فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
64

البارود والبنادق في احتفالات الفانطازيا في الجزائر

العدد 64 - عادات وتقاليد
البارود والبنادق  في احتفالات الفانطازيا في الجزائر
الجزائر

ارتبطت البندقية في المخيال الشعبي بقيم الفروسية والرجولة، وامتزجت بعادات الأجداد التي كانت تقدس الشجاعة والشرف والبطولة، حيث كانت هذه الصفات تسبغ على كل من كان يحمل هذا السلاح، وهو الأمر الذي جعل أجدادنا يصرون على امتلاكه بغض النظر عن إمكانياتهم المادية، فالبندقية كانت من الضرورات التي لا غنى عنها ولا يكاد يخلو منها بيت، وكانت تستعمل في طيف واسع من الاستخدامات منها الدفاع عن النفس والأملاك والحفاظ على العرض والشرف وكذلك الصيد وقتل الحيوانات البرية دون أن ننسى إحياء الحفلات والأعراس والوعدات.

كان امتلاك البنادق مرادفا للقوة والنفوذ والسلطة، ودليلا على الهيبة والنفوذ، ووسيلة لحماية القبيلة والعرش من غزو الأعداء المتربصين، وطريقة لتأمين الديار والدوار من الأخطار والهجومات، كما ارتبطت البنادق بالجهاد ضد المستعمر، حيث استخدمها المجاهدون الأبطال في مقارعة المحتلين ومقاتلة المغتصبين، وسطروا بالبارود أروع التضحيات وأجمل البطولات، مما أهل البندقية لتصبح رمزا وطنيا للحرية والاستشهاد والمقاومة، وكان امتلاك البندقية أمرا ضروريا لكل جزائري، فقد ذكر «دو دكير» (De Decker) في كتابه حول سيرة الأمير عبد القادر الجزائري أن جيش الأمير كان يمتلك عددا كبيرا من بنادق البارود أحصى منها 9070 بندقية1، لم يكتف الأمير بشراء الأسلحة والبنادق والبارود بل قام بإنشاء مصنع للمدافع والأسلحة وطاحونتين للبارود2، وهو الأمر الذي يبين الأهمية الكبرى التي كانت تحتلها البندقية لدى الجزائريين، ليس فقط في المنظومة العسكرية بل حتى في المنظومة الاجتماعية والثقافية.

وفي فترات السلم يتحول استخدام بنادق البارود من ميادين الحرب والقتال إلى ميادين الفرجة والاستعراض، لتساهم في تزيين الاحتفالات الاجتماعية والأفراح الشعبية بطلقات البارود ورائحته ودخانه، وتزيد من حماس المتفرجين وصيحاتهم، ذلك أن البارود من العناصر التي لا غنى عنها في احتفالات الفانطازيا لدرجة أنه يطلق عليها «لعب البارود»3، وهي استعراض احتفالي باستخدام الخيول والبنادق يحاكي فيه الفرسان معاركهم الحربية في تمثيليات احتفالية جميلة، ودون بارود تفقد الفانطازيا نكهتها، وتصبح بلا صوت ولا لون ولا رائحة، فالبارود يضيف للفانطازيا عناصر مرئية تتمثل في الدخان الممزوج بالغبار المتصاعد من البنادق، وعناصر صوتية ممثلة في دوي الطلقات المختلط بصيحات المتفرجين، وعناصر شمية متمثلة في رائحة البارود اللاذعة المختلطة برائحة الخيول والغبار، وهذه العناصر مجتمعة تعطي للبارود مكانة مركزية في الحصول على النشوة والمتعة في احتفالات الفانطازيا.

ومن المؤكد أن الفانطازيا قبل ظهور البارود كانت تلعب بالأسلحة الحربية التي كانت متوفرة آنذاك من سهام ورماح وسيوف وغيرها، وقد اشتهرت في العهد التركي لعبة تشبه الفانطازيا الحالية إلى حد كبير، وربما كانت أحد الأشكال القديمة لها ويطلق عليها عدة تسميات منها «لعبة الجريد» و«لعبة القصب» و«لعبة الميدان»، ونجدها في الكتابات الفرنسية تحت عدة مسميات منها Gérid, Djérid, DjiridMeidan, Jeu des cannes، وقد ورد مصطلح الجريد في القواميس والمعاجم الفرنسية للدلالة على «لعبة عربية يتم فيها رمي رمح خشبي من على ظهر الحصان»4، وهو ما يشير صراحة إلى أن الفانطازيا كانت تلعب بأدوات تحاكي الرماح والسيوف وإن لم تكن حادة كي لا تتسبب في إصابة اللاعبين مثل عصي القصب والجريد.

وفي مقال لنا حول تاريخ الفانطازيا عرضنا ما توصلنا إليه حول أقدم وصف مكتوب لألعاب الفانطازيا باستخدام البارود، والذي يعود إلى سنة 1787 بواسطة الفرنسي لويس دو شينييه (Louis de Chenier) في كتابه «بحوث تاريخية حول المور وتاريخ إمبراطورية المغرب»، وذلك في معرض حديثه عن الترفيه الوحيد الذي يمارسه السكان المحليون تحت اسم «لعب البارود» «Jouer à la poudre» في كل مناسباتهم وأفراحهم، ويصف «شينيي» لعب البارود قائلا:

«الترفيه الوحيد الذي نصادفه سواء في المدن حيث يتواجد الجنود أو في البادية هو ما يطلق عليه المور «لعب البارود»، وهو تمرين عسكري يحظى بحب الأهالي الذين يعتبرون جميعا بفضل تكوين حكومتهم جنودا أو في طريقهم إلى أن يصبحوا كذلك، لذا نجدهم جميعا يمتلكون الأسلحة والخيول، إنه من خلال إطلاق البارود يظهر الفرح في الاحتفالات العامة أو الخاصة»5، وهو الأمر الذي يبين تلك المكانة المهمة التي كان البارود يحظى بها لدى الجزائريين حيث كان مدار حياتهم في الحرب والسلم، ففي الحرب يستخدمونه للدفاع عن أنفسهم وفي السلم يستخدمونه للترفيه عنها.

البارود: مسحوق الرجولة والشرف

من المهم أن نعود إلى الأصول اللغوية والثقافية والحضارية للبارود وتسمياته واكتشافه وتكرر استخداماته وهو ما سيساعدنا على فهم تأثير هذه المادة الفريدة في الفانطازيا والكيفية التي غيرتها بها بحيث أصبح بالشكل الذي نعرفه اليوم.

