فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
60

أشكال الموروث الشعبي في قصص خيري شلبي مقاربة ثقافية

العدد 60 - أدب شعبي
أشكال الموروث الشعبي في قصص خيري شلبي  مقاربة ثقافية
كاتب من مصر

 

مقدمة البحث: 

 يطرح هذا البحث مقاربة ثقافية من خلال أشكال الموروث الشعبي للعالم القصصي عند خيري شلبي من خلال مجموعته القصصية «أسباب للكي بالنار نموذجًا»، لأنني أعتقدُ أن خيري شلبي1 يعد واحدا من أبرز كتاب القصة والرواية في الأدب العربي الحديث، لما له من إنتاج أدبي غزير، ومتميز في السردية العربية بعامة، والمصرية بصفة خاصة. حيث تنوعت المداخل الثقافية في أدب خيري شلبي، من خلال اللغة السردية، والسارد الشعبي، والمكان والزمان، بالإضافة إلى الشخصيات التي اعتمد عليها خيري شلبي في بناء عوالمه القصصية، بل صار شلبي علامة على جيل الستينيات من الكتاب والشعراء والفنانين في مصر، من القرن الماضي. 

اتكـأ خيري شلبي في بناء قصصه القصيرة على تصوير الحس الشعبي، و الموروث الثقافي المصري من خلال منتوجاته الثقافية التي تميزه عن غيره من الشعوب، وقد أفاد الكاتب خيري شلبي من الثقافة الشفاهية الشعبية التي جاءت على ألسنة شخصياته في قصصه، ورواياته، وقد تمثل ذلك في طرحه العبقري للبنى المختلفة للحياة الاجتماعية والسياسية، والثقافية، والتاريخية في مصر من خلال طرح قضاياه وحكاياته الخاصة من ناحية وقضايا الإنسانية بعامة من جهة أخرى، وقد تمثلت هذه القضايا في مجموعته القصصية أسباب للكي بالنار2، ومن أهم هذه القضايا -في ظني- قضية الفقر المدقع الذي انتشر في أركان المجتمع المصري في عصر الانفتاح الساداتي، حيث انقسم المجتمع إلى طبقة الفقراء والأغنياء، وصار الجهل، متنا قويًا في المجتمع المصري، وقد طرح أيضا -بشكل واسع- حياة المهمشين، وهم هؤلاء البشر الذين يعيشون دائما على هامش الحياة لهم ثقافتهم وعاداتهم المختلفة. وقد تجلى ذلك كله في «أسباب للكي بالنار»، وهي القصة المتن داخل المجموعة التي جاءت في شكل فني مختزل، مما يشي بالقدرة الاحترافية للكاتب خيري شلبي على التصوير السردي من خلال لغة كاشفة لعوالم الطبقة المهمشة في المجتمع المصري، ومن ثم فقد لجأ خيري شلبي إلى التعدد البنائي في السرد القصصي، فقد انفتح على الثقافة الشعبية/ ثقافة الحارة المصرية تارة والقرية تارات أخرى، بل يعد خيري شلبي من الأكابر الذين طرحوا صورة القرية المصرية بشكل لافت، فجاءت قصصه تعبيرًا عن مواقف إنسانية مختزلة تشتبك مع الواقع تارة، ومحلقة في الخيال تارات أخرى.  

أسباب البحث:

تكمن مجموعة من الأسباب وراء اختيار هذا البحث: وهي كالآتي: 

    -    يمثل خيري شلبي أحد كتاب جيل الستينيات في الرواية المصرية والقصة القصيرة، 

    -    لم يحظ خيري شلبي - في ظني - بالكتابة النقدية عن أعماله الأدبية المختلفة. 

    -    التعدد السردي في العالم القصصي عند خيري شلبي. 

    -    اتساع صور الموروث الشعبي في بناء القصة القصيرة عند خيري شلبي . 

    -    اختبار المقاربة الثقافية في قراءة قصص خيري شلبي مستعينا بالسيميائية كوسيلة معرفية للولوج في عوالم السرد القصصي عند خيري شلبي. 

أهداف البحث: 

يهدف هذا البحث إلى طرح مقاربة نقدية حول قصص خير ي شلبي، كما يهدف إلى اختبار المقاربة الثقافية في تحليل قصص خيري شلبي، كما يهدف إلى الوقوف على قراءة قصص خيري شلبي قراءة تكشف عن مدى إيغاله في الحس الشعبي المصري، وعوالم الشخصية المصرية التي تطرح أسئلة كثيرة على نفسها رغبة في الوصول إلى حلول مقنعة أولا تصل، المهم في ظني أن تحمل الكتابة هما معرفيا وفنيا يمكن لها من خلاله الوقوف على مكمن الألم والقوة في وقت واحد. 

الدراسات السابقة:

سبق البحث دراسات كثيرة عن خيري شلبي ومنها: 

    -    محمد الفارس: الرؤيا الإبداعية في أدب خيري شلبي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة كتابات نقدية، 2005. 

    -    خالد منصور: البنية السردية في روايات خيري شلبي، رسالة دكتوراه، كلية الآداب، جامعة عين شمس، 2006. 

    -    خالد منصور: المكان في روايات خيري شلبي، مجلة فصول، عدد 86، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2012.

    -    حسين حمودة : خصوصية المدينة/ متاهة المدينة، قراءة في رواية موال البيات والنوم، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة كتابات نقدية، عدد 61، القاهرة، 1993. 

    -    أحمد علي عطية: ظواهر فنية في أدب خيري شلبي الروائي. «الوتد، لحس العتب نموذجا» ملاحق المدى، 2011، https://almadasupplements.com/view.php?cat=3116

أسئلة البحث:

    -    لماذا خيري شلبي؟ 

    -     وما مفهوم العالم عند خيري شلبي؟

    -    ما مفهوم المقاربة الثقافية؟

    -    ما آليات البناء السردي في عوالم القص عند خيري شلبي؟

    -    لماذا لجأ خيري شلبي إلى الموروث الشعبي في عملية البناء القصصي. 

منهج البحث:

اعتمد البحث على المقاربة الثقافية بوصفها منهجية نقدية في التحليل والتأويل النقدي لقصص الكاتب خيري شلبي، في مجموعته «أسباب للكي بالنار نموذجًا» حيث لاحظ الباحث من خلال معايشة النصوص القصصية، أن الكاتب أوغل في الكشف عن عوالم المهمشين وثقافاتهم وأفكارهم، حيث يمتلك هؤلاء المهمشون ثقافة شعبية خاصة بهم، يتحركون من خلالها في علاقاتهم بالعالم المحيط.

