فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
8

شعائر الموت ومعتقداته في تراث المشرق العربي مقاربة أنثروبولوجية

العدد 8 - عادات وتقاليد
شعائر الموت ومعتقداته في تراث المشرق العربي   مقاربة أنثروبولوجية
كاتب من سوريا

«أخبرْني, صديقي, أخبرْني صديقي ,

       أخبرني بحالات العالم السفلي , الذي رأيتْ (1)

 (ملحمة جلجامش)

الموت , ظاهرة , مقرونة بالحياة , بانتفائها ينتفي ، أو لعلنا أمام تواطؤ بينهما فمقابل اخضرار الحياة يلمع سيف الموت الأسود، ليحصد ما زاد عن حاجة الحياة و خصبها ، وأحيانا ما لم يزد عن حاجة الحياة .

تأملَ أرسطو الموت فقال: «الموت أكثر الأشياء فظاعة(2). أما أسخيلوس فقد أشاد بالموت «كشفاء من بؤس الحياة(3)، في حين وقف الفيلسوف زينون الرواقي متصالحاً مع الموت بقوله:» إن الموت ينتمي إلى النظام الكوني للأشياء فهو موافق للطبيعة و بالتالي فإنه قانون عادل، و لا أساس للشكوى منه أو الاحتجاج ضده(4).

إذن هو التسليم بشرعة الموت طالما أنه قدر محتوم، و لا يبقى على الإنسان سوى وعي الموت و ظواهره و حتميته، كي يفوز بحياة هي طقس للعبور نحو عالم يكتنفه الغموض و طلاسم المجهول.

و لعل الانشغال بظاهرة الموت، اقتضى مرور ملايين السنين من الوجود البشري على الأرض، حتى غدا دماغ الإنسان قادراً على وعي هذه الظاهرة و استنباط الحلول التعويضية اللا شعورية تجاهها(5).

فإذا كان أقدم وجود بشري دلّتْ عليه اللقى الآثارية يعود إلى 3,5 مليون سنة في أفريقيا، فإن الوجود البشري في المشرق العربي/الهلال الخصيب/ حسب المعطيات الآثارية يعود إلى حوالي مليون سنة، و ذلك في موقع «ست مرخو» في اللاذقية بسوريا، حيث أبان الموقع عن أدوات خلّفها الإنسان  هي عبارة عن فؤوس و معاول وسواطير و شظايا و نوى و قواطع استخدمها الإنسان آنذاك لغاية حياة الصيد و التقاط بذور النبات(6) .

البنية الدماغية للإنسان

ووعي ظاهرة الموت:

ليس الإنسان الحالي من سلالة القرود, إنه من سلالة الرئيسيات التي عاصرت سلالات أخرى لم تتطور إلى الحالة الإنسانية، فبقيت على حالتها مورفولوجياً و فيزيولوجياً .

أما لجهة سلالتنا من الرئيسيات فقد تطورَ إدراكها مع الزمن  / تبعاً لتفاعلها مع البيئة الطبيعية و مجالها الحيوي /، و لعل قوة التفاعل تلك هي التي قدّمتْ حوافز التطور الدماغي لدى إنسان المشرق العربي منذ مليون سنة خلت و حتى الآن (7) .

فالمعلوم أن البنية الدماغية لدى الإنسان تتألف من ثلاثة أقسام:

- القشرة الدماغية: التي تشكل 85 % من دماغ الإنسان و تتجلى وظيفتها الأولى في الإدراك .

وتتألف من أربعة فصوص هي: الفص الجبهي - الجداري - الصدغي - القذالي .

- القسم الحوفي أو الطرفي: يعتبر مركز عواطف التدين و الفرح و الغيرية و العاطفة الإنسانية بما فيها ظاهرة الموت .

القسم الزواحفي

و في مناقشتنا هنا لوعي ظاهرة الموت في العقل الإنساني فإن ما يهمنا هو التطور المُتبدي في القسم الطرفي من الدماغ، حيث تشير المعطيات العلمية إلى أن وعي هذه الظاهرة استغرق زمناً طويلاً امتد لملايين السنين حتى غدا الإنسان واعياً لها و لمقتضياتها .

و في المشرق العربي استغرق هذا الأمر مرور حوالي 900 ألف سنة حتى بدأ الدماغ الإنساني يعي هذه الظاهرة .

فقبل 100 ألف سنة تقريباً و حسب المعطيات الآثارية يبدو أن الإنسان المشرقي لم يعد ليترك أمواته نهباً للوحوش أو ضحايا للتفسخ و التعفن، بل سعى إلى دفنهم وفق شعائر معينة، دلّ على ذلك اكتشاف موقع مغارة الديدرية قرب مدينة حلب في شمال سوريا، حيث عثر على حوالي 70 قطعة عظمية بشرية دُفنت في هذه المغارة و لم تترك في البرية أو السهول .

