فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
64

الموروث الشعبي في المسرح البحريني بين ترسيخ الثقافة الشعبية والإبداع الفني1

العدد 64 - أدب شعبي
الموروث الشعبي  في المسرح البحريني بين ترسيخ الثقافة الشعبية والإبداع الفني1
مملكة البحرين

بما أن المسرح أبو الفنون، والموروث الشعبيّ هو روح الأمة، ونبضها الذي يمثل وجودها وأصالتها، وعبق هويتها. فقد لوحظ أن هناك حضورا واضحا للموروث الشعبيّ في المسرح البحريْنيّ، ويكاد لا نرى مؤلفا، أو مخرجا، أو فرقة مسرحيّة لم تتضمن مسرحيّاتهم الموروث الشعبيّ موضوعا رئيسا أو أدوات استخدمت في تلك الأعمال، مما ينمُّ عن قضية خطيرة تقلق هذا المجتمع المهدد في تراثه وحضارته، وتاريخه، وعاداته، وتقاليده، لأسباب موضوعيّة كثيرة اجتماعيّة، وسياسيّة، واقتصاديّة، وثقافيّة. ومن هذا الهاجس نما حسٌ وطنيٌ عالٍ، سواء من الناحية الرسميّة، أو النخبوية، أو الشعبيّة إلى معالجة هذا القلق الذي يحيط بمجتمع البحريْن، ويهدد حضارته، وعروبته، وهويته. وما المسرح ببعيد عن هذا الهاجس، فبدأ بالتعاطي معه إما مباشرة، أو إيحاء. مما جعل هذا الهاجس حاضرا وبقوة في المسرح، فأضحى سمة بارزة في العمل المسرحيّ، وعلامة ربما تكون فارقة في الخطاب المسرحيّ، مما دفع عددًا منهم إلى انتهاج توظيف الموروث الشعبيّ في المسرح، والتمسك بثوابته وأسسه، حيث يقرّب المسرح من وجدان الجماهير لما يحمل ذلك الموروث الشعبيّ من مكانة محببة في ذاكرة الشعب البحريْنيّ، المعتز بتراثه، والذائد عنه، والتي ربما تكسبه الثقة بالنفس، وتحفزه على التشبث بهويته الأصيلة.

ومهما تكن من إشكاليّة حول جدوى توظيف الموروث الشعبيّ في فنّ المسرح، ومدى توظيفه الذي يراه البعض سطحيا، فقير الدلالة، والشكل. حيث يوظّف بشكل متطفل أو ساذج. إلا أن هناك مطالبات بمسرح عربي أصيل له خصوصيته، وهويته التي تنبع من العودة إلى الموروث الشعبيّ، والتاريخ العربيّ؛ حتى يصبح للمسرح العربيّ خصوصيته بين المسارح العالميّة، شريطة ألا تؤثر سلبا على مضامين الهويّة والموروث الشعبيّ التي يسعى إليها المسرح العربيّ.

وبما أن مملكة البحريْن أولت اهتماما خاصا بفنّ المسرح، وحفظ الموروث الشعبيّ من خلال المؤسسات الرسميّة والأهليّة، فقد وظّف الموروث الشعبيّ في المسرح البحريْنيّ توظيفا كبيرا، لما للتراث من أهميّة من الجانب العاطفيّ والوجداني لدى المجتمعات، والتصاقه بالفرد، إذ أوجد ذلك الالتصاق والحميمية تفاعلا معه، ورعاية له، وأشار إلى الإبداع في ذلك التراث. وهذا نتاج جهود الماضين من الآباء، والأجداد الذين يستحقون كل تكريم وتقدير لما قدموه للمجتمع من جهود مضنية في حفظ التراث، ونقلوه إلينا للاستفادة منه في حياتنا ومستقبلنا. فالماضون أودعوا للاحقين كنوزا من الحكمة والمعرفة التي كانت ثمار خبرات فكريّة، وفنّيّة، وعملية، وأدبيّة، وسلوكية، يجب أن تُعمل أثرها الإيجابي في الأجيال المتعاقبة.

 

وهنا لا ننسى أن للموروثات الشعبيّة أهميّة كبيرة في المجتمع، تأخذ أبعادا مختلفة من الناحية الشخصيّة والفرديّة، والمجتمعية، والسياسيّة، والوطنيّة، والقوميّة، وكذلك الناحية الإنسانيّة، ما أضفى على هذا الموضوع هالة من الاهتمام والرعاية من جميع الأطراف للمحافظة على الموروثات الشعبيّة والاعتناء بها. وتتمثل أهميّة الموروث الشعبيّ فيما يأتي:

 

تساهم في تعديل السلوكيات غير المحبذة، وذلك لما فيها من مثل، وأخلاقيات نبيلة منشؤها الفطرة السليمة التي نشأ عليها الآباء والأجداد، فتحفز على التمسك بتلك الأخلاقيات السلوكية، كالكرم، والشهامة، والصدق، وغيرها. بينما تزرع في نفوس الأجيال نبذ الصفات والسلوكيات المذمومة، مثل الكذب، وخيانة الأمانة، والبخل، والأنانية، وغيرها.

للموروث الشعبيّ تأثيرات غير مباشرة وإيحائية على الشخص، بحيث تسهم في تثبيت القيم السلوكية الحميدة عن طريق اللاوعي من خلال ما يتلمسه الفرد في مجتمعه من قيم راقية، لا يحتاج تعلمها شفاهة أو قراءة، وإنما تكون ماثلة أمام عينيه في وجدانه وعقله.

تساهم دراستها في الوصول إلى معرفة كوامن الشخصيّة البشرية التي تختزن الكثير من الأسرار والغموض. وهذا يكون جليا في تفسيرات بعض الظواهر الفرديّة أو الاجتماعيّة في المجتمع. على سبيل المثال حينما تستعرض شخصيّة النوخذة (قائد السفينة) في السرد الفنّيّ، فلا بد من الفنّان مخرجا أو ممثلا أو مؤلفا إلا وأن يتناول هذه الشخصيّة من كافة الأبعاد؛ ليرى سبب ذلك الجبروت، وقوة السطوة، وآثارها عليه كفرد أو مجتمع، مما يكشف طبيعة الحياة الاجتماعيّة، والاقتصاديّة فيما مضى.

