فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
3

طرافة منهج في دراسة الأغنية الشعبية والشعر الملحون: نموذج كتاب «الأغاني التونسية» للصادق الرّزقي

العدد 63 - أدب شعبي
 طرافة منهج في دراسة الأغنية الشعبية والشعر الملحون:  نموذج كتاب «الأغاني التونسية» للصادق الرّزقي
كاتب من تونس

لعلّه صار من الضروري اليوم، أن يطّلع القارئ على نماذج من كتابات شيوخ الصحافة والأدب من الزيتونيين الذين ظهروا في عصر النهضة والإصلاح (القرن التاسع عشر وبدء القرن العشرين) حول الفنون وجماليات الإبداع، ولا سيّما في مجال فنّ الموسيقى والغناء وما يرتبط بهما من تقاليد أداء متقن صفوي أو شعبي تلقائي متنوّع أشكال الغناء والعزف وصيغ التعبير، تلك الصيغ التي طبعت أساليب أداء الغناء الشعبي والحضري، وظهر منها ما يرتبط وثيق الارتباط بفنون السماع الصوفي والمديح النبوي، أو يتداخل بمجمل أشكال الإنشاد الديني للقصائد والابتهالات في المناسبات الدينية والاحتفاليات الروحية المقدّسة التي بدورها يؤدّى فيها ما هو شعبي فلكلوري، ارتبط أداؤه باستعمال آلات التوقيع والنفخ المتداولة شعبيّا وفيها ما هو حضري متقن ارتبط بالموسيقى الآلية الوترية.

ولعلّه انطلاقا من تلك الثنائية التي يكاد يُجمع عليها مفكّرو الإسلام وعلماء الحضارة العربية وأهل العلم بصنعة الموسيقى وأصول الأنغام من الأندلسيين والمغاربة خاصّة، حول تقسيم صناعة الموسيقى والغناء إلى: «مالوف الجدّ» و«مالوف الهزل»، نجد أنّ أصحاب النزعة الموسوعية الثقافية من شيوخ علم الدّين، يرون أنّه من الضروري أن يكون هناك اهتمام بدراسة أشكال الموسيقى والغناء، والبحث في جنس ما يكون من الشعر الملحون، سواء كانت الدّراسة من منطلق نزعة ذوقية أدبية عامّة، تحاول أن تحدّد الخصائص الفنيّة لأساليب أداء أشكال الغناء والإنشاد وتصفها وصفا عامّا، أو تعمل على تحليلها وفق نظرة تسعى أن تكون علمية توظّف معارف متراكمة ومختلفة المجالات، تحدوها في ذلك محاولة بيان أهمّ مميّزات أشكال الغناء والإنشاد ووصف أهم خصائصها، عبر تحديد المفاهيم والأنماط الفنيّة والأساليب التقنية. ويكون ذلك سواء من جهة أوزان الشعر وبحوره ومعجمه وأغراضه ومعانيه، أو من ناحية خصائص أنواع النغمات ومميّزات المقامات الموسيقية التي يصطلح عليه في تونس وبلاد المغارب بـ «الطبوع». وتشمل تلك المعرفة أيضا؛ دراسة أشكال الأوزان الموسيقية والإيقاعات المستعملة ونماذج تأليف الألحان ومظاهر جماليات صنعتها. ومن ثمّ تمتد مثل هذه البحوث لتشمل دراسة أثر الموسيقى وأداء الأنغام الموسيقية في النفوس والذوات البشرية؛ وهو ما يُصطلح عليه في كتابات القدامى بـ: «أثر الطبوع في الطباع البشرية».

ضمن هذا السياق، وفيما له صلة بالاهتمام بفنون الغناء والموسيقى بحثا ودراسة بالبلاد التونسية، ذاع صيت عدد مهمّ من الكتب المؤلفة، وضعها شيوخ وعلماء دين درسوا بجامع الزيتونة؛ علوم الدّين وعلوم اللغة والأدب والتاريخ، فامتدّ اهتمامهم إلى البحث في فنون الموسيقى والغناء. من ذلك على سبيل المثال: كتاب «متعة الأسماع في علم السماع»، لأحمد التيفاشي القفصي (651ه)، وهو فقيه وعالم معادن، عرف باهتمامه الواسع بالفنون، لاسيّما منها الموسيقى والسماع (الإنشاد المتقن، المديح، الذكر، الغناء)، حيث تضمّن الكتاب المذكور في بعض فصوله دراسات لأصول الموسيقى والغناء، من جهة أبعادهما النفسية والاجتماعية، ومن ناحية الصلة بالقيم والأخلاق وأنظمة الحياة والاجتماع؛ وهو ما ورد ضمن فصل: «في طرق الناس في الغناء على اختلاف طبقاتهم» وضمن فصل: «في شرف السماع على الإطلاق وفضيلة الألحان وما تؤثره من بدائع الآثار في جسد الإنسان»1. وفي هذا السياق كذلك جاءت، مقاربة ابن خلدون (تـ808ه)، لترصد بدقّة أثر طبع البداوة العربية، في الغناء والموسيقى، وهو ما يظهر في تناسب أجزاء اللحن الغنائي2، عند اتّخاذه جمالية محدّدة المعالم، صوتا وتوقيعا ونسبا نغمية.

وفي مرحلة تاريخية متقدّمة نجد الشيخ علي النوري (تـ 1706م)، قد وضع كتابا جاء بمثابة رسالة في «حكم السماع»، طرق فيها أثر الموسيقى في النفوس وعلاقتها بحركة الجسد، وحكم استعمال آلة الدّف في التوقيع عند أداء السماع، ومن ثمّ نظر في اختلاف الفقهاء وعلماء الشريعة في ذلك3. وفي القرن التاسع عشر طرح للبحث الشيخ محمود السيالة وهو عالم فقه وحكيم وصوفي4، ضمن كتابه: «قانون الأصفياء في معرفة أنغام الأذكياء»، مسألة أصول الموسيقى وتأثير أنغامها وإيقاعاتها في الإنسان، وبحث في صلة النغم بطبع النفس والإنسان وبعمل الذهن من جهة الإدراك والتذوّق الوجداني، أيضا بسط القول في مسألة حكم سماع آلة العود وفنون صناعتها، وتطرّق إلى فوائد السماع، وإلى ما يتعلّق بالأنغام من مسائل خلقية، كالتحسين والتقبيح، والموقف من استعمال سائر آلات الموسيقى وصناعتها وأداء ألحانها بين الشعبي المتداول والصفوي العالم الذي ارتبط بالأنغام الأندلسية المتقنة. وفي سياق ذلك أيضا ظهر اهتمام المصلح والمؤرّخ والعالم الزيتوني أحمد ابن أبي الضياف في كتابه، «إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان»، بأشكال من الموسيقى الشعبية والغناء والرقص، تصاحب مواكب احتفالات بايات (حكامها) تونس زمن الحكم العثماني (1705م – 1957م)، والتي يركّز فيها استعمال آلات النقر الطبل خاصّة، وآلات النفخ؛ المزامير خاصّة.

وفي أواخر القرن التاسع عشر حاول محمّد بن عثمان الحشائشي (تـ 1912م) رصد خصائص تمظهر أشكال الغناء الشعبي والحضري وطرائق الإنشاد الديني والرّوحي الصوفي المنتشرة بالبلاد التونسية في حياة المجتمع5، متّخذا أسلوبا في الدراسة والتوصيف، يسعى إلى إبراز مميّزات الغناء وأشكال الإنشاد الصوفي الديني، ناظرا في خصائص العلاقة التي ربطت تلك الفنون بالعادات والتقاليد الاجتماعية والدينية الرّوحية، التي ظهرت في المجتمع التونسي قديما وحديثا. وفي فجر القرن العشرين عقد العلّامة والمؤرّخ حسن حسني عبد الوهاب (تـ 1968)، فصلا مطوّلا، بدا مهمّا ضمّنه كتابه «ورقات عن الحضارة العربية بإفريقيّة»، خصّصه لدراسة الموسيقى وأشكال الغناء والإنشاد التي انتشرت في البلاد التونسية، فجاء بحثه في شكل مقاربة تاريخية ترصد تطوّر فن الغناء وخصائص ما يصحبه من ألحان6، كذلك طرق بالبحث ما اختصّ به أهل القيروان من فنون وغناء وإنشاد ديني روحي، في كتابه «بساط العقيق في حضارة القيروان وشاعرها ابن رشيق».