و في التسعينيات من القرن العشرين عُثر على هيكل عظمي لطفل عمره سنتان و طوله 82 سم, حيث دُفن في حفرة مستلقياً على ظهره وكانت يداه ممدودتان و قدماه مثنيتان، و تحت رأسه بلاطة حجرية و كذلك على صدره فوق القلب . يؤرخ هذا الطفل بحدود 100 ألف سنة . كما عثر عام 1997 على هيكل عظمي آخر لطفل ثان عمره سنتان أيضاً .

إن طرق الدفن المتبعة في هذا الموقع تدل على ظهور وعي لدى الإنسان آنذاك لضرورة العناية بالموتى وفق شعائر  و طقوس معينة .

ثم سوف تكرّ سبّحة الاكتشافات الأثرية، حيث نشهد طقوس دفن متقدمة في فلسطين في مغارة قفزة، حيث عُثر على 12 هيكلاً عظمياً تؤرخ بحدود 50 ألف سنة، و يتميز هذا الموقع بالعثور على قبر امرأة شابة مستلقية على جنبها الأيسر و مثنية الرجلين،  و إلى جانبها طفلها الواضع رأسه على صدرها، في حين كان بين يديه غزال يعطي دلالة على رمزية الخصب و الحياة (9) .

و في الرافدين عثر في موقع كهف شانيدار على هيكل عظمي لرجل في الأربعين من عمره .يؤرخ في حدود 60 ألف سنة .

 و نتيجة البحث العلمي تبين أنه كان يعاني منذ طفولته من شلل نصفي بالإضافة إلى أنه أعور،  و يعاني من التهاب في المفاصل، و يبدو أنه توفي في شهر حزيران .

 و الطريف في الأمر هنا أن الذي سبّب موته هو سقوط صخرة من سقف الكهف عليه، و تبين أن الورود نُثرت حول جثته (10) .

إن الدلائل التي قدمتها لنا المعطيات الآثارية لهذه المواقع، تشير إلى أننا أمام حالة شعائرية و طقسية تم عبرها دفن الموت وسط تطور متبدٍ في البنية الدماغية التي انعكست على إنسان تلك المرحلة، و هذا ما يؤكد وعي ظاهرة الموت عبر تطور القسم الحوفي من الدماغ لدى الإنسان تبدّت منذ حوالي 100 ألف سنة من الآن، إلا إذا قّدمت الاكتشافات الآثارية معطيات جديدة تُعيد وعي هذه الظاهرة إلى زمن أبكر من ذلك . 

ظاهرة الموت في المستوى النفسي لدى الإنسان:

منذ وعى الإنسان في المشرق العربي لظاهرة الموت في حدود 100 ألف عام، انعكس هذا على بُعده النفسي .

فوعي هذه الظاهرة المؤلمة انعكس عليه في المستوى اللا شعوري، حيث صُدم الإنسان بمصيره الحتمي، و هذا ما شكّل انفعالاً في عقله الباطن، ما أدّى إلى تصورات مشحونة بهذا الانفعال تمَّ التعبير عنها في الدراسات النفسية بعقدة التخلي أو النبذ .

ومعلوم أن لكل عقدة نفسية لدى الإنسان ضروب تعويضية لا شعورية، تسعى بالإنسان إلى إعادة توازنه، وتتراوح بين الإيجابية و السلبية تبعاً للانفعال الذي واكبَ النفس تجاهها .

فهي عقدة الإحباط الانفعالي, عقدة الاستبعاد, وسواس القطيعة وفي صورتها المصعّدة: تصبح هذه العقدة فلسفة في الوجود الإنساني، فالإنسان «مُلقى في هذا العالم » فريسة التخلي و حصر العزلة الذي يتصف بأنه مقضيّ عليه ميتافيزيقياً (11).

وعلى ذلك، فإن ضروب التعويض عن هذه العقدة تتبدى في مستويات عدّة:

المستوى الأول: معاناة من ألم التخلي و الفقد بما يؤدي إلى الانكفاء و العزلة في الحياة و اجترار الكآبة والاستسلام للموت .

المستوى الثاني: تعذيب الإنسان لنفسه و تحميلها ألواناً من حياة سوداوية كئيبة .

المستوى الثالث: حيث يلجأ الإنسان إلى الحلول الصوفية أو الإيمان بالتقمّص أو التناسخ أو بوجود حياة بعد الموت .

المستوى الرابع: حيث يميل الإنسان إلى الانتحار و رفض الحياة و ربما تنتابه نوازع عدوانية و سادية .