استظهار المكنونات الفرديّة والجمعية من خلال دراسة الموروث الشعبيّ بصورة شاملة، واستخلاص الجوانب السيكولوجية التي تعايش معها الفرد في مجتمعه، وهذا يكون جليا في فترات الحروب والأزمات؛ ولذلك اهتم الكثير بما أسماه (جوم) بأنه دراسة سيكولوجية للموروثات التاريخيّة في المراحل الثقافيّة المتأخرة2.

تساهم مساهمة فعالة في الترفيه عن النفس من خلال استذكار الأدب الشعبيّ، والأساطير، والحكايات الشعبيّة، والعادات والتقاليد، والرقص والغناء الشعبيّ، والأحاجي والألغاز وغيرها. وهذا ما يتناقله الناس فرادى، وجماعات، شفاهيا، أو كتابيا حتى تثبت في نفوس الناشئة، والأجيال القادمة.

للموروث الشعبيّ أهميّة كبرى في الجانب التعليمي. هنالك أساليب تعليميّة نمطية متوارثة في المجتمع. لها دورها في التلقين والمحاكاة. وهناك بعض الألغاز الشعبيّة التي تنمي القدرات الذهنية، والحكايات الشعبيّة التي تقدم خبرات تعليميّة متقدمة عن طريق الحكاية، وتغرس في عقول المتعلمين المهارات العقلية العليا في التفكير، والاستنتاج، وتراكم الخبرات، وربطها. وهذا ما يمكن تسميته بالفراسة.

تنمية المهارات اليدوية، والحركية، التي يمكن أن يطلق عليها الباحث المهارات التكنولوجية من خلال توظيف المعرفة، وتحويلها إلى منجز مادي. فكثير من المجتمعات تبدع في صناعاتها التقليدية الموروثة، التي لا تحتاج إلا إلى المواد الخام الأوّلية، مثل: صناعة السفن، والفخار، والأنسجة والسجاد، وغيرها. وهذا حتما سيؤدي إلى تطوير تلك الصناعات تكنولوجيا، وعلميا إذا ما تمت المحافظة عليها.

استدعاء الموروثات الشعبيّة ذهنيا وعمليا، يعبر عن قلق المجتمع أو خوفه أو أمله. وليس استدعاءً ترفيا للتباهي، والتفاخر بما حققه السابقون من إنجازات مختلفة دون الاستفادة من تلك الإنجازات حاضرا ومستقبـلا.

يساهم في الحفاظ على قوام النسيج الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد، حيث تربط بينهم أواصر تلك الموروثات الشعبيّة، وما يتلاقون فيه من ثقافة واحدة، ومصير واحد، مما يحتم عليهم الاهتمام بذلك الموروث والحفاظ عليه.

للموروث الشعبيّ صلات وثيقة مع مختلف العلوم والحقول، فله ارتباط بعلم النفس وما تندرج تحته من أنواع، مثل: علم الاجتماع، والأنثربولوجيا، والطب، والديانات بمختلفها، وبالعلوم الطبيعيّة البحتة، والعلوم التطبيقية والتكنولوجية، والآداب، والفنون، والتاريخ، والجغرافيا، والفلسفة، واللغات. وهذه العلوم تستفيد من الموروث الشعبيّ في نظرياتها، واتجاهاتها، ومناهجها، ودراساتها.

الموروث الشعبيّ مسؤولية وطنية بامتياز من خلال المحافظة عليه، والاهتمام به، نحافظ على هويتنا الوطنيّة، والقوميّة، والثوابت الاجتماعيّة، وخصوصًا في ظل العولمة، وصراع الحضارات، وما يحمل من مخاطر تهدد المجتمعات في ثوابتها وهويتها عبر التطور التكنولوجي الهائل العابر للحدود والقارات.

يقول أدونيس «ليس التراث ما يصنعك، بل ما تصنعه، التراث هو ما يولد بين شفتيك، ويتحرك بين يديك، التراث لا ينقل بل يخلق، وليس الماضي كل ما مضى، الماضي نقطة في مساحة معتمة شاسعة»3. فأدونيس يحدد نقطة في غاية الأهميّة. وهي استشراف المستقبل انطلاقا من موروث الماضي. فالموروث الشعبيّ مرتبط عضويا بالحاضر والمستقبل، فما نعيشه اليوم هو موروث غد، ولذلك يحسن أن نعتني بثقافتنا وموروثنا الذي يؤمل ألا يضمحل.

إن الإنسان بطبيعته يكون خاضعا لسطوة الموروث الشعبيّ، وربما تضيق أو تتسع تلك السطوة، مهما يكن في ذلك، فهو متفاعل مع ذلك الموروث، ويشغل باله وفكره، سواء اتخذ موقفا إيجابيا أو سلبيا منه، فالموروث الشعبيّ جعله يختط منهجا خاصا به كالحداثيين من حيث مسافة القرب أو الابتعاد.

استثمار الموروث الشعبيّ تجاريا، وخصوصًا فيما يتعلق بالصناعات التقليدية اليدوية التي يندر وجودها في أماكن أخرى، ولا يجاد صناعتها أو عملها إلا في ذلك المجتمع، ولا يعرف سر جودتها، وخاماتها إلا أبناء المجتمع، وخصوصًا إذا كانت تتطلب صبرا وإبداعا، لا يمكن أن تصنعه الآلات الحديثة مهما كان تطورها.