وهكذا ضمن هذا السياق، في الثلث الأوّل من القرن العشرين، ألّف الصادق الرزقي كتابه «الأغاني التونسية»، وقد شجّعه على ذلك المستشرق الفرنسي ذو الأصول الألمانية البارون رودلف ديرلنجي، (B. Rodolphe d’Erlanger)، بعد أن اختار الاستقرار بضاحية سيدي بوسعيد بتونس، وبدا يعدّ من خلال تعاون مع كبار الموسيقيين والباحثين في الموسيقى والغناء بمصر والعالم العربي، وبرعاية من فؤاد الأوّل ملك مصر في الإعداد للمؤتمر الأوّل للموسيقى العربية الذي انعقد بالقاهرة، عام 1932م.

كتاب «الأغاني والعادات التونسيّة» للصادق الرّزقي:

لقد رأى هذا المستشرق الذي عُرف بولع كبير بالموسيقى والرسم - وهو الذي أنجز عديد اللوحات الزيتية ضمن اتّجاه الواقعية الكلاسيكية وتفاعل مع حركة الاستشراق الفنّي - ضرورة إعداد تأليف موسوعي عن الموسيقى العربية بصفة جامعة إجمالية7. ورأى، في السياق نفسه، أن ينجز باحث تونسي كتابا يكون عبارة عن دراسة متعمّقة دقيقة، توثّق لأهمّ خصائص الغناء والموسيقى في تونس وتصف أبرز مميّزاتها، فطلب لذلك الصحفي والأديب الباحث الصادق الرّزقي، فوضع كتابه الذائع الصيت: «الأغاني التونسية»، وهو عين الأثر الذي عنون له في أصل مخطوط كتابته بـ: «الأغاني والعادات التونسية»، لكنّه نُشر وتمّ تداوله لاحقا على نحو؛ «الأغاني التونسيّة». وقد توزّعت مادّته المعرفية على رصد ثلاثة اتّجاهات طبعت خصائص فنون الغناء والإنشاد؛ التقليدي الحضري والشعبي الملحون، وسائر ما انتشر في البلاد التونسية، من مميّزات أنواع تلك اللحون الموسيقية وأشكال الإنشاد المتداولة في تونس، مع رصد أهمّ مظاهر تأثّرها بما انتشر في المشرق أو الأندلس والمغرب، سواء كان أصلا لما ظهر في تونس، أو أثّر في صياغة المضمون وأسلوب الأداء. وهذه الاتّجاهات الثلاثة، بحسب وصف الصادق الرّزقي، وذكره للآلات المستعملة فيها، وردت كالآتي:

- اتّجاه الموسيقى العربية التقليدية المتقنة التي تستعمل فيها آلات الوتر وتؤدى ضمنها الموشحات والأزجال ومقاطع من قصائد فصيحة، حيث يختلط فيها الفصيح بالدارج، ضمن ما يصطلح عليه بـ «المالوف»، وهو شكل من الغناء أندلسي في أصوله الأولى، يلتقي في أدائه شعر القصيد العمودي مع الموشح والزجل، أتى به إلى بلاد المغارب المهاجرون وتنوّعت طرق أدائه، من جهة بنية الإيقاع وأسلوب النغم، ضمن ما صار يصطلح عليه بـ «النوبة» بوصفها شكلا ناظما لبنية اللحن، وقد صارت النوبة قالبا فنيّا جامعا لأشكال وأنواع تختلف في تركيبة بنيتها اللحنية، نغما وإيقاعا، تدرّجا من البطيء في مستوى حركة التوقيع إلى الدّارج إلى الخفيف، فالسريع، فالأختام، وهي أكثر سرعة، ذلك أسلوب أداء النوبة الأندلسية، المصطلح عليها بالمالوف (تونس) أو الغرناطي (الجزائر) أو موسيقى الآلة (المغرب)؛ في سائر بلاد المغرب العربي. وقد توسّع في بيان خصائص هذا اللون من الغناء ودراسة أصوله التاريخية والفنيّة الصادق الرزقي ضمن الفصل الذي وسمه بـ: «المالوف والموسيقى التونسية».

- اتّجاه الموسيقى الشعبية التقليدية الذي ينقسم بدوره إلى غناء بدوي يشمل أداء الشعر الملحون وغناء شعبي حضري يعتمد بدوره على الأزجال والأشعار الشعبية، لكن الاختلاف والتنوّع يكون في أسلوب الأداء وضروب الإيقاعات والنغمات والآلات المستعملة، إذ لئن يمتاز الغناء الشعبي (الفلكور) عادة باعتماد الإيقاعات السريعة، إلّا أنّ نظام الأداء والتركيبة وأسلوب القول الشعري المؤدّى، تكون مختلفة بين الريف والمدينة. حيث إنّ آلات الإيقاع المعتمدة في المدينة تكون غالبا: الدّفّ، «وهو الدفّ المستدير ذو الوترين الملامسين لجلدته، الممتدّين عليها في قطر إطاره من داخل»8، والدربكة وآلات النفخ التقليدية خاصّة «المزود»، وهي آلة نفخية، تكون عبارة عن جلد جَدْيٍ ألصقت إليها «المقرونة» التي تصدر صوتا مزدوجا صاديا يجيء مؤثّرا بقوّة في النفوس طربا وتواجدا.

- اتجاه الإنشاد الصوفي الروحي المتعلّق بأداء القصائد والابتهالات الدينية الذي اشتهرت بتمثيله في نزعات مختلفة، خاصّة الطرق الصوفيّة، ويعتمد أساسا على آلات الإيقاع، ونادرا آلات النفخ أو التوقيع، كما يقدّم أحيانا ضمن أداء شفوي صوتي، دون مصاحبة الآلات، وهو ما توسّع في الكلام عنه وصفا وتحليلا الصادق الرزقي، ضمن فصل، وسمه بـ: «كلمة عامّة في الطرق بالقطر التونسي».

في خصوصية منهج الصادق الرّزقي :

لقد أنجز الصادق الرزقي دراسته لفنّ الأغنية الشعبية والشعر الملحون في زمن لم تترسّخ بعد فيه النظريات والمناهج الحديثة في دراسة الثقافة والفنّ والأدب بالبلاد العربية، حيث لم يحدث بعد انتشار واسع للمنهج التاريخي أو الواقعي الاجتماعي أو الأنثروبولوجي، ففي حدود العشرية الأولى من القرن العشرين، كانت تلك المناهج متداولة بنسب محدودة ضمن اهتمام بعض المستشرقين أو مؤرخي الفن والثقافة ونقّاد الأدب، مثل تين (Hippolyte Adolphe Taine)، (تـ 1893م) ولانسون (G. Lanson)، (تـ 1934)، أو لدى علماء الاجتماع والمتخصصين في دراسة الرموز الثقافية والدينية مثل دوركايم (Émile Durkheim)، (تـ 1917) أو مؤرخي الفكر والفلسفة مثل الفيلسوف وعالم الاجتماع أوغست كونت (Auguste Comte)، (تـ 1857).

لكن رغم ذلك ظهرت محاولات رائدة من الناحية المنهجية في دراسة الفنّ والأدب والتقاليد الثقافية، في البلاد العربية، اندرج ضمنها كتاب الصادق الرّزقي الذي وسمه مؤلّفه في الأصل بـ «الأغاني والعادات التونسية»، لكن المحققين اختاروا له وسم «الأغاني التونسية»، عنوانا مختزلا، نهجا على منوال كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني (تـ 356ه). وقد رصد محمّد الحبيب في المقدّمة التي وضعها لتحقيق هذا الكتاب طرافة منهجه وريادته، من جهة السبق إلى التدقيق في قواعد الدّراسة وأدواتها: حينما قال: «حُرّر هذا الكتاب من نحو نصف قرن في زمن لم يستكمل فيه درس مباحث الفولكلور عند الأمم حقّ الدّرس، ولم تكثر العناية بإفراده بالتأليف، وتبويبه، وتصنيف ألوانه، وترتيب أفانينه»9. وهو ما يعني مدى نضج مستوى التأليف وإحكام نهجه من جهة إحكام اختيار أدوات التحليل والدراسة وطريقة إجرائها.