خاتمة البحث: جاءت الخاتمة لترصد ما توصل إليه البحث من نتائج.

لماذا خيري شلبي؟ 

يعد القاص و الروائي خيري شلبي (1938ــ 2011) قطبا كبيرا من أقطاب جيل الستينيات في الرواية العربية، والقصة القصيرة، وغيرها من الأنواع الأدبية التي أنتجها شلبي عبر رحلته مع الكتابة الأدبية، فلم يترك نوعا من أنواع الفنون إلا وقد ضرب شلبي فيه بحجر قوي له أثره المعرفي والفني والثقافي على المستويات كافة، فقد كانت علاقة خيري شلبي بالكتابة كعلاقة العاشق بمعشوقه، فقد كان وسيظل من أكابر الحكائين المصريين الذين يحملون الروح المصرية البسيطة الثرية في الوقت نفسه، فلم تنفصل طريقة سرده الشفاهي عن طريقة التدوين/ الكتابة، فقد جمع بين السردي الشفاهي والكتابي، يحدثك خيري شلبي، وكأنه يقرأ من كتاب، ويكتب إليك، وكأنه يحكي تفاصيل خاصة جدا عن حياته وحياة المصريين، فقد استثمر بذكائه الفطري قوة الموروث الشعبي المصري، فقام بتوظيفه في معظم أعماله الأدبية وبخاصة في القصة والرواية. ويشير إبراهيم عادل في مقاله عن خيري شلبي إلى أنه « لا يزال الروائي المصري الكبير خيري شلبي حاضرًا بل، ومؤثرًا في الأدب العربي بصفة عامة، وفي الأدب المصري والرواية المصرية بشكلٍ خاص، إذ إنه يُعد بجدارة واحدًا ممن أرسوا دعائم «الواقعية السحرية» في الرواية المصرية بما تركه من روايات تنتمي إلى هذا التيـار الذي التفت إليه النقاد مع صعود أدب أمريكا اللاتينية، ولكن القارئ المدقق والمتابع للإنتاج الروائي العربي والمصري لا شك سيجد أثرًا واضحًا لهذا التيار في الأدب العربي، لا سيما أنه مستمدٌ في الأساس من التراث العربي من حكايات «ألف ليلة وليلة» والقصص الشعبي والغرائبي الذي زخرت به العديد من كتب الأدب القديم»3. 

 قّدَمَ خيري شلبي الكثير من الفتوحات السردية في الكتابة العربية سواء في القصة أو الرواية أو فن البورتريه، والمسرح، والسيناريو، وغيرها، وقد تميز شلبي عن أفراد جيله بغزارة الإنتاج والتجريب الفني، والحفر في الموروث الثقافي، بل صارت الذاكرة الشعبية بمثابة المساحة الفنية التي يتحرك فيها بقدرة كاتب كبير، يستمد من التراث حكاياته عن المهمشين عبر الزمان والمكان، ويمكن لنا أن نجيب عن سؤال لماذا خيري شلبي من خلال المقاربة النقدية التي نحن بصددها. التي تعتمد على قراءة قصص أسباب للكي بالنار. 

مفهوم العالم: 

تبدو صورة العالم لدى خيري شلبي صورة ممتدة، حيث تتجسد من خلال هذا العالم رؤى الكاتب المختلفة، ومدى قدرته التخييلية على بناء عوالم موازية للحياة التي يعيش فيها، حيث يمتلك القدرة على تصوير الحياة بكل ما فيها من آلام ومنغصات وصراعات مستمرة بينه وبين الحياة نفسها. ومن ثم فإن «رؤية العالم هو مصطلح فلسفي حديث يراد به النظر إلى العالم نظرة شاملة، بما في ذلك جميع الأجزاء، والعناصر، والمكونات، والنظم، فإن هذه الرؤية تعرض لحقائق الأشياء في إطارها الأشمل، وتمثل قواعدَ وأطرا مرجعية للفكر والسلوك، ضمن القيم العامة للمجتمع، فضلا عن الصورة التي يدرك فيها العقل الإنسان حقائق الكون والحياة والإنسان، وإجابات الأسئلة الوجودية والمعرفية والقيمية لهذه الحقائق»4. وفي ظني أن العالم الذي يخلقه الكاتب من خلال النص الأدبي المكتوب هو جزء من نسيج عوالم أكثر اختراقا لحواجز الممكن للدخول في كسر حواجز اللاممكن المسكون بالتجربة الفنية. تتشكل رؤية العالم للكاتب خيري شلبي في نتاجه الإبداعي في مدى قدرته على محاكاة المجتمع الذي يعيش، محملا بأفكاره الخاصة ومنطلقاته الفكرية والفلسفية تجاه قضية بعينها. محاولا الولوج إلى جوهر المعنى الذي يتبناه من خلال الشكل الذي يحمل هذا المعنى. 

المقاربة الثقافية: 

 تقوم المقاربة الثقافية على استعادة روح الثقافي والاجتماعي من خلال إجراءات النقد الثقافي التي تدرس النص دراسة ثقافية، والوقوف على مرجعيات النص الأدبي الثقافية التي نجدها في اللغة، والشخصيات والسارد، والسرد نفسه، والمكان، والزمان، وتبدو صورة الموروث الثقافي في السرد القصصي بشكل خاص عند خيري شلبي تحديدا . فقد هيمن الحس الثقافي الشعبي عند خيري شلبي، وصار صوتا رئيسيا في البناء السردي، ومن ثم صارت المقاربة الثقافية عبارة عن مجموعة من الأسس والإجراءات النظرية وتطبيقاتها على القراءة النقدية في العمل الأدبي، وفي ظني أن القراءة الثقافية «هي الدراسة التي كسرت مركزية النص الأدبي ولم تعد تنظر إليه بما أنه نص، ولا إلى الأثر الاجتماعي الذي قد يظن إنه من إنتاج النص، لقد صارت تأخذ النص من حيث ما يتحقق فيه وما يتكشف عنه من أنظمة ثقافية، فالنص هنا وسيلة وأداة»5. 

ولاحظت أن العالم الذي يطل خيري شلبي من خلاله هو عالم الثقافة الشعبية بشكل واضح، حيث صورة المهمشين الذي يعيشون على أطراف الحياة في هامش خاص بهم، هم أصحابه الذين يفرضون قوانينهم الخاصة في هذا العالم، حيث تتعامل « القراءة الثقافية مع اللاوعي الاجتماعي داخل المتخيل الأدبي من خلال النصية و الاجتماعية، وهنا يتم التشديد على الخلفيات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، ضمن لا وعي اجتماعي، يتشكل داخل النص الأدبي فنيا، وجماليا» 6. 