الاستثمار السياحي الذي يدر أموالا طائلة من خلال الأماكن، والمواقع التراثيّة وعروض الفنّ الشعبيّ والأدب الشعبيّ، وإقامة المهرجانات الداخليّة والخارجيّة كمهرجانات الرقص الشعبيّ، وفعاليات الشعر الشعبيّ، وعرض الصناعات الشعبيّة، وإقامة الفعاليات التراثيّة، والسباقات المختلفة المتعلقة بالتراث كسباقات الخيول، والحمير، والقنص، وغيرها مما يجلب تلك المجاميع السياحية، والوفود المختلفة التي تعشق الموروثات الشعبيّة.

تعتبر الموروثات الشعبيّة وسيلة إعلانية مهمّة للترويج، والدعاية؛ لزيارة الأقطار الغنية بتلك الموروثات. فيكفي بضعة مقاطع مصورة، أو صور معينة، وكتيبات تستعرض تلك المواد التراثيّة تساهم في جذب السياح والضيوف لمشاهدة تلك الموروثات عن كثب.

يكتسب الموروث الشعبيّ في منطقة الخليج العربيّ بصفة خاصة أهميّة بالغة فيما يهدد كيانها، وهويّتها من حيث الخلل في التركيبة الديموغرافيّة جراء العمالة الأجنبية ذات الأعداد الهائلة والتي انتشرت بشراسة في المجتمع الخليجيّ، حتى أصبح سكان البلد الأصليون أقليات في بلدانهم، مما يؤدي إلى اندثار الهويّة، وربما انعدامها إذا لم توجد استراتيجيّات إنقاذ فورية، يكون موضوع الموروث الشعبيّ في أوّلوية الحلول.

 

الموروث الشعبيّ في الثقافة البحرينيّة:

 

تقول الأسطورة السومرية عن دلمون : «إن الإله أنكي بعد أن تجول في أرض دلمون فوجدها أرضا مقدسة طهورا، لا ينعب فيها غراب، ولا يفترس الأسد فيها أحدا، لا أحد يمرض فيها ولا أحد يقول «عيني تؤلمني، رأسي يوجعني»، لا أحد يشيخ، ولا أحد يقول «المرأة تصبح عجوزا، الرجل يصبح كهلا»، فبارك أنكي أرض دلمون بالماء العذب ومنحها كل فواكه الأرض، وصاح «دع مدينة دلمون تصبح ميناء العالم كله»، وكان الوعد بالخصب، في أرض الصحة الأزلية، وأرض الخلود4.

يلاحظ أن الموروث الشعبيّ البحريْنيّ متكامل، ويشمل كافة العناصر والتقسيمات التي وضعها علماء الفولكلور. ولا يمكن بأي حال أن يغيب عنصر من تلك العناصر، وألا نجد له أثرا أو مكانا في الموروث الشعبيّ البحرينيّ ظاهرا وبارزا، وهذا بدوره ينعكس على الأعمال المسرحية الإبداعية والدرامية بصفة عامة.

إن المتتبع للموروث الشعبيّ البحريْنيّ يراه غزيرا من حيث الكم، برغم ما اندثر منه بسبب عدم التدوين، ولانتشار الأميّة قبل بناء الدولة الحديثة، وإنشاء المراكز الحكوميّة والأهليّة، كما أنه متنوّع في موضوعاته، وأشكاله، بحيث يشمل جميع جوانب الحياة الفرديّة والمجتمعيّة، ويظهر النواحي والخصائص الثقافيّة للمجتمع البحريْنيّ في شتى مجالاتها، ويكشف عن روح الشخصيّة البحريْنيّة، وسلوكها الفردي والاجتماعي. وهذا ما يتوخاه الباحثون، والمؤرخون، والمتخصصون في كل المجالات. وذلك للاستفادة من الماضي بموروثه الشعبيّ؛ لبناء مستقبل له ركائزه، وثقافته، وحضارته.

 

ويتميز الموروث الشعبيّ البحريْنيّ بخصائص كثيرة تتمثل في الأصالة المتوارثة منذ آلاف السنين، مثل الغوص على اللؤلؤ، وزراعة النخيل، والفخار وغيرها، وكذلك الشموليّة وحضوره في كل عناصر الموروث الشعبيّ من معتقدات شعبيّة ومعارف، وعادات، وتقاليد، وكذلك الأدب الشعبيّ بأنواعه، والفنون الشعبيّة بمختلف فروعها، وأيضا انتشاره في أغلب المناطق البحريْنيّة المأهولة بالسكان، في مدن البحريْن وقراها، إضافة إلى تنوّعه من حيث الممارسة أو الإنتاج وحظوته بالرعاية الشعبيّة والرسميّة والتمسك به، وما يتصف بالاستمراريّة في كثير من المجالات. وتميزه كذلك من الناحية الفنّيّة والجماليّة صناعة وإنتاجا، تشكيلا وتلوينا وزخرفة، ومن الناحية الفنّيّة، والأدبيّة في أشعارهم وأهازيجهم، ورقصهم، وغنائهم، وموسيقاهم، وفي عمارتهم وغيرها، ومن سماته أيضا الجانب الأخلاقي بتمسكه بعاداته وتقاليده، التي تتناغم مع الأخلاق العربيّة العامة، المنبثقة من الروح الإسلاميّة. فالبحريْنيّ عادة منضبط في أخلاقيّاته، وعلى أساس ذلك ترسخ الموروثات الشعبيّة المثل والقيم الأخلاقيّة، فهم ينبذون من يخرج عن أخلاقياتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، وأيضا التزامه بالجانب الديني إضافة إلى التمازج الحضاريّ والثقافيّ بين أهل البحرين وما حولها فيتأثرون ويؤثرون، أضف إلى ذلك جودة ذلك الموروث وتميّزه وانفراده،

 

ووصل لنا الموروث الشعبي من مصادر عديدة أهمها الرواة والإخباريون، والمراجع والكتب والمؤلّفات المختلفة والببليوغرافيّات والمشاهدات الحية والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والمتاحف والصحافة ووسائل الإعلام والتلفزيون والأفلام الوثائقية والدوريات المتخصصة والفعاليات التراثيّة والمهرجانات واستغلال بعض الفعاليات والمهرجانات المختلفة لزجّ الموروثات الشعبيّة فيها من خلال الرقصات، والأغاني الشعبيّة وغيرها في المحافل الرياضيّة، والثقافيّة، والاقتصاديّة، والمحاضرات واللقاءات والندوات، والأعمال الدراميّة المختلفة.

