فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
63

غزل ونسيج شعر الماعز وخوص النايلون على النول العامودي 1982 - 2022

العدد 63 - ثقافة مادية
غزل ونسيج شعر الماعز وخوص النايلون  على النول العامودي 1982 - 2022
كاتبة من لبنان

«يتطلب الحديث عن الحرف اليدوية تقييم تمثيلاتها، ورسم بعض المعايير القادرة على إضعاف أو على تحفيز إمكاناتها، بالإضافة إلى تحديد عناصر التغيير التي طالت مجتمعاتها»

بيار روسيل . (Rossel, 1985)(بتصرف)

مقدمة:

تعتبر حرفتا غزل ونسيج شعر الماعز من الحرف القديمة في كوسبا التي تعلو بمقدار 442 م عن سطح البحر. اكتسبت هذه البلدة أهميتها التاريخية بسبب موقعها الجغرافي المحوري الذي يصلها بأقضية بشري وزغرتا وطرابلس، كما وبسبب بيئتها الزراعية المشهورة بإنتاجها للزيتون على غرار باقي قرى وبلدات ومدن منطقة الكورة في لبنان الشمالي؛ هذا الإنتاج الذي لعب، وما زال، دوراً كبيراً في ازدهار الحرفتين المذكورتين أعلاه واستمرارهما، وإن بتراجع كبير، إلى يومنا هذا.

في تاريخية انتشار حرفتي غزل ونسيج شعر الماعز في لبنان:

تذكر أدفيك شيبوب في كتابها «الحرف الشعبية في لبنان» بأنه لا يمكن ضبط تاريخ انتشار حرفتي غزل ونسيج شعر الماعز في كوسبا، وتقول بأن الروايات الشفهية المتناقلة تخبر أن رجلاً أنطاكياً قد أدخلهما إلى هذه البلدة منذ قرابة المائتي سنة (شيبوب، 1997، صفحة 117).

عرفت بلدة شحيم، الواقعة في الجنوب اللبناني، ودائماً وفق شيبوب، هاتين الحرفتين أيضاً من خلال قبائل البدو الرحل الذين استقروا فيها منذ العصر العباسي؛ ولقد ظلتا مزدهرتين هناك حتى حوادث فلسطين في العام 1948 وحتى القطيعة مع سوريا. كما استمرتا بعدها بسبب استدامة الطلب على الخوص1 التي تستخدم أثناء عصر الزيتون لتصفيته (شيبوب، 1997، صفحة 152).

قارب إدوار القش أيضاً عملية غزل شعر الماعز التي تمارس في شحيم من منظور الإثنولوجيا الثقافية (القش، 1981)2؛ ولقد سمعنا من الحرفي أبو أمين أيوب، الذي التقيناه في كوسبا بتاريخ 20/8/ 1982عن شهرة شحيم تاريخياً بحياكتها لبيوت الشعر التي كانت تصدرها إلى سوريا والأردن والسعودية وبلاد أخرى في الخليج العربي. فلقد أخبَرنا أن هاتين الحرفتين قد استمرتا في شحيم، بالرغم من استقرار البدو وتغير نمط عيشهم القائم على الترحال في ذلك الزمن، بسبب استمرار بعضهم وفياً لعاداته الثقافية في استخدام المضارب للإقامة في الصحراء خلال بعض المناسبات كما ولاستقبال المعازيم والزوار في الأفراح والأتراح.

بالعودة إلى كوسبا، مجال هذه المقاربة، والتي لم تحظ بالاهتمام البحثي نفسه الذي حظيت به نسبياً بلدة شحيم، نؤكد على ما قالته شيبوب بأن اكتساب هاتين الحرفتين المتلازمتين في تواجدهما تاريخياً والتي اشتهرت بممارستهما، على غرار غالبية الحرف التقليدية عائلات كسباوية عدة هي: خير، أيوب، خوري، الشدياق، يعود للعهد العثماني. وتأكيدنا هذا نابع من المقارنة الاقتصادية التي أجراها من قابلناهم في الحقل العام 1982. فبحسبهم، كان سعر رطل3 شعر الماعز يساوي، في بدايات القرن العشرين، الـ 40 غرشاً سورياً أي، وكما قيموه مباشرة بقيمته بالعملة العثمانية التي ما زالت عالقة في أذهانهم بـالـ 8 غروش عثماني، في حين بلغ سعره في زمانهم، العام 1982، بالـ 10 ليرات لبنانية.

زيارات متكررة لحقل البحث في زمنين متباعدين (1982 – 2022) :

كان المطلوب منا، عند تحضيرنا دبلوم الاختصاص في الاثنولوجيا4، العام 1982، وضمن مادة الاثنولوجيا التقنية 5، تقديم ورقة بحثية حول موضوع يطال البعد التقني لحرفة ما من أجل فهم كيفية تناقل المعارف الحرفية ومن أجل رصد مدى ارتباطها بالثقافة وبتحولاتها خصوصاً وأنها معارف ذاكرة، تكتسب شفاهة وبالممارسة وتعكس خبراتٍ وذكاءً فطناً في التعامل مع المادة كما مع أدوات إنتاجها (Denoyel, 1990). فالأفعال التقنية، كما يوصّفها ميتشيا Michea، لا تعتبر نهائية بحد ذاتها، بل لا بد من ربطها بما يبررها (Michea, 1968, p. 823). فلا إنتاجٌ حرفي ولا تطويرٌ للأدوات ولا قيمةٌ للمواد الطبيعية، ولا تحولٌ للاختراعات ولا انتشارٌ للنشاط الإبداعي ولا تقدمٌ له بدون هذا التفاعل وهذا الارتباط التقني/ الثقافي.

جاءت زيارتنا الحقلية الأولى لكوسبا إذاً في هذا السياق حين اخترنا حرفتي غزل ونسيج شعر الماعز الريفيتّي الطابع لرصد تقنياتهما وآليات انتقالهما شفاهة، ولمعرفة مدى ارتباطهما بثقافة المجال المدروس. ولقد قابلنا وقتها غزَّال خيوط شعر الماعز، الذي كان هو نفسه نسّاجها ووثقنا في مفكرتنا البحثية، كما بالصور وبالرسوم البيانية أيضاً، وكلها تعد من أهم التقنيات التكنوغرافية6، المعلومات والأدوات والتقنيات المستخدمة، بالإضافة لحالة الإنتاج الحرفي الذي خسر ممتهنوه، منذ زمان مقاربتنا للحقل تلك، تمايزهم الاقتصادي/الاجتماعي الذي عرفوه سابقاً في بيئتهم بسبب التحولات الثقافية فيها التي أدت إلى تراجع الطلب على غالبية إنتاجاتهم الحرفية ذات الوظائف الزراعية والبدوية الطابع.