يقول ابن الحشاء: «البرود؛ أصله ما يكتحل به لتبريد العين، ثم قيل لكل ما يكتحل به برود»6، ولكون البارود «المادة القابلة للانفجار» تشبه الكحل للعين أطلق العرب عليها البَرود، في حين أشارت بعض المعاجم إلى أن كلمة «بارود» ليست كلمة عربية أصيلة لكنها من أصل سرياني، ففي المعجم الفارسي «برهان قاطع» لمحمد حسين بن خلف التبريزي ورد أن كلمة بارود في اللغة السريانية تطلق على «الشورة»، وهي الكلمة الفارسية لنترات البوتاس7.

رغم أن البارود من أقدم المتفجرات التي اخترعها الانسان، إلا أن لا أحد يعرف على وجه الدقة متى وأين تم اختراعه، فهناك من نسبه للصينيين وهناك من نسبه للعرب وهناك من نسبه للأوروبيين، وغيرها من الآراء التي ذهب فيها الناس مذاهب شتى دون دليل يسند أقوالهم أو حجة تؤيد ما ذهبوا إليه، وإلى هذا يشير بطرس البستاني حين قال في موسوعته: «والحاصل أن مخترع البارود لم يزل مجهولا، والظاهر أن العلماء مختلفون فيه وفي زمن اختراعه، وقد تبين أنهم خلطوا اختراع البارود بأزمان معرفته التي امتدت من قطر إلى آخر»8.

وفي المراحل الأولى لاختراع المدافع أطلق لفظ البارود على القوة الدافعة التي تدفع المقذوفات باتجاه أهدافها، فقد أورد محمود أحمد درويش في «موسوعة رشيد» تعريفا للبارود جاء فيه: «أما البارود وهو المخلوط المفرقع وهو القوة الدافعة أو الدفع الذي من أجله سمي المدفع مدفعا أي آلة الدفع والبارود وهو الشحنة الدافعة للمقذوف ليصل إلى الهدف المرسوم»9.

وتذكر المصادر الإسبانية والعربية في الأندلس أن عرب الأندلس والمغرب عرفوا البارود واستعملوا المدافع في الحرب منذ أواخر القرن السابع للهجرة، وهو ما يؤكد أن العرب كان لهم إسهام معتبر في تطوير صناعته، وقد وضع العلامة العربي حسن نجم الدين الرماح في مؤلفه الشهير «كتاب الفروسية والمناصب الحربية» قواعد صناعة البارود من الكبريت وبراده الحديد والفحم وحصا البان والزرنيخ10 وقدم أكثر من مائة وصفة لتركيب البارود ولكل وصفة اسم خاص بها، دليلا على أن تلك الوصفات كانت معروفة وشائعة الاستعمال قبل تأليف الكتاب11.

ومع مرور السنين تطورت صناعة البارود وانتشر استعماله في كل العالم وظهرت منه أنواع كثيرة، منها البارود الذي يستخدم في الفانطازيا هو البارود الأسود الدخاني، وسمي هذا النوع من البارود «أسود» للونه الأسود الذي هو لون فحم الخشب الذي يدخل في خلطته، وسمي «دخانيا» لأن الغازات المنطلقة عند احتراقه تكون ممزوجة بدخان يتألف من المواد الصلبة الناتجة من بقايا الاحتراق، ويتألف البارود الأسود من خليط جيد المزج من نترات البوتاسيوم أو الصوديوم وفحم الخشب والكبريت بنسب تختلف بحسب الغاية المستخدم لها، يؤدي احتراق الخليط إلى تطاير كمية كبيرة من الدخان وتشكُّل حجم ضخم من الغاز المضغوط القادر على إطلاق المقذوفات.

البندقية: تسميات وتواريخ

ذهب العرب إلى أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، وقد اشتهرت البندقية في الجزائر بتسميات كثيرة باللهجات المحلية أهمها: المكحلة، الطوبجية، الكربينة، الفوشي، الطبنجة، القردية، المكفخ، المقرون والصنطرا، وغيرها من التسميات المتباينة في الانتشار وفي التوزيع الجغرافي وفي الأصول اللغوية، وسنحاول شرح هذه التسميات وفهم أصولها اللغوية وتتبع تطورها التاريخي.

لكن قبل ذلك سنعرج على تتبع مصطلح البندقية نفسها حيث ذهب اللغويون إلى أن البندقية أصلها «البُنْدُقَةُ وهي الواحدة من البُنْدُق، وهو ما يرمى به من كرات تتخذ من الطِّين»، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد حول حُكْمَ مَا يُصَادُ بِالبُنْدُقَةِ: «لا تَأْكُلْ مِنَ البُنْدُقَةِ إِلا مَا ذَكَّيْتَ»12، ثم أطلقت على «قناة جوفاء كَانُوا يرْمونَ بهَا البندق فِي صيد الطُّيور وَآلة حديد يقذف بهَا الرصاص (على التَّشْبِيه بِالأولَى)»13.

وقد حاول محمود أحمد درويش تتبع تطور استعمال مصطلح البندقية فأورد في «موسوعة رشيد» أن «(المدافع الخفيفة، أو الأسلحة النارية المحمولة) تُسمّى البُندُق الرّصاص. ومصطلح البندقية الذي استخدم في ما بعد مشتقٌ من البندق؛ والرصاصة بمعنى الطلقة من الرصاص. هنالك إمكانية أنْ يكون اسم مدينة البندقية، التي كانت تحتكر القسم الأكبر من تجارة الأسلحة في ذلك الحين، وراء اختيار مصطلح البندقية. والظاهر أنّ استخدام لفظة البندقية بدلا من عبارة بُندُق الرصاص لم يتأخر كثيرًا»14.

أما المكحلة فهي الأداة التي يوضع فيها الكحل، وفي الحديث سأل الرسول صلى الله عليه وسلم رجلا شهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما: «كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟ قال: نعم»، وقد أطلق على المدافع في العصر المملوكي «مكاحل»، فمثلا استخدم القلقشندي مصطلح مكاحل البارود بقوله: «مكاحل البارود وهي المدافع التي يرمي عنها بالنقط»15، ومن الواضح أنه تم استخدام الاسم فيما بعد للإشارة للبنادق باعتبارها نوعا من المدافع الخفيفة المحمولة.