وهكذا، أمكن من ناحية أخرى أن ندرج صدور هذا الكتاب ضمن سياق مسار نهضة فكرية ثقافية عرفتها تونس والبلاد العربية، أواخر التاسع عشر وبدء القرن العشرين، حيث يمكن اعتبار كتاب «الأغاني التونسية»، قد ألّف في إطار تكوّن معالم نزعة فكرية، أراد أصحابها أن يراهنوا على فن الموسيقى والغناء بوصفهما من الوسائل التي يمكن أن تُعتمد في تعميق الوعي بمعاني الهويّة الذّاتية للفرد والمجتمع في بعدها الوطني وفي علاقة بإطارها المرجعي ممثّلا في الهويّة الحضارية العربية الإسلامية، حيث بدت الحاجة إلى اتّخاذ الموسيقى والغناء أداة توعية بالقضيّة الوطنية وسبيلا إلى تعزيز الانتماء إلى الوطن ومرجعيته الثقافية والحضارية. وقد بدا ذلك ممكنا لا سيّما بعد أن تبيّن أنّ فنّ الموسيقى والغناء من أكثر الفنون استجابة إلى مثل تلك المقاصد والرّهانات.

ولعلّه تجدر الإشارة هنا إلى أنّ عددا مهمّا من الأدباء والشعراء والصحفيين والباحثين في الأدب والفنّ، إضافة إلى موسيقيين ملحنين ومغنين تونسيين بادروا إلى تأسيس الجمعية الرشيدية للموسيقى التونسية والعربية، سنة 1934م، التي سُميّت كذلك، نسبة إلى محمّد الرشيد باي (أحد السلاطين العثمانيين) الذي ينسب إليه بعض الباحثين أمر تنظيم «نوبة المالوف» وترتيب شكل أدائها من جهة إحكام الترابط بين مقاطع الموسيقى وأجزاء الغناء. فضمن تلك الجمعية العريقة التي أصبحت مدرسة متخصًّصة في تكوين الموسيقيين والمغنين وشعراء الأغنية، صار تأليف الأغاني والقصائد أيضا وضع ألحانها وتعليم أصول الموسيقى، بمثابة وسائل للتوعية بالمسألة الوطنية ولتقوية الاعتزاز بالانتماء إلى الهويّة، إذ تأليف النصوص وتعليم أصول الأداء يكون باللسان العربي. وقد تمّ توظيف ذلك في مواجهة الغزو الثقافي الذي كان يريد ترسيخه الاستعمار الفرنسي، واعتمدوها وسيلة للانفتاح على الآخر وتلقي قيم الحداثة والتقدّم10.

من ثمّ ارتبط التجديد في الفنون الركحية والغنائية بتجديد التأليف في الأشكال والأنماط الموسيقية والمسرحية، وبدت الحاجة إلى إنجاز الدراسات العلمية حول الآثار الموسيقية وأشكال الغناء وما ارتبط بها من تأليف قصائد وأشعار وأزجال، وهو مسار في البحث والدراسة تركّزت أكثر أصوله غداة الاستقلال، عند ظهور مشروع الدولة الوطنية، ارتبط بنسق تحديث الحياة الاجتماعية وتركيز مظاهر التمدّن.

في هذا السياق ظهر مشروع كتاب الصادق الرزقي، حول الغناء والموسيقى والتقاليد في البلاد التونسية، الذّي حاول أن يشيّد مباحثه ويؤسس لأهمّ الاستنتاجات التي يروم التوصّل إليها في ضوء تحليل موضوعي رصين، يبدو بمثابة منهج اختصّ به الصادق الرّزقي في دراسة الغناء الموسيقي، لا سيما منها الموسيقى الشعبية، في تعدّد أنماطها وأشكالها وأساليب أدائها بحسب فضاءات الحياة الحضرية أو البدوية وأغراض الغناء والإنشاد.

هنا تجدر الإشارة إلى أنّ الصادق الرّزقي قد حفظ القرآن الكريم منذ حداثة سنّه ودرس في جامع الزيتونة، وحذق علم القراءات، وكان من أبرز أساتذته الشيخ إدريس محفوظ، وهو ما ساعده تبعا لما كان لديه من موهبة أدبية في التميّز بالبحث في فنون الغناء والموسيقى والشعر الملحون وألوان الإنشاد الديني والصوفي، ولاسيّما وأنّه درس ما يتّصل بذلك من أنماط كتابة الشعر والموشحات والأزجال وواكب بالمشاهدة والمعاينة نماذج من الاحتفالات والعروض سواء منها تلك التي تقام بوصفها أنشطة ثقافية رسمية، أو ما يقدّم ضمن المناسبات الاجتماعية، مثل حفلات الزفاف والختان، أو ما يقدّم احتفالا بمناسبات دينية وروحية؛ في الأعياد والاحتفال بالموالد وذكرى الأولياء والصالحين، حيث يتمّ تنظيم عروض للسماع الصوفي والإنشاد الديني، تسمّى: «الحضرة» أو «العمل» أو «الخرجة».. لقد أراد الصادق الرّزقي أن يطرق بالتحليل خصائص العادات والتقاليد الاجتماعية، التونسية وطقوس القيام بعادات الأفراح والأتراح وما يصاحبها من احتفالات، تكون مرتبطة بخصائص حياة المجتمع التونسي الثقافية والحضارية. وهو ما دفع به إلى أن يُترجم لبعض الشعراء والمغنّين، ويتطرّق إلى الكلام عن مناسبات تقديم بعض ضروب الغناء وخصائص مجالس بعينها يٌقدّم فيها إنشاد الشعر وفنون الطرب، وفي معرض ذلك رأى ضرورة ذكر أخبار مهمّة تتصل بحياة الخلفاء والأمراء والمغنين وبميول الشعراء والمغنّين الفنيّة الجمالية، ممّا جعل هذا الكتاب يُمسي مصدرا مرجعيا للباحثين في الشعر والأدب، ليوفّر مادّة للبحث في فنون الغناء وما ارتبط بها من قيم اجتماعية وحضارية. ومن ثمّ بدا منفتحا على حقول معرفية وفنيّة جمالية أخرى.

لقد جمع الصادق الرّزقي ممارسة الصحافة والنقد الاجتماعي إلى الاهتمام بالكتابة للمسرح وخوض عالم التأليف الأدبي في مجال السرد القصصي، حيث له محاولة في تأليف الرواية، وسمها بـ: «الساحرة التونسيّة»، دار موضوعها على تصوير مدى التضحيات التي قدّمها أبطال حركة التحرّر الوطني وشهداء المقاومة الوطنية لنفوذ المستعمر الفرنسي. وقد ارتبطت حركة السرد في هذه الرواية بتصوير وضع مجتمع الكاتب، وفق نظرة واقعية دالّة، جمعت بين النقد والوصف وبناء الوعي الضروري لواجب المقاومة.

من هنا أمكن ان نستنتج كيف أنّ أهمّ ما ميّز تجربة الأديب الباحث الصادق الرزقي، هو محاولته كتابة ثقافة المجتمع التونسي عبر الموسيقى والغناء ولا سيّما الأغنية الشعبية لارتباطها الوثيق بحياة الناس وعمق وجدانهم وشكل وعيهم ونظرتهم إلى العالم الخارجي، منطلقه في ذلك نظرة تسعى أن تكون علمية، وهاجسه البحث الدؤوب عن دقّة منهجية تبدو خلّاقة من الناحية المعرفية المحضة، تتطلّع إلى أن تكون بمثابة شكل من أشكال البحث الأنثروبولوجي، ذلك ما يلمسه القارئ في سائر أبحاث الصادق الرّزقي الأخرى، لاسيّما منها كتاباته التي حاول فيها أن يحيط معرفة بمظاهر مختلفة من ثقافة المجتمع التونسي في علاقتها بجذورها التاريخية والحضارية ذات الامتداد العربي الإسلامي، ومن أبرزها، إضافة إلى مقالاته الصادرة بالدوريات والصحف:

- الأمثال التونسية

- التقويم الذهبي التونسي.