احتفظنا بكافة الوثائق الحقلية تلك التي لم تنشر، إلى أن جاءت صدفة وقوعنا عليها مجدداً في العام 2022، واعتبرنا أن نشرها وما دوناه وقتها، قد بات واجباً للتاريخ ولعدم ضياع معلومات ووثائق فوتوغرافية لم نجدها بهكذا تفصيلات في أي منشور مرجعي آخر، لا سيما إذا ما دعمناها بتدقيق علمي وحقلي جديد لمعرفة ما آلت إليه حال هاتين الحرفتين اليوم. فتحضير ملف إثنوغرافي/ تكنوغرافي، أساسه فوتوغرافي/ حقلي تاريخي مزود برسوم بيانية، يصف الأدوات والتقنيات المستخدمة في غزل ونسيج شعر الماعز وخوص النايلون مع ربطها بواقعها الاجتماعي والبيئي الآني، مهما كان حال هاتين الحرفتين اليوم، هو أمر هام للتراث ولصونه في مجتمع يفتقد للمدارس والمعاهد الحرفية التي تصون وتحمي المعارف العملية وتحفظها تاريخياً أو لإعادة إحيائها بوظائف مجتمعية جديدة تتماشى وحاجات المجتمعات راهناً.

استتباع دراسة في زمنين مختلفين:

لقد جرى جمع المعطيات الحقلية لهذه الورقة إذاً في زمنين مختلفين هما عام 1982 و 2022. من الطبيعي في هكذا عمل بحثي اعتبار الزيارة الحقلية الثانية بمثابة مقاربة استقرائية للتحولات الحرفية والثقافية في الحقل المدروس، لا سيما وأن كافة الوثائق والملاحظات التي جمعناها سابقاً حول موضوع غزل ونسيج شعر الماعز في كوسبا هي التي ستشكل خلفية استقرائنا للتحولات الراهنة. إن هكذا عمل حقلي يستوجب استكمال البحث في المجال الاثنو-التقني/ الثقافي النوعي، كما ويستوجب استخدام التقنيات البحثية نفسها التي اعتمدناها في السابق، أي تقنيتي الملاحظة والسيرة الذاتية لأصحاب الحرفة، مع التركيز على اللغة المحكية لا سيما في توصيف هؤلاء لتقنيات عملهم باعتبارها حمَّالة لصور الواقع المعاش بدلالاته التقنية والثقافية والرمزية، وذلك لتصح المقارنة وليجدي استقراء تحولات المجال المدروس.

لهكذا قرار منهجي، سوف نبدأ باستعراض ملامح حرفتي غزل ونسيج شعر الماعز وخوص النايلون وفق ما جرى رصدهما اتنوغرافياً/ تكنوغرافياً وثقافياً في العام 1982 ومن ثم نستكمل بعدها قراءة ما آلت إليه حالهما راهنا لربط تحولاتهما بتحولات بيئتهما.

واقع حرفتي غزل ونسيج شعر الماعز وخوص النايلون عام 1982 :

بدأ القطاع الحرفي التقليدي في لبنان بالتراجع منذ نهايات القرن التاسع عشر/ بدايات القرن العشرين نتيجة تعرضه للكثير من الأزمات المتعددة الأوجه المجتمعية (كيال، 2002). لم يشذ واقع حرفتي غزل ونسيج شعر الماعز وخوص النايلون عن هذا الأمر. فالحرفتان قد عانتا من خطر الزوال بعد تغير نمط العيش الحرفي والزراعي التقليدي الذي عرفته منطقة الكورة عموماً والبلدة المدروسة ضمناً، وبعد تقدم قيمة العلم والتعلم فيها على قيمة العمل اليدوي الحرفي والزراعي في المجتمع الكوراني. فلم تعد تنفع مقولة «الكار سوار من ذهب» التي درجت في مرحلة هيمنة العمل اليدوي قبل تقدم الصناعة وغزو المواد المصنعة لأسواقنا المحلية، وقبل مرحلة تمدين الريف ثقافياً؛ هذه المرحلة التي اتسعت تدريجياً، خلال فترة الانتداب كما والاستقلال في لبنان، ضمن العديد من البلدات والقرى اللبنانية القريبة مجالياً من المدن ومن تطوراتها الحداثوية في العيش.

بالإضافة لهذه التحولات الثقافية المحلية في البلدة وفي محيطها، فإن استقرار غالبية البدو الرحل في لبنان، ضمن بيوت مبنية، قد قلل من الطلب على نسيج بيوت الشعر التي كانت تنفذ حرفياً في كوسبا، هذا بالإضافة إلى أن أجواء الحرب الأهلية التي مر بها لبنان، ما بين الأعوام 1975- 1990، قد تسببت هي أيضاً في القضاء على قسم كبير من قطعان الماعز التي تعرضت وقتها للسرقة والقتل، أو حجمت حركة رعيها وتنقلها بين المناطق اللبنانية. ولا ننسى أن نضيف إلى كل ما سبق مدى تأثير التطورات التقنية في تراجع الاعتماد على خيوط شعر الماعز في النسيج، كانتشار استخدام خيوط النايلون في نسج الخوص، واستخدام قماش الخيش (jute) في صناعة العدل والخرج والرحال والعلايق (فريحة، 1973)7 التي كانت تصنع قبلاً من نسيج شعر الماعز. ولم يبق حينها إلا البسط التي ظل نسجها يعتمد على خيوط شعر الماعز والتي، وإن خف الطلب الوظيفي عليها، إلا أنها استمرت نسبياً عن غيرها من منتجات هذا النوع من النسيج بسبب تحولها إلى منتج له دلالة تراثية الطابع.

تقنيات غزل ونسيج شعر الماعز وخوص النايلون

إن مقاربة نوعية الخامة المصنعة حرفياً ومدى ارتباطها بالبيئة المدروسة، وإن فهم حركات وطرائق تعلم الحرفة في بحث صنفناه في ميدان الاثنولوجيا التقنية، هو أساسي لوعي أساليب ووسائل التعليم الحرفي المعتمد ولرصد أدوات وتقنيات الحرفة وما تنتجه في المجتمع. فكلها مؤشرات ترتبط بالبيئة المدروسة وبتطورها الثقافي بالمعنى الانثروبولوجي لمفهوم الثقافة. وكلها مقاربات سوف تستتبع في رصدنا لحرفتي غزل ونسيج شعر الماعز وخوص النايلون في كوسبا.

  غزل شعر الماعز:

يتميز شعر الماعز، كخامة طبيعية، بخصائص كثيرة من أهمها أنه لا يتآكل من العت mites، ولا يمتص الرطوبة كغيره من الخيوط الحيوانية والنباتية المصدر، لهذا يعتبر نسيجه أكثر مقاومة للماء ولهذا أيضاً استخدم في صناعة بيوت الشعر (Christensen, 1981). فهو يحمي من البرودة والحرارة في آن واحد.