أما الطوبجية فمشتقة من «الطوب» وهو لفظ تركي أصله «توب» ومعناه مدفع، والطوبجية هم رماة المدفعية16، قال المصطفى الخراط «ويطلق على المدفع في اللغة العثمانية «طوب»، أما المسؤول عن المدفع في العصر العثماني فيعرف بـ«طوبجي» والجمع «طوبجية»»17، وبما أن البندقية في الأصل مدفع محمول فقد شاع استخدام هذا الاسم للإشارة لها.

أما الكربينة فأصلها «قربينة» ولكن أبدلت القاف كافا لتسهيل النطق، وهو اسم «مشتق من كلمة باللغة الألمانية معناها البندقية ذات الحلقات»18 وأطلقت على البندقية القديمة ذات الفتيل، التي أصبحت شائعة بشكل متزايد خلال أواخر سنوات ما بعد عام 1400، وهي بندقية قصيرة ذات ماسورة أصغر من البندقية العادية لكن أطول من المسدس وكان يستخدمها الفرسان لأنها أخف وزنا وأسهل استعمالا، ولا نعرف كيف انتشر هذا الاسم في الجزائر وإن كان يطلق أكثر على نوع من البنادق التقليدية الذي يستخدم خاصة في الصحراء في رقصة البارود.

أما الفوشي فكلمة تستخدم أكثر في الشرق الجزائري وخاصة عند الشاوية في الأوراس وأصل هذه الكلمة هو تحريف للكلمة الفرنسية Lefaucheux والتي ترمز لماركة فرنسية لأسلحة الصيد لصاحبها Casimir Lefaucheux الذي كان أول من اخترع خرطوش الصيد الذي يحوي الكبسونة (القمع المحرض) والبارود والمقذوف في نفس الوقت19، وقد انتشرت هذه البنادق بكثرة عند الجزائريين في بداية القرن العشرين ومع الوقت تحول اسم ماركة السلاح ليدل على البندقية نفسها.

أما طَبَنْجَة فهي كلمة تركية tabanca وتشير إلى نوع من الأسلحة النارية القديمة وهي عبارة عن بندقية قصيرة الماسورة، وقد تطلق على المسدس أكثر.

وهناك تسميات أخرى ترتكز على الوصف وتعتمد على تحديد عدد الطلقات التي تستطيع البندقية إطلاقها، مثل «الزويجة» و«المقرون» للبندقية ذات الماسورتين المتجاورتين، و«الفرد» أو «الفردية» للبندقية ذات الماسورة الواحدة.

ولا بد هنا من الإشارة إلى تسميات كانت منتشرة في الماضي لكن تم التخلي عن استخدامها اليوم مثل تسمية «تفنكة»، فقد ورد في القاموس الفرنسي العربي (Dictionnaire Français-Arabe) الصادر سنة 1828 أي قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر عدة مرادفات للكلمة الفرنسية (Fusil) التي تعني سلاحا ناريا بمفهومنا اليوم ذكر منها: بندقية (ج بندق)، مكحلة (ج مكاحل)، بارودة (ج بارود)، تفنكة20، وكلمة تفنكة كلمة تركية (تُفَنْك) معناها بندقية لكن لم يعد لها استخدام اليوم أو على الأقل لم نسمعها في المناطق التي بحثنا فيها في القطر الجزائري، ومنها تسمية «المكفخ»، و أصله كفخَه بالعصا، إِذا ضربه، وَقَفَخَه أي صفعه، ورجل مِكْفَخٌ، وعمود مِكْفَخٌ، كلاهما كمِنْبَرٍ أَي قوي شديد21، أي أن المكفخ هو الآلة التي يضرب بها البارود، وهذه التسمية قليلة الاستخدام جدا.

تاريخ البندقية:

ومن المرجح أن اختراع البنادق جاء كتطور طبيعي لاختراع المدافع، فالبنادق في الأصل نوع من المدافع الخفيفة المحمولة التي يسهل نقلها واستخدامها في كل ظروف المعركة، فقد «كان من الضروري تصميم الأسلحة المحمولة يدويا، بحيث تتوافق مع بدن الإنسان، وشكل مصلحو المدافع عصاة خشبية يستطيع بها مطلقها أن يقوي القطعة ضد صدمة ارتدادها بعد إطلاقها. وفي بداية الأمر كان جندي المشاة يضع طرف المدفع على صدره. وبعد ذلك هيأ صناع المدافع قطعة الخشب المنحوتة المعروفة بالعصاة لكي تناسب عملية الإطلاق من فوق الكتف»22.

وذهب محمد محيي الدين محمود إلى أن أول ظهور للبندقية كان في الأندلس حيث أشار إلى أن «الظهور الأول للمدافع المحمولة باليد أو البنادق بمنطقة الأندلس والتي يمكن تعريفها بكونها أنبوبا معدنيا ذا قطر أقل من المستخدم بالمدافع، جرى تثبيته على حامل خشبي أو عصا خشبية، يقوم الرامي بإسنادها إلى صدره أو على كتفه عند الإطلاق. وقد تعددت و اختلفت الخامات المستخدمة كقذائف لتلك البنادق من الطين والحجارة، مرورا بالرصاص وصولا إلى الحديد»23.

ومن المهم أن نشير هنا إلى أن الاستعمال اللغوي لكلمة «مكحلة» في ذلك الوقت كان للدلالة على المدفع «وقد استعملت كلمة مدفع ومكحلة بمفهوم واحد في المراجع العربية حتى بعد استخدام البارود وذلك بالإضافة إلى مكحلة النفط وصواعق البارود وصواريخ البارود ومكاحل البارود وآلات البارود وهندام البارود، وقد أطلق على مكاحل البارود اسم البندق أو قاذفات النار» 24 .

بنادق الفانطازيا:

أما في الفانطازيا فقد جرت العادة والعرف في الجزائر أن يطلق اسم «مكحلة» (ج «مكاحل») على بنادق الصيد المستوردة التي يتم حشوها بخراطيش بها بارود خاص بالفانطازيا والأعراس يطلق عليه اسم «بارود عراسي»، بينما يطلق اسم «طوبجية» (ج طوابج) على بنادق محلية الصنع يتم صنعها باستخدام مواد أولية من الخشب والمواسير الحديدية ويتم حشوها بالبارود مباشرة، وهذه البنادق يصنعها حرفيون مهرة وتشكل جزءا أصيلا من الموروث الشعبي الذي يجب أن نحافظ عليه ونحيطه بالرعاية والعناية حتى لا يندثر ويختفي.