المستوى الخامس: أن يتزن الإنسان وفق المبدأ الرواقي حيث القبول بالموت و العمل في الحياة كأن الإنسان خالد، واعتبار الموت جزءاً من الحياة .

الجدير ذكره هنا هو أن الأديان السماوية جاءت بحلول لهذه العقدة و ضروب تعويضية صالحت الإنسان مع الموت، عبر وجود حياة بعد الموت يُحاسب فيها الإنسان من قبل الرب على أفعاله في الحياة، فقدمتْ علاجاً نفسياً لموضوع يؤرق الإنسان منذ وعيه لظاهرة الموت من جهة أولى، و خلقت معادلاً موضوعياً لهذا الأمر يتجلى في اتباع قواعد أخلاقية و مناقبية في الحياة للفوز بعالم ما بعد الموت في منحاه الإيجابي .

الجذور التاريخية للمعتقدات الشعبية حول الموت:

إن الأساس في استمرارية الذهنية الشعبية لظاهرة الموت يتبدى في وجود استمرارية حضارية، وتواصل حضاري بشري، و هذا محقق في المشرق العربي منذ مليون سنة، حيث أن هناك استمرارية و تواصل حضاري عبر العصور منذ ما قبل التاريخ إلى الآن، و هذه الاستمرارية استندت على عوامل تفاعلية، إن كان لجهة التفاعل مع البيئة الطبيعية و المجال الحيوي أو لجهة تفاعل البيئة الاجتماعية بمكوناتها المتجددة عبر العصور و التي انصهرت في معظمها ضمن بوتقة المنظومة الحضارية للمشرق العربي .

وهنا سوف نأخذ بعض المعتقدات الشعبية والحكم و الأمثال التي مازالت مستمرة في مجتمعنا المشرقي، و نقاربها مع ما كان سائداً في العصور الموغلة في القدم، و هذه المقاربة تستند على قاعدة في علم النفس التحليلي يشير إليها كارل غوستاف يونغ بقوله:» كل إنسان متمدن، مهما بلغت درجة وعي نموه، لم يزل إنساناً قديماً في الطبقات السفلى من كيانه النفسي، و كما أن الجسم البشري يوصلنا بالثدييات و كشف لنا عن بقايا كثيرة من مراحل تطور أولية ترجع إلى عصور الزواحف، فكذلك النفس البشرية التي هي نتاج تطور إن تتبعنا أصوله، تكشف لنا عن عدد لا حصر له من السمات القديمة «12   

رهبة الموت و ظهور الأرواح:

جاء في كتاب «المعتقدات الشعبية في التراث العرب»: (يعتبر الموت العادي في التراث الشعبي بشكل عام، فاجعة للناس، قاطعاً لحبل الرباط بين الإنسان و أهله، و نظراً لما له من أهمية فقد كثرت حوله المعتقدات منذ اللحظة الأولى التي يشعر فيها الناس بأمر الموت و حتى ما بعد الدفن بأيام و أسابيع و سنين . و تتنوع المعتقدات المتعلقة بالموت في مضمونها، فنرى منها ما يدخل في باب التشاؤم، و منها ما يدخل ضمن دائرة الأحاسيس الإنسانية، و بعضها يدخل ضمن دائرة التصورات الميتافيزيقية، دينية وغير دينية (13).. .

شعائر الموت في المعتقد الشعبي المشرقي وجذورها التاريخية:

إلى الآن يسعى المشرقيون في طقوس الدفن إلى إحداث حفرة صغيرة عند الشاهدة أو ترك تربة رملية فوق القبر، غايتها صبّ الماء حين زيارة القبر، وزرع النبات الأخضر الدائم الخضرة، و لعل الاعتقاد الآن لدى مجمل الناس أن هذا يرطّب القبر لا أكثر.

 ولكن بالرجوع إلى وثائق المشرق العربي المسمارية، و في مواقع مختلفة نجد أن هذا الطقس يمتد منذ عصور ما قبل التاريخ و تم توثيقه في الكتابات المسمارية منذ خمسة آلاف عام،واستمر مع الزمن . حيث أن تقديم القرابين للموتى من طعام أو ماء أو إقامة الشعائر عليهم في يوم الندب تحميهم من أرواح هؤلاء الموتى وترضي رموز العالم السفلي . نقرأ في احدىالوثائق:» أن الأشباح الشريرة تخرج من القبر من أجل الحصول على الطعام و الماء (14) وإحدى الوثائق أيضاً تشير إلى إنسان كان يعاني من مرض و حسب اعتقاده أن شبحاً يلازمه من أرواح الموتى حيث يخاطبه: «سواء كنت شبح شخص غير مدفون، أو كنت شبحاً لم يلق عناية لائقة، أو شبح الميت الذي لم تقدم له القرابين الجنائزية أو الذي لم يسكب له الماء..»(15)و هنا تحيلنا وثائق المشرق العربي القديم إلى عدة أنواع من الشعائر الجنائزية التي كانت تقام لعدة أهداف أهمها:

1- إرضاء الإله و بذا يضمن الناس حسن تعامل الإله مع روح الميت .