يقص شعر الماعز موسمياً خلال فصل الربيع. ويباع من قبل الرعيان أو من قبل العرب (البدو في الجرد)8 في بدايات فصل الصيف للغزل والحياكة. إن ارتباطه الموسمي هذا يترادف مع زيادة نشاط غزله في كوسبا لا سيما وأن غزل خيوطه يتم في الخارج، ضمن البساتين، لحاجته، كما سنشرح، لمساحات واسعة، ولا سيما وأن زيادة الطلب على منتجاته تزداد هي أيضاً في نهايات فصل الصيف لحاجات مكابس الزيتون للخوص في مواسم عصر الزيت لتصفيته من شوائبه.

عمليتا فرز وندف شعر الماعز

كانت العائلة الحرفية جميعها تساهم، بشكل أو بآخر، في ممارسة هذه الحرفة خصوصاً الزوجة التي كان لها الدور الأكبر في عملية فرز شعر الماعز وفق لونه. فشعر الماعز منه الأسود والأبيض والرمادي والأحمر (الشامي)9 والأزرق الذي يتم الحصول عليه من خلال مزج الشعر الرمادي بالأسود.

كانت «بالات خيش الشعر» إذاً تفرز يدوياً. بعد ذلك يتم تنظيف الشعر من الحصى والشوائب، دون غسله، ليحافظ على الزيوت الطبيعية التي تجعله طارداً للماء (Christensen, 1981).

توضع كمية من الشعر على الأرض ويبدأ الندف بواسطة المنداف الذي هو عبارة عن حبلتين طويلتين مربوطتين بخشبة مثبتة على الأرض بحجرين ثقيلين ومجموعين في طرفهما الثاني بعصًا يتّم تحريكها يدوياً صعوداً ونزولاً بشدة فوق الشعر لتنقيته وتنظيفه وفصله عن بعضه البعض ليصبح ناعماً. بعد ذلك يجري لف الشعر المندوف ورشه بالماء لغزله بشكل خيوط10.

أدوات غزل شعر الماعز المعتمدة في كوسبا11:

من أهم الأدوات المستخدمة في غزل شعر الماعز نذكر:

1. المغزال

هو بدائي في صنعه. يتم تركيبه في الحقل بين الأشجار التي تساهم جذوعها في تثبيت بعض أجزائه. والمغزال المعتمد في كوسبا مكون من دولابين بحجمين مختلفين: دولاب كبير يتم وصله بالجهة المقابلة له ببكرة (دولاب صغير يعرف اصطلاحياً بالعصفورة) بواسطة حبل يتراوح طوله ما بين 30 و35 متراً. هذا الأخير يلعب دور محرك المغزال عند سحبه من قبل الغزَّال الذي يعلقه بزناره أثناء قيامه بعملية الغزل.

(ملاحظة: إن طول المسافة بين دولاب الغزل وبكرته (العصفورة) قد منعتنا من أخذ صورة شاملة للمغزال بكامل أجزائه).

2. المجذاب أو المجداب كما يلفظ للتخفيف.

هو زنار يعلق عليه الغزَّال الكثير من الأدوات التي يستعملها في عملية الغزل (انظر صورة رقم 4) كـ :

- الزر الخشبي الذي يُعلق عليه الحبل ليدير بواسطته دولابي المغزال. نلاحظ في هذه العملية أن حركة المغزال هي مكملة لحركة فتل الخيط التي يقوم بها الغزال بين يديه لشعر الماعز بهدف تمتين حبكه (انظر صورة رقم 5)

- الجراب أو الكيس الذي يتأبطه الغزَّال ويضع ضمنه الشعر الخام المفروز ليكون في متناول يديه عند غزله من خلال فتله بكميات قليلة بين أصابعه لصناعة الخيط (انظر صورة رقم 6).

- خشبة تحتوي على «شناكل» يُلف حولها الخيط المفتول (انظر صورة رقم 7).

3. المسماك: هو مصطلح يطلق عادة في المجتمعات الزراعية على خشبة ذات أطراف متشعبة تسنّد بها الدالية لترفع عن الأرض. والمسماك في عملية غزل شعر الماعز مشابه في وظيفته لوظيفة مسماك الدالية فهو يستخدم لرفع الخيط عالياً وفتله، «كسلك»، عدة أطواق.

في توصيف عملية الغزل:

من المهم أن نشير بأن توصيف آلية ومراحل العمل الحرفي لا تكون دقيقة مهما حاول الباحث أن يكون ممحصاً في الملاحظة إن لم يمارس هو بنفسه الحرفة. وهذا يعني أن المعلومات التقنية التي سنستعرضها تبقى في حدود ما سمعناه من الحرفيين أو ما قرأناه عن الحرفتين، أي في حدود وصف الآليات التقنية العامة.

إن هذه الملاحظة هامة لأنها تعكس خصوصيات كل حرفي في العمل وأساليبه في استخدام الأدوات، ولغته التي يعبر عنها بجسده دونما إدراك لدورها في تقنية تصنيعه للأشياء التي ينتجها. فالتصرف التقني للحرفي، كما وصفته هيلين بالفت وعن حق، غالباً ما يتراوح بين حركات واعية وأخرى غير واعية أو بالأحرى آلية، تكتسبها الذاكرة بعمق، بسبب ممارستها المتكررة، فتأتي خلال العمل الحرفي دونما التفكير اليقظ بها، مع غيرها من الحركات اليقظة التي يركز عليها الحرفي من أجل حل أي معضلة قد تواجهه بشكل غير منتظر أثناء عمله (Balfet, 1975, p. 53)، وهذا يعني أن كل حرفي يركز حكماً في توصيفه لحرفته على ما يعيه هو في آلية عمله، وهنا يكمن اختلاف توصيف آلية العمل بين حرفي وآخر؛ ناهيك حكماً عن اختلاف تمحيص كل باحث، بسبب ملاحظاته واهتماماته، في أدق تفاصيل الحرفة التي يرصدها.

ولتوصيف عملية غزل شعر الماعز، سوف نستخدم اللغة المحكية التي سمعناها من الغزال نفسه لما لها من دلالات ورموز تقنية وثقافية غالبها مستمد من البيئة المعاشة.

يقول الغزال ديب الخير في توصيفه لآلية غزل شعر الماعز الآتي:

«بعلق الشعر «بالبدوة» عالمغزال، وبعدين ببلش «بتلقيم» الشعر اللي بطلعه من الجراب، وبفتله بأيدي التنتين وببتعد «شوي شوي» إلى الخلف. وبلف بأيدي حبل المغزال لديره كل ما طول الخيط المغزول اللي بلفه على قصبة فيها «شناكل» لبعّد الخيطين اللي عم لفهم بايدي التنتين حتى ما «يتشربكو» ببعضهم خصوصي بأيام الغزل اللي بيكون فيها الهوا قوي. وبس خلص من الغزل عالدولاب بلف الحبل المغزول 3 طواق «وبكبكبه» وبستعين بالمسماك بلفه أطواق».