وسنحاول أن نعرض كل نوع وخصائصه وكيفية استخدامه وصيانته ونقاط قوته وضعفه لنضع القارئ في الصورة ونحيطه علما بكل ما يتعلق بالبنادق المستخدمة في الفانطازيا.

1) المكحلة

نقصد بالمكاحل هنا بنادق الصيد وهي نوع من البنادق يتميز بماسورة طويلة وسرير خشبي يوضع على الكتف وتستخدم البارود كمفجر يقوم بدفع الطلقات كي تتمكن من إصابة أهدافها، وقد انتشرت بندقية الصيد في أوروبا في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي وتم إدخال تحسينات كثيرة عليها حتى أصبحت تشبه بندقية الصيد اليوم.

تستخدم مع بنادق الصيد خراطيش تسمى محليا «كَرْتُوشْ» (تحريف للكلمة الفرنسية Cartoucheتحتوي على «الكبسونة» المتفجرة وشحنة بارود والذخيرة التي تكون في الغالب مجموعة من الرصاصات النحاسية تُسمَّى طلقات، ويتم تذخيرها بثلاثة أنواع من الذخيرة وهي:

الرْصَاصْ: رصاصة واحدة كبيرة تستخدم لصيد الطرائد الكبيرة مثل الخنازير

الرْبَاعِي: وهي رصاصات متوسطة الحجم قطرها حوالي 3مم وتستخدم لصيد الطرائد المتوسطة مثل الثعالب والذئاب.

الصَاشَم: وهو رصاصات صغيرة جدا لا يتجاوز قطرها 1 مم، ويستخدمها الصيادون لإصابة الطرائد الطائرة كالحمام والحجل أو الطرائد الصغيرة المتحركة مثل الأرانب.

وبنادق الصيد الحديثة تتكون من مواسير منفردة، ومزدوجة أو مواسير منفردة ذات مخزن للذخيرة تعمل آليًا وتحتوي على طلقات متعددة.

وتقسم هذه البنادق حسب عدد الطلقات إلى:

1. الفَرْدْ أو الفَرْدْية: وهي بندقية صيد بها ماسورة واحدة تطلق طلقة واحدة.

2. الـزْاوْزِيْ أو الـزويجـة أو المقـرون: بمعـنى الـزوجـي وهــي بندقية صيد بها ماسورتان متجاورتان وتطلق طلقتين.

3. الخْمَاسِي: وهي بندقية نصف أتوماتيكية بها ماسورة واحدة ومخزن للذخيرة يمكنه إطلاق خمس طلقات.

تستخدم هذه البنادق خراطيش خاصة بها يقاس عيار خراطيش بنادق الصيد بقياس قطر الماسورة الداخلي والعيارات المستخدمة عند الصيادين هي من عيار: 10، 12، 16.

تتكون الخرطوشة من:

قاعدة معدنية من المعدن تسمى المظروف تعطي الخرطوشة إسنادا قويا ومتانة وصلابة أثناء عملية إطلاق النار.

كبسونة القدح وهي القمح المحرض الذي يحوي الكبريت الذي يقدح النار من أجل بدء عملية انفجار البارود ويتم حشوها بمادة كيميائية حساسة جدا للطرق مثل أكسيد الرصاص ونترات الباريوم، ويتم تثبيت الكبسونة في منتصف القاعدة المعدنية (المظروف).

غلاف من الورق المقوى أو من البلاستيك يلتحم بالقاعدة المعدنية، ويستخدم كوعاء جامع لمكونات الشحنة.

حشو من الفلين أو اللباد أو ورق الجرائد يقوم بضغط الغاز الناتج عن انفجار البارود.

الذخيرة وقد تكون رصاصة كبيرة واحدة أو عدة رصاصات صغيرة وفي احتفالات الفانطازيا يتم الاستغناء عن الذخيرة وتستبدل بحشو إضافي عبارة عن ورق جرائد.

يقوم الفرسان بتجميع الخراطيش الفارغة وشرائها من عند الصيادين ليقوموا بإعادة تأهيلها لإنتاج خراطيش خاصة للفانطازيا باستخدام آلة خاصة من المعدن الصلب تتشكل من قاعدة مسطحة يخرج منها ثلاثة قضبان معدنية الأول رقيق ينتهي بنهاية مدببة مثل المسمار والثاني قضيب معدني أسطواني يساوي قطره قطر الخرطوشة وبين القضيبين قضيب ثالث بنفس الارتفاع وفي أعلاه يتمفصل مع ذراع متحركة في الاتجاهين، وعلى مسافة معينة في هذه الذراع يتشكل كرة معدنية إحدى جهتيها مسطحة والأخرى مقعرة. ويتم تحضير خرطوشة الفانطازيا باتباع الخطوات التالية:

1. يتم نزع الكبسونة المحترقة من المظروف حيث يتم وضع الخرطوشة مقلوبة نحو الأسفل على القضيب المعدني الحاد والذي يشبه المسمار ويتم إدخاله في فم الكبسونة بعدها يتم وضع الذراع متحركا فوق حواف المظروف والضغط بقوة حتى يتم فك الكبسونة من المظروف.

2. يتم تركيب كبسونة جديدة مكان القديمة باستخدام نفس الآلة حيث يتم وضع الخرطوشة مقلوبة على القضيب المعدني الأسطواني ثم يتم وضع الكبسونة الجديدة في الثقب الموجود في وسط المظروف ثم يتم الضغط عليها بواسطة الجهة المسطحة من الذراع المتحركة حتى تدخل الكبسونة في المظروف.

3. يتم وضع مقدار من البارود بواسطة مكيال خاص.

4. يتم وضع الفلين إن توفر أو ورق الجرائد كحشو.

5. يتم ضغط محتوى الخرطوشة جيدا باستخدام قضيب معدني أو خشبي بنفس قطر الخرطوشة.

2) الطوبجية:

رأينا في ما سبق أن كلمة «طوبجية» تركية الأصل كانت تستخدم للدلالة على رماة المدفعية، ثم أطلقت التسمية فيما بعد على البندقية التقليدية التي تتم صناعتها محليا، والتي تتميز بعدم استخدام الخراطيش بل يتم حشوها بالبارود مباشرة عبر الماسورة، كما تتميز هذه البنادق بالنقوش الجميلة والزخرفة البديعة التي تجعل منها قطعا فنية لا تقدر بثمن.