2- إرضاء روح الميت حتى لا تضطرب و تعود بهيئة شبح يبعث الرعب و الفساد في الأحياء .

و كانت الشعائر تتضمن إقامة وليمة جنائزية على روح الميت لغاية خير المجتمع و هذا ما استمر في معتقداتنا الشعبية في ذبح الخراف و توزيعها على الفقراء كرامة لروح الميت .

كانت الوليمة الجنائزية يطلق عليها بالأكادية / كسبا كسابو / حيث تصفّ المقاعد حول الأطعمة القربانية  / لحوم الخراف – أنواع الفواكه – المشروبات / ويترك مقعد فارغ لروح الميت الذي أقيمت الوليمة لأجله، و كان هذا المقعد يسمى:» كرسي الروح «وبالأكادية(15):kussu etemme

أيضاً هناك نوع من الشعائر الجنائزية كان يطلق عليه اسم «مي نقو .. بالأكادية «، و معناه بالعربية، ماء نقي. حيث يتم سكب الماء في القبر .

وهناك نوع آخر هو «شم زكارو» و بالعربيةذكر الاسم،  حيث يقصد به إحياء ذكر الميت في عالم الأحياء، إن كان في ذكرى الأربعين / والتي تعود جذورها إلى التقاليد المصرية القديمة / أو في ذكراه السنوية .

كذلك في إطلاق اسم الميت على أول مولود يأتي للعائلة كنوع من تخليد ذكر الميت .(17)

و لعل حرمان الميت من هذه الشعائر يؤدي إلى صعود روحه بهيئة شبح مسيء للأحياء .

وتذكر نصوص الملك الآشوري «آشور بانيبال «أنه انتقم من الملوك العيلاميين الموتى حيث أخرج عظامهم من قبورهم، «لقد أقلقت راحة أرواحهم، إذ حرمتهم من القرابين الجنائزية و سكب الماء (18) ..

إن ما استمر من هذه الاعتقادات حول أرواح الموتى المحرومة من العناية اللائقة عبر الشعائر الجنائزية ظهر في المعتقد الشعبي المشرقي بلبوس الجن أو الجان .

فحسب هذه المعتقدات «تعتبر الجان مؤذية وشريرة تجلب النحس و المرض و الرعب و تعتبر مخلوقات غيبية، غير مادية، من غير طبيعة البشر و غير طبيعة الملائكة» (19) .

و تشير بعض الدراسات إلى أن هذه الكائنات ربما كانت امتداداً للخيال الشعبي من أرواح الموتى أو الموتى أنفسهم، ذلك لأنها توجد في باطن الأرض عادة ولأنها تضطر للعودة إلى مقرها قبل طلوع الفجر» (20).

و يبدو أن الجان أو الجن اقترن وجودها مع الموتى في باطن الأرض في معظم المعتقدات الشعبية في العالم .

و هذا ما يدفعنا إلى دراسة العالم السفلي في تراثنا المشرقي .

حفلت اللغة الأكادية بعدة أوصاف للعالم السفلي و بمعان مختلفة، فهو:

قبـــرو qabru أي قبـــــــر

أرصيتـــو شبليتو أي الأرض السفلى.

أرصيتـــــــو ميتوتي أي أرض الموتى.

خربوـــ أي الخــربة.

كان هناك في المعتقد المشرقي القديم اعتقاد أن العالم السفلي تسكنه شياطين أو جان، على أنواع عدة، منها ما هو سماوي ومنها ذو أصل بشري كأرواح الموتى، و هناك من كان أصله من العالم السفلي، و يبدو أن هذا الأخير يتصل بتصور المجتمعات الحالية عن عزرائيل وقد جاء وصفه في إحدى الوثائق:

«عبر الأسوار العالية السميكة، يمرّون كالطوفان، يمرون من بيت لبيت، لا يمنعهم باب ولا يصدهم مزلاج، فهم ينسلون عبر الباب كانسلال الأفاعي، و يمرقون من فتحته كالريح، ينتزعون الزوجة من حضن زوجها، و يختطفون الطفل من على ركبتي أبيه و يأخذون الرجل من بين أسرته» (21)