- دراسة بعنوان «الإسلام»، تقع في أربعين صفحة، من كتاب مجمع الفوائد الذي صدر سنة 1929م11.

لقد استطاع الصادق الرّزقي في كتابه «الاغاني التونسية»، أن يقدّم دراسة علمية منهجيّة بدت فريدة من نوعها، لكونها انطلقت من الوصف الدقيق، لتنفذ إلى أعماق ظواهر الغناء والموسيقى، ترصد خصائص أشكال الأداء الفنّي ونوعية الآلات المستعملة وما تحدثه من أصوات وما ينجم عنها من نغمات. لتنتقل انطلاقا من ذلك إلى بيان طبيعة العلاقة التي تربط فن الغناء بنظرة المجتمع إلى خصوصية الثقافة ووعي أفراده بواقع العالم الخارجي والقيم. ومن ثمّ تطرّق إلى شكل الوظيفة العميقة النفسية والاجتماعية لنوع الغناء وما يرتبط به من موسيقى وبنى لحنية وأداء نغمي.

لقد استند الرّزقي إلى نظرة ثقافية سوسيولوجية، تقوم على تصنيف أقسام الغناء وأنواع الأشعار واللحون بحسب أنواع الاحتفالات والمناسبات، وهو ما بيّنه بقوله: «الاحتفالات والمجتمعات تنقسم عندنا إلى قسمين: قسم جدّ وقسم هزل، ولكلّ منهما مناسبات، أكثرها يقع في أيّام المناسبات والأعياد، وأيّام الجمع من كلّ أسبوع»12. ويرصد تبعا لذلك خصوصية الاختلاف بين الجدّي والهزلي، وهو ما يصطلح عليه في مواضع أخرى، بـ «مالوف الجدّ»، و«مالوف الهزل». ويشمل كلّ منهما ما ألف الناس سماعه وتلقّيه وغناءه، ويشرح الفرق بينهما، فيقول: «القسم الجدّي من الاحتفالات والمجتمعات (أي الاجتماعات) العامّة، ينقسم إلى قسمين: قسك ديني وهو ما يقام في بيوت الله من الصلوات والخطب على المنابر والقراءات، مثلما هو جار في العيدين (الفطر والأضحى)، وأيّام الجمع وصلاة التراويح في رمضان وأختام القرآن العظيم والحديث الشريف»13. فهو هنا لا يقصد المضمون الديني الرّوحي للكلام بل طرائق الأداء الصوتي التي تتخذ مقامات موسيقية وطبوعا لحنية وتوقيعات محدّدة، أو تعتمد بنيات لحنية بعينها، مبتكرة أو مقلّدة. ويتمثّل القسم «غير الديني (في ما) هو ملحق في بعض (منه) بما يقصدونه فيه من أفعال التعبّد، وفي البعض الأخر بالأمور الرّوحية المطربة للنفس كأعمال الطرق، ونعني بهذا التقسيم: ما ألزمنا به الاقتضاء، تبعا لرأي الإجماع بقطرنا، من السماح لأصحاب الطرق بقراءة أحزابهم وأذكارهم بالمساجد الجامعة، ومنعهم من المديح وضرب آلاتهم فيها14، حيث تخصّص الزوايا (الخنقاهات) والرباطات لاستعمال آلات التوقيع والتنغيم في إنشاد القصائد وتقديم المدائح في حبّ الذات العلّية والصلاة على الرسول محمّد (ص). وفي مقابل ذلك، يتنزّل «مالوف الهزل»، الذي يقول عنه الرّزقي: «قسم الطرب والهزل، من المجتمعات والاحتفالات، فهو ما احتوى على الّلهو والأسى، والخلاعة والقصف والرقص، والغناء والعزف، في الجهات والأماكن المعدّة لذلك، إمّا بصفة مستمرّة أو بمناسبة حلول بعض الفصول، أو المواسم والأعياد»15.

ويميّز أيضا الصادق الرّزقي على مستوى آخر ما بين أصناف الغناء، تبعا لاختلاف أوساط الحياة الاجتماعية ما بين بدو وحاضرة، حيث تتعدّد وتتنوّع أنماط الغناء والموسيقى بين دينية روحية واحتفالية اجتماعية، ترتبط مثلا بـ: عقد القران أو سهرات حفلات الزفاف والختان، وهي مناسبات تؤدّى فيها لدى الحضر من أهل المدن الأغاني بالآلات الوتر والنقر على آلات الإيقاع الخفيفة مثل الرقّ والدربكة. أمّا في البوادي والأرياف، فتكون آلات الأداء شعبية إيقاعية صاخبة كالبندير (الدّف الكبير) والطبل، ويعهد لآلة المزود بالتنغيم أو لآلة الزورنا (الزكرة) التي هي بدورها آلة تنغيم، اشتهر أثرها في البوادي والأرياف.

وقد رصد الصادق الرّزقي خصوصية الغناء الشعبي المتداول خارج نطاق الحواضر واهتمّ ببيان وجوه ارتباطه بالشعر البدوي. فهو ينطلق من رصد التحولات الاجتماعية التاريخية وتعاقب أزمنة الحضارات والدول الإسلامية في بلاد إفريقية (تونس)، بدءا من طور بني الأغلب إلى دولة صنهاجة التي شهدت ازدهارا لافتا للحضارة والأدب، وهي الفترة التي حدث أثناءها الزحف الهلالي، و «تغلّبت البداوة ومازجت العقول...»16. ولهذه الأسباب وغيرها «تقوّضت أركان الموسيقى والأغاني (الكلاسيكية)، وشاعت الأغاني البدوية البسيطة التركيب والتلاحين وغيرها، الخالية تمام الخلو من الذوق الحضري المفرغ تماما في القوالب الحسنة»17. تبعا لذلك يرصد الصادق الرّزقي خصوصية البناء الجمالي لموسيقى الأغاني البدوية وحدود تلقّيها، حيث يقول: «الأغاني البدوية خالية من الإعراب، وقد لا تساعد النغم الموسيقي، فهي لا تصلح إلّا لما أعدّت إليه»18. لذلك رأى الصادق الرّزقي أنّه من الضروري أن يتمّ التطرّق، إلى بيان خصائص الشعر البدوي أو الملحون، بوصفه يمثّل أحد أنواع القول الشعري الذي يتّسع مجال تداوله في كلّ الثقافات الإنسانية وقد عرفت ظهوره كلّ المجتمعات، فمثّل لديها صورة لأنماط حياتها وسجلّا يحكي عاداتها ويدوّن رؤيتها إلى العالم.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ «الملحون»، صار يُدرج ضمنه نمط كلّ قول شعري شفوي له مكانة عميقة في ثقافات الشعوب، يتأثّر بصلات التأثّر والتأثير التي تكون بينها. وهو في بلاد المغرب يعتبر نتاج التواصل والتداخل، الذي حدث بين امتزاج الأزجال والموشحات الأندلسية مع أشكال بدوية وفصيحة من الشعر العربي المتداول ببلاد المغارب، لا سيّما منه الذي عرف الهلاليون بإنشاده، بعد أن تمركز وجودهم بشمال إفريقيا بدءا من القرن الخامس هجري. وسمّي بالملحون لأنه شكل قوله يظهر عندما يكون هناك خروج للكلام الفصيح قوانين إجرائه ومواضعات استعماله وصوابه، بخصوص الإعراب والتركيب وضوابط قواعد النحو. ويجيء غالبا نتاجا للبيئة ولنظام الأصوات واللهجات المتداولة بين الناس، حيث تتسرّب إلى اللغة الرسمية الصحيحة عناصر من اللهجات وصيغ من إيقاع الكلام العامي، وتتأثّر صيغ القول بأساليب التواصل الاجتماعي والمعايير والقيم التي حفظتها الذاكرة وتداولها معجم الكلام العامي، فتظهر الحاجة إلى قول تلك القيم وما يرتبط بها من معايير ورؤى شعرا، إمّا ضمن نظام اللغة العربية الفصحى، وعبر الاستناد إلى قوالب «الشعر الموزون». أو عبر أنماط من «الشعر الملحون»، لتبدأ أساليب وفنون في قوله للظهور19.