أسباب للكي بالنار: 

تبدو صورة الحياة التي شكلها المبدع خيري شلبي في قصصه ورواياته صورة من صور الواقعية السحرية، حيث إنه يرتكز في بناء عالمه الفني على حسه وموروثه الأسطوري، الثقافي، والمعرفي في بناء قصصه التي تمور بالحزن والحنين إلى ذكريات الحياة الماضية، مستدعيا صورة الماضي الخاص به، وتفاصيله الواسعة التي تمزج بين الواقعي والسحري، لأنه كاتب محترف يصنع من الخيالات واقعا فنيا مأزوما تارة ومشرقا تارة أخرى. 

وبناء على ما سبق، جاءت المجموعة القصصية التي نحن بصدد الوقوف عليهاوهي مجموعة «سباب للكي بالنار» في ثماني عشرة قصة قصيرة وهي كالآتي : «كلوا بامية الفرجة أسباب للكي بالنار الساعة قرافة السيارات فك رقبة سرادق الألم الاحتراق - العبور من البرزخ الهوائي الكهف فنتازيا الأطفال تباريح الريح رقائق ثلج أسود الأسنان الحجرية وفود الضوء الموكب الذي رأيته في بيتنا من مأثورات عائلة شبراوي سقوط». 

سيميائية العنوان «أسباب للكي بالنار»: 

 يأتي العنوان بوصفه علامة من علامات السيمياء، حيث يمكن من خلاله قراءة العالم بشكل سيميائي، فالعنوان هو البنية المؤسسة للخطاب السردي، حيث يصبح نصًا محيطا وموجها بالنص الكلي/ المتن «فالعنوان الأدبي ضرورة كتابية، فهو بديل من غياب سياق الموقف بين طرفي الاتصال، وهذا يعني أن العنوان بإنتاجيته الدلالية، أي بنصبه، يؤسس سياقا دلاليا يهيئ المستقبل لتلقي العمل، وإذا كان العنوان ينطوي على قدر من الشعرية التي توفرها « لا نحويته» فليس هذا القدر ملزما للعمل الذي يكون مقالة أو كتابا أو رواية أو ديوانا... إلى آخره»7. ومن ثم فتتشكل عن بنية العنوان عوالم متنوعة في عملية الدخول إلى قراءة العمل الأدبي، لأن العنوان لغة من اللغة وهذه مسلمة أولية على حد تعبير محمد فكري الجزار، فيقول: «غير أن لغة العنوان كما تبدو في ظاهرها غير مشروطة تركيبيا بشرط مسبق، وبالتالي فإن إمكانات التركيب التي تقدمها اللغة كافة قابلة للتشكيل» العنوان «دون أية محظورات فيكون كلمة أو مركبا وصفيا، ومركبا إضافيا» كما يكون جملة فعلية أو اسمية، وهذا يعني أن «إفادة العنوان تتكئ إلى وظيفة الإحالية إلى ما يعنونه بينما إفادة التنفيذات اللغوية كافة تتكئ إلى اكتمالها التركيبي، ثمة إذن مسافة اختلاف بين لغة العنوان، واللغة والوظيفة الإحالية، وهي وظيفة تستند في فلسفتها إلى اللغة»8 فالعنوان هو النص القصير المختزل لنصوص كبيرة أخرى، فتبدو العنونة الأدبية في ظني لقطة فنية مبتكرة تعمل على جذب المتلقي من جهة وإثارة شغفه المعرفي وأسئلته المتخيلة من جهة أخرى. 

من الملاحظ أن الكاتب خيري شلبي اختار عنوان مجموعته القصصية بعناية، فقد يحكي العنوان نفسه عن أسباب للكي بالنار. هو عنوان إحدى قصص المجموعة، فيشير إلى التعددية السببية للكي بالنار، حيث يستمد شلبي من الثقافة الشعبية صورة العقاب البدني وهو الكي الذي تقوم به الأمهات تهديدا لطفلها إذا اتسخت ملابسه، هذا هو المعنى المباشر كما ورد في القصة، كما يسرده الكاتب، ولكنني أعتقدُ أن الكي هو العلاج الشعبي الذي كانت تلجأ إليه الجماعة الشعبية قديما للخلاص من الأمراض المؤلمة، كالمفاصل والأيدي، والجروح التي لا تندمل، وهي طريقة بدائية في القضاء على الوهن والمرض، بل يحمل عنوان القصة حلا لكثير من أمراضنا التي تحتاج للكي والتطهير حتى نتخلص من كل أوجاعنا اليومية عن طريق الكي بالنار. 

 السردية في «أسباب للكي بالنار»:

 اتكأ خيري شلبي في عملية البناء السردي في قصصه بعامة، وأسباب للكي بالنار بخاصة على عوالم سردية متنوعة، فقد ربط بين الخاص والعام، وبين الباطن والظاهر، والخيالي والواقعي، بل كانت أرضية السرد في قصصه، أرضية مكثفة شديدة الإيجاز على الرغم من توجه السرد إلى الدخول في مناطق أكثر خصوصية، فإنَّ خيري شلبي يمتد بخامات السرد إلى الكشف عن عوالم جوهرية في الذات الإنسانية، لن تؤرقه القضايا الكبيرة بقدر ما تؤرقه عذابات الإنسان البسيط، وينبغي أن نقف عند مفهوم السرد في النقد الأدبي، فالسرد بطبيعة الحال مصطلح نقدي، جاء من الفعل يسرد (Narrate)، ومصدر السرد( Narration) وتبدى ذلك من خلال مفهوم السرد في السيميائيات الحديثة، فيقول جريماس: «إنَّ السرد هو خطاب ذو طبيعة مجازية تنهض الشخصيات بمهمة إنجاز الأفعال فيه، ويتضح المفهوم بشكل خاص في قول بريمون: إن السرد هو مجموعة الأحداث المرتبة ترتيبا منظما داخل القصة، عبر وظائف (أفعال) الشخصيات، وسلاسل الأحداث التي تتسم بالوجود في أي نص»9 فتصبح هذه الأحداث السردية متضمنة القضايا التي يطرحها السارد عن طريق الإخبار، ويبدو مفهوم السرد واضحا في تعريف جيرالد برنس، فيقول: «فالسرد كما يعرفه الدارسون هو الحديث أو الإخبار لواحد أو أكثر من واقعة حقيقية أو خيالية من قبل واحد أو اثنين أو أكثر من الساردين»10.