مضبطة لغوية للمصطلحات العامية:

علق: ثبت؛ البدوه: بداية الخيط؛ تلقيم: إخراج كميات قليلة من الشعر؛ ببلش: أبدأ، شوي شوي: قليلاً قليلاً؛ الشنكل: المسمار المعكوف لربط الخيط؛ يتشربكو يلتفوا على بعض، كبكبة: لف الخيط بشكل كروي.

ملاحظة: في ما يخص مصطلحات الحرفة. مهم أن نؤكد بأن لكل منطقة مفرداتها ومصطلحاتها المعتمدة من أبناء الحرفة وفق بيئتهم الثقافية. فالكثير من المصطلحات التقنية المستخدمة في المجال الزراعي سنلاحظ استخدامها، كمصطلحات تقنية، في حرفتي غزل ونسيج شعر الماعز.

جسد الغزال كأداة محورية في آلية الغزل:

عند متابعة عملية غزل شعر الماعز، نلاحظ أن أساس عملية الغزل يكمن في حركة جسد الغزال نفسه الذي يٌعتبر المحرك الفعلي للدواليب، ولفتل الخيط ولفه. أما بقية الأدوات المستعملة فكلها، ما هي إلا امتداد لحركة هذا الجسد.

في ملاحظة حركات جسد الغزال أثناء عملية الغزل:

إذا ما أردنا توصيف حركة جسد الغزال نقول إن هذا الأخير، وبخبرته العملية، يستشعر كمية الشعر التي يجب سحبها من الجراب لفتلها بيديه وبين أصابعه والتي لا بد أن تكون متوازنة في كل مرة كي تكون سماكة الحبل المفتول متناسقة. فكمية الشعر التي يوصفها الغزال «بالشوي/ القليل» يحددها بحسه الذي وازنته الخبرة.

بالتوازي وبتناسق مع حركة اليدين، يمشي الغزال إلى الخلف كي يوسع مدى امتداد الخيط المفتول. إن هذه الحركات المتوازية، تُوازن بالعقل وبالخبرة لأنها هي التي تحدد له زمن سحبه حبل الدولاب كما ولفه الخيط المغزول على الخشبة التي يعلقها بزناره.

تعتبر الحركة الجسدية في الحرفة عموماً، والمكتسبة بالثقافة لا بالفطرة (Mauss, 1934)، أساس الفعل التقني، فهي التي تجعل الأداة فعالة على المادة» (Balfet, 1975, p. 53). وكلما كانت الأدوات المستخدمة في العمل الحرفي بسيطة، كلما كانت المهمة الفردية (الجسدية/ والذهنية) «غنية». وهذا يعني أن استخدام الأداة في العمل الفردي هو أهم من الأداة نفسها (Mille et Petit, 2014). إن ما وصفناه يفسر مدى عمق دور جسد الحرفي في عملية الغزل، كما أسباب اعتبارنا له أداة العمل التي اكتسبِت حركتها نتيجة البيئة التي علمتها التقنيات ودربتها عليها.

وكما الحركة التي يديرها جسد الغزَّال هي أساسية في عملية الغزل، وتُستبطن من خلال الممارسة المتكررة الثقافية الطابع، كذلك هي اللغة وأخلاقيات الحرفة التي تكتسب أيضاً في اللاوعي من خلال البيئة. فلا يوجد في الحرفة، كما قال دنويل Denoyel، استراتيجية تعلم، فالحرفي، ومنذ بدايات تدريبه، يستبطن حركات وأخلاقيات ولغة معلميه (Denoyel, 1990, p. 16).

نسيج شعر الماعز على النول العامودي

معلوم أن فلسفة آلية النسيج التقليدية القائمة على النول العامودي المعتمد في كوسبا، كانت وما زالت هي نفسها المتوارثة منذ بدايات المجتمعات البشرية، ومعروف أن تقنياتها كانت وما زالت قائمة على المبدأ التعاكسي نفسه في النسج على هذا النوع من الأنوال، وأنها من الحرف القديمة الجذور تاريخياً، فلقد عرفتها حضارات إنسانية قديمة كثيرة، من بينها الحضارتان الفينيقية والفرعونية، لكن ما يهمنا توثيقه في هكذا أبحاث هو أسباب وظروف انتشار هذه الحرفة أو انحسارها في مجال ثقافي معين، لنفهم البيئة التي أعادت إحياءها كما أدوار منتجاتها ثقافياً. فهذه الأخيرة هي دائماً شديدة الارتباط بالتحولات والتطورات الثقافية للمجتمعات الإنسانية التي مارستها كما وبتحولاتها الحضارية المتعاقبة. فإحياء حرفة ما وأسلوب إعادتها أو اكتسابها أو تطويرها كلها أمور تعطي لعملية الرصد الحرفي أهميتها في كافة الأزمنة والعصور والثقافات.

ونول كوسبا العامودي مصنوع من جذوع وأغصان الشجر. فنحن نتكلم، كما كررنا مراراً، عن بيئة زراعية الطابع. أما آليته فظلت هي نفسها الآلية التقليدية المتوارثة تاريخياً والقائمة على منطق حبك خيوط اللحمة بخيوط السدوة بشكل تعاكسي. ولنشرح مفصلاً هذه التقنية، سنبدأ في توصيف شكل هذا النول.

في شكل النول

يتكون النول العامودي من 4 دعائم خشبية على شكل إطار مستطيل تختلف أحجامه باختلاف المجال المخصص للنسيج. ويتم تركيبه وفق الآتي:

إما أن تثبت جذوع الاشجار على الحائط بشكل منحن داخل حفرة (نول الجورة: انظر صورة رقم 10) أو تثبت على دعائم خشبية مشابهة لإطاره الأمامي. هذه الدعائم يتم فتحها دائماً بشكل منحن حتى يتوازن النول (نول المقعد. انظر صورة رقم 14). وقد يمد الحرفي خيوط السدوة حتى ما بعد حدود فتحة قاعدة النول ليحصل على قطعة نسيج كبيرة مستعيناً بخشب مبروم يسمى دقر12. (انطر صورة رقم 11)

ولقد شاهدنا في كوسبا «نول الجوره» التي يجلس النساج على حافتها للقيام بعملية النسج، كما النول الذي يجلس النساج على مقعد للنسج. من المهم التأكيد في هذا الإطار بأن اختلاف شكل ووضع النول لا يؤثر بتاتاً على التقنية المعتمدة في عملية النسيج.