وقد تميز المسرح البحريني بالاحتفاء بالموروث الشعبيّ وتوظيفه، حيث لم يأت احتفاء الفنّانين البحريْنيّين بالموروث الشعبيّ من فراغ أو مجرد صدفة، بل لتلك الخصائص التي مرت آنفا، إذ ساهم الموروث الشعبي البحريني في تعميق الانتماء في نفس المواطن البحريني وجعلته معتزا بموروثه، مفتخرا به، منافحا عنه، محافظا عليه، حريصا على نقله للأجيال القادمة، ولا سيما الفنّانين وخصوصًا المسرحيّين الذين عشقوا الموروث الشعبيّ البحريْنيّ ووظّفوه، لأنهم وجدوه المتنفّس لقضاياهم، والغني بعناصره، مما يغريهم في التعامل معه، وتوظيفه، واستلهامه من النواحي الفنّيّة، والجماليّة التي تنتج الإبداع، والتجديد في المسرح البحريْنيّ.

مهما كانت الأهميّة بالغة في توظيف الموروث الشعبيّ، فلا بد أن يكون ذلك التوظيف ذا مغزى وإضافة جماليّة نوعيّة، وفنّيّة إبداعيّة، وموضوعيّة مهمّة، وليست ترفا. فكل قطعة وحركة في العمل، وعلى الركح، يجب أن تكون ذات معنى، حيث يؤدي حذفها إلى تخلخل وإضعاف العمل، ولذلك يقول المسرحيّ هيثم الخواجة، «من يوظّف التراث من أجل التراث فهو خاسر فإن الإيغال في الماضي لا من أجل التكلس فيه، وإنما من أجل التموقع وواقع معاش ومستقبل يتماهى مع الحلم»5.

 

إن الموروث الشعبيّ يتدفق روحا في نفوس أبناء المجتمع، يحمل في طياته مبادئ، ومُثُلا، وقيما، وفنّا، وأخلاقا، بجانب الحياة البسيطة غير المعقدة، والعلاقات العفوية، وغيرها من الخصال التي تتمتع بها تلك الموروثات، وإلا لما احتفلت واحتفت بها المجتمعات، وتنادت الحكومات والمنظمات والمؤسسات الرسميّة لحفظها، والاهتمام بها، وغيرها؛ ولما اعتز بها الإنسان نفسه، حيث تبقى في ذاكرته أثرا طيبا، يلجأ إليها حينما تعتريه مشاكل العصر، وتعقيداته الكثيرة.

 

كل تلك الأمور تغري الفنّان المسرحيّ إلى التعلق بهذه الموروثات، وتوظيفها في عمله الإبداعي، ولكن يتباين ذلك التوظيف من حيث فهم هذه الموروثات، وكيفيّة توظيفها. ومن هنا تعلو قيمة هذا العمل الفنّيّ المتكئ على الموروث عن ذلك العمل، ولذلك لم يكن الموروث الشعبي ببعيد، انبهارا به، وتشبثا بأصالته، حيث حفل به المسرح البحريْنيّ أيما احتفال واحتفاء ما أكسبه حضورا متميزا في تلك الأعمال، بعد المسرح التاريخي الجامد، حيث يؤمل من المسرح أن يواكب المجتمع وقضاياه وهمومه وطموحاته، مما فرض ذلك اتخاذ الفنّانين المسرحيّين خطوات في تغيير الموضوعات المسرحيّة، وقد انتهلوا من الموروث الشعبيّ مادة، وشكلا، ومضمونا مسرحيّا، يتناغم مع رؤاهم الفنّيّة، والفلسفيّة.

وقد كان لتوظيف الموروث الشعبيّ البحريْنيّ شأن كبير في الساحة المسرحيّة، وذلك بعد البدايات التاريخيّة والاجتماعيّة، وقد اهتم الفنّانون بالموروث الشعبيّ روحا، وشكلا، ومضمونا؛ لما تمتلكه البحريْن من موروث شعبيّ غني، برغم صغر مساحتها الجغرافية. إلا أن عراقة أرضها وحضارتها وشعبها راكم الموروث الشعبيّ حتى تضخم فعجزت عن حصره المؤلّفات عبر العصور.

كان الموروث الشعبيّ حاضرا ولو بصورة بسيطة في أوّل عمل مسرحيّ مكتوب، وهذا يدل على التأثر بذلك الموروث، ولكن هنالك أعمال مسرحيّة كثيرة قدمها مسرح أُوال تتكئ أساسا على الموروث الشعبيّ طيلة تاريخها المسرحيّ، ولا يمكن بأي حال إحصاؤها جميعا، ولكن أبرزها، مسرحيّة (بو خليل في الميدان) في عام 1987م، ومسرحيّة (السوق) المقتبسة من المسرحيّة الشهيرة (بغداد الأزل بين الجد والهزل) لقاسم محمّد, ومسرحيّة (حليمة ومنصور)، ومسرحيّة (درب العدل) مستوحاة من مسرحيّة (من أجل حفنة دنانير)، وكتبها فيصل الياسري عن مسرحيّة (خمس عشرة صرة من الذهب) التي وضعها الكاتب الصيني شو سوشين 1650م، ومسرحيّة (خور المدعى)، ومسرحيّة (سوق البطيخ)، ومسرحيّة (ليلة عرس رشدان)، ومسرحيّة (ربع المكدة)، ومسرحيّة (الخيول)، ومسرحيّة (سرور)، وعرضت عدة مرات لمخرجين مختلفين، وكذلك مسرحيّة (الأشباح)، وثمة مسرحيّة مهمّة في الموروث الشعبيّ، وهي (بنت النوخذة)،وأيضا مسرحيّة (ح - ب). وهنالك مسرحيّة (السالفة وما فيها) وهي من أولى المسرحيّات التي اشتغل عليها مسرح أُوال، وهي من تأليف وإخراج محمّد عواد، ومسرحيّة (البراحة)، ومسرحيّة (سوق المقاصيص)، وقد وظّف فيها الموروث الشعبيّ توظيفا كاملا، ومسرحيّة (أنا وانتي والبقرة)، وثمة مسرحيّة أيضا اتكأت على الموروث الشعبيّ بصورة كاملة وهي مسرحيّة (أرض لا تنبت الزهو)، ومسرحيّة (الطبول) ومسرحيّة (صور عارية)، ومسرحيّة (خميس وجمعة)، ومسرحيّة (الملك هو الملك)، ومسرحيّة (وجوه). ومسرحيّة (أفا يا عبيد)، وكذلك مسرحيّة (رأيت الذي سوف يحدث).