وبحسب الحرفيين الذين تحدثنا إليهم فإن طريقة صنع هذا النوع من البنادق تعود لعهد للأمير عبد القادر الذي قاد الشعب الجزائري في مواجهة الاحتلال الفرنسي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وعرف عنه اهتمامه بالصناعات الحربية لمواجهة الاستعمار الفرنسي، وقيامه بتأسيس مجموعة من الورشات المخصصة لهذا الغرض أهمها مصانع «مليانة» بولاية عين الدفلى و«تاقدمت» بولاية تيارت، ومراكز التخزين في بوغار بولاية المدية وثنية الحد بولاية تيسمسيلت، وذلك لصناعة البارود والسلاح اعتمادا على مواد أولية من الحديد والنحاس من جبال زكار والونشريس25، وقد أوردت الموسوعة الكاثوليكية أن مشاة جيش الأمير كان سلاحهم بندقية الطوبجية26، وهو ما يدل على أن صناعة الطوبجية كانت تتم محليا وبكميات معتبرة بحيث تسمح بتسليح العدد الكبير من المشاة في جيش الأمير.

تتميز صناعة الطوبجية بالبساطة إذ تتكون من ثلاثة أجزاء: جزء خشبي يسمى السرير أو الكعب، وجزء معدني يسمى الماسورة أو الجعبة وجزء ميكانيكي وهو جهاز الإطلاق أو الزناد.

أولا: الجزء الخشبي

وهو كعب البندقية ويعتبر بمثابة مقبض للسلاح الناري، يطلق عليه محليا اسم «السرير» أو«الكعب» لأن الماسورة تتكئ عليه وتلتحم به، وجهاز الإطلاق يثبت بداخله فهو بمثابة السرير الحاوي لبقية العناصر.

تتم صناعة «السرير» من خشب شجرة الزان الأوروبي الذي يتم استيراده من الخارج ويكلف المتر الواحد منه الضروري لصناعة سرير واحد مبلغ 2000دج (حوالي 10 دولار أمريكي).

يتم رسم شكل «السرير» باستخدام سرير قديم على لوحة خشبية طولها 1م وعرضها 20 سم.

بعدها يستخدم الحرفي آلات النجارة من أجل نحت القطعة الخشبية للحصول على سرير جديد متقن الصنع.

تتم حماية قاعدة «السرير» وهي نهايته الخلفية باستخدام قطعة من مادة البلاستيك تتميز بالمتانة والصلابة حيث يتم تثبيتها بواسطة برغيين وذلك لحماية السرير من التآكل أو الانكسار.

يبلغ طول السرير 95 سم وعرضه عند القاعدة 12سم.

ثانيا: الجزء المعدني

يطلق عليه محليا اسم «الجعبة» وهي عبارة عن أنبوب معدني أسطواني الشكل يخرج عبره البارود المتفجر، ويتم صنعها من الصلب الثقيل عيار 15X21 طولها 70 سم يتم دعمها من جهتها الخلفية بأنبوب أكبر من عيار 20X27 على مسافة 17 سم لمنح المتانة المطلوبة لتحمل انفجار البارود ومنع تشققه أو انفجاره، ثم تلحم به قطعة معدنية مسطحة من عيار 12 مم تستخدم لتثبيت الماسورة في السرير الخشبي من خلال ثقبين تمر عبرهما البراغي المثبتة.

وللماسورة فتحتان، وفتحة خلفية تسمى «قاع الجعبة» أي قاعدة الماسورة، تستقبل البارود والحشو المعد للإطلاق، وفتحة أمامية تسمى «فم الجعبة» أي فوهة الماسورة ومنها يخرج البارود المتفجر والنار والدخان.

ويلحم في نهاية الماسورة على جانبها الأيمن «غرفة الإطلاق» ويطلق عليها محليا اسم «الشينيلية» وهي عبارة عن حجرة معدنية صغيرة تستقبل الكبسونة وتتصل مع الماسورة عبر ثقب صغير، وبعد تركيب الكبسونة في «الشينيلية» يتم إغلاقها بواسطة برغي خاص يحمل «إبرة الإطلاق» وذلك حتى لا يتطاير البارود على الفارس فيحرقه في يديه أو أقله يوسخه بالبارود الأسود.

الجزء الثالث: جهاز الإطلاق

هو قلب السلاح الناري ويشتمل على الأجزاء التي تزود حجرة الإطلاق بالطلقة الضرورية لبدء انفجار البارود، وتتكون من:

الزناد: ويسمى كذلك «القراص» وهو الجزء الذي يضغط عليه عند إطلاق البارود، وله تأمين خاص لتجنب الضغط على الزناد بطريق الخطأ، وهو قطعة معدنية صغيرة يتم تحريكها بطريقة تمنع تحرك الزناد وبالتالي إطلاق البارود، ولا يقوم الفارس بإزالة التأمين إلا عندما ينطلق لإطلاق البارود.

المطرقة: وتسمى محليا «المارط» وهي تحريف للكلمة الفرنسية «Marteau» وهي قطعة معدنية ترتطم بالإبرة وتقوم بدفعها للداخل لترتطم بالكبسونة.

الابرة: وهي قطعة معدنية دقيقة على شكل مسمار صغير عند الضغط على الزناد فان المطرقة سوف تدفع الإبرة وهذه بدورها تضرب الكبسونة محدثة تفجيرا صغيرا داخلها والذي يقوم بدوره بتفجير البارود الموجود في الماسورة.

كيف تعمل الطوبجية:

لكل فرقة فانطازيا مختص في حشو البارود يطلق عليه اسم «العمار»، وهو شخص يلازم العلفة أينما حلت وارتحلت، له معرفة واسعة بالبارود وأنواعه وخصائصه، ويعرف جيدا بنادق فرسان العلفة وخصوصية كل بندقية وما يلزمها من بارود، يستخدم «العمار» إناء واسعا يسمى «السطل» يوضع فيه البارود ويبقى في عهدته ويحافظ عليه لأنه مادة خطيرة، وإناء صغير جدا لقياس حجم البارود يسمى «العيار»، وحين تتحضر العلفة لدخول الملعب يبدأ العمار عمله حيث يرد عليه فرسان العلفة واحدا تلو الآخر، فيأخذ الطوبجية ثم يقوم بملئها بكمية محسوبة ومحددة من البارود باستخدام «العيار»، ويراعي أن لا تكون هذه الكمية صغيرة فتكون الطلقة ضعيفة، ولا كبيرة فتؤدي لانفجار الطوبجية، يضع «العمار» البارود داخل ماسورة الطوبجية بعدها يضيف فوقها قطع ورق الجرائد أو أي شيء يمنع تفتت البارود ويتم ضغط الشحنة بواسطة عدة ضربات سريعة وقوية باستخدام عصا معدنية بطول الماسورة تسمى «المدك»، وهي كلمة مشتقة من «دك الشيء» أي ضربه حتى ينضغط، وهكذا يصبح البارود جاهزا للإطلاق ويقوم «العمار» بإعطائها للفارس الذي يقوم بتركيب الكبسونة، وحين يريد الفارس إطلاق البارود فإن كل ما عليه القيام به هو إزالة التأمين والضغط على الزناد.