 ويشير تودوروف إلى أن السرد هو: «الطريقة التي يتبعها السارد في نقل الحكاية وأحداثها، هذه الطريقة التي تتعلق بالجانب الصياغي للغة أو الشكل اللفظي، والتتابع الزمني/ المنطقي، والجانب التركيبي (السردي) بحضور مقولات الصيغة والزمن والشخصيات وغيرها»11؛ فتسهم في بناء النص السردي، وتقوم بدورها في عملية تشكيل الحكاية التي ترتكز على أدوات السردية. كما يرى جيرار جينيت أن السرد ينقسم إلى ثلاثة معان رئيسية، هي : «السرد من حيث هو حكاية، وهو المعنى البديهي الشائع، والسرد من حيث هو مضمون أو محتوى حكاية ما، والسرد من حيث هو فعل، إذ يدل على الحدث (فعل السرد) إذ يقوم على أن شخصا ما يروي شيئا ما، وبالتالي، نكون أمام (فعل السرد) الذي يضطلع به السارد في النص السردي»12، وبالتالي فإن تقسيمات جيرار جنيت الثلاثة، ترصد الصور الفنية التي يكون عليها المتن الحكائي الذي يتجلى من خلال السرود بأنواعها المختلفة ومن ثم، فقد أصبح «السرد العربي الحديث، يجاري إحساسا بتوترات العصر، وقضايا الإنسان المعاصر في مدنية تشهد تخلخلا في البنية الموضوعية للثوابت، وضربا لكثير من القيم والمرتكزات التي كان ينطلق منها الإنسان»13 .

ومن الملحوظ أن خيري شلبي في جل قصصه كان مشغولا بطرائق السرد، حيث تمكنه من إبراز الحكاية التي يحملها السرد إلى المتلقي، فتكون أكثر تأثيرا وإقناعا، فيلجأ إلى انتقاء مفردات بعينها وترك مفردات أخرى، وهو ما يعرف بالانتقاء السردي المتناسب الممزوج بالحكاية السردية . وقد لاحظت ذلك جليا في مجموعته أسباب للكي بالنار تحديدا. ففي القصة الأولى التي جاءت بعنوان «كلوا بامية» يمزج خيري شلبي بين الفصحى والعامية، حتى يمنح السرد روحا حية حقيقية، تحكي النص بطريقة بسيطة وأكثر قدرة على الامتداد والدخول في عوالم الحكاية الشعبية التي جاءت القصة لتخبرنا عن وقع الحكاية / اللعبة الشعبية التي يلعبها الأطفال، سواء في الحارة أو القرية المصرية. فيقول على سبيل المثال: «اللعبة من أساسها أن فريقا يجب أن يركب فوق فريق، فأي الفريقين يركب الأول، ذلك يقتضي لعبة أخرى. ولكن كيف يصبح هناك فريقان؟ أولاد الحارة والحواري المتاخمة كلهم في الجرن ساعة زهزهة القمر. لابد أن يتوفر ولدان من الأشقياء مثل «محمود القرن»، و«جنوم» تسفر عنهما معارك طويلة بين هذه الحواري كلها منذ الطفولة المبكرة . إذا اجتمعا في الجرن حقت اللعبة، أي لعبة لابد لها من فريقين. يقف الولدان في الساحة كل منهما شاهرا زنده متحديا. يبدأ أحدهما بما يسمونه بالمطالقة:

طالقني 

طالقتك 

بزندي 

فلقتك 

اختر لك واحد 

اخترت فلانا 

فعلى من يسمع اسمه من العيال أن ينسلت في الحال، وينضم إلى رحاب من اختاره، ثم تبدأ المطالقة من جديد بين الشقيين الكبيرين، وبذلك يصبح ثمة فريقان لكل منهما ولد متين يقوده في مواجهة الآخر. 

ثم تبدأ اللعبة بلعبة اسمها « كلوا بامية»، بأن يقف الفريقان في صفين متقابلين ثم يرددون معا وفي نفس واحد عبارة «كلوا بامية» بلهجة غنائية ممطوطة مصحوبة ببسط الأكف في مواجهة بعضهما البعض وجعلها تتماوج مع صوت الترديد، بشرط أن تتوافق تموجات كل فريق، فإذا انقلبت الأكف فجأة على الوجه الآخر فإنها لابد أن تنقلب كلها دفعة واحدة، فإن شدت يد أو تأخرت فإن فريقها يكون مطية حلالا للفريق الآخر14. 

 من الملحوظ في المشاهد القصصية السابقة من قصة «كلوا بامية» أن الكاتب خيري شلبي يعتمد اعتمادا مباشرا على السرد الحي، وأعني به ذلك السرد الكاشف عن حقيقة الموروث الشعبي سواء في الفنون أو الألعاب الشعبية كلعبة كلوا بامية، وفي ظني أن النص القصصي مشحون بتصورات السارد عن الموروثات الشعبية ومنها الألعاب التي تحكي عن علاقة الأطفال في ذلك الزمان وعلاقة الكبار أيضا، حيث تصبح تلك الألعاب الشعبية جزءا جوهريا في بناء الإنسان. كما نلاحظ البنى السردية التي اتكأ عليها النص القصصي مثل المطالقة، طالقني، طالقتك، بزندي، فلقتك، فلقتك، اختر لك واحد، اخترت فلانا . كل هذه المفردات المرتبطة بالذات الساردة من الجهة التي تقوم بتصوير الحدث، حيث تبدأ لعبة «كلوا بامية» التي تمثل النسيج الشعبي في الحارة، ومثل جزءا من الموروث الشعبي في الحارة المصرية، ومدى التحام الذات الشعبية بما يحيط بها من أحداث، وكأن الكاتب ينقل لنا بحسه الشعبي، صورة الفتوات في الحارة، في مقابل صورة الأطفال الذين يلعبون «كلوا بامية» وفي ظني أن السردية التي اتكأ عليها شلبي تنطلق من الحس الشعبي، حيث تمتلك المفردات دلالات شعبية لها خصوصيتها الثقافية والمكانية في العالم السردي داخل القصص. 