ولعل أوضح وصف لعزرائيل في الكتابات المشرقية القديمة ما ورد في ملحمة جلجامش على لسان أنكيدو في وصفه لحالة موته:

«كانت السماء ترعد فاستجابت لها الأرض، و كنت واقفاً وحدي فظهر أمامي مخلوق مخيف مكفهر الوجه ... لقد عرّاني من لباسي و أمسك بي بمخالبه و أخذ بخناقي حتى خمدت أنفاسي .. أمسك بي و قادني إلى دار الظلمة .. إلى البيت الذي لا يرجع منه من دخله .. إلى البيت الذي حرم ساكنوه من النور .. و يعيشون في ظلام لا يرون نوراً ».(22)

الجدير بالذكر أن مواعيد إقامة الشعائر الجنائزية كانت تتم قديماً بشكلين: شهري و سنوي، فالأول يُقام في التاسع و العشرين من الشهر، وهو اليوم الذي يكون فيه القمر محاقاً، حيث كان الاعتقاد أن فيه تتجمع أرواح الموتى مما يدفع الأحياء لتقديم القرابين و إقامة الشعائر.

 و قد أُطلق على هذا اليوم اسم «يوم القرابين الجنائزية، يوم سكب الماء «(23)عليه نعوت عديدة منها «يوم وليمة الموتى «و «يوم الكآبة» و «يوم الندب» .

أما الموعد السنوي فكان يتم في شهر آب حيث تبلغ الطقوس ذروتها في اليوم التاسع منه حيث الاعتقاد أن أرواح الموتى تنعتق من احتجازها في العالم السفلي .(24)  

و في المقابل نجد في المعتقدات الشعبية المعاصرة أن هناك ما يسمى «خميس الأموات»، حيث يتم إقامة الشعائر الجنائزية بذكرى الموتى فيذهب الناس لزيارة القبور حاملين الأطعمة و الماء، و يذهب الفقراء أيضاً ليحصلوا على ما يوزعه أقارب الموتى من طعام . و يعتقد الناس أن الطعام الذي يصل إلى الفقراء يصل إلى أرواح الموتى .(25)

و يشير ألكزندركراب في كتابه «عالم الفلكلور»، إلى أن الناس يحرصون على زيارة القبر في الأسبوع الأول من موت الشخص حيث تشرب على قبره القهوة و تقام الطقوس الدينية وتوزع الحلوى، و هذا حسب اعتقادهم رحمة للميت و دفع بلاء عن الأحياء من أهله و عياله و هم يذهبون لزيارة القبور بعد شروق الشمس و ذلك لاعتقادهم بأن أرواح الموتى تختفي بعد الشروق .

كما يشير إلى استرضاء الموتى عن طريق تناول الطعام عند قبورهم .

 و هناك عادة وثيقة الصلة بهذه الممارسات وهي إعطاء الميت قطعة من النقود أو وضع هذه القطعة في فمه و هذه العادة كانت شائعة في حضارات المتوسط في العصور القديمة.(26)

ولقطعة النقود هذه أساس قديم في المشرق العربي فقد كان اعتقادهم أن الإنسان حين يموت و يوضع في القبر فسوف يعبر «نهر عبر «إلى العالم الأسفل،و هذا يتطلب إعطاء صاحب المركب النقود أو الفضة لأجل ذلك، لا بل إن بعض القبور حوت في مرفقاتها الجنائزية على لقى جنائزية بشكل مراكب قد يستعين بها الميت في عبور النهر باتجاه العالم السفلي .

مناقشات في وصف حال الميت:

إلى الآن و وفق المعتقد الشعبي المشرقي نسمع أن الإنسان إذا كان يحتضر يُقال أن «نجمهُ غاص»، و لا أعتقد أن الإنسان الحالي يعي معنى هذا الوصف، غير أن وثائق المشرق العربي القديم و في مواقع مدنه المختلفة تعطينا الجواب .

ففي الألف الثاني / و ربما الثالث ؟ / قبل الميلاد، نشط البابليون و من ثم الكلدانيون في حقل الفلك والدراسات الكونية، وتشير وثائق تلك العصور إلى أن لكل إنسان نجماً في السماء يخصهُ فإن أفلَ النجم مات صاحبه .

فالاعتقاد بالنجوم كان يلعب دوراً مهماً في حياة الناس، و ثمة اعتقاد آخر بأن لكل إنسان برجاً خاصاً، يتحكم بمجرى حياته، وإن علاقة هذا البرج مع غيره يسبب لصاحبه الخير أو الشر.