النول وأدواته:

يتشكل النول من:

1. جذعين من الشجر (قرامي13) يوضعان في أعلى وأسفل النول، ويستعملان لحمل خيوط التسدية. الجذع العلوي يثبت على قاعدة بشكلU. أما السفلى فمتحرك في موضعه ويربط بالدعائم العامودية بواسطة الحبال.

2. 4 عواميد أفقية بمثابة قواعد لحمل عواميد السدوة. توسّع فتحتها وتضيق كي يتوازن النول بشكل مائل بحسب نوعه إن كان نول الجورة أو نول مثبت على أرض مسطحة.

3. المتيت: لتوازن أطراف النسيج وتقدير عرضه

4. القانونة: وهي عبارة عن خشبة مبرومة يلف حولها خيوط النيره

5. الكابس: خشبة مبرومة وظيفتها كبس الخيط بواسطة النيرة.

6. السيف: يفتح خيوط الغزل عن بعضها البعض لتمرير أو لحدف المكوك الذي يحوي خيوط اللحمة

7. المشط: يستخدم لرصف الخيط المنسوج، وهو مصنوع من حديد ويتراوح وزنه من 3 إلى 4 كيلوغرامات.

8. الردس: وهو عبارة عن «مرسة» تربط بعواميد النول. وهو الذي يفك عندما يراد رفع الفجة (المدة)

9. المكوك: خشبة تلف عليها خيوط اللحمة.

تقنيات الحياكة على النول العامودي في كوسبا

1. خيوط السدوة (أي القيام بالتسداية)

تعد عملية التسداية من أصعب مراحل النسيج، وتحتاج لأكثر من شخص لإتمامها، كما تحتاج إلى تركيز من قبل النساج في تعداد الخيوط بحسب عرض القطعة المراد نسجها والذي يضبط من خلال «المتيت».

ترصف خيوط السدوة بين الخشبتين الأفقيتين للمغزال بشكل معاكس(8). إن هذه المعاكسة في مد الخيوط تسهل استعمال المكبس لتوسيع المدى الذي من خلاله يمرر لاحقاً المكوك.

2. خيط النيرة

النيرة هو مصطلح مشتق من كلمة النير التي تعني في المجتمع الزراعي الخشبة المعترضة في عنق الثورين والتي تربط وتوازن المحراث على ظهريهما. أما خيط النيرة، فهو خيط قطني متين يدخل بين خيوط السدوة لفصل الخيوط الفردية منها عن الخيوط المزدوجة. أما دوره، فتنظيم حركية خيوط السدوة المتعاكسة.

يكفي أن نفهم دلالات مصطلح (القانونة) التي يلف عليها خيط النيرة لفهم دور هذا الخيط في عملية النسيج. فهو الذي ينظم حركية خيوط السدوة أثناء النسج ما بين الأمام والخلف بمساندة الكابس، والسيف لتمرير خيط اللحمة الملفوف على المكوك.

نوع النسيج على هذا النول

إن هذه الآلية في النسيج لا تنتج إلا أشكالاً بسيطة مكونة من خامة سادة بلون واحد؛ ويمكن إدخال التخطيط الأفقي أو العامودي عليها فقط بألوان أخرى، كحال الزخرفة المعتمدة في نسيج بسط شعر الماعز.

من خيوط شعر الماعز لخيوط النايلون في صناعة الخوص.

الخوص هي عبارة عن أكياس بحجم 140× 120 سنتم، يوضع فيها الزيتون أثناء عصره بالمكبس الحجري لتنقية الزيت من رواسبه.

ودونما قدرة على تحديد مبتدع إدخال خيوط النايلون في نسيج الخوص، إلا أنه من المؤكد أن استخدام هذه الخيوط قد حل تدريجياً في صناعة الخوص بدلاً من خيوط شعر الماعز وذلك لأسباب عدة من أهمها:

- أن خوص الشعر يحتاج بعد كل استعمال لفتح مسامها14 وتنظيفها من الزيبار15. ولقد شكلت ضفاف نهر قاديشا ومياهه التي تمر بكوسبا المجال التاريخي الأمثل لعمليات التنظيف تلك. أما خوص النايلون فهي تستخدم لمرة واحدة وترمى. وهذه الميزة يفضلها الكثير من المزارعين باعتبارها أقل جهد و»أنظف» بحسب رأيهم، بالرغم من أنها أكثر كلفة على المدى الطويل.

- أن خيوط النايلون لا تحتاج للغزل كما الشعر وهذا ما يجعل سعر الخوص أرخص:

سعر خوص الشعر عام 1982: 60 ل.ل. سعر خوصة النايلون عام 1982: 40 ل.ل.
20 ل.ل. ثمن شراء الشعر سعر النايلون 20 ل.ل.
20 ل.ل. ثمن غزل الخيوط  
20 ل.ل. ثمن الحياكة سعر الحياكة 20 ل.ل.

- إن خوص النايلون تقص بعد نسجها بالحرارة التي تؤدي إلى ذوبان الأطراف فتلحم بسهولة. يترك عادة في النسيج مسافة بين الخوصة والخوصة لتسهيل عملية القطع هذه. أما نسجها فيحتاج لوقت أقل (تحتاج خوصة شعر الماعز ساعتين لنسجها، أما خوصة النايلون فتحتاج لساعة فقط).

 

إنتاجات كوسبا من شعر الماعز حتى العام 1982

من أهم هذه الإنتاجات نذكر:

- بيوت الشعر (أو بيوت البدو) المحاكة بشعر الماعز الأسود الذي يعتبر في المنطقة من أكثر أنواع شعر الماعز طلباً عليه لارتباطه بحياكة هذه البيوت. (يحتاج بيت الشعر ل 7 أفجاج عرض كل فجة 60 سنم أما الطول فبحسب الطلب. ويصل تكاليف البيت الكبير الذي يختلف حجمه ما بين 6 أمتار و14 مترا ما بين 2800 ل.ل. 3000 ل.ل. بحسب السعر الذي حدد لي في العام 1982).

- البسط، وهي نوع يشبه الكليم في حياكته، بسيط الشكل والتصميم، ويستخدم لوضعه على «الدشكات» (مقاعد للجلوس مستطيلة الشكل مصنعة إما من خشب أو مبنية أو مصبوبة من الاسمنت (صب). ولقد بدأ الاهتمام بحياكتها في كوسبا في سبعينيات القرن العشرين، مع تراجع الطلب على بيوت الشعر.

أما خصائص هذا النوع من البسط فأهمها: أنها خفيفة الوزن، تدفئ في الشتاء، لا يأكلها العت ويمكن غسلها، هذا عدا عن أن خيوط شعر الماعز قوية وتتحمل «الدعس».