عند الضغط على الزناد فان المطرقة سوف تتحرر وترتطم بقوة على الإبرة التي تقوم بضرب الكبسونة المثبتة في جانب الماسورة وهذا ما يؤدي إلى توليد شرارة نارية وحرارة عالية تنتقل عبر ثقب صغير إلى قاعدة الماسورة وتتسبب في اشتعال البارود واحتراقه، وهذا يؤدي إلى توليد كمية عالية من الغازات التي تؤدي بدورها إلى انطلاق الحشو من فوهة الماسورة مسببا انفجارا قويا مصحوبا بصوت رعدي ودخان كثيف.

إلا أن استخدام البارود الأسود في البنادق التقليدية كانت له سلبياته التي تقلل من فاعليته في المواجهات الحربية، فمن جهة كان الدخان الكثيف المتصاعد من المواسير يقوم بحجب الأهداف بعد عدة طلقات، ومن جهة ثانية كان البارود يتسبب في سد فوهة الماسورة لأن جزءا منه كان لا يخرج مع الغاز لكنه يترسب على الحواف الداخلية للماسورة وبعد عدة طلقات يصبح سمك الترسبات كبيرا بحيث يجعل شحن الماسورة بالبارود غير ممكن مما يحتم على المحارب أن يتوقف عن الإطلاق ويقوم بتنظيف الماسورة.

تتطلب صناعة طوبجية واحدة يومي عمل ومواد خام بحوالي 10 آلاف دينار (1 مليون سنتيم أي حوالي 50 دولار أمريكي) وتباع بسعر 40 ألف دج إلى 50 ألف دينار (أي 4 إلى 5 مليون سنتيم حوالي 200 إلى 250 دولار أمريكي)، وكما نرى فهي حرفة مربحة لا تتطلب استثمارات كبيرة لأن جلّ ما يحتاجه الحرفي هي آلة نجارة خشبية وآلة حدادة وبعض الملحقات، ويمكن تنظيم هذه الحرفة وتطويرها خاصة وأنها تشارف على الانقراض، ويبقى المشكل الرئيسي هو رفض السلطات المختصة منح تراخيص لفتح هذه الورشات بحجة الوضع الأمني الحساس للبلاد.

البندقية في الاستعراض الفانطازي:

تلعب الفانطازيا بطريقتين، فردية في الشرق وجماعية في الغرب، وعليه يختلف استخدام البندقية حسب طريقة اللعب، ففي الغرب الجزائري تمارس الفانطازيا بطريقة جماعية تسمى في التعبير المحلي لعب «العلفة» أو «السربة» حيث تضم اللعبة عددا من الفرسان أقله سبعة فرسان وأكثره واحد وعشرون فارسا، ولكل علفة أو فرقة «قائد» يتم اختياره لفروسيته ومهارته وتمرسه في الفروسية بالإضافة إلى سنّه وقدمه في ممارسة الفانطازيا تناط به مهمة قيادة فرقته وتوجيهها وتنسيق تحركاتها، وعادة يكون للعلفة «شيخ» أو «لغاي» أو «قوال» مهمته قول الشعر والغناء والتغني بمفاخر القبيلة والوطن قبل بدء الاستعراض، ويتم إجراء الاستعراض في ميدان خاص يطلق عليه اسم «الملعب «أو «المشوار».

و قبل أداء هذه الجولة الاستعراضية تقوم الفرقة بأداء التحية أمام المتفرجين حيث يستعرض الفرسان أمامهم وهم في كامل زينتهم وحليهم وكأنهم في عرض أزياء تسعى فيه كل فرقة لكي تكون الأجمل والأبهى، ويدخل الفرسان إلى الملعب وهم يمسكون لجام الخيول باليد اليمنى ويمسكون البندقية باليد اليسرى ثم يتقدمون في وسط الميدان وعندما يصلون إلى نهاية الملعب يقفون فوق أحصنتهم ويرفعون البنادق عاليا في حركة استعراضية جميلة تعرض البنادق للمتفرجين الذين يقابلونها بصيحات الاستحسان والدعاء بالنجاح في المشوار، بعدها يعود الفرسان أدراجهم إلى بداية الملعب ثم يؤدون وهم في شكلهم الجماعي المنتظم خطا واحدا نصف دورة ويقدمون جيادهم للانطلاق ويبقى قائد الفرقة في الوسط يراقب التحضيرات وعندما يرى أن الفرسان جاهزون يأمر بالإنطلاق وبعد قطع مسافة 50 م تقريبا حيث يتراص الفرسان الواحد إلى جنب الآخر، وعندما يرى القائد أن الترتيب جيد يصدر أمره الثاني فيقوم الفرسان بزيادة الركض وهم متراصون أكثر من المرة الأولى أي المرفق للمرفق والكتف للكتف كرجل واحد متكئين على الركاب وهم يصوبون بنادقهم إلى الأمام وعند الأمر الثالث يقومون في نفس الوقت بتفريغ البارود في طلقة واحدة عظيمة مخلفين وراءهم سحابة من البارود والدخان ثم بعدها فورا يوقفون خيولهم ويغادرون الميدان تاركين المجال لفرقة الفانطازيا الموالية كي تؤدي مشوارها.

أما الفانطازيا الفردية التي تتم ممارستها في شرق البلاد وجنوبها الشرقي وجزء كبير من مناطق الوسط، فتتميز بعدم وجود فرقة إنما يلعب كل فارس لوحده فقط وأحيانا يرافقه فارس آخر، وفي أحيان نادرة فارسان، ولا وجود فيها لعلفة ولا لقائد العلفة ولا لمداح، وتتميز بأن الميدان فيها أطول من ميدان الفانطازيا الجماعية.