لعلّه من هذا المنطلق بالذّات تبدو طرافة منهج الصادق الرّزقي في تحديد نوع شعر الملحون المتداول غناء في البلاد التونسية، حيث يخلص إلى القول إنّ البيت في «الشعر البدوي يتركّب من شطرين، يرصفون كلمه على بحور الشعر الخمسة عشر، ولا يتكلفون فيه الإعراب، بل ينطقون بالكلم ساكنة الآخر، وكذا أواسط الكلام أحيانا، على نحو ما تقتضيه لغته الدّارجة بينهم، وبقي دارجا إلى هذا العهد كالمربّع والمخمّس والمسدّس. وتكون أجزاء كلّ بيت منه رويّا واحدا، إلّا الجزء الأخير، فيكون هو رويّ القصيد»20. هنا يلتقي الصادق الرّزقي مع ابن خلدون في رصد خصائص الشعر البدوي، وتقسيم أساليبه وتنوّعها، لاسيّما في ما يتعلّق بتحديد هذا النمط الشعري الغنائي، من جهة النوع الأدبي، حيث قال ابن خلدون: «... وأهل المشرق من العرب يسمّون هذا النوع من الشعر بالبدوي. وربّما يُلحّنُون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية، ثمّ يغنّون بها ويسمّون الغناء به اسم الحوراني نسبة إلى حوران، من أطراف العراق والشامّ، وهي من منازل العرب البادية ومساكنهم إلى هذ العهد»21. ويرى أنّ «لهم فنّا آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به معصّبا على أربعة أجزاء، يخالف آخرها الثلاثة في رويّه، ويلتزمون القافية الرابعة في كلّ بيت إلى آخر القصيدة شبيها بالمربّع والمخمّس الذي أحدثه المتأخّرون من المولّدين»22.

وقد حاول الرّزقي رصد نمّو هذه الظاهرة عبر البحث في تطوّر علاقتها بما عرفته المدن والحواضر أثناء احتفالات اجتماعية أو دينية روحية، من أشكال غناء وترديد للشعر. وهو ما ساعده على إدراك استنتاج مهمّ يتعلّق ببحث جوانب هذه المسألة، عبّر عنه بقوله: إنّه «بالمحاكاة والاختلاط استحسن أهل المدن تلك اللهجة، فلحنوها على أغانيهم، واستحدثوا أغاني أخرى شبيهة بها... ولم تزل آثار ذلك بادية على جزء كبير من أغاني الإقليم التونسي حتّى اليوم»23. وهو ما يعني أنّ الأغاني في نظر الصادق الرّزقي؛ الشعبية والحضرية المتقنة، تمثل بما لا يقبل الشكّ مرآة للعصر وللمجتمع وللقيم المتداولة، ومادّة ثرّة لدراسة الذهنيات وفهم خصائص القيم وبنى الوعي والشعر والنظرة إلى الذّات والعالم بل تساعد عل التنشئة وتوجيه اهتمام الذّات والنظرة إلى العالم والأشياء، لذا كان الرّزقي حريصا على إبراز ذلك في مواضع كثيرة من كتابه، باحثا عن نظرة كلّية جامعة تفسّر الأمر، نلاحظها مثلا في قوله: «ما الأغاني إلّا أخلاق، ولغة وعوائد، وتشخيص وغنج وانتحاب، وتمثيل أحسن الصور أو أقبحها، في حركاتها ولباسها وأحوالها الجزئية والكلّية، ومن هذه الوجهة هي معيار الأذواق، وبرهان الحضارة أو البداوة، ودليل التصوّرات والخواطر النفسانية»24. ومن ثمّ بدا له من الوجيه تأطير وظيفة الغناء وبيان أهمّ خصائصها من وجهة نظر تحاول أن تكون بسيكولوجية، يبدو ذلك من قوله: «أمّا من وجهة تأثيرها في النفس، فهي مفرّجة الكربات، ومسلّية الخواطر، محلّية الأحزان ومنشّطة العزائم، وغذاء الأرواح، ومرآة الصور الجميلة، ومدعاة الائتلاف والتحابب»25.

في تطبيق المنهج ومسارات الدراسة

تجدر الإشارة أوّلا إلى وجود ذاك التميّز العلمي لدى الصادق الرّزقي في بناء وعي معرفي متماسك بمشكل المنهج ومنوال دراسة الأغنية الشعبية في علاقتها بالشعر الشعبي وبعادات مجتمعها وثقافة عصرها، وهذا رغم محدودية تكوينه العلمي، وهو الذي لم يتمّ دراسته في تلك المؤسّسة الدّينية العلميّة التي انتمى إليها ونعني جامع الزيتونة، حيث نهل قدرا مهمّا من العلم والمعرفة، غير أنّه أقبل بالتوازي مع ذلك على تعلّم اللغة الفرنسية، ليعمل على توظيفها في سبيل الاطّلاع على دراسات ومقاربات ذات نفس تحليلي أنثروبولوجي وتاريخي علمي وسوسيولوجي ثقافي موضوعه دراسة فنون الشعوب وثقافاتها، وسبل البحث في الفلكلور (علم ثقافة الشعب أو علم فنّ الشعب). لذلك لم يكتف الرّزقي بجمع أنماط الغناء وتبويبها أو بذكر أوزان الشعر الفصيح أو الدّارج أو طرق موضوع المقامات والإيقاعات الموسيقية الي تنتظم صيغة أداء الأغنية. بل حاول أن يدرس فنون الغناء والإنشاد الصوفي، بوصفها أشكال تعبير ثقافية، تتضمّن تصوّرات ورؤى إلى العالم، وإلى الإنسان وإلى تمثّلات المعتقد الدّيني في الفضاء الاجتماعي، بدت له حاملة في عمقها لنسق رؤية محدّدة المعالم إلى القيم الخلقية والاجتماعية وإلى مكانة العادات والتقاليد الاجتماعية، كما تتضمّن أيضا معنى ما للحياة، يرتبط في دلالته البعيدة بمستوى تطوّر الوعي التاريخي والحضاري للفرد والمجتمع. وهو ما يعني أنّ فنّ الغناء، من جهة كونه «نسقا ثقافيّا»، يتجاوز في دلالاته العميقة الفكرية والحضارية، التي شيّدتها مقاربة الرّزقي، أن يكون مجرّد شكل إبداعيّ، غايته تحصيل المتعة. لهذه الاعتبارات شهد محمّد الحبيب المحامي في معرض تقديمه لكتاب «الأغاني التونسية» لمؤلّفه، بالسبق. حيث قال: «إنّي لا أعلم أحدا من كتّاب العربية سبق مؤلّف هذا الكتاب إلى دراسة مستفيضة استوعبت نواحي الفلكلور (...) ولم أعثر على بحث علميّ في الموضوع (حيث) حوى هذا السفر نماذج مدقّقة من الفلكلور التونسي الذي كان معروفا من نصف قرن في الوسط التونسي (إنّه تأليف) كتب بقلم باحث دقيق الملاحظة»26.

ولعلّه يمكن تبيّن مدى مطابقة مثل هذه الاستنتاجات وما يتبعها من ملاحظات لما ورد بمتن الكتاب، من خلال فحص طبيعة منهج الدّراسة المعتمد في كتاب «الأغاني التونسية» للصادق الرّزقي، وفي طريقة وصفه لأنماط الغناء والشعر الملحون والموسيقى المتداولة لحنا لذلك، وتحليل جمالياتها.