السارد/ البطل: 

يمثل السارد في القصة القصيرة صوتًا رئيسًا في عملية البناءِ الفني، حيث يصبح السارد عليما بالحدث القصصي، وملما بالمكان والزمان داخل العالم الذي يشكله « ويعرف السارد / الراوي (Narrator) بأنه الشخص الذي يروي القصة، أو هو الصوت الخفي الذي لا يتجسد إلا من خلال ملفوظه، وهو الذي يأخذ على عاتقه سرد الحوادث، ووصف الأماكن، وتقديم الشخصيات، ونقل كلامها والتعبير عن أفكارها ومشاعرها وأحاسيسها، وبذلك يمكن القول: أنه الواسطة بين مادة القصة، والمتلقي، وله حضور فاعل؛ لأنه يقوم بصياغة تلك المادة»15، السردية التي يحاول أن يبث فيها أفكاره ورؤيته الفلسفية للحياة، كما أعتقدُ أن صورة السارد في قصص خيري شلبي، تأتي متنوعة من خلال الضمائر، والاسم الظاهر، الكنية، واللقب، والشخصية الرئيسية المباشرة؛ «لأن وجود السارد مرهون بوجود حركة تراوح بين ذات الكاتب، وبين الآخر في النص القصصي، سواء أكان هذا الآخر ذاتا، أم موضوعا، أم قيمة؟ منطلقا من بؤرة الحدث السردي نفسه الذي يتخذه السارد؛ مدخلا للولوج إلى حكاياته الذاتية. «فإذا كان الراوي في السرد الروائي، قد تعددت ملامحه، فإنه في الخطاب السردي يجمع صورا عدة لهذا السارد، وإن التقت جميعها عند موجة الخطاب، فيأتي البطل السردي في مقدمة هذه الأدوات، فالسارد في الخطاب الروائي، قد يتخذ موقفا محايدا أحيانا، لكنه في الخطاب القصصي يكون محايدا ومشاركا في الأحداث عليما بها، يوجه كافة التشكيلات البنائية في اتجاه حركته الفاعلة الموازية لرؤيته، فيسيطر على سياقات البناء»16. وتحولاتها السردية، حتى يصل إلى درجة التأثير والإقناع، مستعينا بأدوات السرد المختلفة. ويأتي السارد / البطل في مقدمة هذه الأدوات، ونلاحظ تنوع السارد في قصة أسباب للكي بالنار وهي القصة البطل في المجموعة فيقول السارد في قصة: «توبخني أمي كلما اتسخت يدي.. وتقرصني في خدي قرصا موجعا إذا اتسخت ثيابي، أو قدمي بالوحل، ولا تكف عن تهديدي بالكي بالنار إذا أنا فعلتها على نفسي أثناء النوم، لهذا فإنني أتجنب اللعب بالنار من قريب أو بعيد، وأنفر من شعلة عود الكبريت حين يشعل أبي سيجارته أمامي»17.

تبدو صورة السارد من خلال الجملة الفعلية (توبخني أمي) وهي جملة موجزة تحمل في كواليسها مرجعيات ثقافية مختلفة فالتوبيخ لا يأتي من فراغ لابد أن يسبقه فعل مقصود يستحق التوبيخ والعقاب، ثم يأتي السارد ليؤكد فعل التوبيخ من خلال (تقرصني في خدي قرصا موجعا). تأتي هذه الجملة لتدخل بالمتلقي إلى البحث في قاموس الأمهات اللواتي قمن بعقاب أبنائهن الصغار. تبدو صورة المشهد القصصي عند شلبي غارقة في التفاصيل البسيطة التي نقلها نقلا سرديا حيا، وكأنه يحكي لنا عن الأم التي تعاقب كل من يخرج على قوانين النظام التربوي التي وضعتها الثقافة الشعبية بالفطرة المكتسبة من البيئة التي يعيشها السارد. ومن ثم فإن للسارد أنواعا مختلفة في قصص خيري شلبي، حيث يأتي ضميرا متكلما، أو اسما ظاهرا، أو لقبا، أو كنية. كما يغلب الطابع الذاتي على السارد بمعنى أن السارد يمكن أن يكون الكاتب نفسه الذي يقبض على لحظات السرد في النص القصصي، ويمكن أيضا أن يكون راويا للأحداث بصورة غير مباشرة.   

اللغة / الحكي المشهدي:

اتكأ خيري شلبي في كتابته القصصية على لغة شفافة، تجذب المتلقي من الوهلة الأولى، حيث تتميز لغة خيري شلبي بالعمق والحب والألم الكاشف «ففي هذه اللغة الحكائية في كتابة خيري شلبي التي لا تضع الدوال في الصدارة، أو تتركها حائمة، تطفو بين إمكانات متعارضة من المدلولات، ولا تعرف ألعاب التثاقب، أو تقنيات الكتابة التي تعكس على نفسها، فتشير إلى العالم في الوقت الذي تشير إلى نفسها. إنها كتابة شفافة، تنفذ من الدوال إلى المدلولات مباشرة. الأولوية فيها للمدلول، المعنى مقدم على العبارة عنه، أو هو العبارة عنه في عفويته، أو حوشيته التي لا تعرف الصقل، أو التشذيب، أو التشذير، أو النحت من صخر، أو حتى الالتزام الحرفي الصارم بكل تعاليم سيبويه»18. 

فتصبح اللغة التي يستخدمها خيري شلبي لغة تكشف خلفها عن الكثير من المرجعيات الثقافية كحديثه عن الحارة، والألعاب الشعبية، والموالد والصوفية، والمقابر. إلخ وعلى سبيل المثال يقول السارد محددا صورة التوبيخ، وصورة الكي بالنار، الذي يقع عليه كعقاب مباشر من الأم تجاهه، فيقول: «أما التوبيخ والقرص الموجع فهو يحدث كل يوم، أما الكي بالنار فإنه قد حدث ذات يوم، سخنت أمي يد الملعقة على لهب البوتاجاز، ولسعتني بها فوق مؤخرتي، ولايزال موضعها يوجعني كلما تقلبت أثناء النوم، فأقوم في الحال أجري إلى دورة المياه. وهكذا عوفيت من لسع النار كل يوم ولكن لم أعد أعرف كيف أنجو من الوسخ والقرص الموجع.. المصيبة أنني لا أذهب إلى الوحل والوسخ، ولكنه هو الذي يأتي إلى.. ففي الصباح أرتدي ثيابي وفوقها مريلة المدرسة نظيفة ذات رائحة حلوة، وأعلق الحقيبة الجلدية في كتفي فوق ظهري، وألبس الشراب الأبيض والحذاء الأسود، وأضع الشلن الفضي في جيبي بحرص، ثم تقرصني أمي في أذني قائلة: شايف هدومك نظيفة ازاي «إياك ترجع بيها روبة عشان أنيلك بستين نيلة».. ثم تفتح باب الشقة وتدفعني إلى الخلاء وتتركني أواجه الخطر وحدي، مكتفية بالوقوف على الباب عاقدة ذراعيها فوق صدرها تتفرج علي وتطلق الصياح المتواصل»19. 