ويشير قاموس الكتاب المقدس إلى أن «الكواكب تسيطر على حياة الإنسان، و هذا إيمان موروث من عبادة النجوم زمن الكلدانيين حيث ترعرعت أعظم حضارة فلكية و نشأ معتقد عبادة الأجرام السماوية».(27) 

ويشير الدكتور ابراهيم بدران والدكتورة سلوى الخماش إلى أن البابليين و الكلدانيين كانوا من أوائل من اهتم بمراقبة الأجرام السماوية أثناء ترحالهم، مما تولد عنه مع الزمن الخرافة القائلة بأن حركة الأجرام تتحكم في حياة الإنسان و أن مستقبله يتحدد بالنجم الصاعد ساعة ميلاده والنجم الهابط في ذلك الوقت أيضاً» (28)

أيضاً ثمة قول لوصف من مات في المعتقد الشعبي حيث يقال: سقطتْ ورقتهُ .. و هذا القول يعود إلى اعتقاد قديم يقول، إن الشجرة التي إلى يمين العرش الإلهي ذات الأغصان الكثيفة والأوراق الخضراء الزاهية تضم كل أسماء البشر، فإذا ولد المرء ظهرت ورقته على تلك الشجرة، و إن مرض مال لونها إلى الاصفرار و إذا ما شفي عادت للاخضرار .. و إن أوشك على الموت اصفرت ورقته و حين يموت .. تجف وتسقط مغادرة شجرتها الأم.(29)

و ثمة قول آخر عن الميت في الاعتقاد الشعبي حيث يقال: «خلصت ميتو» أي انتهت مياهه، ومعلوم أنه في المعتقد الشعبي يتم تنقيط الماء في فم الإنسان المحتضر حتى يبقى ريقه رطباً, وهذا يرتبط برمزية الماء في الحضارة الشرقية والتي هي رمزية خصبة نقيض حالة الموت وهذا ما يستتبع أيضاً إجراء طقس سكب الماء في قبر المتوفي .

الجماجم المقولبة قديماً ..

الصور الشخصية حديثاً:

الإنسان المعاصر يضع الآن صورة المتوفى العزيز عليه على الحائط لاستمرار تذكره و نوع من دواعي بقائه بين الأحياء أو بالأحرى تمنّي بقاء ذكره.

وهذه المشاعر الإنسانية النبيلة نجد أصداء لها منذ بواكير الحضارة الإنسانية و لكن الأسلوب الفني المُتبع مختلف .

فبالعودة إلى المشرق العربي القديم ومع زمن ابتكار الزراعة في الألف التاسع قبل الميلاد، نجد أنفسنا أمام ظاهرة أُطلق عليها اسم الأرواحية أو تقديس الأجداد، حيث يصار إلى فصل جمجمة الميت عن جسده، و توضع على جدار المنزل لاعتبارات عقائدية، و هذا ما عثر عليه في موقع المريبط في سوريا و موقع أريحا في فلسطين.(30)

وفي خطوة لاحقة متطورة عن الأولى، أصبح الإنسان يعالج هذه الجماجم كنوع من التعويض في المستوى النفسي الجمعي، حيث نشأ ما يسمى بالجماجم المقولبة، إذ كانوا يعيدون تشكيل الجمجمة بالجص، و يتم صبغها بما يماثل لون بشرة الإنسان، ثم تُنزّل العيون بالصدف أو القواقع و يرسم على الجمجمة خيوط بنية كدلالة على شعر الرأس .

و قد عُثر على هذه الجماجم المقولبة في مواقع عدة في أريحا و بيسامون و وادي حمار و في تل الرماد .(31)

شباط: شهر الندب

إلى الآن، يُعتبر شهر شباط شهر الأموات في المعتقد الشعبي المشرقي .

وعلمياً، فنحن نعتقد أن هذا الشهر الذي يوصف بأنه «لبّاط» و«مالو رباط» هو شهر التغييرات وعدم استقرار الفعالية الجوية والطقسية و كونه بعد شهرين شتويين فاعلين هما كانون الأول و كانون الثاني، فإن أجسام الكهول و العجائز تتعب و يحين موعد قطاف أرواحها في شهر شباط .

ويبدو أن هذا الأمر كان سائداً منذ العصور القديمة بما يعود إلى حوالي الألف الثالث قبل الميلاد, إن لم يكن قبل ذلك . و كان شهر شباط في الوثائق المسمارية يسمى (شهر نهر عبر) وشهر الندب، الجدير ذكره هنا أن أحوال المناخ في منطقة الهلال الخصيب لم تشهد تغييرات حاسمة منذ الألف الثالث قبل الميلاد.