وكان آخر أعمالها مسرحيّة (الجوري) التي عرضت في افتتاح مهرجان أُوال العالمي في يناير 2017، حيث عرضت كنوع من المسرح الصحراوي (مسرح الفضاء المفتوح)، حيث قدمت في ساحة كبيرة بالقرب من قلعة الرفاع، وقد أدخلت فيها السيارات والخيول، وهي تتناول موضوع الوطنيّة موظّفا فيها المخرج عبدالله ملك جملة من الموروثات الشعبيّة: مثل ركوب البحر، والفروسية، والحياة البدوية مع استخدام الأدوات، والأزياء الشعبيّة المختلفة.

 

وأما فرقة مسرح الجزيرة إحدى أهم الفرق المسرحيّة في البحريْن والخليج العربيّ، قدّمت عروضا جادة كثيرة، كان أغلبها مندمجا مع الموروث الشعبيّ، فقد كان قائدا هذه الفرقة الفنّانان الأخوان محمّد وسعد الجزاف متأثرين بالموروث الشعبيّ، وذلك بحكم نشأتهما في بيئة اجتماعيّة ثرية بهذا الجانب، ولذلك لم تخل تجاربهما في مسرح الجزيرة بحكم موقعهما القيادي في هذه الفرقة من توظيف واستخدام للموروث الشعبيّ، وخصوصًا إنها قدمت ثلاثة أعمال مهمّة في هذا المنحى الفنّيّ، وهي مسرحيّة (توب توب يا بحر)، و(الفَشْت)، و(الدَّانة)، حيث حازت هذه المسرحيّات مكانة خاصة في الذاكرة المسرحيّة البحريْنيّة، كما قدمت الفرقة مسرحيّة (زمان البطيخ)، وهي ليست ببعيدة عن سابقتها من حيث الموضوع الاجتماعي الذي يتمحور في المواجهة بين القديم والحديث. وقد كتبها الشاعر الشعبيّ البحريْنيّ المعروف عبدالرحمن رفيع، وتخلل هذه المسرحيّة الكثير من الموروثات الشعبيّة بسياق المقارنة والمفاضلة في بعض الأمور كالعلاج الحديث، والطب الشعبيّ، وضرب بعض الأمثال الشعبيّة المعروفة، واستخدام بعض الألفاظ والكلمات العاميّة القحة. ومسرحيّة (السعد) من تأليف أحمد الطيب العلج، وهي أولى تجارب الفنّان إبراهيم بحر الإخراجيّة، وهذا العمل يعتمد على النوادر العربيّة الشعبيّة المستوحاة من حكايات ألف ليلة وليلة، إضافة إلى نوادر جحا وغيرها. كما قدمت الفرقة أيضا مسرحيّة (الرجل الطيب)، ومسرحيّة (ممثل الشعب)، وهي كما يستدل عليها من عنوانها تطرح مشكلة سياسيّة/ اجتماعيّة في الحركة الانتخابية، وكيف يعدّ العضو البرلماني قبل دخوله المجلس البرلماني6. وأيضا مسرحيّة (كبش لكل زمان)، ويقول عنها المؤرخ محمّد مبارك الصوري بأنها عبارة عن «فاجعة شعبيّة جرت وقائعها في حي من أحياء حلب، وحادثة أخرى ملأى بالبهجة والفرحة، مجاورة بين التاجر الجشع والمحب النبيل، وملازمة القبح للجمال، خلط بين الحقيقة والأسطورة  واستلهام قصة سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام..»7، وكذلك قدم مسرحيّة مهمّة متكئة على الموروث الشعبيّ وهي مسرحيّة (الدَّانة) ومسرحيّة (الفَشْت) وهي معتمدة كلها على الموروث الشعبيّ، ومسرحيّة (صباح الخير يا عرب)، ووظّف فيها الموروث الشعبيّ بصورة واضحة من خلال ثيمة حكايات ألف ليلة وليلة، مع الأهازيج الشعبيّة، وهي في عمومها مسرحيّة اجتماعيّة تبحث الكثير من الهموم والأمراض الاجتماعيّة التي ابتلي بها المجتمع. كما مسرحيّة (لمن العصا) وهي تاريخية تحكي عن القضية الفلسطينية واغتصابها، والقرارات التاريخيّة المتعلقة بها.

 

 

وأما فرقة الصواري فقدمت مسرحيّة (القربان) وهي مستوحاة عن مأساة الحلاج لصلاح عبدالصبور- وقد أخرجها الفنّان عبد الله السعداوي وقد قدمت عام 1996م بقلعة عراد بالمحرّق، وهي تتناول حياة الصوفي بجمالها وقبحها، بالصورة والأصل، وفي غياب المعنى الحقيقي للإنسان. ربما كان ذلك هو الحلاج، ومن المسرحيّات أيضا مسرحيّة (ظلالوه)، وموضوعها مستلهم من المأثور الشعبيّ، وهي عبارة عن أسطورة شعبيّة، وعادات كانت تقام في القديم، الأسطورة تتحدث عن أكل الحوتة لقمر، وهو في حالة الخسوف، غير أن المخرج يتحدث في العرض عن مأكل، ومقتل الحب أمام الناس، وهم لا يحركون ساكنا. ونالت مسرحيّة (بيت القصيد) المتكئة على الموروث الشعبيّ أيضا شهرة واسعة في الوسط المسرحيّ البحريْنيّ، حيث أن المخرج المرحوم إبراهيم بحر تمكن من تجسيد الموروث الشعبيّ فيها تجسيدا لافتا، إلا أن مسرحيّة (عندما صمت عبدالله الحكواتي) قد نالت الانتشار الأوسع في البحريْن وخارجها، ومثلت البحريْن في عدة مهرجانات لا سيما في النسخة الثالثة عشرة من المهرجان المسرحيّ الخليجيّ بعد أن رشحت من قبل اللجنة المكلفة بذلك، ونالت أفضل ثاني عرض مسرحيّ في تلك الدورة.