من الملحوظ أن خيري شلبي يكشف في المقطع السابق عن مجموعة مشاهد ارتكزت بشكل مباشر على صورة الحياة التي يعيشها السارد وعلاقته بالأم، وهى تستخدم لغة التهديد والوعيد إذا اتسخت ملابسه، في قولها (شايف هدومك نظيفة إزاي) إياك ترجع بيها روبة، عشان أنيلك بستين نيلة. فاستدعاء الكاتب لصورة الروبة وهي الملابس المتسخة بكل أنواع القاذورات، ملطخة بالطين والروث والغائط . فالتعبير الشعبي روبة، هو تعبير فني ينتمي إلى الموروث الشعبي بجدارة، ثم يستخدم الكاتب على لسان الأم تعبيرا شعبيا مفتوح الدلالة (أنيلك بستين نيلة) حيث تستخدمه الذات الشعبية في مصر تحديدا لارتباطها بثقافة النيل تحديدا لأن النيل يحمل خصوصية مهمة في الثقافة الشعبية لدى المصريين جميعا، ولن تجد هذا التعبير الشعبي في دول الخليج مثلا أو بلاد الشام. وأصل المقولة الشعبية يرجع إلى النيلة، وهي عبارة صبغة سمراء التي كانت في زمن الفراعنة ترطب وتبل بماء النيل، ومن هنا أتت لفظة «نيله» وكانت الباكيات قديمًا يخرجن نوحًا على المتوفى مستخدمات النيلة لصبغ ملابسهن وتلطيخ وجوههن بها كرمز للحداد.. وفيما بعد تم استبدال النيلة بالملابس السوداء كرمز للحداد أما الستين فهي عدد أيام الحداد. فالمشهد القصصي يرتكز على الموروث الثقافي الشعبي الذي يعيش في وجدان المصريين منذ عهد الفراعنة. وفي ظني أن شلبي كان يرتكز على طرح تلك الخصوصية الثقافية التي تميزت بها الثقافة المصرية. 

المكان / الفضاء القصصي: 

 يبدو المكان في العمل الأدبي بنية مؤسسة لخصوصيته الفنية، حيث إنه يمنح النص الأدبي رؤية جوهرية للمعنى، ويفتح آفاقًا متجددة لانهائية، لاتساع الدلالة في سياقاتها المتغيرة، ومن ثمَّ فقد كان للمكان حضور قوي في النص الأدبي قديما وحديثا، فقد يكون المكان هو المعنى الذي نبحث عنه، وهو في الوقت نفسه يسكن في خلايانا الداخلية، وأرواحنا. فصار المكان يحمل أكثر من شكل في العمل منقسما إلى المكان النفسي و المكان المثالي، ونلاحظ الهوة الواسعة بينهما «فالمكان النفسي هو الذي ندركه بحواسنا وهو مكان نسبي لا ينفصل عن الجسم المتمكن على حين أن المكان المثالي الذي ندركه بعقولنا، وهو مكان رياضي مجرد ومطلق، وهو وحده متجانس ومتصل»20.

يقول جاستون باشلار في دراسته الرائدة عن جماليات المكان: «إن هذه الدراسة تبحث في تحديد القيمة الإنسانية لأنواع المكان الذي يمكننا الإمساك به، والذي يمكن الدفاع عنه ضد القوى المعادية، أي المكان الذي نحب. وهو مكان ممتدح لأسباب متعددة مع الأخذ بالاعتبار الفروق المتضمنة في الفروق الشعرية. ويرتبط بقيمة الحماية التي يمتلكها المكان والتي يمكن أن تكون قيمة إيجابية، قيم متخيلة سريعا ما تصبح هي القيم المسيطرة . 

 إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا. ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيز. إننا نُجْذَبُ نحوه؛ لأنه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية، في مجال الصور، لا تكون العلاقات المتبادلة بين الخارج والألفة متوازية»21.

يبدو المكان في وصف باشلار أنه علامة على وجود أسباب الحياة، فهو المحرك لنفوس البشر وأحلامهم وذكرياتهم التي يمتلكها الشاعر والمكان نفسه .ويشير يوري لوتمان إلى أن المكان يكون «أكثر التصاقا بحياة البشر، من حيث إن خبرة الإنسان بالمكان وإدراكه للزمان، فبينما يدرك الزمان إدراكا غير مباشر من خلال فعله في الأشياء، فإن المكان يدرك إدراكا حسيا مباشرا، يبدأ بخبرة الإنسان لجسده، هذا الجسد هو (المكان) أو مكمن القوى النفسية والعقلية والعاطفية للكائن الحي»22. 

فالمكان إذن على حد تعبير لوتمان يبدأ بخبرة الإنسان عندما يتأمل الحيز الذي يشغله جسده في الفراغ المحيط به، فينطلق هذا الجسد في ظني للتفاعل اللاواعي، بينه وبين الأمكنة المحيطة به، متعلقا بها أو متعلقة به من ناحية أخرى، وكأنها عملية تبادل بين مكانين أحدهما متحرك (الجسد) والثاني ثابت، وهي الأماكن المحيطة به، فصار المكان بنية مؤسسة في أركان العمل الأدبي عامة والقصصي بصفة خاصة. 

ومن الملحوظ أن خيري شلبي يعتمد في بنية المكان القصصي على الروح الشعبية التي تميزه من خلال استعادة التاريخ الحي للمكان، فنلاحظ في قصة بعنوان الساعة تلك العلاقة الوثيقة بين الزمان والمكان، فيقوم شلبي بالمزج بين المكان والزمان وكأنه يخلق الزمن من روح المكان نفسه، فيقول السارد: «كنتُ أسير بشارع مزدحم وبراق، أظنه شارع سليمان أو ما أشبه، كنت أدفع جموعا هائلة من البشر في خطوة حتى أخطو، وكانت نساء القاهرة كلهن عاريات تفوح منهن رائحة الغاز. وهناك رجال يشبهون أنابيب الغاز يلعقون ظهور النساء ويضعون لهن النقود بين أثدائهن وبين أفخاذهن، فجأة رأيتُ أخي الصغير بجلبابه البلدي، وطاقيته البيضاء، تفصلني عنه أكتاف وأفخاذ، فرحتُ برؤيته، أخذت أشرئب بعنقي لكي يراني. 

