض الريس للكتب والنشر، لندن/بيروت،1991 م.
•    الإسلام في الأسر: من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟، رياض الريس للكتب والنشر، لندن/بيروت، 1991 م.
•    إسلام ضد إسلام:شريعة من ورق، رياض الريس للكتب والنشر، لندن/بيروت، 1994م.
3 - انظر: رياض نجيب الريس:الصادق النيهوم : قبل الرحيل، أزمة ثقافة مزورة – بعد الرحيل، أزمة ثقافة مصادرة، مجلة (الناقد)،ع 83، س 7، مايو1995م، ص: 7 .
4 - يعرف عبد الحميد يونس الحكاية الخرافية بكونها» عبارة عن شكل قصصي يقوم الحيوان فيه بالدور الرئيسي، وهي امتداد للأسطورة بصفة عامة، ولأسطورة الحيوان بصفة خاصة».
انظر:عبد الحميد يونس: الحكاية الشعبية، سل (المكتبة الثقافية)، ع200، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 15 يونيه 1968، ص: 29 - 30 .
ينظر كذلك : مصطفى يعلى: القصص الشعبي بالمغرب- دراسة مورفولوجية، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، ط 1، 2001، صص: 33 – 50.
5 - صادق النيهوم: الحيوانات، مكتبة 5 التمور للكتاب، بنغازي، ليبيا، 2010 .
6 - الرواية، ص: 3.
7 - عبد الملك مرتاض: في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد، سل(عالم المعرفة)، ع 240،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر 1998، ص: 163.
انظر كذلك: عبد الله إبراهيم : السردية العربية - بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، ط1، 1992، ص:  45.
8 - عبد الفتاح كيليطو: الحكاية والتأويل، دراسات في السرد العربي، دار توبقال للنشر،الدار البيضاء، ط 1، 1988، ص:34 .
9 - الرواية، ص:134 .
10 - المصدر نفسه، ص:135 .
11 - نفسه، ص: 37 .  
12 - نفسه، ص:3.
13 - نفسه، صص: 3-4.
14 - نفسه، صص: 44- 45- 57-  58 .
15 - نفسه، ص:44 .
16 - نفسه، صص: 63 - 64.
17 - نفسه، ص:  109 .
18 - الصواب : جاؤوا .
19 - الرواية، صص: 105 - 106.
20 - المصدر نفسه، ص:99.
21 - عبد الوهاب الرقيق: أدبية الحكاية المثلية في كليلة ودمنة لعبد الله بن المقفع، سل (آفاق أدبية)، دار صامد للنشر والتوزيع، صفاقس، تونس، ط 1، جانفي 2007، ص: 119 .
22 - الرواية، ص: 3.
23 - نفسه، ص: 135 .
24 - تكررت هذه العبارة في سياقات مختلفة من النص . انظر الرواية، وخاصة الصفحات: 77- 81- 82 .
25 - الرواية، ص:5 .
26 - نفسه، ص:99.
27 - انظر: أحمد ممو: دراسات هيكيلية في قصة الصراع، الدار العربية للكتاب، طرابلس( ليبيا) – تونس ( تونس)، 1984، صص: 71-72.

أعداد المجلة