- الخوص: المنسوج بشعر الماعز أو بخيوط النايلون لعصر الزيتون.

- زنار الشروال: والشروال هو بنطال تقليدي كان يلبس في لبنان حتى جرت منافسته بالبنطال الافرنجي الذي تزايد استخدامه تدريجياً، لا سيما في المدن، في بدايات القرن العشرين، إلى درجة تحويله إلى لباس تراثي في لبنان. وزنار الشروال هو عبارة عن شملة بطول عدة أمتار تلف على خصر الشخص كحزام.

- الجلال: يستخدم لتسهيل الركوب ولتحميل البضائع على ظهور الدواب، وغالباً ما يوضع فوقه الخرج.

مهم أن نشير في هذا المضمار بأن الإنتاج الحرفي من غزل ونسيج شعر الماعز كان مرتبطاً بمبدأ «التوصاية» (أي الإيصاء بحاجات الشاري التي تنفذ من قبل الحرفي وفق الطلب)، وهو الأمر الذي يفسر كيف أن تزايد أو تراجع الإنتاج غالباً ما ترافق مع زيادة أو تراجع الطلب عليه.

الواقع الثقافي لحرفتي غزل ونسيج شعر الماعز وخوص النايلون في كوسبا عام 1982

في مقابلة مع ديب الخير، البالغ من العمر في العام 1982 ، 46 سنة، أبلغني عن طريقة اكتسابه الحرفة الآتي:

«علمني بيّ أنو مهنتنا مقدسة، وخبرني أنو بس عائلات النساجين هنه اللي قدرو يواجهو المجاعة أيام الحرب العالمية الأولى. كانت عيل بأمها وأبوها بتعيش من ورا هالحرفه وبشكل منيح. حتى أنو كنا نستعين بالمواسم بعمال مؤقتين لنلبي الطلبات، وكنا نشتري اللي منحتاجو من تجار من سوق طرابلس متل التاجر محمد لبابيدي وأكرم وغيرن، بحال عدم كفايتنا من كمية الشعر اللي مخزنينا عنا، والتي بتتغير من سنه لتانية بحسب طلب السوق».

لا ننسى أن طرابلس وقتها كانت المدينة المحور في الشمال اللبناني لتجارة القرى والبلدات المجاورة المحيطة بها.

«أنا مستحيل علم هالحرفة لإبني. إبني وحيد وما بحب خربلو مستقبلو. ما عادت هالحرفة متل ما كانت بالأول. أنا نفسي تركتها حوالي عشرين سنه حتى أقدر عيش، ورجعت اشتغل فيا لأنو ما عندي خيار بأيام الحرب، ومردودها ما عاد يكفينا حتى نعيش».

نستطيع أن نفهم، من خلال هذه المقابلة، أن حرفتي غزل ونسيج شعر الماعز القائمتين على إنتاج ميكرو اقتصادي ما هما إلا عمل أساس ممارسته أن يكون قادراً على تأمين قوت الحرفي وأسرته، وهذا ما لم يستمر. فالحرفتان لم تستطيعا الصمود في وجه تحولات مجتمعية متعددة الأوجه، مما انعكس تراجعاً في الطلب على منتجاتهما، وعلى تغير قيمتهما المجتمعية؛ قيمة وصفها توماس مارشال Thomas Marshall بالهوية الإنتاجية في المجتمع (Marshall, 2012).

يمكننا القول هنا وباختصار:

- أن امتهان الحرفة لا يقتصر فقط على معرفة تقنياتها، فالحرفي يكتسب في بيئة عمله، وبالإضافة للمهارات التقنية، تنشئة اجتماعية تصبح سمة من سماته الثقافية.

- أن الرأسمال التقني للحرفة إن لم يستطع التطور المستمر الموازي للتطورات التقنية والاقتصادية والاجتماعية لمجتمعاته فهو حتماً سيزول.

- أن انقطاع التعليم والتدريب الشفاهي والممارسة بين الأجيال سيؤدي حتماً بدوره إلى انقطاع عمليات التقليد والاستنساخ التقني وبالتالي إلى ضعف الحرفة وزوالها.

واقع حرفتي غزل ونسيج شعر الماعز وخوص النايلون عام 2022:

إن فكرة اكتساب التقنيات الخاصة بالحرفتين من خلال مبدأ الانتشار تدفعنا للتساؤل، قبل العودة من جديد للحقل، عن أسباب شلل حركتهما الانتشارية. صحيح أننا قلنا بأن الحرفتين قد شهدتا تراجعاً في الطلب على منتجاتهما الوظيفية الطابع بسبب تحولات مجتمعية عدة، كما أظهرت قراءتنا الحقلية الأولى، لكن الصحيح أيضاً أن إتقان حرفتي الغزل والنسيج وتركهما تزولان دونما محاولة لاستنهاضهما باستخدام أشكال جديدة في الإنتاج، هي التي تدعونا للتساؤل عن أسبابها، هل لعدم نجاح النساجين المحليين في تطوير إنتاجهم لخدمات اجتماعية تجاري تحولات المجتمع نفسه وتخدم حاجاته الجديدة؟ أم بسبب تغير نظرة الحرفي لحرفته وبالتالي لذاته الاجتماعية ولقيمة ما ينتجه، الأمر الأساس الذي أدى إلى كسر حلقات توريث الحرفة عائلياً؟

أسئلة كثيرة يمكن أن نضيفها إلى ما سبق؟ فالأبعاد المجتمعية للتحولات الثقافية التي طالت القطاع الحرفي عموماً في لبنان ومن ضمنه حرفتا غزل ونسيج شعر الماعز هي شديدة التداخل والتعقيد، وغالبها أصلاً قد جرى رصدها في مقاربتنا الأولى للحقل التي بينت أن مصير المجال الحرفي المدروس مهدد بالزوال. إن هذه التساؤلات نضعها في خانة الأسئلة التوليفية Questions de synthèse التي غالباً ما تطرح بهدف إعادة ربط مقاربتنا الاثنوغرافية الراهنة بالأسئلة المنهجية الأوسع لموضوع الحرف وعلاقته بالتحولات الثقافية في المجتمع.

1) ما تبقى من حرفتي غزل ونسيج شعر الماعز:

كما توقعنا وجدنا. فلقد انتهت، حرفة غزل شعر الماعز. أما حرفة النسيج فما زالت تقاوم الزوال، بعد أن أصبحت ممارستها تقتصر على حرفي واحد متقدم نسبياً في السن ما زال مستمراً في ممارسة حرفته التي امتهنها أباً عن جد. ولقد اقتصر عمله راهناً فيها على صناعة خوص النايلون الموسمية الطابع (تبدأ شهر حزيران وتنتهي مع بدأ موسم عصر الزيتون في تشرين).