كان هو الآخر يشرئب بعنقه، حتى إذا تقاربنا كان كلا منا سيمضي في طريقه لكن كلا منا تهيأ لكي يسلم على الآخر، ولما مددت يدي مد هو الآخر يده من خلال الموانع الكثيرة، وتلاقت يدانا في لمسة سريعة تلقينا بسببها زجرا وشتما وتوبيخا واتهامات كثيرة «ثم ذهب لا أدري إلى أين.. فتذكرت في الحال أنني لم أكن رأيته من سنوات.. وتذكرت أنني كنت أريد أن أساله عن أشياء كثيرة جدا».

وانتصب سؤالي : ألم تعرفوا بعد شيئا عن أخي الأصغر الذي لم يعد من الحرب ؟ ولكن السؤال لم ينطلق، وفي الحال رأيتني أسير في جنازة؟23 «يطل شارع سليمان بوسط القاهرة كعلامة مركزية للمكان الروح الذي تسير فيه الأجساد، فتفوح من حناجرها رائحة التاريخ القاسي الذي تكور في صورة عالم الواقعي، فيحكي السارد عن علاقة نساء القاهرة بالغاز/ الجاز في إشارة إلى الفقر الذي يغطي رؤوسهن، والرجال يلعقون ظهروهن، كاشفا عن الحرمان الجسدي من جهة، والعوز البشري من جهة أخرى . كما يمزج شلبي بين حكاية أخيه الذي مات في الحرب، وأخيه الذي يبحث عنه ويحاول أن يراه في عالم من الزحام بشارع سليمان؟ ولكن ما علاقة شارع سليمان باشا بالنساء والرجال والزحام والأخ الذي لم يعد من الحرب؟ أعتقد أن الكاتب يطرح رؤيته عبر علاقات متشابكة، متناقضة في الوقت نفسه بالعالم، فأصبحت الذات الساردة تائهة بين الزحام فلم تقبض سوى على مشهد الأخ الذي لم تقابله منذ زمن، فرأيتني في جنازة، وكأنها جنازة الأخ الذي لم يعد من الحرب. وفي موضع آخر نرى صورة المكان المتخيل في قصة « قرافة السيارات» فنلاحظ أن مفردة «قرافة» تشير إلى مكان الموتى ؟ فقد استمد شلبي من الحياة في القرافات حكاياته السحرية أيضا، فانتقل من القرافة الواقعية إلى قرافة السيارات المتخيلة. فيقول: «أفقتُ من النوم فجأة مثلما كان قد دهمني فجأة، كان أول شيء لقى بصري هو لمبة الدينامو الحمراء وبجوارها لمبة الزيت ذات اللون البرتقالي، وكان محرك السيارة قد توقف وكنت لا أزال جالسا على مقعد القيادة وحدي»24.

اتكأ خيري شلبي في صياغة عنوان القصة « قرافة السيارات» على المفارقة والسخرية من الواقع في الشارع المصري، حيث تبدو السيارات المتوقفة في إشارات طويلة المدى كقرافة حافلة بالكائنات الميتة/ السيارات، فالواقع أن المشهد الذي تجسده السيارات يشي بصورة العلاقة الوشيجة بين القرافة والسيارات، سيارات نقل الموتى، فيبدو العالم وكأنه قرافة واسعة للموتى،/ السيارات، وإذا توقفت عند دلالة القرافة المضاف والسيارات المضاف إليه وجدنا أن المعنى غير منطقي بالمرة، وهل هناك قرافة للسيارات؟ في ظني أن المعنى أكثر عمقا من ذلك لأنه ينقلنا من المباشر إلى الغير مباشر تحديدا وهو الهدف الأسمى للفنون بصفة خاصة، لكنني كشفت عن الدلالة من خلال التوقف الدائم للسيارات يعني موتها، والوقوف يعني الموت فالمشهد برمته يستدعي القرافة التي تعلن نهاية العالم . ونلاحظ في قصة «سرادق الألم» أن خيري شلبي يستدعي صورة المقابر/ مقابر المجاورين فيقول: «الصوان بجميع ألوانه ودرجاته أمر مألوف جدا في مساكننا، بل إنه واقع يومي لا ينقطع ليل نهار مثلما لا ينقطع الليل والنهار، ولربما تزول الدهشة إذا عرف أن مساكننا هذه هي مقابر المجاورين، تلك المدينة الواسعة الكامنة وسط جبل المقطم في السفح الأيمن لطريق صلاح سالم حيث تطل شامخة ما تزال بقايا سور القاهرة القديمة والقلعة في حجرها، وحيث تتلألأ الأضواء في ميدان المشهد الحسيني العظيم بمآذنه الشاهقة، أحواش أحواش تفصل بينها شوارع ومنعطفات وتتوسطها ميادين وزوايا صلاة وقباب أضرحة»25 (تتبدى صورة الأمكنة في المقطع السابق مثل ( الصوان مقابر المجاورين جبل المقطم سور القاهرة القديمة والقلعة أحواش المشهد الحسيني) ارتبطت الذاكرة الثقافية عند خيري شلبي بالأماكن الروحية التي تشربت روحه أركانها التي عاش فيها، فكثيرا ما يحدثنا عن المقابر، والمجاورين، والحسين عليه السلام، والمقطم، في ظني أن الكاتب مشغول دائما بهواجس المكان وقصته، دائما ما يحكي شلبي عن تلك الأماكن الحزينة وقصتها وأثرها في نفسه، حيث تضم هذه الأماكن عالم المهمشين الذين كانوا يشغلون المتن الحقيقي في يوم من أيام التاريخ القديم. ويبدو لنا أن استدعاء شلبي لجل هذه الأماكن ليس استدعاء لذاتها، ولكنه استدعاء لموروثها الثقافي والتاريخي، وتحولاتها عبر الزمن وارتحالاتها في النفس البشرية من صانعة للمتن إلى هبوطها في عالم التهميش والعشوائيات.

الخاتمة: 

    -    وفي النهاية جاءت الخاتمة لترصد النتائج التي توصل إليها البحث: 

    -     توصل البحث إلى أن العالم القصصي عند خيري شلبي عالم واسع وممتد، حيث يكشف عن الواقعي والسحري، وعلاقة الموروث الثقافي بالتاريخ السياسي والاجتماعي المصري . 

    -    كشف البحث عن المنطقة الفنية التي تميز بها خيري شلبي بين كتاب جيله / جيل الستينيات، فهو كاتب ذو نسيج وحده، اتخذ من القصة القصيرة حياة حافلة بالتناقضات .

    -    كشف البحث عن تنوع أشكال السارد في قصص خيري شلبي من أمثال ( الضمير السارد الذاتي - الكنية...)