 

 

ولكن البيادر قدمت عددا من الأعمال التي استلهمت فيها الموروث الشعبيّ بصورة جزئية مثل مسرحيّة (بلاليط)، ومسرحيّة (الدياية طارت)، ومسرحيّة (بيتنا الذي)، ومسرحيّة (آروح لمين). ويطغى على مضامين الأعمال المسرحيّة لهذه الفرقة المسرح الاجتماعي، حيث تغلب عليها عرض الواقع المعيش في البحريْن، ونقده بأسلوب كوميدي ساخر، وخصوصًا وجود الفنّان الكوميدي عادل الجوهر الذي بادر في التأليف، والإخراج، والتمثيل. وتكاد لا تخلو مسرحيّة من مسرحيّات فرقة البيادر من دور لهذا الفنّان.

 

 

ومن أدبيات فرقة الريف التي يؤازرها في ذلك اسمها التركيز في أعمالها على الموروث الشعبيّ، وذلك انطلاقا من رسالتها المسرحيّة وهي «بناء مسرح عربي ريفي .. يحمل في معاني مشاريعه الموروث النقي من حضارتنا، فكريّا وثقافيّا واجتماعيا، لرفد عجلة الإنتاج الثقافيّ في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة والعالم بأسره، من أجل تفعيل القواسم المشتركة لتكون الوطنيّة والإنسانيّة هي نبراس التواصي والتواصل في مسرحنا العربيّ»8.

 

قدمت هذه الفرقة عددا من الأعمال المسرحيّة المتكئة على الموروث الشعبيّ، جزئيا، أو كليا مثل مسرحيّة (المطحون)، ومسرحيّة (المبجل)، ومسرحيّة (يقظة)، والمسرحيّة الاجتماعيّة الفكاهية (البيت العود)، كما قدم عملا مهما في مهرجان الريف التاسع وهو مسرحيّة (خربشة) في 2017.

وقدمت فرقة جلجامش بعض الأعمال المسرحيّة ولكنها قليلة أيضا، لا يتناسب مع سني انطلاقتها، وقدمت مسرحيّات قصيرة عن الألعاب الشعبيّة. كما قدمت الفرقة مسرحيّة (أرض الملوك) للمخرج نضال الدرازي، وتتحدث عن تاريخ البحريْن وحضارتها.

إن الحركة المسرحية البحرينية شأنها شأن الحركات المسرحية في العالم حيث كانت بداياتها تنهل من نبع التاريخ والتراث والموروث الشعبي. يعدّ توظيف الموروث الشعبيّ سبيلا لتأصيل المسرح العربيّ، وطريقا معبدا لتحقيق الحلم بمسرح ذي هويّة عربيّة أصيلة. هنالك أساليب كثيرة يمكن للمبدع العربيّ الاستفادة منها في توظيف الموروث الشعبيّ مثل: الرجوع إلى المصادر التراثيّة، ومتابعة الأبحاث والدّراسات الملتصقة بالعمل، وإعادة الإحساس بدلالات الموروث الشعبيّ (الفهم التام)، والموازنة بين القيمة الجماليّة وقيمة الموروث، والابتعاد عن المحاكاة الحرفية الكربونية للموروث؛ والموازنة بين زمن الوريث وزمن الموروث (التفاعل بين أبعاد الزمن الثلاثية). وتحويل الموروث إلى أفعال خلاقة ومؤثرة. وأهمية الانفتاح على المسارح العالميّة الأخرى القديمة والحديثة، وأخيرا توظيف التقْنيات الحديثة في العمل المسرحيّ.

 

وقد أجرى الباحث دراسة على عشرة عروض مسرحية بحرينية وهي (الدانة والفشت وسبع ليالي وسوق المقاصيص ودرب العدل وسوق البطيخ وسرور وعذاري وعندما صمت عبدالله الحكواتي وخربشة) وأربعة نصوص لمسرحيين بحرينيين وهي (بنت النوخذة وآه يا سلمان ومشخص وحد الموال)، ووجد فيها بعد دراسة علمية مستفيضة الملحوظات التالية المتعلقة بتوظيف الموروث الشعبي فيها، وأستعرضها هنا بصفة عامة من دون تفاصيل:

 

1. تتماهى معظم المسرحيّات في صراعاتها، والتي تكون دائما بين القوى الاجتماعيّة الطامعة، والاستغلالية التي تريد أن تتحكم في مصائر الناس، بما تمتلك من قوة ماديّة، ونفوذ، وسطوة، وبين الفئات الشعبيّة البسيطة التي تعاني من ضنك العيش، وشظف الحياة، إلا في مسرحيّة (درب العدل)، والتي يدور فيها الصراع بين العدالة الحقيقية، والعدالة الزائفة.

2. المسرحيّات كلها اجتماعيّة واقعيّة، وترتبط في أغلبها بالبحر، ومعاناة البحارة وعلاقتهم بالنواخذة، وما يلقون من مخاطر، ومغامرات من أجل كسب لقمة العيش.