وجان الخير، هو الأخ الأصغز لسايد الخير الذي تقابلنا معه منذ 40 عاماً. قال جان: « ما في حدن بيرغب اليوم تعلم هالحرفة، أنا مستعد علمها للي بدو». ولقد حدثنا بالكثير من الاعتزاز عن حرفته قائلاً:

«أنا مستقل بشغلي، مني محتاج لمنية حدن ولا لدعم حدن حتى يوظفني وما بقبل بيوميتي أقل من 100 $. ببيع الخوصة ب 35 $ وبتكلفني 25$ يعني بربح 10 $ بكل خوصة؛ بشتغل ببيتي، مرتي بتساعدني كل يوم ساعة حتى مد السدوة وبعدين على رياحتى بشتغل بحسب الوقت اللي بيناسبني، الكل بيجي بيجتمع عندي بالمشغل بتسلى أنا وعم اشتغل. من هلق عندي توصاية 100 خوصة نايلون للموسم الجاي، «كل اللي كانوا بيشتغلوا بهالحرفة إما توقفوا أو ماتو».

وتدخلت الزوجة في المقابلة لتحدثنا عن آخر سيدة كانت تمتهن صناعة الخوص وأخبرتنا بأنها توقفت بعد أن أصابها وجع في أكتافها، فوزن المشط الحديدي المستخدم في النسيج يبلغ الـ 3 / 4 كيلو. لا ننسى أن نسيج خيوط النايلون هو أصعب من نسيج خيوط شعر الماعز لأنه يحتاج لجهد أكبر في رص خيوط اللحمة لقساوة الخيط وعدم مطواعيته كمطواعية خيط شعر الماعز.

عندما سألنا المعلم جان عن حرفة غزل الشعر، استحضرها بشكل سطحي وحتى عند حديثه عن أدواتها وتقنياتها كانت إجاباته مقتضبة: أي أنا اشتغلت بندف الشعر، بتذكر أمي كيف كانت تنقي الشعر بحسب الألوان. طلعني ابي من المدرسة حتى يعلمني هالحرفة. كانت معيشه عيل بأكملها كتير منيح». وعندما سألناه عن شعر الماعز وما مصيره اليوم بعد قصه من قبل الرعيان، أجاب ببساطة: «بيحرقوه».

وسؤالنا الأخير للمعلم جان تناول حكماً أسباب عدم تطوير حرفة النسيج لحمايتها، فكلمنا عن البسط التي كانت تملأ سابقاً البيوت في كوسبا، ولم يتفاعل كثيراً مع مسألة التطوير، فهو يمارس ما يعرفه وسعيد بذلك، وأصلاً لم ننتظر منه أكثر من ذلك، فالتطوير يحتاج لفكر جديد قائم على تطوير تقني أو على تطوير إنتاجي ناتج عن إبداع جديد وتثاقف، أي على تجديد داخلي أو خارجي في الحرفة وعلى مستويين تقني وثقافي.

2) الحرف والتكيف مع التحولات الثقافية للمجتمع:

لا شك أن غزل ونسيج شعر الماعز وخوص النايلون هي من الحرف التي لن يبقى منها، بعد زمن قريب في كوسبا، إلا صدى الذاكرة. فإنتاجها الذي بقي في خانة الإنتاج الوظيفي، لم تستطع الجماعة الحرفية المحلية تطويره لتحوله إلى حرفة لها بعد جديد يستطيع أن يلبي حاجات حالية في المجتمع.

صحيح أن صناعة البسط كانت محاولة في هذا الإطار، لكنها ظلت محاولة يتيمة. والمسألة نفسها تنعكس على استخدام خيوط النايلون في نسج الخوص، وهو تحول تقني في المادة المصنعة لقيت قبولاً كبيراً من المستهلكين، طال تغييراً في الخامة، لكنه لم يغير في وظيفة المنتج.

أما النول فلقد تمت المحافظة عليه دون تطوير لشكله من أجل حفظ التعاطي التقني العميق خبراتياً في استخدامه.

ولنفهم حال حرفتي غزل ونسيج شعر الماعز هذه يهمنا أن نعود إلى إدوار طومسونEdward Thomson وتحديداً إلى فهمه للثقافة الشعبية وتحولاتها القيمية وتأثرها بهيمنة السلطة البرجوازية. نحن لن نتوسع هنا في شرح هذه الفكرة الصراعية الرمزية الطابع بين الطبقات في بحث اتنو- تقني، ما يهمنا التركيز عليه هو مفاهيم القيمة والهيمنة الثقافية التي أثرت على القطاع الحرفي في مجتمعاتنا وأدت إلى تغيير النظرة الاجتماعية تجاهه، هذا التغيير الذي تسبب في فقدان هذه الفئة الحرفية الاجتماعية لمكانتها التي عرفتها تاريخياً ولقيمة منتجاتها. إن هذه الخسارة لا يمكن إعادة تكوينها، وهنا أستعير توصيف طومسون في رؤيته لتكوين الطبقة العاملة، من خلال عملية ميكانيكية بسيطة، فتكوين الجماعات والطبقات هي « مسألة تاريخ سياسي وثقافي بقدر ما هي مسألة تاريخ اقتصادي وتقني» (Jarrige, 2015).

صحيح أننا نعيش راهناً المسألة الصراعية نفسها من منظور مختلف بعد تدخل اليونيسكو وسعيها السياسي / الثقافي لحماية التراث غير المادي، من خلال محاولة إعادتها لمفهوم القيمة للخصوصيات الشعبية بهدف حمايتها من منظومة العولمة، أي أننا عدنا لنرى اهتماماً ثقافياً طبقياً بالحرف وبالعادات والتقاليد لحمايتها ولإعادة إحيائها شعبياً، لكن هذه المسائل في ديناميتها لن تعيد ما كان، بل ستولد حتماً شكلاً آخر للحرف يتطلبه واقعنا الراهن بخصوصياته ولغته وتقنياته وأذواقه.

خلاصة عامة

حاولت هذه الورقة رصد حرفتين ريفيتين قيد الزوال بسبب زوال أدوار إنتاجاتهما الحرفية الوظيفية الطابع، وزوال قيمتهما الاجتماعية ومردودهما الاقتصادي.