يبدو أنّ هناك معالم نهج تحليل ذي طابع أنثروبولوجي ثقافي اجتماعي، تجسّمت أهمّ خصائصه في شكل النموذج المعرفي الذي بنى عليه المؤلّف محاور الكتاب وأهمّ مواضيع التأليف، حيث عقد فصلا أوّلا، وسمه بعنوان «الأغاني والموسيقى واللغة»، إيمانا منه بوجود علاقة عضوية كائنة ما بين الغناء من حيث هو كلام ملحّن، يتشكّل نتيجة استعمال للغة، وتصريف أساليب الكلام وتركيبها شعريّا عبر قوالب، بهدف إنتاج الفنّ من جهة، والموسيقى بما هي لغة منغّمة، تستعمل حروف اللغة وأصواتها، لتتشكّل من خلالها سلّم أنغامها وأنظمة أوزانها من جهة أخرى. ذلك أنّه تبيّن كيف أنّ الموسيقى حروف وأصوات منغّمة، تنغيما تكون له خصوصية فنيّة سماعية تتخذ وجها محدّدا بحسب كلّ مقام موسيقي، ووفقا لنظام الإيقاع ونسق أداء ذاك النغم، وهو ما يساعد على تشكيل خصوصية السمات الصوتية والزمنية المكوّنة لبنية اللحن التي تنبثق من كيان الإنسان ومن روحه المبدعة، ويسعى مبدع اللحن إلى تركيبها فنّا على هيئة بناء لحن متفرّد جماليّا، إذ «الموسيقى هي الربيع الذي ترتع في رياضه المهج، وتستنشق الأرواح من عرفه طيب الشميم»27. وهكذا وفقا لهذا المنظور، تعدّ الموسيقى ابتكارا نموذجيا فريدا توصّل إليه الإنسان، «جعله ينحاز إلى ذلك الإنشاء، ويتفنّن في ذلك ما شاء (...) فانبعث في تيّار هذا الاختراع، مسترسلا، فأوجد لذلك الترجيع كَلِمًا يركّبها بألفاظ يعرفها، ومعان يقصدها، حتّى اجتمعت لديه من ذلك شعوب الفكر، فانتحل فيها اختيار أحسن الصور، وصارت هواجسه مشدودة الحيازم للسير مع ذلك التيّار المنهمر»28.

معنى ذلك أنّ الصادق الرّزقي باحث مطلّع على فنون الموسيقى ومدرك لتفسير أصول ظهورها وطبيعتها وأثرها في الإنسان، مثلما له معرفة شاملة بالشعر الملحون وأفانين غنائه. ومن ثمّ حاول أن يكيّف منحاه في الدّراسة بحسب خصوصيّة المجتمع التونسي، ووفقا لما بدا له أنّه ميزة يتفرّد بها هذا المجتمع، لا سيّما من جهة علاقته بالغناء والطرب. حيث اعتبر أنّ تحليله وما ارتبط به من جهد علمي قد «أيّد ميل الإفريقيين (أهل إفريقية/ تونس)، إلى الّلهو والسرور (فهو) غريزي في أنفسهم، واستعدادهم للموسيقى فطري. لذلك كان هذا الفنّ مطمح أنظارهم، ومحطّ رحالهم، فما انفكّوا مقبلين عليه، متابعين لأطواره، سواء قبل الفتح الإسلامي أو بعده، فهو ضروريّ لهم ولازم من لوازمهم النفسانية»29. تبعا لذلك يخلص الرّزقي إلى محاولة توسيع نطاق البحث في قضيّة علاقة الموسيقى باللغة، ودراسة أساليب الغناء وصور ظهورها ما بين تنغيم الشعر العامّي وتلحين نماذج من الشعر الفصيح. فرأى أنّ المسألة لا بدّ أن تنزّل في إطارها الثقافي الحضاري، فعقد فصلا للكلام، وسمه بـ: «الموسيقى والأغاني في أدوار الحضارة الإسلامية». وعقد مبحثا آخر، خصّص محاوره للكلام في إشكالية علاقة تحوّلات المجتمع التونسي بفنّ الموسيقى عبر التاريخ، جاء كالآتي: «بسطة في تاريخ الأغاني والموسيقى التونسية». وفي معرض هذا الفصل ميّز بين ضروب مختلفة من الغناء انتشرت في البلاد التونسية، تشكّلت بحسب أنماط القول الشعري، وهي كالآتي: «الشعر البدوي»، «الموشّحات والأزجال الأندلسية»، «الموشّحات والأغاني التونسية».

وهنا تظهر طرافة التمشّي الذي اعتمده الصادق الرزقي في هذا التأليف، ويتمثّل ذلك في مدى وعي المؤلّف بالفرق الكائن بين الموسيقى والغناء، إذ الأمر يتجاوز دائرة ذاك التصوّر العامّ السائد الذي يعتبر الغناء هو الموسيقى، والموسيقى لا يمكن أن توجد ولا تعبّر إلّا من خلال توظيفها في خدمة الغناء، أي عندما تكون لحنا يصاحب كلمات القصيد30. من هنا بدت للرّزقي ضرورة توسيع مجال البحث بخصوص الوظيفة المحورية التي تؤدّيها الموسيقى في الحياة الاجتماعية العامّة للإنسان فردا أو مجموعة. ذلك أنّها تظلّ تمثّل باستمرار «سلّم الرياضة العظيمة، والقاعدة المتينة للتربية على الأخلاق الكريمة، ومهد التأليف اللطيف، والباعث المحثّ على الإحساس الشريف، فما نكب عنها إلّا عديم ذوق...»31.

ضمن هذا المنظور يمضى الصادق الرزقي باحثا في واقع الحياة الموسيقية وأشكال الغناء المنتشرة في تونس، لا سيّما ما ظهر منها فترة ما بين الحربين، أي الثلث الأوّل للقرن العشرين، وامتد بحثه في التراث والتاريخ القديم والحديث، مستحضرا وقائع تأليف أشعار وأغان مختلفة، حاكيا لقصص ووقائع اجتماعية وتاريخية، ارتبط حدوثها بظهور أغان معيّنة. مثال ذلك: الأغنية الشهيرة «مع العزّابة»32 التي ألّفتها امرأة تقول الشعر الملحون أسفا على ابنتها البكر، ذات الجمال الفائق، بعد أن اختطفت أو ضاعت زمن واقعة الفتنة الباشية الحسينية، ما بين باي تونس حسين بن علي التريكي (تـ1740) وابن أخيه علي باشا (تـ1756)، حيث اشتدّ الصراع على السلطة، وكان ميدانه جبل وسلات الواقع شمال غربي مدينة القيروان، وقد انحاز أهالي تلك المنطقة إلى علي باي ضد عمّه حسين بن علي صاحب السلطان القائم، فوقعت محاصرة للجبل بجيش حسين بن علي باي، وتم تشريدهم في سائر أنحاء البلاد التونسية، وفي أثناء ذلك فُقدت تلك البنت الجميلة البكر، فألّفت والدتها تعبيرا عن شدّة اللوعة وحرقة الفقد تلك الأغنية التي تحيل في بعض مقاطعها إلى حدوث تلك الفتنة وآثارها، حيث تقول بعض كلماتها:

مع العزّابة

نا بكرتي شردت مع العزّابة

خشت بلاد الشيح والقطابة

يا سالمة المكتوب ربي راده

على الحي بعد أبنائهم اسواده

ياسالمة مكتوب ربي يقدر

فراق الحبايب في الجبين مسطر

تونس بعيدة والعرب قتالة

يا تونس الخضراء يا مسمية

***

هاك الجبل الأزرق جبل والدتي

يا ليتها عقرت ولا جابتني

ها ياجبل وسلات وسع بالك

اللّي جرى للحامّة يجرى لك

ولقد سعى الصادق الرّزقي إلى توضيح ملابسات علاقة المعنى بالسياق التاريخي بخصوص البيت الأخير، الذي يعين أنّ ما جرى لجبل الحامّة سيحدث تماما لجبل وسلات، حيث اعتبر الصادق الرّزقي أنّ هذا «المغنى» من أنماط الأغاني القديمة التي تتعلّق بحدوث وقائع تاريخيّة، وقد «تضمّن الإشارة إلى حلّ ثورة عروش الحامّة، و(إلى) تهديد وتوعّد جبل وسلات الثائر على الدولة في ذلك الحين و(كيف) أنّه سيصير خاضعا مثل الحامّة»33.