3. تم توظيف معظم عناصر الموروث الشعبيّ في أنواعه الأربعة الرئيسة: المعتقدات والمعارف الشعبيّة، والعادات والتقاليد الشعبيّة، والأدب الشعبيّ، والثقافة الماديّة والفنون الشعبيّة. ووظّفت مجموعة من العناصر في المعتقدات والمعارف الشعبيّة من خلال ذكرها في عدد من المسرحيّات، مثل: الأوّلياء، والجن، والعفاريت، والسحر، والطب الشعبيّ، وذكر بعض الأماكن، وما يتعلق بالأرواح. وتكررت عناصر من العادات والتقاليد الشعبيّة، مثل: مراسيم الزواج، وبعض المراسيم الاجتماعيّة، والعلاقات الأسريّة، واللائق وغير اللائق، والموقف من الغريب وفض المنازعات، والتحكيم. وذكر الكثير من عناصر الأدب الشعبيّ في كثير من المسرحيّات وأهمها: الحكاية الشعبيّة، والأسطورة، والخرافة، والسير، والموّال، والأغاني مثل: الابتهالات الدينيّة، والتعابير، والأقوال السائرة، والنداءات، والأمثال، وبعض النكت والنوادر.

4. وظّفت بعض الآلات والمقطوعات الموسيقية والأغاني التراثية مثل: الموسيقى الشعبيّة بمختلف أنواعها، سواء المصاحبة للرقص، والمصاحبة للأغاني، والموسيقى البحتة بالعزف على آلة النفخ، والآلات الوترية، والآلات الإيقاعية، وهي الأكثر استخداما، ووظّفت أيضا الرقصات الشعبيّة، وكذلك الأزياء الشعبيّة لجميع فئات المجتمع الشعبيّ، والحلي، وأدوات الزينة الشعبيّة، والأثاث، والأواني الشعبيّة، والعمارة الشعبيّة، والدمى والتعاويذ.

5. ومن عناصر الثقافة الماديّة (الإرجولوجيا) وظّفت الحرف الشعبيّة، وصاحب المقهى، والقصّاب، والحمّال ،والنوكر (الخادم)، والبنّاء، والحدّاد، والصفّار، وبائع القماش (البزّاز)، وبائع الخضراوات، والحرف البحريّة، كالغوص على اللؤلؤ، والطواشة، والنوخذة، والمجدمي، والكرّاني.

6. تكرر الكثير من عناصر الموروث الشعبيّ في الأعمال المسرحيّة، وهذا دليل انتشارها في الثقافة الشعبيّة البحريْنيّة، سواء كانت مادية أو معنويّة. وهذه بعض الأمثلة (السحر، الجن، العفاريت، الزواج والمهر الغالي، الوفاة بسبب البحر، كي المرضى، الغوص، النوخذة، الفنر، الموقف من الغريب، المجدمي، الطوّاش، أم حمار، أم الخضر والليف، أبو درياه، استخدام الطبل والطارة، النهمة، الأزياء الشعبيّة للذكور والإناث، المقاهي الشعبيّة، حِب الماء، البيوت القديمة، السفينة).

7. كان زي الشخصيّات الشعبيّ مناسبا جدا لها من حيث موقعها الاجتماعي، والحرفي، والذي يتكرر في كل المسرحيّات، رجالا ونساء، وله مدلولاته الاعتبارية في معرفة كل شخصيّة.

8. من الناحية الفنّيّة يلاحظ اعتماد الكثير من عناصر الموروث الشعبيّ في أغلبه على الحضور الظاهري، والماديّ على خشبة المسرح، دون أدوار دراميّة واضحة له، فلو - مثلا- تم استبعاد بعض تلك العناصر من العرض المسرحيّ، فلن يكون له تأثير بالغ على العمل المسرحيّ.

9. برزت مجموعة من عناصر الموروث الشعبيّ كمحور رئيس في العروض المسرحيّة مثل: الجن والأشباح، مهنة الغوص على اللؤلؤ، المقهى الشعبيّ، الأسواق الشعبيّة، الأسطورة الشعبيّة، اللهجة العاميّة الشعبيّة، الفنون الشعبيّة.

10. عناوين الكثير من المسرحيّات كلها مستوحاة من عناصر الموروث الشعبيّ، ولها مدلولاتها الموضوعيّة المباشرة من حيث الأحداث، والشخصيّات، والأماكن الشعبيّة.

11. تمثل شخصيّات المسرحيّات غالبية الفئات الاجتماعيّة بمختلف طبقاتها ومكوناتها، ويمكن انعكاس تلك الشخصيّات في الواقع البحريْنيّ الاجتماعيّ اليوم من حيث تقسيماتها الطبقية، فهناك الطبقة الأرستقراطية، والبرجوازية، والعمالية الكادحة.

12. استخدمت اللهجة البحريْنيّة العاميّة في كل العروض المسرحيّة، حتى تكون ممثلة للموروث الشعبيّ، وما فيه من معجم لغوي كبير.

13. هناك اهتمام بالغ بالديكور الواقعي، من حيث وضعه على خشبة المسرح كثيمة تراثيّة تقليدية بارزة، فنرى مجسما لسفينة أو وضع مجسمات للبيوت والدكاكين

واعتمدت بعض المسرحيات على الاستفادة من الحكاية الشعبيّة في تحويرها؛ لتكون مفاهيم عميقة فلسفيّا وفنّيا، ولم تقتصر على الحكاية الشعبيّة لكونها حدثا مضى، بل تجعلها حدثا جاريا الآن، ومستمرا غدا، يطرح تساؤلاته، وهذا يتجلّى بوضوح في مسرحيّة (عندما صمت عبدالله الحكواتي)، ومسرحيّة (سرور)، ومسرحيّة(عذاري).

يحمل الصراع في عدد من المسرحيّات أبعادا إنسانية، ونفسيّة، واجتماعيّة في المواجهة بين القوى المتصارعة، فهناك الصراع بين (الصدق/الكذب) و(الحقيقة/الزيف) في مسرحيّة (عندما صمت عبدالله الحكواتي)، وهناك صراع بين (القلق/الطمأنينة) و(الحب/الكره) و(الحياة/الموت) في مسرحيّة (سرور)، وصراع آخر بين (الشعب/الحاكم) و(الأنانية/التضحية) كما هو في مسرحيّة (عذاري)، وكذلك صراع بين (الاعتدال/التطرف الطائفي) كما هو في مسرحيّة (خربشة).