تحاكي الفانطازيا الفردية شخصية الفارس المحارب المقدام والشجاع الذي لا يخاف العدو ولا يهاب الموت، إذ ينطلق بسرعة خاطفة نحو العدوّ صائحا مكبّرا، مستخدما بندقيته أولا لإصابته من بعيد، وبعد نفاذ الذخيرة يستلّ سيفه ويثخن به العدو قتلا وجرحا، تماما كما كان عليه الحال في معارك الأجداد، بغض النظر عن نهايته التي عادة تكون نيل الشهادة والموت بشرف، لذا يطلقون على هذا النوع من الفانطازيا الطريقة «الانتحارية» أي كأنّ الفارس يعرف مسبقا أنه سيموت في المعركة لكنه يقدم مقبلا غير مدبر، وغير مبال بما يصيبه في سبيل الله والوطن.

في هذا النوع من الفانطازيا عادة ما يستخدم الفارس مع البندقية سيفا، وفي حالات أخرى يلعب الفارس بعدة بنادق يتراوح عددها بين بندقيتين وخمس بنادق، وبينما يجري حصانه يقوم باستلال البنادق وإطلاق البارود بسرعة ومهارة، ونورد هنا شهادة الفرنسي لويس دو شينييه عن هذا النوع من اللعب في القرن الثامن عشر حيث يقول أنه شاهد «أحد الفرسان الذي يحمل ثلاث بنادق الأولى في يده والثانية أمامه على السرج والثالثة فوق رأسه حيث يقوم بإطلاق البارود من البندقية الأولى في بداية الجولة ثم يناولها لأحد الفرسان الذي يجري بجانبه بعدها يطلق البارود من البندقية الثانية ثم يناولها لنفس الفارس ثم يطلق البارود من البندقية الثالثة قبل نهاية المسار المخصص للعب وكل ذلك في وقت قصير جدا مما يبين المهارة العالية التي وصل إليها فرسان ذلك الزمان»27، ولا تزال هذه التقاليد البطولية تلعب بنفس الطريقة في يومنا هذا، حيث أن الفارس وبعد أن يقوم بجولة تحية ويستعرض جمال فرسه وسرجه ولباسه التقليدي، يتهادى بحصانه شيئا فشيئا حتى يصل إلى بداية الميدان التي تكون عادة بعيدة نوعا ما عن الجمهور، ثم يقوم بالتفاف خاطف وينطلق بسرعة كبيرة متخذا وضعية الانحناء فوق فرسه بطريقة أفقية حتى يكاد يلتصق بها، ركبتاه بارزتان إلى الأمام وكعاب رجليه للخلف، ويمسك ببندقيته موجها فوهتها نحو الأرض، وبعد اجتياز ثلث المسافة يكون قد أصبح ضمن نطاق الجمهور، يعدل وضعيته وينتصب واقفا على الركاب، مستندا إلى أعلى قدح السرج، رافعا بندقيته نحو الأعلى، ممسكا لها بيديه الاثنتين، كأنه يصوب على هدف ما، ثم يقوم بإطلاق البارود من البندقية في طلقتين متتابعتين، ثم يرفع البندقية نحو الأعلى بيد ويقوم باستلال السيف بيده الأخرى ملوحا به في الهواء، بعدها يقاطع بين البندقية والسيف نحو الأعلى ليشكل مثلثا، في هذا الوقت يكون الحصان قد بدأ يخفف سرعته ويقوم الفارس بكبح جماحه عبر «السراع» ليتوقف عند نهاية الميدان.

وأحيانا يلعب «الحربي» بواسطة فارسين، يفضل أن يكونا بنفس الحجم، حيث يقومان بنفس الحركات بطريقة متزامنة وتناسق كبير، فينطلقان متلاصقين الرأس عند الرأس وذراع كل منهما فوق كتف الآخر لا يتفرقان إلا عندما يصلان أمام الجمهور يطلقان البارود ثم يشكلان كل ببندقيته وسيفه زاوية مستقيمة تامة .

خلاصة:

يمكننا أن نؤكد بقناعة كبيرة أن إدخال البنادق إلى استعراضات الفانطازيا أدى إلى تطور كبير في الأشكال الاحتفالية والممارسات الاستعراضية لهذا التراث البديع بما قدمته تلك البنادق من إضافات على مستوى الألوان والروائح والمناظر، حتى أصبح البارود المنطلق من فوهات البنادق يشكل نكهة الاحتفالات ولونها وطعمها ورائحتها، وأصبح الدخان المتصاعد من فوهات البنادق الممتزج بالأتربة المتطايرة من سنابك الخيول يشكل لوحة فنية جمالية تمتع الناظرين، وأصبح دوي الطلقات الهادرة الممتزج بصيحات المتفرجين المتحمسين أغنية سمفونية تنشر الفرح والحماس لدى الجمهور، وأصبحت رائحة البارود اللاذعة الممزوجة بروائح الخيول والغبار مسكا يعطر أجواء الاحتفالات وينشر عبير الفرحة والحماسة في الأجواء، ولا يمكننا اليوم أن نتخيل بحال من الأحوال فانطازيا دون بارود فذلك أمر مستحيل لأنها ستكون بلا لون ولا صوت ولارائحة ولا طعم، دون أن ننسى المكانة الرمزية التي تحتلها البندقية والبارود في المخيال الاجتماعي والثقافي للجزائريين كرمز للشجاعة والرجولة ودليل على القوة والبسالة.

 

الهوامش:

1.    C. De Decker. Biographie d’Abdelkader, Ed. J. E. Buschmann, 1846, p 105.

2.    Idem. p 86.

3.    Auguste Margueritte. Chasses de l'Algérie et notes sur les Arabes du sud, 2ème ed., Furne, Jouvet et Cie., 1869, p. 276.

4.    مبروك بوطقوقة. "من الجريد إلى لعب البارود: صفحات من تاريخ الفانطازيا في الكتابات الفرنسية"، مجلة الواحات للبحوث والدراسات، جامعة غرداية، مجلد 08، عدد 02، ديسمبر 2015، ص 926.

5.    نفس المرجع، ص 925.

6.    أبوبكر الخوارزمي، مفيد العلوم ومبيد الهموم، المكتبة العصرية بيروت،1418 ه، ص18.

7.    محمد حسين بن خلف التبريزي، تحقيق محمد معين، معجم رهان قاطع، طهران، 1951، كلمة: شورة، ص1308.

8.      إحسان هندي. "العرب واختراع البارود"، مجلة التراث العربي، دمشق، عدد 65، أكتوبر  1996، ص 96.

9.    محمود أحمد درويش. موسوعة رشيد، التاريخ والاستحكامات الحربية، ج1، مؤسسة الأمة للاستثمارات الثقافية، ص 487.

10.    نفس المرجع، ص 487.