وهكذا أمكن أن نخلص إلى القول: إنّه رغم أهمية المنهج وطرافته في الجمع بين القديم والحديث بين الدراسة العلمية والنظرة الثقافية الذّاتية العامّة، فإنّ كتاب الصادق الرزقي اشتمل على كثير من التحامل تجاه أنماط الإنشاد الصوفي، إلى جانب النقد اللاذع لبعض أنماط الغناء الشعبي المتداولة لدى الفئات الحضرية التي بدت له خليعة، أيضا نقد بشدّة ما يسمّى بأغاني «الربوخ» و«المزود» و«الزندالي» التي ارتبط أداؤها بفئات شعبية مهمشّة وربّما «نازقة» أو مترّددة، كذلك رفض بعض ألوان الإنشاد الصوفي التي رأى بها مغالاة، فيما أبدى تحيّزا واضحا للغناء الكلاسيكي والموسيقى المتقنة ذات الأصول الأندلسية، وما ارتبط بها من ألوان الموشحات والأزجال والمالوف التونسي ذي الأصول الأندلسية. 

من هنا بُنيت مباحث كتاب «الأغاني التونسية» وفصوله، وفقا لخصوصية نهج المؤلّف ولما يتجانس وخلفيّة تقسيمه لأنماط الموسيقى والغناء والشعر الملحون، إذ فنّ الغناء من جهة علاقته بالمجتمع، يعدّ مجمل تجارب إبداعية ذات خصوصيّة، تبدو متداخلة من خلال أشكال حضورها مع نسيج الثقافة العامّة وأشكال الوعي السائد، من جهة وظائفها الجمالية والروحيّة والخلقية. إذ مطلبها تهذيب الذوق والارتفاع به ومتعة النفس والوجدان، حيث أدرك الصادق الرّزقي كيف أنّ تلقّي فنّ الموسيقى والغناء؛ الحضري أو الشعبي، يسهم في الارتقاء بمستوى الوعي والثقافة لدى الفرد، وفي تكييف علاقته بمحيطه الاجتماعي والثقافي. ذلك ما يمكن أن يستنتجه القارئ لأكثر الفصول والمباحث التي ضمّها هذا الكتاب، مثل: «الاحتفالات والمجتمعات التونسية العامّة»، و«كلمة عامّة في الطرق بالقطر التونسي»، «النغم واللحون التونسية»، «كلمة في الأغاني التونسية». بل هو أشمل من ذلك لكونه استقام تأليفا «يقدّم صورة صادقة من المجتمع التونسي في عاداته وتقاليده، وأغانيه وأدبه في القرن التاسع عشر للميلاد، أو قل (عن) حياة النّاس قبل الحرب العالمية الأولى. في فترة تعدّ الانتفاضة الأولى إثر الذهول الذي اعترى النّاس من صدمة اكتساح الاستعمار البلاد، نتيجة ما تغلغل في النفوس من تواكل وانتظار للخوارق تأتي عفوا دون سعي، وما انجرّ عن ذلك من أدواء نخرت العزائم، وأهْرَمت الفتوّة العربية، وأمرضت الأخلاق والمكارم»34.

بل الطريف في هذا التأليف أنّ مؤلّفه، لم يهمل عند تعبيره عن الرؤى والأفكار. دقّة الأسلوب الذي جاء من «السهل الممتنع (يصف) عادات وتقاليد شاعت حينذاك. ولم يهمل تقديم النصوص بأمانة تمكّن الباحثين بعده من إمعان النظر والدّرس والاستنتاج، وبذلك خدم تاريخ الشعب التونسي خير خدمة»35. والمقصود التاريخ الاجتماعي، إذ تظهر المادّة المعرفية التي ضمّها هذا التأليف بمثابة كتابة لجوانب من التاريخ الاجتماعي والثقافي الحضاري للمجتمع التونسي في علاقته بالحضارة العربية مشرقا ومغربا، من جهة ما تعلّق بفنون الشعر الغنائي وأنماط الموسيقى وسائر أشكال الغناء التي ترتبط عادة بالاحتفال بمناسبات وطنية وأحداث تاريخيّة مصيرية وكبرى، تؤلّف ما بين أبناء الوطن الواحد، وتصبح، بمرور التاريخ، مادّة لتشكيل رصيد الذاكرة الوطنية، لتغدو تبعا لذلك من أهمّ العناصر الجوهرية الدّالة على مقوّمات الهويّة الحضارية للأمّة والمجتمع، في بعدها الوطني المحلّي أو العربي الإسلامي في اتّساع نطاقه.

على سبيل الخاتمة:

من خلال ما تقدّم أمكن أن نستنتج كيف أنّ كتابة تاريخ فنّ الغناء وألوان الإنشاد ودراسة ما ارتبط بهما من أنواع موسيقى، تتعدّد دراسة أشكالها وأنماطها الإبداعية، وتتنوّع مداخل مقاربة أشكال الشعر الغنائي؛ الملحون والفصيح، أيضا تلقّي جماليات النغم والإيقاع، من جهة العلاقة بذوات الأفراد وحياة المجتمعات. وقد تبيّن لنا كيف أنّ المادّة المعرفية في كتاب «الأغاني التونسية»، لم تأت لغاية دراسة هذا الفنّ في ذاته وتدوينه لمجرّد التدوين، بل جاءت لتبحث في أشكال حضوره الاجتماعي وتطرق تأثيره في الذاكرة والشعور، ولتدرس من ثمّ أوجه تجلّيه في أنماط من التعبير الحركي في مستوى نشاط الجسد سواء عند أداء اللحن نغما وإيقاعا، أو من خلال التفاعل معه، ومع ما تحمله الأشعار المغنّاة في أشكالها الفصيحة أو الملحونة من معان، عبر تلقّ يرتبط بدوره بجماليات مخصوصة، مرجعها العميق حياة الناس وأنماط عوائدهم ونظرتهم إلى الإنسان والأشياء والوجود.

وهو ما مثّل عاملا دفع بالصادق الرّزقي إلى نقد بعض المظاهر المصاحبة لفنون الغناء والإنشاد. أو إيراد وجهة نظره الشخصيّة في الموضوع، وتقديمها على أنّها صائبة وموضوعيّة، ومن ثمّ كان سعيه إلى الحجاج لفائدتها من زوايا نظر مختلفة. وهو ما يبرز مثلا من خلال نقده لما ارتبط بمجالس الإنشاد والمديح ذي الطابع الصوفي، تلك التي تقدّم في بعض المناسبات والمواسم الدينية أو تنشد في احتفالات السماع الصوفي، حيث تلوح مظاهر سلوك وأنماط حركة، بدت له غير مقبولة من جهة نظر العقل ورفعة الخلق. ولقد حاول محمّد الحبيب المحامي أن يستدرك على ذلك، ملتمسا عذرا لما آل إليه الأمر، فمضى يقول: «وإن لمسنا فيه بعض الشدّة على الطرق الصوفيّة، فعذر الكاتب واضح، لأنّه كتبه في عصر بالغ فيه الوسط، فجرّد التصوّف من مذاقاته الروحيّة، وأغرقه في تواكل وتسليم للصدف والتفاؤل وترك السعي والعمل اعتمادا على ما تأتي به الكرامات والخوارق، فآلت روحيته إلى مادّية سخيفة»36.