و ثمة أدلة تاريخية تشير إلى أن شواهد القبور هي ابتكار آرامي بامتياز، ففي موقع شمأل في شمال سوريا عُثر على شاهدة قبر ارتفاعها متر و نصف تشتمل على رسومات فنية يُعتقد أنها تختص بحياة العالم السفلي .(32)

ملاحظات عامة حول المعتقدات الشعبية في الموت:

لا يبدو القبر في المعتقد الشعبي مكاناً أنيساً للأحياء، و إن ضم في داخله ميتاً عزيزاً، لذا فإن ثمة عادات ارتبطت بالقبر و استخدامه في الحياة الشعبية و اليومية، فمثلاً: إذا كان رجل حاقداً على أحد، فليس عليه سوى أن يذهب إلى أحد القبور، و يأخذ حفنة من ترابه و يذروها على راس عدوه يوم زفافه، و هذا بحسب الاعتقاد الشعبي سوف يجعل الإنسان ميتاً تماماً، حيث ينتقل الموت من أموات المقابر إلى الشخص الحي مما سيرديه ميتاً .(33)

كما ترى المعتقدات الشعبية أن العبث بالقبور وهدمها أو محاولة إزالتها / لاسيما للرجال الصالحين / سوف يؤدي إلى هلاك المعتدي على حرمة هذه القبور و شلله إلا إذا قدّم أضحية بذبح شاة و تقديمها للفقراء .

وهذا باعتقادنا هو ترجيع لما ذكرته النقوش المسمارية حيث نقرأ:

«من يحطم ألواحي التذكارية .. عسى الإله أن ينسف بلاده بصاعقة مهلكة و يحلّ المجاعة والقحط و العوز و الفيضان ببلاده، عساه ألا يدعه يوماً واحداً على قيد الحياة .. عساه يحطم اسمه و ذريته إلى الأبد (34)  

ولعلنا نلاحظ الآن أن ما يميز الشعائر الجنائزية قديماً وحديثاً  ثلاثة أشياء:

أولها: سكب الماء وهو طقس موغل في القدم.

ثانيها: تقديم الطعام والذبائح كقرابين جنائزية على روح الميت . وهو طقس أيضاً موغل في القدم .

ثالثها: وضع الأغصان الخضراء والآس وسعف النخيل و الورود على قبر المتوفي باعتقاد أنها ترطب جو القبر الموحش و الجاف .

ونحن نعلم رمزية اللون الأخضر في أنه رمز للخصب والحياة والربيع، حتى أن الاعتقاد الشعبي يصف العروس أثناء زفافها إذا نزل المطر بأن «إجرها خضرا» أي قدمها خضراء  في دلالة على الحياة و الخصب .

وتستخدم أفرع شجرة النخيل في مواكب الدفن، وعند زيارة القبور و في تزيين المقابر.

وتجمع الدراسات أن شجرة النخيل عند الفينيقيين كانت شجرة الحياة لا بل و تمَّ توحيدها مع جنة عدن في ذهنيتهم و مع رمز الخصب عشتار، كما أن هذه الشجرة كانت شجرة العائلة لدى شعوب مصر و الهلال الخصيب و الجزيرة العربية .

وتشير المعطيات إلى أن العرب قبل الإسلام عبدوا شجرة النخيل حيث كان في نجران شجرة يقام لها عيد سنوي .(35)

وتتضح رمزية شجرة النخيل في المستوى الثقافي و الأنثربولوجي في علاقتها بالموت ثم الانبعاث أو بتوالي الولادة و الاستمرار .

و قد أطلق على النخلة اسم العنقاء باعتبارها إذا ما سقطت بسبب  الشيخوخة فلسوف تنمو من جديد خضراء يانعة كما كانت . و تذكر أساطير بعلبك أن طائر الفينيق أو طائر النخيل كان يحجّ إلى هليوبوليس أو بعلبك ليموت فيها ثم يعاود الحياة من جديد.(36)

إن هذا الاعتقاد ضمن الذهنية المشرقية يشكّل كما أسلفنا تعويضاً عن حتمية الموت عبر الموت و الانبعاث الذي يشكّل رائزاً من روائز الثقافة الزراعية .

في بعض المأثورات والأقوال الشعبية حول الموت:

تحفل الذهنية الشعبية في الهلال الخصيب بشتى المأثورات و الأقوال و الحكم و الأمثال عن الموت و عالمه، منها ما يستمد جذوره من الماضي و منها ما هو مستحدث .

فهناك مَثَلٌ يقول: «مَن خلّف ما مات «بمعنى من له أولاد لم يمت لأنه مستمر بهم .