    -    كشف البحث عن صورة اللغة والحكي السردي الذي تميز به خيري شلبي، حيث تبدو اللغة شفافة حافلة بالدلالات المباشرة وغير المباشرة.

    -    توصل البحث إلى التعدد المكاني في قصص أسباب للكي بالنار بين المكان المهمش والمكان المزدحم والمكان / القرافة، والمكان الصوفي، وغيرها. من الأمكنة التي كشفت عن صورة العالم السفلي عند خيري شلبي فهو يجسد من خلاله الجانب الثقافي والاجتماعي والتاريخي وتحولات الزمن من منطقة إلى أخرى.  

 

 

 الهوامش :

1.    خيري شلبي (31 يناير 1938 - 9 سبتمبر 2011)، كاتب وروائي مصري. ولد بقرية شباس عمير بمركز قلين بمحافظة كفر الشيخ. من مجموعاته القصصية: صاحب السعادة اللص، المنحنى الخطر، سارق الفرح، أسباب للكي بالنار، الدساس، أشياء تخصنا، قداس الشيخ رضوان، وغيرها. من مسرحياته: صياد اللولي، غنائية سوناتا الأول، المخربشين. من أشهر رواياته : السنيورة، الأوباش، الشطار، الوتد، العراوي، فرعان من الصبار، موال البيات والنوم، ثلاثية الأمالي (أولنا ولد - وثانينا الكومي - وثالثنا الورق)، بغلة العرش، لحس العتب، منامات عم أحمد السماك، موت عباءة، بطن البقرة، صهاريج اللؤلؤ، نعناع الجنانين مؤلفاته ومن أهم دراساته: محاكمة طه حسين: تحقيق في قرار النيابة في كتاب الشعر الجاهلي، أعيان مصر (وجوه مصرية)، غذاء الملكات (دراسات نقدية)، مراهنات الصبا (وجوة مصرية)، لطائف اللطائف (دراسة في سيرة الإمام الشعراني)، أبو حيان التوحيدي، بالإضافة للعديد من الدراسات في المسرح العربي، عمالقة ظرفاء، فلاح في بلاد الفرنجة (رحلة روائية)، رحلات الطرشجي الحلوجي، مسرح الأزمة (نجيب سرور) وغير ذلك. وللاستزادة حول سيرة خيري شلبي يمكن الرجوع موسوعة ويكيبيديا على شبكة الأنترنت، https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AE%D9%8A%D8%B1%D9%8A_%D8%B4%D9%84%D8%A8%D9%8A

2.    خيري شلبي: أسباب للكي بالنار، مجموعة قصصية، مختارات فصول، الهيئة المصرية للعامة للكتاب، القاهرة، 1988. 

3.    إبراهيم عادل: خيري شلبي: رائد الواقعية السحرية المصرية، موقع إضاءات تم الدخول في 22/ 2/ 2022. https://www.ida2at.com/khairy-shalaby-egyptian-magic-realism-master/

4.    نصر الديم بن سراي : رؤية العالم بوصفها أداة إجرائية لمقاربة الحداثة، ص51.ويمكن الرجوع إلى رؤى العالم للدكتور جابر عصفور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2012.

5.    عبدالله الغذامي: النقد الثقافي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة كتابات نقدية، عدد 189، القاهرة، 2010، ص 20 - 21. 

6.    جميل حمداوي: مدخل إلى سوسيولجيا الأدب والنقد، مجلة فصول، عدد 96، القاهرة، 2016، ص116. 

7.     محمد فكري الجزار: العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص 45. 

8.    السابق، ص 39. 

9.    محمد ناصر العجيمي : في الخطاب السردي، الدار العربية للكتاب، تونس، ط(1)، 1993، ص35 - 51 .

10.    جيرالد برنس: المصطلح السردي، ترجمة :عابد خزندار، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، ط(1)، 2003، ص145 . 

11.    تزفيتان تودوروف: الشعرية: ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، المركز الثقافي العربي، المغرب، 1994، ص45 - 65 

12.    جيرار جينيت : خطاب الحكاية، ترجمة محمد معتصم وعبدالجليل الأزدي، وعمر حلي، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1997، ص 37 - 38 .

13.    محمود الضبع: السرد الشعري، دراسة تطبيقية علي الشعر الجديد، رسالة ماجستير، مخطوطة، كلية البنات للآداب والعلوم والتربية، جامعة عين شمس - القاهرة - 1998م .وللاستزادة انظر، دراسة، يوسف نوفل بعنوان في السرد العربي المعاصر، دار العالم العربي ط(1)، القاهرة، 2011.

14.    خيري شلبي : أسباب للكي بالنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مختارات فصول، القاهرة، 1988. 

15.    عبدالله إبراهيم : المتخيل السردي "مقاربات نقدية في التناص، والرؤى والدلالة" المركز الثقافي العربي، بيروت، 1990، ص، 61. 

16.     السابق، ص47 . 

17.    خيري شلبي : أسباب للكي بالنار، ص،11.

18.    جابر عصفور"زمن الرواية"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية، مكتبة الأسرة، ص 59، القاهرة، 2000. 

19.    خيري شلبي : أسباب للكي بالنار، ص11 - 12.

20.     انظر، جميل صليبا: المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1979 ص،413 .، وأيضا دراسة، ياسين النصير: جماليات المكان الفني في شعر السياب، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، ط(1) ص20، وما بعدها.

21.    جاستون باشلار : جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص31.

22.    يوري لوتمان: مشكلة المكان الفني، ترجمة سيزا قاسم، مجلة ألف، القاهرة، العدد 6، ص، 79، 1986.

23.    خيري شلبي : أسباب للكي بالنار، ص17 - 18 . 

24.    السابق، ص19.

25.    السابق، ص51.

 

 

الصور :

1.    بواسطة Essam Azouz - عمل شخصي وCC BY-SA 4.0 وhttps://commons.wikimedia.org/w/index.php?curid=46534373

2.    https://www.alraimedia.com/HTTP/mawaqaa/Website/ArticleFiles/Attachments/2015/11/8/orgf/48325320170510121304442.jpg

3.    https://www.facebook.com/ 208274152547116/photos/d41d8cd9/634070909967436/

4.    https://www.facebook.com/photo/?fbid=2392459617461881&set=pb.100063708220158.-2207520000.

5.    https://i2.wp.com/sabqmasr.com/images//2022/02/%D8%AE%D9%8A%D8%B1%D9%8A-%D8%B4%D9%84%D8%A8%D9%8A-1643704822-0.jpg?resize=920%2C550&ssl=1

 

أعداد المجلة