برزت في بعض الأعمال الفانتازيا وذلك في مسرحيّة (عندما صمت عبدالله الحكواتي)، ومسرحيّة (عذاري) فهما رمزيتان قريبتان إلى الفانتازيا، كظهور الجنّ وتواجدهم على خشبة المسرح، وليس مجرد الحكي عنهم.

وفقا للنموذج الذي وضعه الباحث لمستويات توظيف الموروث الشعبيّ في المسرح، تندرج أغلب المسرحيّات في المستوى الثالث المتمثّل في التوظيف الاستلهامي الذي يلامس الواقع المعيش، إلا مسرحيّة (عندما صمت عبدالله الحكواتي) فقد وظّف الموروث الشعبيّ تجريبيا فنتازيا، من خلال الحكايات وربطها مع بعضها، وشكل العرض المسرحيّ (الحلقي) وخلو الخشبة من الديكورات وغيرها، هذه التجربة ساهمت في خلق منظر مسرحيّ متميز بعيدا عن العلبة الإيطالية المألوفة، وكذلك مسرحيّة (سرور) التي أخذت أبعادا رمزية، لتسقطها على الواقع، ولم تكتف بالاستلهام، وأيضا مسرحيّة (عذاري) التجريبيّة التي ابتعدت عن تاريخيتها، وتجاوزت الواقعيّة، والاستلهام.

استخدمت اللهجة البحريْنيّة العاميّة في العروض المسرحيّة، حتى تكون ممثلة للموروث الشعبيّ وما فيه من معجم لغوي كبير، إلا مسرحيّة (عندما صمت عبدالله الحكواتي) كانت اللهجة العاميّة هي الأغلب في الحكايات الست، إلا في حكايتين استخدمت اللغة العربيّة الفصحى، واستخدمت كذلك اللغة العربيّة الفصحى (شعرا) في مسرحيّة (عذاري).

قدمت مسرحيّة (عندما صمت عبدالله الحكواتي) في الهواء الطلق، في أحد البيوت القديمة في حي شعبيّ وسط المنامة، وبعيدا عن العلبة الإيطالية، حيث كانت خشبة المسرح وسط فناء ذلك البيت، وبشكل يتحلق الجمهور حولها ومن جهاتها الأربع.

وبالنسبة للنصوص المسرحية فهناك المعالجات الدرامية التقليدية ولكن حاضرا بدأت تتجه إلى الفانتازيا، وذلك بارتباطه المباشر بالجن والعفاريت وعالم ماوراء الطبيعة، ومعالجة المفاهيم والاعتقادات السائدة المتعلقة بالجن والعفاريت، وما يتخيله الناس من أفعالها خيرها وشرها، وتأثيرها عليهم، وأساليب العلاج من تلك الحالات التي يصاب بها الفرد.

وظّف الموروث الشعبيّ توظيفا واضحا، من خلال (الجن) في مسرحيّة (مشخص) أو التناص من حيث حكاية (عنترة بن شداد) في مسرحيّة (حد الموّال)، إضافة إلى استخدام بعض عناصر الموروث الشعبيّ في العادات والتقاليد، وبعض الفنون الشعبيّة، والمهن التي يمارسها أهل البحريْن قديما، وما فيها من ألفاظ وتعابير سائرة، وأمثلة شعبيّة.

يتجسّد الصراع بصورة مباشرة في العلاقة بين (الجن والإنس)، والصراع الداخلي (الوهم والحقيقة) وبين (المواجهة والاستسلام) أيضا في مسرحيّة (مشخص)، وصراع آخر بين (الحرية والعبودية) وبين (الاستبداد وحق تقرير المصير) في مسرحيّة (حد الموّال).

تطرح المسرحيات قضايا ذات أبعاد عميقة من حيث الموضوع، والصراعات القيمية، واستطاعت تلك الأعمال المسرحيّة التراثيّة أن تعكس قيما مجتمعية راقية وتدعو إليها، ويمكن إسقاط الصراعات بكل تفاصيلها على الواقع البحريْنيّ اليوم من خلال شخصيّات المسرحيّات التي لها انعكاساتها في مجتمع اليوم، وتمثل شخصيّات المسرحيّات غالبية الفئات الاجتماعيّة بمختلف طبقاتها ومكوناتها.

 

الهوامش:

1.      عباس حسن القصاب – توظيف الموروث الشعبي في المسرح البحريني – الشارقة – الهيئة العربية للمسرح – الأمانة العامة – 2020.

2.      فوزي العنتيل - الفلكلور ما هو: دراسات في التراث الشعبي -  القاهرة - مكتبة مدبولي -  ط 2 -  1987   ص 47 

3.      أدونيس - الثابت والمتحول - ج3 - صدمة الحداثة - بيروت-  دار العودة - 1983 – ط 4 - ص 313

4.      صلاح علي المدني -  كريم علي العريض -  من تراث البحرين الشعبي  -  بيروت -  مطبعة سيما - 1978.ص 28 

5.      هيثم الخواجة -  الأصالة - مجلة البحرين الثقافية -  ع81 -  البحرين -   قطاع الثقافة والتراث الوطني -  2015  -  ص 148

6.      قدم الكويتيون نفس المسرحيّة، وقد لقيت نجاحا باهرا حيث كان عملا كوميديا هادفا ورائعا.

7.      محمّد مبارك الصوري - مسرح الجزيرة والواقع الحي في مسيرة الحركة المسرحيّة في البحرين - البحريْن - وزارة الإعلام -  199ـ ص 198 

8.       نشرة مسرحيّة الصفقة -  (مسرح الريف) - البحرين -  هيئة الثقافة والآثار -   2016 -  ص 6

 

أعداد المجلة