وهذا نجد جذوره في ملحمة جلجامش حين سأل جلجامش إنكيدو / اللوح الثاني عشر/ عن مصير من له ابن واحد أو اثنان .. و هكذا،  حيث يبدو أن مصير الميت جميل إن كان له أبناء كثر. (37)

«من غير هاليوم»

أي من غير هذا اليوم:

تقال في معرض التحدث عن شخص متوفي وحين يرد ذكر الميت يقال من غير هاليوم، لئلا يموت الرجل المُخاطَب .

«فوق الموتة عصّة القبر» أي فوق الموت ضيق القبر، و تطلق على من تكثر في حياته المصاعب و لا يستطيع الانفكاك منها، حيث تمّ استعارة هذه الصورة من عالم الموت .

وأطلق على الموت تعبير: ساعة الغفلة .. وموت أحمر، تعبير عن الموت الدموي .

وفي باب الحكمة نقرأ: «بني آدم ما بملّي عينو غير التراب «وهذا يقال في وصف الانسان الطماع بالحياة ومتاعها. و«ما حدا آخد معو شي».  

إن هذه المقارنة تعتبر مدخلاً لدراسة أشمل و أعمق حول ظاهرة الموت في المعتقد الشعبي العربي بعامة و المشرقي بخاصة ..

ولعل ما يمكننا التوصل إليه من بحثنا هو إن الموت حتمي على البشر و قدرنا أن نحيا حياة تليق بعبورنا إلى الحقيقة السامية .. المُطلقة في آن .

 

هوامش

1- د. نائل حنون - عقائد ما بعد الموت في حضارة بلاد وادي الرافدين القديمة . وزارة الثقافة - بغداد - ط2 1986 . 

اللوح الثاني عشر من « ملحمة جلجامش « ص 343 .

2- الموت في الفكر الغربي - سلسلة عالم المعرفة - الكويت .

3- المرجع السابق .

4- المرجع السابق .

5- د. بشار خليف - دراسات في حضارة المشرق العربي القديم - مركز الإنماء الحضاري - حلب - سوريا - 2004 . ص 152

6- د. سلطان محيسن - الصيادون الأوائل - دار الأبجدية دمشق 1996 .

7- للمزيد من التفصيل يمكن مراجعة مؤلفنا دراسات في حضارة المشرق العربي القديم .

8- كارل ساغان – تنانين عدن – ترجمة نافع لبّس – اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1996 .

9- د. سلطان محيسن – مرجع سابق .

10- المرجع السابق .

11- روجر موشيلي – العقد النفسية – ترجمة وجيه أسعد – وزارة الثقافة – سوريا 1985. ص 70

12- كارل غوستاف يونغ – علم النفس التحليلي – دار الحوار – سوريا 1985 .

13- محمد توفيق السهلي – حسن الباش – المعتقدات الشعبية في التراث العربي – دار الخليل – سوريا .( بلا تاريخ ) . ص139 .

14- 15- د. نائل حنون – مرجع سابق – الدفن و الشعائر الجنائزية ص 274

16- المرجع السابق – ص 278 .

17- المرجع السابق – ص 281 .

18- المرجع السابق – ص 282 .

19- محمد الجوهري – علم الفلكلور – ج2 – دار المعارف – القاهرة – ط1 1980- ص 553 .

20- د. عبد الحميد يونس – الحكاية الشعبية – المؤسسة المصرية للتأليف و النشر – دار الكاتب العربي – 1968 – ص 46-47 .

21- د. نائل حنون – مرجع سابق ص 216 .

22- د. نائل حنون – مرجع سابق ص 110 .

23- 24- د. نائل حنون – مرجع سابق 288 .

25- المعتقدات الشعبية – مرجع سابق ص 203 .

26- ألكزندر هجرتي كراب – عالم الفلكلور – ترجمة رشدي صالح – وزارة الثقافة – القاهرة – 1967 ص 156 .

27- قاموس الكتاب المقدس – مكتبة المشعل – بيروت – ط6 – 1981 ص 959 .

28- د. إبراهيم بدران – د. سلوى الخماش – دراسات في العقلية العربية – الخرافة – دار الحقيقة – بيروت – ط3 – 1988 ص 291 .

29- المعتقدات الشعبية . مرجع سابق .

30- د. سلطان محيسن – مرجع سابق .

31- جاك كوﭭان – الألوهية و الزراعة – ترجمة موسى خوري – وزارة الثقافة – دمشق 1999 .

32- د. علي أبو عساف – الآراميون – دار الأماني – سوريا – 1988 .

33- المعتقدات الشعبية – مرجع سابق ص 167 .

34- د. نائل حنون – مرجع سابق – ص 156 .

35- شوقي عبد الحكيم – مدخل لدراسة الفلكلور و الأساطير العربية – ص59 – 1982 .

36- المرجع السابق – ص336  

37- د. نائل حنون . مرجع سابق .

أعداد المجلة