وهكذا بين نقاش واستدراك، وبين رصد لطرافة منهج البحث الجمالي الثقافي العامّ ذي الأبعاد الأنثروبولوجية، تبدو خصوصية كتاب الصادق الرّزقي «الأغاني التونسية» الذي اختصّ من زاوية نظر أخرى بمنهاج واضح في التحليل التاريخي37. فاكتسب بذلك قيمة معرفية عالية، لا من الناحية الثقافية التاريخية العامّة، القائمة على الوصف والتدوين، بل من الناحية الإثنية والأنثروبولوجية العلمية، نظرا إلى ما يقدّمه من رصد دقيق لظواهر اجتماعية ونفسية ولعادات وتقاليد ارتبط وجودها واستمرارها بأداء أنماط من الغناء والإنشاد أو بتقديم معزوفات موسيقية معيّنة، في أجواء احتفالية متنوّعة. من ثمّ يذهب مسعود إدريس، تعليقا منه على ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الفرنسية38، إلى القول: إنّه يكاد يمثّل المرجع الوحيد النموذجي في دراسة الموسيقى والأغاني التونسيّة بالنسبة إلى فترته الزمنية، ولا سيّما وأنّه جاء حاملا لمجموعة من الإفادات السوسيولوجيّة والأنثروبولوجية حول العادات والتقاليد والطقوس الاحتفاليّة للمجتمع التونسيّ يرصد ما يصحبها من أشكال موسيقى وغناء لا سيّما في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهي أشكال حرص الرّزقي على وصفها ونقلها كما هي والتعليق عليها من خلال مواقف معيّنة أحيانا.

الهوامش:
1. انظر، التيفاشي القفصي (أحمد)، متعة الأسماع في علم السماع، تحقيق رشيد السلّامي، تونس، بيت الحكمة، قرطاج، 2019م. 
2. انظر، ابن خلدون (عبد الرحمن)، المقدّمة، بيروت، ط، دار صادر، 2000م. فصل في صناعة الغناء، صص 314 – 318. بخصوص مبدأ التناسب، يقول ابن خلدون: "تبيّن في علم الموسيقى أنّ الأصوات تتناسب (ويكون) تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة يوقّع على كلّ صوت منها توقيعا عند قطعه فيكون نغمة، ثمّ تؤلّف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فيلذّ سماعها لأجل ذلك التناسب وما يحدث عنه من الكيفيّة في الأصوات". المقدّمة، ص 314.
3. انظر، النوري (علي)، رسالة في حكم السماع، تحقيق علي النوري، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1986م.
4. راجع، طرابلسي (فراس)، محمود السيالة القادري الصفاقسي، حكيم وصوفي يؤرّخ، للموسيقى التونسية والمغربية، مجلّة الثقافة الشعبية، البحرين، العدد 50، 2021م
5. انظر، الحشائشي (محمّد بن عثمان)، العادات والتقاليد التونسية، تحقيق الجيلاني بن الحاج يحيى، تونس، سراس للنشر، 1996،   ص 174، 175، ومن ص 209 إلى 222؛ المقالة العاشرة: " في زوايا القطر المشهورة وكيفيّة عوائدها في زيارتها وما يتبع ذلك". 
6. انظر، عبد الوهاب (حسن حسني)، ورقات عن الحضارة الربية بإفريقية، تونس، مكتبة المنار، 1981، القسم الثاني، باب "الموسيقى وآلات الطرب"، ص 171 – 274..
7. ألّف البارون ديرلنجي كتاب في ستة مجلدات، وسمه بـ: "الموسيقى العربية" (La musique arabe).  اهتمّ فيه بالتاريخ للموسيقى العربية ونظرياتها الفنية، ودراسة مقاماتها وإيقاعاتها وأشكالها اللحنية المستعملة، في المشرق والمعرب. 
8. الرّزقي (الصادق)، الأغاني التونسية، تونس، ط2، الدّار التونسية للنشر، 1989، ص 59. 
9. الحبيب المحامي (محمّد)، مقدّمة نشر كتاب الصادق الرّزقي، الأغاني التونسية، ص 8. 
10. راجع في ذلك، الكحلاوي (محمد): "من مظاهر الحداثة في الموسيقى التونسية خلال القرن العشرين"، تونس، مجلّة الحياة الثقافية، العدد 125، وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، ماي 2001، ص. 22 - 36. أيضا: قطّاط (محمود): "الموسيقى أحد أهمّ مظاهر الهويّة وتأكيد الذّات"، مباحث في العلوم الموسيقية التونسية، العدد الأوّل، تونس، المخبر الوطني للبحث في الثقافة والتكنولوجيات الحديثة والتنمية، 2008، ص. 3-17..
11. ذُكر عنوان هذا التأليف في "الموسوعة التونسية"، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، ج2، بيت الحكمة، قرطاج،  تونس، 2013م، ص 57.
12. الرّزقي، الأغاني التونسية،  ص 75. 
13. المصدر نفسه، ص 76.
14. المصدر نفسه، ص، نفسها.
15. المصدر نفسه، ص، نفسها.
16. المصدر نفسه، ص 42.
17. المصدر نفسه، ص 43.
18. المصدر نفسه، ص 43.
19. هنا تجر الإشارة إلى أنّ كتابات وبحوثا متنوعة، اشتغلت على دراسة الشعر الشعبي أو المسمّى الشعر الملحون في بلاد المغرب العربي، حيث تظهر خصوية هذا اللون من القول الشعري الذي يبعد عن الفصيح ويمتح كثيرا من اللهجة المتداولة التي هي في غالبا بدوية، وتبرز خصوية إيقاع وتأثير جماليته من خلال أدائه غنا. راجع مثلا: المرزوقي (محمّد)، الأدب الشعبي، تونس، 1967م. خرّيف (محيي الدين)، الشعر الشعبي التونسي: أوزانه وأنواعه، تونس، ليبيا، الدّار العربية للكتاب، 1991. نجمي (حسن)، غناء العيطة: الشعر الملحون والموسيقى التقليدية في المغرب، 2ج، الدّار البيضاء المغرب، دار توبقال للنشر، 2007.
20. الرّزقي، الأغاني التونسية، ص 43.
21. ابن خلدون، المقدّمة، ص 472.
22. ابن خلدون، المقدّمة، ص 473.
23. الرّزقي، الأغاني التونسية، ص 44.
24. الرّزقي، الأغاني التونسية، ص 15.
25. الرّزقي، الأغاني التونسية، ص 15.
26. انظر؛ تقديم محمّد الحبيب المحامي، لكتاب، الأغاني التونسية، ص7.
27. الرزقي، الأغاني التونسية، ص 15.
28. الرزقي، الأغاني التونسية، ص 18.
29. المصدر نفسه، ص 40، وما بعدها
30. المصدر نفسه، ص 15.
31. المصدر نفسه، ص 15، 16.
32. أدّتها بإتقان المطربة التونسية الكبيرة صليحة بتوزيع نغمي جديد ضمن فرقة المعهد الرشيدي للموسيقى العربية بتونس، وأدّتها المطربة ذائعة الصيت هيام يونس عند حلولها بتونس 1968.
33. المصدر نفسه، ص 244. أيضا، انظر القراءة التي قدّمها ضمن هذا السياق خواجة (أحمد)، في أطروحته، الذاكرة الجماعية من مرآة الأغنية الشعبية، تونس، ط1، كلّية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس،1998.
34. المصدر نفسه، مقدّمة محمّد الحبيب المحامي، ص 7. 
35. المصدر نفسه، مقدّمة محمّد الحبيب المحامي، ص. نفسها. وبخصوص التواصل المعرفي الخلّاق مع المادّة العلمية الواردة في كتاب الصادق الرزقي "الأغاني التونسية"، يمكن مراجعة مجموع الرسائل والبحوث العلمية التي أعدّت في الغرض، بأجزاء كثيرة من الجامعة التونسية خاصّة، ضمن شعب فنون المسرح والموسيقى وفي أقسام الآداب ودراسات نقد الفنون ودراسات التراث.. 
36. المصدر نفسه، ص، نفسها.
37. انظر في هذا المجال: بشة (سمير)، دعوة إلى الموسيقولوجيا، تونس، سوتيمديا للنشر، 2019.
38. صدرت ترجمة محمّد مسعود إدريس لكتاب: "الأغاني التونسية" (Les chansons tunisiennes)، عن المركز الوطني للترجمة، 2015م. 
 
الصور :
- صور مولدة باستخدام الذكاء الاصطناعي «Midjourney»

أعداد المجلة