11.    لطف الله قاري. "الكتب التراثية في الصناعات الكيميائية"، الندوة العالمية التاسعة لتاريخ العلوم عند العرب، جامعة دمشق، 2008، ص 351.

12.    أحمد بن حنبل. مسند الإمام أحمد، تح: شعيب الأرنؤوط وآخرين، دار الرسالة، بيروت، 1995م، رقم الحديث: 19392

13.    أحمد مختار عمر. معجم اللغة العربية المعاصرة، عالم الكتب، القاهرة، 2008، مادة بندقية.

14.    محمود أحمد درويش. مرجع سابق، ص 487

15.    المصطفى محمد الخراط، "فن المدفعیة"، جریدة أخبار الأدب، 18 یونیو 2016.

16.    مصطفى عبد الكريم الخطيب، معجم المصطلحات والألقاب التاريخية، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1996، ص 309.

17.    المصطفى محمد الخراط، مرجع سابق.

18.    جاك كيلي .ترجمة: صلاح عويس، البارود/ تاريخ المادة المتفجِّرة التي غيَّرت العالم، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2016، ص 84.

19.    Jean Huon; Jean-Claude Schlinger. Du Lefaucheux au Famas: Panorama des armes réglementaires françaises de 1858 a nos jours, Ed. Barnett, France, 1994, p 8.

20.    Ellious Bocthor , Armand Pierre Caussin de Perceval. Dictionnaire français-arabe, 1828, Firmin Didot père et fils, Paris, le mot (مكفخ).

21.     محمد بن محمد بن عبد الرزاق المرتضى الزبيدي. تاج العروس من جواهر القاموس، دار الهداية، مادة كفخ.

22.    جاك كيلي، مرجع سابق، ص 83.

23.    محمد محي الدين محمود. أثر النهضة الصناعیة الأندلسیة في تغیر وجه الحضارة الغربیة: تطور صناعة الأسلحة، مجلة العمارة والفنون والعلوم الإنسانیة، مجلد 09 عدد 01، ص ص 582-596.

24.    محمود درويش، مرجع سابق، ص 487.

25.    C. De Decker. Op cit, p 86.

26.    Jean-Baptiste Glaire & autres. Encyclopédie catholique, ed. Parent-Desbarres, Paris, 1848, p16.

27.    Louis de Chenier, Recherches historiques sur les maures, et histoire de l’empire de maroc, Chez l’auteur, Paris, Vol 3, 1787, p 204.

 

 

المراجع العربية

28.    ابن حنبل، أحمد. مسند الإمام أحمد، تح: شعيب الأرنؤوط وآخرين، دار الرسالة، بيروت، 1995م، رقم الحديث: 19392

29.    التبريزي، محمد حسين بن خلف. تحقيق محمد معين، معجم رهان قاطع، طهران، 1951، كلمة: شورة، ص1308.

30.    الخراط، المصطفى محمد، «فن المدفعیة»، جریدة أخبار الأدب، 18 یونیو 2016.

31.    الخطيب، مصطفى عبد الكريم. معجم المصطلحات والألقاب التاريخية، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1996.

32.    الزبيدي، محمد بن محمد بن عبد الرزاق المرتضى. تاج العروس من جواهر القاموس، دار الهداية، مادة كفخ.

33.    السجستاني، أبو داود. سنن أبي داود، تح: محمَّد ناصر الدِّين الألبانيّ، دار المعارف، الرياض، 1424 ه، رقم الحديث: 4428

34.    الفيصل، خالد بن عبد العزيز. السيوف والدروع، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، 2002.

35.    بوطقوقة، مبروك. «من الجريد إلى لعب البارود: صفحات من تاريخ الفانطازيا في الكتابات الفرنسية»، مجلة الواحات للبحوث والدراسات، جامعة غرداية، مجلد 08، عدد 02، ديسمبر 2015، ص ص 923-936.

36.    جاك كيلي .ترجمة: صلاح عويس، البارود/ تاريخ المادة المتفجِّرة التي غيَّرت العالم، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2016.

37.    درويش، محمود أحمد. موسوعة رشيد، التاريخ والاستحكامات الحربية، ج1، مؤسسة الأمة للاستثمارات الثقافية، ص 487.

38.    عمر، أحمد مختار. معجم اللغة العربية المعاصرة، عالم الكتب، القاهرة، 2008، مادة بندقية.

39.    قاري، لطف الله. «الكتب التراثية في الصناعات الكيميائية»، الندوة العالمية التاسعة لتاريخ العلوم عند العرب، جامعة دمشق، 2008، ص ص 337-385

40.    محمود، محمد محي الدين. «أثر النهضة الصناعیة الأندلسیة فى تغیر وجه الحضارة الغربیة: تطور صناعة الأسلحة»، مجلة العمارة والفنون والعلوم الإنسانیة، مجلد 09 عدد 01، ص ص 582-596.

41.    هندي، حسان. «العرب واختراع البارود»، مجلة التراث العربي، دمشق، عدد 65، أكتوبر  1996، ص ص 94-108.

 

 

المراجع الأجنبية

1.    Bocthor, Ellious & Armand Pierre Caussin de Perceval. Dictionnaire français-arabe, Firmin Didot père et fils, Paris, 1828. 

2.    C. De Decker. Biographie d’Abdelkader, Ed. J. E. Buschmann, 1846.

3.    De Chenier, Louis, Recherches historiques sur les maures, et histoire de l’empire de maroc, Chez l’auteur, Paris, Vol 3, 1787.

4.    Glaire, Jean-Baptiste & autres. Encyclopédie catholique, ed. Parent-Desbarres, Paris, 1848.

5.    Huon Jean, Schlinger Jean-Claude. Du Lefaucheux au Famas: Panorama des armes réglementaires françaises de 1858 a nos jours, Ed. Barnett, France, 1994.

6.    Margueritte, Auguste. Chasses de l’Algérie et notes sur les Arabes du sud, 2ème ed., Furne, Jouvet et Cie., 1869.

 

 

الصور :

1.    صور مولدة باستخدام الذكاء الاصطناعي .

2.    https://fusionfirearms.com/media/magefan_blog/Screenshot_2023-05-11_162330.webp

3.    Mus52 - عمل شخصي وCC BY-SA 4.0 وhttps://commons.wikimedia.org/w/index.php?curid=48020642

4.    https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/1/1e/%D8%A3%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%B2%D9%8A%D8%A7_%D9%88_%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A9_%D9%85%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82_%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D9%8A_9.jpg

 

أعداد المجلة