نحن نؤمن أن إعادة تكوين جماعة اجتماعية في ظروف غير الظروف التي أنتجتها هو أمر مستحيل، لكننا مقتنعون، في الوقت نفسه، بأن الذاكرة والتاريخ أساسيان في تشكيل الجماعات الاجتماعية وأنه من الضرورة بمكان الحفاظ على المعارف التي يمكنها أن تشكل خزاناً إبداعياً لآخرين عندما يتم السعي في لبنان لرصد معارف تراثنا الاتنولوجي الذي تشكل المعارف الحرفية جزءاً هاماً منه، أو عندما يصبح لدينا ممارسات حرفية مبتكرة، مرتكزة على تقاليد يمكنها أن تشكل لها رافعة لابتكاراتها الجديدة (Rakotovahiny & Loup, 2010)

 الهوامش :
1.   تستخدم في لبنان كتسمية للأكياس المنسوجه على النول، سواء بخيوط شعر الماعز أو بخيوط النايلون. يوضع ضمنها الزيتون لعصره بالمكبس. 
- في مقارنة مع معنى مصطلح خوص باللغة العربية نفهم أنها تعني ما ينسج من سعف النخيل، وهو مشابه لحياكة القش وغيره من الانسجة التي يتخلل نسجها فتحات صغيرة. فنسيج الخوص بشعر الماعز أو بخيوط النايلون يتحلى بهذه السمة، أي بوجود فتحات (مسامات) تمر من خلالها عصارة الزيتون.
2.   فيديو يوثق حرفة غزل شعر الماعز في شحيم 
- https://www.facebook.com/watch/?extid=NS-UNK-UNK-UNK-AN_GK0T-GK1C&v=582020935669044
- https://www.facebook.com/100063776820964/videos
3.    الرطل يساوي 2 كيلو ونصف.
4.    في جامعة نوشاتيل - سويسرا
5.   الاثنولوجيا التقنية يعرفها البعض بالتكنولوجيا، أو بالتكنولوجيا الثقافية، أو التكنولوجيا المقارنة أو حتى بالثقافة المادية... مهما كانت التسمية فإن  الاهتمام البحثي غالباً ما يكون مرتبطاً بالبحث في علاقة التقنية بالبنية الثقافية والاجتماعية والسياسية ... لجماعة اجتماعية أو لجماعات تتم المقارنات التقنية بينها.
6.   التكنوغرافيا : وصف التقنيات وعملياتها
7.   العدل (الجراب الكبير) ، الخرج أو الرحال (مخيط من الشعر أو من الصوف ذي عدلين يوضع على ظهر الدابة) ، العلايق: المخلاة في عنق الدابة يوضع فيها أكلها، الجلال ولها اسماء عدة تختلف في اللفظ العامي باختلاف البلدان: فهي البردعة في مصر، والبدود في الخليج. توضع فوق ظهور الحمير ويوضع فوقها السروج لتسهيل ركوب الدابة أو تحميلها البضائع
8.   كعرب اللفلوق. 
9.    من أنواع الماعز المعروفة بالماعز الدمشقي، أو الحلبي أو الشامي والمنتشرة في مناطق سوريا ولبنان وقبرص.
10.   معلومات أخذت من مقابلة أجريت مع أبو أمين أيوب وشقيقته .ولقد أجريت بتاريخ 20/8/ 1982.
11.   معلومات أخذت من مقابلة أجريت مع ديب الخير أجريت بتاريخ 20/8/ 1982.
12.    الدقر: إعاقة ، وهو في النسيج بمثابة خشبة نوضع عرضاً لاحكام حدود  مد الخيط. 
13.    القرمية أو القرمه (ج. قرامي) هو جذع الشجرة
14.   هي الفتحات الصغيرة ما بين خيوط نسيج حياكة الشعر التي تسمح بتسرب الزيت عند عصره.
15.    نفابات الزيتون السائلة
 
المراجع:
- Balfet, H. (1975). Technologie. Dans R. Cresswell, element d'ethnologie (Vol. 2, pp. 44-79). Paris: Armand Collin (collection U).
- Christensen, S. M. (1981). Documenta Textilia. (H. v.-L. Stolleis, Ed.) Retrieved from https://ctr.hum.ku.dk/research-programmes-and-projects/previous-programmes-and-projects/the-margrethe-hald-archive-digitalization-and-dissemination/Documenta_textilia_Spinning_Goats_Hair-compressed.pdf
- Denoyel, N. (1990). Le biais du Gars: Travail manuel et culture de l'artisan. (E. U. UNMFREO, Éd.) Tours: Mesonnance Alterologie.
- DESROSIERS, S. (1988, Juillet- decembre). Les techniques de tissage ont-elles un sens? Un mode de lecture des tissus andins. (L. m. l'Homme, Éd.) Techniques & culture, pp. 21- 56.
- Jarrige, F. (2015). E. P. Thompson, une vie de combat. (c. d. France, Éditeur) Récupéré sur la vie des idees: https://laviedesidees.fr/E-P-Thompson-une-vie-de-combat.html
- Marshall, T. (2012). La fabrication des artisans:Socialisation et processus de médiation dans l'apprentissage de la menuiserie. Mémoire de thèse. (U. D.–E.–L. 4177, Éd.) BOURGOGNE.
- Mauss, M. (1934). « Les techniques du corps ». Récupéré sur http://bibliotheque.uqac.uquebec.ca/index.htm
- Michea, J. (1968). La technologie culturelle : essai de aystematique. Dans s. l. Poirier, & E. d. pleiade (Éd.), Ethnologie Generale (pp. 823- 877). Belgique: Gallimard.
- Mille et Petit. (2014). La vie du geste technique, Approche pluridisciplinaire. e-phaistos. doi:10.4000/ephaistos.573
- Rakotovahiny & Loup. (2010, 10). Protection et valorisation de la créativité artisanale. Management & Avenir, 100 à 115. Récupéré sur https://www.cairn.info/revue-management-et-avenir-2010-10-page-100.htm
- Rossel, P. (1985). Introduction à « Artisanat et développement enjeux et débats ». Dans Y. P. René Barbey, DEMAIN L’ARTISANAT ? (pp. 23-27). Cahiers de l’IUED.
- ادفيك جريديني شيبوب. (1997). الخرف الشعبية في لبنان. بيروت: مكتبة السائح.
- ادوار القش. (1981). نول شعر الماعز: دراسة في التكنولوجيا الثقافية. (معهد الانماء العربي، المحرر) مجلة الفكر العربي، 20(مج 3).
- أنيس فريحة. (1973). معجم الألفاظ العامية. بيروت: مكتبة لبنان.
- روشاك احمد. (16 أيلول, 2011). غزل شعر "الماعز" حرفة تراثية في "القلمون". تم الاسترداد من https://www.esyria.sy/2011/09/%D8%BA%D8%B2%D9%84-%D8%B4%D8%B9%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B9%D8%B2-%D8%AD%D8%B1%D9%81%D8%A9-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%84%D9%85%D9%88%D9%86
- مها كيال. (2002). تقليد وتجديد: دراسة للقطاع الحرفي في طرابلس. بيروت: اللجنة الوطنية اللبنانية للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، المؤسسة الوطنية للتراث، المؤسسة العربية للثقافة والفنون.
 
الصور:
- من الكاتبة

أعداد المجلة